الثلاثاء، 30 أغسطس 2022

مجلد1.التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي{تفسير ابن جزي}

 

مجلد1.التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

مكتبة مشكاة الإسلامية
| 1 | ... 2
2 بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلم العلامة فريد دهره ووحيد عصره أبو عبد الله محمد المدعو بالقاسم ابن أحمد بن محمد بن جزى الكلبي رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه بحرمة النبي الأواه
الحمد لله العزيز الوهاب مالك الملوك ورب الأرباب هو الذي أنزل على عبده الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب وأودعه من العلوم النافعة والبراهين القاطعة غاية الحكمة وفصل الخطاب وخصصه من الخصائص العلية واللطائف الخفية والدلائل الجلية والأسرار الربانية العجب بكل عجب عجاب وجعله في الطبقة العليا من البيان حتى أعجز الإنسان والجان واعترف علماء أرباب اللسان بما تضمنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب ويسر حفظه في الصدور وضمن حفظه من التبديل والتغيير فلم يتغير ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب وجعله قولا فصلا وحكما عدلا وآية بادية ومعجزة باقية يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب وتقوم بها الحجة للمؤمن الأواب والحجة على الكافر المرتاب وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام وبين الحلال والحرام وعلم من شعائر الإسلام وصرف من النواهي والأوامر والمواعظ والزواجر والبشارة بالثواب والنذارة بالعقاب وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصته واصطفاهم من عباده وأورثهم الجنة وحسن المآب فسبحان مولانا الكريم الذي خصنا بكتابه وشرفنا بخطابه فياله من نعمة سابغة وحجة بالغة اوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها وتوفية حقها ومعرفة قدرها وما توفيقي إلا بالله هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وصلاة الله وسلامه وتحياته وبركاته وإكرامه على من دلنا على الله وبلغنا رسالة الله وجاءنا بالقرآن العظيم وبالآيات والذكر الحكيم وجاهد في الله حق الجهاد وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد وعلم ونصح وبين وأوضح حتى قامت

(1/1)


الحجة ولاحت المحجة وتبين الرشد من الغي وظهر طريق الحق والصواب وانقشعت ظلمات الشك والارتياب ذلك سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي القرشي الهاشمي المختار من لباب اللباب والمصطفى من أطهر الأنساب وأشرف الأحساب الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة والجنود القاهرة والسيوف الباترة الغضاب وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة وجعله قائدا للغر المحجلين والوجوه الناضرة فهو أول من يشفع يوم الحساب وأول من يدخل الجنة ويقرع الباب فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الأكرمين خير أهل وأصحاب صلاة زاكية نامية لا يحصر مقدارها العد والحساب ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتاب أما بعد فإن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدرا وأجلها خطرا وأعظمها أجرا وأشرفها ذكرا وأن الله أنعم علي بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه فاطلعت ... 3

(1/2)


3 على ما صنف العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف المتباينة الأصناف فمنهم من آثر الاختصار ومنهم من طول حتى كثر الأسفار ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس ومنهم من عول على النظر والتحقيق والتدقيق وكل أحد سلك طريقا نحاه وذهب مذهبا ارتضاه وكلا وعد الله الحسنى فرغبت في سلوك طريقهم والإنخراط في مساق فريقهم وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ما يتعلق به من العلوم وسلكت مسلكا نافعا إذ جعلته وجيزا جامعا قصدت به أربع مقاصد تتضمن أربع فوائد الفائدة الأولى جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم تسهيلا على الطالبين وتقريبا على الراغبين فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها وتنقيح فصولها وحذف حشوها وفضولها ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه من غير إفراط ولا تفريط ثم إني عزمت على إيجاز العبارة وإفراط الاختصار وترك التطويل والتكرار الفائدة الثانية ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة قلما توجد في كتاب لأنها من نبات صدري وينابيع ذكري ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم أو مما التقطته من مستظرفات النوادر الواقعة في غرائب الدفاتر الفائدة الثالثة إيضاح المشكلات إما بحل العقد المقفلات وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات الفائدة الرابعة تحقيق أقوال المفسرين السقيم منها والصحيح وتمييز الراجح من المرجوح وذلك أن أقوال الناس على مراتب فمنها الصحيح الذي يعول عليه ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه ومنها ما يحتمل الصحة والفساد ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساويا أو متفاوتا والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول فأدناها ما أصرح بأنه خطأ أو باطل ثم ما أقول فيه إنه ضعيف أو

(1/3)


بعيد ثم ما أقول إن غيره أرجح أو أقوى أو أظهر أو أشهر ثم ما أقدم غيره عليه إشعارا بترجيح المتقدم أو بالقول فيه قيل كذا قصدا للخروج من عهدته وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين إما للخروج عن عهدته وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدي به على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلا وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إاليهم وأما إذا ذكرت شيئا دون حكاية قوله عن أحد فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء نفسي أو مما أختاره من كلام غيري وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيها للكتاب وربما ذكرته تحذيرا منه وهذا الذي من الترجيح والتصحيح مبني على القواعد العلمية أو ما تقتضيه اللغة العربية وسنذكر بعد هذا بابا في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله وسميته كتاب التسهيل لعلوم التنزيل وقدمت في أوله مقدمتين إحداهما في أبواب نافعة وقواعد كلية جامعة والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملا مبرورا وسعيا مشكورا ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم وتنقذني من عذاب الجحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... 4

(1/4)


4 المقدمة الأولى فيها اثنا عشر بابا الباب الأول في نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول ما بعثه الله بمكة وهو ابن أربعين سنة إلى أن هاجر إلى المدينة ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفاه الله فكانت مدة نزوله عليه عشرون سنة وقيل كانت ثلاث وعشرين سنة على حسب الاختلاف في سنه صلى الله عليه وسلم يوم توفي هل كان ابن ستين سنة أو ثلاث وستين سنة وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة وربما تنزل عليه آيات مفترقات فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة وأول ما نزل عليه من القرآن صدر سورة العلق ثم المدثر والمزمل وقيل أول ما نزل المدثر وقيل فاتحة الكتاب والأول هو الصحيح لما ورد في الحديث الصحيح عن عائشة في حديثها الطويل في ابتداء الوحي قالت فيه جاءه الملك وهو بغار حراء قال اقرأ قال ما أنا بقاريء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقاريء قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقاريء قال فأخذني وغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ثم قال اقرأ بسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع وفي رواية من طريق جابر ابن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم زملوني فأنزل الله تعالى ياأيها المزمل وآخر ما نزل إذا جاء نصر الله والفتح وقيل أية الزنى التي في البقرة وقيل الآية قبلها وكان القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرق في الصحف وفي صدور الرجال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد فلما قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في

(1/5)


قتال مسيلمة الكذاب أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يذهب بموت القراء فجمعه في صحف غير مرتب السور وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر بعده ثم عند بنته حفصة أم المؤمنين وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة وكان بينها اختلاف فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم فانتدب لذلك عثمان وأمر زيد بن ثابت فجمعه وجعل معه ثلاثة من قريش عبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن العاصي بن أمية وقال لهم إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماما في هذا الجمع الأخير وكان عثمان رضي الله عنه يتعهدهم ويشاركهم في ذلك فلما كمل المصحف نسخ عثمان رضي الله عنه منه نسخا ووجهها إلى الأمصار وأمر بما سواها أن تخرق أو تحرق يروى بالحاء والخاء المنقوطة فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف وقد قيل إنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ضعيف ترده الآثار الواردة في ذلك وأما نقط القرآن وشكله فأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان وزاد الحجاج تحزيبه وقيل أول من نقطة يحيى بن يعمر وقيل أبو الأسود الدؤلي وأما وضع الأعشار فيه فقيل إن الحجاج فعل ذلك وقيل بل أمره به المأمون العباسي وأما أسماؤه فهي ... 5

(1/6)


5 أربعة القرآن والفرقان والكتاب والذكر وسائر ما يسمى صفات لا أسماء كوصفه بالعظيم والكريم والمتين والعزيز والمجيد وغير ذلك فأما القرآن فأصله مصدر قرأ ثم أطلق على المقروء وأما الفرقان فمصدر أيضا معناه التفرقة بين الحق والباطل وأما الكتاب فمصدر ثم اطلق على المكتوب وأما الذكر فسمي القرآن به لما فيه من ذكر الله أو من التذكير والمواعظ ويجوز في السورة من القرآن الهمز وترك الهمز لغة قريش وأما الآية فأصلها العلامة ثم سميت الجملة من القرآن به لأنها علامة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم
الباب الثاني في السورة المكية والمدنية اعلم أن السور المكية هي التي نزلت بمكة ويعد منها كل ما نزل قبل الهجرة وإن نزل بغير مكة كما أن المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويعد منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة وتنقسم السور ثلاثة أقسام قسم مدنية باتفاق وهي اثنان وعشرون سورة وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة والنور والأحزاب والقتال والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق والتحريم وإذا جاء نصر الله وقسم فيها خلاف هل هي مكية أو مدنية وهي ثلاثة عشر سورة أم القرآن والرعد والنحل والحج والإنسان والمطففون والقدر ولم يكن وإذا زلزلت وأرأيت والإخلاص والمعوذتين وقسم مكية باتفاق وهي سائر السور وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية كما وقعت آيات مكية في سور مدنية وذلك قليل مختلف في أكثره واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد والرد على المشركين وفي قصص الأنبياء وأن السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية وفي الرد على اليهود والنصارى وذكر المنافقين والفتوى في مسائل وذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وحيث ما ورد ياأيها الذين آمنوا فهو مدني وأما ياأيها الناس فقد وقع في المكي والمدني
الباب الثالث في المعاني والعلوم

(1/7)


التي تضمنها القرآن ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه ثم إن هذا المقصد يقتضى أمرين لا بد منهما وإليهما ترجع معاني القرآن كله أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وترددهم إليها فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال وأما البواعث عليها فأمرين وهما الترغيب والترهيب وأما على التفصيل فاعلم أن معاني القرآن سبعة وهي علم الربوبية والنبوة والمعاد والأحكام والوعد والوعيد والقصص فأما علم الربوبية فمنه إثبات وجود الباري جل جلاله والاستدلال عليه بمخلوقاته فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات والاعتبار في خلقة الأرض والسموات والحيوان والنبات والريح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وغير ذلك من الموجودات فهو دليل على خالقه ومنه إثبات الوحدانية والرد على المشركين والتعريف بصفات الله من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من أسمائه وصفاته والتنزيه عما لا يليق به وأما النبوة فإثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام على العموم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم ووجود الملائكة الذين ... 6

(1/8)


6 كان منهم وسائط بين الله وبينهم والرد على من كفر بشيء من ذلك وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن من تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته والثناء عليه وسائر الانبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين وأما المعاد فإثبات الحشر وإقامة البراهين والرد على من خالف فيه وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار والحساب والميزان وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال ونحو ذلك وأما الأحكام فهي الأوامر والنواهي وتنقسم خمسة أنواع واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح ومنها ما يتعلق بالأبدان كالصلاة والصيام وما يتعلق بالأموال كالزكاة وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك وأما الوعد فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها وأما الوعيد فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة وهو الأكثر كأوصاف جهنم وعذابها وأوصاف القيامة وأهوالها وتأمل القرآن تجد الوعد مقرونا بالوعيد قد ذكر أحدهما على أثر ذكر الآخر ليجمع بين الترغيب والترهيب وليتبين أحدهما بالآخر كما قيل فبضدها تتبين الأشياء وأما القصص فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف وذي القرنين فإن قيل ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى الثاني أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب وفي مواضع على طريقة الإيجاز لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين الثالث أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدمين بذكر ما جرى على ايديهم من المعجزات وذكر إهلاك من كذبهم بأنواع من المهالك ومنها إثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد

(1/9)


وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ومنها إثبات الوحدانية ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال فما أغنت عنهم آلهتهم اللاتي يدعون من دون الله من شيء ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدة عقابه لمن كفر ومنها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدم من الأنبياء كقوله ولقد كذبت رسل من قبلك ومنها تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله ومنها تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء وردهم على الكفار وغير ذلك فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة ولكل مقام مقال الباب الرابع في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنا من العلوم وهي التفسير والقراءات والأحكام والنسخ والحديث والقصص والتصوف وأصول الدين وأصول الفقه واللغة والنحو والبيان فأما التفسير فهو المقصود بنفسه وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه ومعنى التفسير شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو نجواه واعلم أن التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه ثم إن المختلف فيه على ثلاثة أنواع الأول اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى فهذا عده كثير من المؤلفين خلافا وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه وجعلناه نحن قولا واحدا وعبرنا عنه بأحد عبارات المتقدمين أو بما يقرب منها ... 7

(1/10)


7 أو بما يجمع معانيها الثاني اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد وليس مثال منها على خصوصه هو المراد وإنما المراد المعنى العام التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه فهذا عده أيضا كثير من المؤلفين خلافا وليس في الحقيقة بخلاف لأن كل قول منها مثال وليس بكل المراد ولم نعده نحن خلافا بل عبرنا عنه بعبارة عامة تدخل تلك تحتها وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع التنبيه على العموم المقصود الثالث اختلاف المعنى فهذا هو الذي عددناه خلافا ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب فإن قيل ما الفرق بين التفسير والتأويل فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال الأول أنهما بمعنى واحد الثاني أن التفسير للفظ والتأويل للمعنى الثالث وهو الصواب أن التفسير هو الشرح والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره وأما القراءات فإنها بمنزلة الرواية في الحديث فلا بد من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته ثم إن القراءات على قسمين مشهورة وشاذة فالمشهورة هي القراءات السبع وما جرى مجراها كقراءة يعقوب وابن محيصين والشاذة ماسوى ذلك وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع لوجهين أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب الأخرى اقتداء بالمدينة شرفها الله لأنها قراءة أهل المدينة وقال مالك بن أنس قراءة نافع سنة وذكرنا من سائر القراءة ما فيها فائدة في المعنى والإعراب وغير ذلك دون ما لا فائدة فيه زائدة واستغنينا عن استيفاء القراءات لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها وقد ألفنا فيها كتبا نفع الله بها وأيضا فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة وقد ذكرنا في هذه المقدمات بابا في قواعد أصول القراءات وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية وقال

(1/11)


بعض العلماء إن آيات الأحكام خمسمائة آية وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا استقصى تتبعها في مواضعها وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها تأليف إسماعيل القاضي وابن الحسن كباه ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي والقاضي الحافظ بن محمد بن عبد المنعم ابن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار ولا بد من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم وهو ما لم ينسخ وقد صنف الناس في ناسخ القرآن ومنسوخه تصانيف كثيرة وأحسنها تأليف القاضي أبي بكر بن العربي وقد ذكرنا في هذه المقدمات بابا في قواعد النسخ وذكر ما تقرر في القرآن من المنسوخ وذكرنا سائره في مواضعه وأما الحديث فيحتاج المفسر إلى روايته وحفظه لوجهين الأول أن كثيرا من الآيات في القرآن نزلت في قوم مخصوصين ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوات والنوازل والسؤالات ولا بد من معرفة ذلك ليعلم فيمن نزلت الآية وفيما نزلت ومتى نزلت فإن الناسخ يبنى على معرفة تاريخ النزول لأن المتأخر ناسخ للمتقدم الثاني أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من تفسير القرآن فيجب معرفته لأن قوله عليه السلام مقدم على أقوال الناس وأما القصص فهي من جملة العلوم التي تضمنها القرآن فلا بد من تفسيره إلا أن الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه وما سوى ذلك زائد مستغنى عنه وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح حتى أنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب ... 8

(1/12)


8 الأنبياء عليهم السلام أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص ما يتوقف التفسير عليه وعلى ما ورد منه في الحديث الصحيح وأما التصوف فله تعلق بالقرآن لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس وتنوير القلوب وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة واجتناب الأخلاق الذميمة وقد تكلمت المتصوفة في تفسير القرآن فمنهم من أحسن وأجاد ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني ووقف على حقيقة المراد ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغه العربية وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتاب سماه الحقائق وقال بعض العلماء بل في البواطل وإذا انتصفنا قلنا فيه حقائق وبواطل وقد ذكرنا هذا في كتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية دون ما يعترض أو يقدح فيه وتكلمنا أيضا على اثني عشر مقاما من مقام التصوف في مواضعها من القرآن فتكلمنا على الشكر في أم القرآن لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة هدى للمتقين وعلى الذكر في قوله فيها فاذكروني أذكركم وعلى الصبر في قوله تعالى وبشر الصابرين وعلى التوحيد في قوله فيها وإلهكم إله واحد وعلى محبة الله في قوله فيها والذين آمنوا أشد حبا لله وعلى التوكل في قوله في آل عمران فإذا عزمت فتوكل على الله وعلى المراقبة في قوله في النساء إن الله كان عليكم رقيبا وعلى الخوف والرجاء في قوله في الأعراف وادعوه خوفا وطمعا وعلى التوبة في قوله في النور وتوبوا إلى الله جميعا وعلى الإخلاص في قوله في لم يكن وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وأما أصول الدين فيتعلق بالقرآن من طرفين أحدهما ما ورد في القرآن من إثبات العقائد وإقامة البراهين عليها والرد على أصناف الكفار والآخر أن الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن وكل طائفة منهم

(1/13)


تحتج لمذهبها بالقرآن وترد على من خالفها وتزعم أنه خالف القرآن ولا شك أن منهم المحق والمبطل فمعرفة تفسير القرآن أن توصل في ذلك إلى التحقيق مع التشديد والتأييد من الله والتوفيق وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن على أن كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب وشروط النسخ ووجوه التعارض وأسباب الخلاف وغير ذلك من علم الأصول وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة وقد ذكرنا بعد هذه المقدمة مقدمة في اللغات الكثيرة الدوران في القرآن لئلا نحتاج أن نذكرها حيث وقعت فيطول الكتاب بكثرة تكرارها وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته فإن القرآن نزل بلسان العرب فيحتاج إلى معرفة اللسان والنحو ينقسم إلى قسمين أحدهما عوامل الإعراب وهي أحكام الكلام المركب والآخر التصريف وهي أحكام الكلمات من قبل تركيبها وقد ذكرنا في هذا الكتاب من إعراب القرآن ما يحتاج إليه من المشكل والمختلف أو ما يفيد فهم المعنى أو ما يختلف المعنى باختلافه ولم نتعرض لما سوى ذلك من الإعراب السهل الذي لا يحتاج إليه إلا المبتدىء فإن ذلك يطول بغير فائدة كبيرة وأما علم البيان فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن وقد ذكرنا منه في هذا الكتاب فوائد فائقة ونكت مستحسنة رائقة وجعلنا في المقدمات بابا في أدوات البيان ... 9

(1/14)


9 ليفهم به ما يرد منها مفرقا في مواضعه من القرآن
الباب الخامس في أسباب الخلاف بين المفسرين والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم فأما أسباب الخلاف فهي اثني عشر الأول اختلاف القرءات الثاني اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات الثالث اختلاف اللغويين في معنى الكلمة الرابع اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر الخامس احتمال العموم والخصوص السادس احتمال الإطلاق أو التقييد السابع احتمال الحقيقة أو المجاز الثامن احتمال الإضمار أو الاستقلال التاسع احتمال الكلمة زائدة العاشر احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير الحادي عشر احتمال أن يكون الحكم منسوخا أو محكما الثاني عشر اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف رضي الله عنهم وأما وجوه الترجيح فهي اثني عشر الأول تفسير بعض القرآن ببعض فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال الثاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عولنا عليه لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح الثالث أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه الرابع أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل الخامس أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق السادس أن يشهد بصحة القول سياق الكلام ويدل عليه ما قبله أو ما بعده السابع أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإن ذلك دليل على ظهوره ورجحانه الثامن تقديم الحقيقة على المجاز فإن الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالا من الحقيقة ويسمى مجازا راجحا والحقيقة مرجوحة وقد اختلف العلماء

(1/15)


أيهما يقدم فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح التاسع تقديم العمومي على الخصوصي فإن العمومي أولى لأنه الأصل إلا أن يدل دليل على التخصيص العاشر تقديم الإطلاق على التقييد إلا أن يدل دليل على التقييد الحادي عشر تقديم الاستقلال على الإضمار إلا أن يدل دليل على الإضمار الثاني عشر حمل الكلام على ترتيبه إلا أن يدل دليل على التقديم والتأخير
الباب السادس في ذكر المفسرين اعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه وهم الأكثرون ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطا لما ورد من التشديد في ذلك فقد قالت عائشة رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من القرآن الآيات إلا بعد علمه إياهن من جبريل وقال صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنها بأنه في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلا بتوقيف من الله تعالى وتأول الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه واعلم أن المفسرين على طبقات فالطبقة الأولى الصحابة رضي الله عنهم وأكثرهم كلاما في التفسير ابن عباس وكان على بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويقول كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق وقال ابن عباس ... 10

(1/16)


10 ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب ويتلوهما عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد ابن ثابت وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وكلما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن والطبقة الثانية التابعون وأحسنهم كلاما في التفسير الحسن بن الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد مولى ابن عباس وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود ويتلوهم عكرمة وقتادة والسدي والضحاك ابن مزاحم وأبو صالح وأبو العالية ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف وألف الناس فيه كالمفضل وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وعلي بن أبي طلحة وغيرهم ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين وأحسن النظر فيها وممن صنف في التفسير أشياء أبو بكر النقاش والثعلبي والماوردي إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح وقد استدرك الناس على بعضهم وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين كأبي إسحق الزجاج وأبي علي الفارسي وأبي جعفر النحاس وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتابا في غريب القرآن وتفسيره ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب الهداية في تفسير القرآن وكتابا في غريب القرآن وكتابا في ناسخ القرآن ومنسوخه وكتابا في إعراب القرآن إلى غير ذلك من تآليفه فإنها نحو ثمانين تأليفا أكثرها في علوم القرآن والقراءات والتفسير وغير ذلك وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين إلا أن أكثرها في القرآن ولم يؤلف في التفسير إلا قليلا وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف حسن الترتيب جامع لفنون علوم القرآن ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي وأبو محمد عبد الحق بن عطية فأبدع كل واحد وأجمل واحتفل وأكمل فأما ابن العربي فصنف كتاب أنوار الفجر في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن فلما تلف تلافاه بكتاب قانون التأويل إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه

(1/17)


وألف في سائر علوم القرآن تآليفا مفيدة وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها وهو مع ذلك حسن العبارة مسدد النظر محافظ على السنة ثم ختم علم القرآن بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير فلقد قطع عمره في خدمة القرآن وآتاه الله بسطة في علمه وقوة في فهمه وله فيه تحقيق ونظر دقيق ومما بأيدينا من تآليف أهل المشرق تفسير ابن القاسم الزمخشري فمسدد النظر بارع في الإعراب متقن في علم البيان إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة وشرهم وحمل آيات القرآن على طريقتهم فتكدر صفوه وتمرر حلوه فخذ منه ما صفا ودع ما كدر وأما القرنوي فكتابه مختصر وفيه من التصوف نكت بديعة وأما ابن الخطيب فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري وزاد عليه إشباع في قواعد علم الكلام ونمقه بترتيب المسائل وتدقيق النظر في بعض المواضع وهو على الجملة كتاب كبير الجرم ربما يحتاج إلى تلخيص والله ينفع الجميع بخدمة كتابه ويجزيهم أفضل ثوابه
الباب السابع في الناسخ والمنسوخ النسخ في اللغة هو الإزالة والنقل ومعناه في الشريعة رفع الحكم الشرعي بعد ما نزل ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه الأول نسخ اللفظ والمعنى كقوله لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم الثاني نسخ اللفظ دون المعنى كقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم الثالث نسخ المعنى دون اللفظ وهو كثير وقع منه في القرآن على ما عد بعض العلماء ... 11

(1/18)


11 مائتا موضع وثنتا عشرة مواضع منسوخة إلا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخا والاستثناء نسخا وبين هذه الأشياء وبين النسخ فروق معروفة وسنتكلم على ذلك في مواضعه ونقدم هنا ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين آية ففي البقرة وقولوا للناس حسنا ولنا أعمالنا ولا تعتدوا أي لا تبدءوا بالقتال ولا تقاتلوهم قل قتال لا إكراه وفي آل عمران فإنما عليك البلاغ منهم تقاة وفي النساء فأعرض عنهم في موضعين فما أرسلناك عليهم حفيظا لا تكلف إلا نفسك إلا الذين يصلون وفي المائدة ولا آمن عليك البلاغ عليكم أنفسكم وفي الأنعام لست عليكم بوكيل ثم ذرهم عليكم بحفيظ وأعرض عليهم حفيظا ولا تسبوا قدرهم في موضعين يا قوم اعملوا قل انظروا لست منهم في شيء وفي الأعراف فأعرض وأملى لهم وفي الأنفال وإن استنصروكم يعني المجاهدين وفي التوبة فاستقيموا لهم وفي يونس فانتظروا فقل لي عملي وإما نرينك ولا يحزنك قولهم لما يقتضي من الإمهال أفأنت تكره فمن اهتدى لأن معناه الإمهال واصبر وفي هود إنما أنت نذير أي تنذر ولا تجبر اعملوا على مكانتكم انتظروا وفي الرعد عليك البلاغ وفي النحل إلا البلاغ عليك البلاغ وجادلهم واصبر وفي الإسراء ربكم أعلم بكم وفي مريم فأنذرهم فليمدد ولا تعجل وفي طه قل كل متربص وفي الحج وإن جادلوك وفي المؤمنين فذرهم ادفع وفي النور فإن تولوا وما على الرسول إلا البلاغ وفي النمل فمن اهتدى وفي القصص لنا أعمالنا وفي العنكبوت أنا نذير لما يقتضي من عدم الإجبار وفي

(1/19)


الروم فاصبر وفي لقمان ومن كفر وفي السجدة فانظروا وفي الأحزاب ودع أذاهم وفي سبأ قل لا تسألون وفي فاطر إن أنت إلا نذير وفي يس فلا يحزنك وفي الصافات فقول و قول وما يليهما وفي ص اصبر أنا نذير وفي الزمر إن الله يحكم بينهم لما فيه من الإمهال فاعبدوا ما شئتم يا قوم اعملوا فمن اهتدى أنت تحكم لأن فيه تفويضا وفي المؤمن فاصبر في موضعين وفي السجدة ادفع وفي الشورى وما أنت عليهم بوكيل ولنا أعمالنا فإن أعرضوا وفي الزخرف فذرهم واصفح وفي الدخان فارتقب وفي الجاثية يغفروا وفي الأحقاف فاصبر وفي القتال فإما منا وفي ق فاصبر وما أنت وفي الذاريات فقول وفي الطور قل تربصوا واصبر فذرهم وفي النجم فأعرض وفي القمر فقول وفي ن فاصبر سنستدرجهم وفي المعارج فاصبر فذرهم وفي المزمل واهجرهم وذرني وفي المدثر ذرني وفي الإنسان فاصبر وفي الطارق فمهل الكافرين وفي الغاشية لست عليهم بمصيطر وفي الكافرين لكم دينكم نسخ ذلك كله اقتلوا المشركين و كتب عليكم القتال الباب الثامن في جوامع القراءة
وهو على نوعين مشهورة وشاذة فالمشهورة القراءات السبع وهو حرف نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمر بن العلاء البصري وابن عامر الشامي وعاصم وابن حمزة والكسائي الكوفيين ويجري مجراهم في الصحة والشهرة يعقوب الخضري بن محيصن ويزيد بن القعقاع والشاذة ماسوى ذلك وإنما سميت شاذة لعدم استقامتها في النقل وقد تكون فصيحة اللفظ أو قوية المعنى ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلا بثلاث شروط موافقته لمصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه وموافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات ونقله نقلا متواترا أو مستفيضا ... 12

(1/20)


12 واعلم أن اختلاف القراء على نوعين أصول وفرش الحروف فأما الفرش فهو ما لا يرجع إلى أصل مضطرد ولا قانون كلي وهو على وجهين اختلاف في القراءة باختلاف المعنى وباتفاق المعنى وأما الأصول فالاختلاف فيها لا يغير المعنى وهي ترجع إلى ثمان قواعد الأولى الهمزة وهي في حروف المد الثلاث ويزاد فيها على المد الطبيعي بسبب الهمزة والتقاء الساكنين الثانية وأصله التحقيق ثم قد يحقق على سبعة أوجه إبدال واو أو ياء أو ألف وتسهيل بين الهمزة والواو وبين الهمزة والياء وبين الهمزة والألف وإسقاط الثالثة الإدغام والإظهار والأصل الإظهار ثم يحدث الإدغام في المثلين أو المتقاربين وفي كلمة وفي كلمتين وهو نوعان إدغام كبير انفرد به أبو عمرو وهو إدغام المتحرك وإدغام صغير لجميع القراء وهو إدغام الساكن الرابعة الإمالة وهو أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء والأصل الفتح ويوجب الإمالة الكسرة والياء الخامسة الترقيق والتفخيم والحروف على ثلآثة أقسام يفخم في كل حال وهي حروف الاستعلاء السبعة ومفخم تارة ومرقق أخرى وهي الراء واللام والألف فأما الراء فأصلها التفخيم وترقق للكسر والياء وأما اللام فأصلها الترقيق وتفخم لحروف الإطباق وأما الألف فهي تابعة للتفخيم والترقيق لما قبلها والمرقق على كل حال سائر الحروف السادسة الوقف وهو على ثلاثة أنواع سكون جائز في الحركات الثلاثة وروم في المضموم والمكسور وإشمام في المضموم خاصة السابعة مراعاة الخط في الوقف الثامنة إثبات الياءات وحذفها
الباب التاسع في الوقف
وهو أربعة أنواع وقف تام وحسن وكاف وقبيح وذلك بالنظر إلى الإعراب والمعنى فإن كان الكلام مفتقرا إلى ما بعده في إعرابه أو معناه وما بعده مفتقرا إليه كذلك لم يجز إليه الفصل بين كل معمول وعامله وبين كل ذي خبر وخبره وبين كل ذي جواب وجوابه وبين كل ذي موصول وصلته وإن كان الكلام الأول مستقلا يفهم دون الثاني إلا أن الثاني غير

(1/21)


مستقل إلا بما قبله فالوقف على الأول كاف وذلك في التوابع والفضلات كالحال والتمييز والاستثناء وشبه ذلك إلا أن وصل المستثنى المتصل آكد من المنقطع ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مع ذات آكد من وصلها إذا كانت جملة وإن كان الكلام مستقلا والثاني كذلك فإن كانا في قصة واحدة فالوقف على الأول حسن وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تام وقد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو المعنى وكذلك اختلف الناس في كثير من الوقف من أقوالهم فيها راجح ومرجوح وباطل وقد يقف لبيان المراد وإن لم يتم الكلام ( تنبيه ) هذا الذي ذكرنا من رعى الإعراب والمعنى في المواقف استقر عليه العمل وأخذ به شيوخ المقرئين وكان الأوائل يراعون رؤس الآيات فيقفون عندها لأنها في القرآن كالفقر في النثر والقوافي في الشعر ويؤكد ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف
الباب العاشر في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان
أما الفصاحة فلها خمسة شروط الأول أن تكون الألفاظ عربية لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامة الثاني أن تكون من الألفاظ المستعملة لا من الوحشية المستثقلة الثالث أن تكون العبارة واقعة على المعنى موفية له لا قاصرة عنه الرابع أن تكون العبارة سهلة سالمة من التعقيد الخامس أن يكون الكلام سالما من الحشو الذي لا يحتاج إليه وأما البلاغة ... 13

(1/22)


13 فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقال من الإيجاز والإطناب ومن التهويل والتعظيم والتحقير ومن التصريح والكناية والإشارة وشبه ذلك بحيث يهز النفوس ويؤثر في القلوب ويقود السامع إلى المراد أو يكاد وأما أدوات البيان فهي صناعة البديع وهو تزيين الكلام كما يزين العلم الثوب وقد وجدنا في القرآن منها اثنين وعشرين نوعا ونبهنا على كل نوع في المواضع التي وقع فيها من القرآن وقد ذكرنا هنا أسماءها ونبين معناه الأول المجاز وهو اللفظ المستعمل في غير مواضع له لعلاقة بينهما وهو اثنا عشر نوعا التشبيه والاستعارة والزيادة والنقصان وتشبيه المجاور باسم مجاوره والملابس باسم ملابسه والكل وإطلاق اسم الكل على البعض وعكسه والتسمية باعتبار ما يستقبل والتسمية باعتبار ما مضى وفي هذا خلاف هل هو حقيقة أو مجاز واتفق أهل علم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن لأن القرآن نزل بلسان العرب وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز ولا وجه لمن منعه لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى الثاني الكناية وهي العبارة عن الشيء فيما لا يلازمه من غير تصريح الثالث الالتفات وهو على ستة أنواع خروج من التكلم إلى الخطاب أو الغيبة وخروج من الخطاب إلى التكلم أو الغيبة وخروج من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب الرابع التمديد وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم والقصد بالتجديد تعظيم المجدد ذكره أو تحقيره أو رفع الاحتمال الخامس الاعتراض وهو إدراج كلام بين شيئين متلازمين كالخبر والمخبر عنه والصفة والموصوف والمعطوف والمعطوف عليه وإدخاله في أثناء كلام متصل والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه السادس التجنيس وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى ثم الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة أو في الحروف خاصة أو في أكثر الحروف لا في جميعها أو في الخط لا في اللفظ وهو تجنيس التصحيف السابع الطباق وهو ذكر الأشياء المتضادة كالسواد والبياض

(1/23)


والحياة والموت والليل والنهار وشبه ذلك الثامن المقابلة وهو أن يجمع بين شيئين فصاعدا ثم يقابلهما بأشياء أخر التاسع المشاكلة وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته العاشر الترديد وهو رد الكلام على آخره ويسمى في الشعر رد العجز على الصدر الحادي عشر لزوم ما لا يلزم وهو أن تلتزم قبل حروف الروي حرفا آخر وكذلك عند رؤوس الآيات الثاني عشر القلب وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره نحو دعد أو تعكس كلماته فتقدم المؤخر منها وتؤخر المقدم الثالث عشر التقسيم وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه الرابع عشر التتميم وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه ويؤكده وإن كان مستقلا دون هذه الزيادة الخامس عشر التكرار وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر فتكرر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل أو مدح المذكور أو ذمه أو للبيان السادس عشر التهكم وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر كذلك البشارة في موضع النذارة السابع عشر اللف والنشر وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر ثم تذكر متعلقات بها وفيه طريقتان أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول وأن تبدأ بالآخر الثامن عشر الجمع وهو أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبر واحد وفي وصف واحد وشبه ذلك التاسع عشر الترصيع وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله العشرون التشجيع وهو أن يكون كلمات الآي على روي واحد الحادي والعشرون الاستطراد وهو أن يتطرق من كلام إلى كلام آخر بوجه يصل ما بينهما ويكون الكلام الثاني ... 14

(1/24)


14 هو المقصود كخروج الشاعر من السب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين مع أنه قصد المدح الثاني والعشرون المبالغة وقد تكون بصيغة الكلمة نحو صيغة فعال ومفعال وقد تكون بالمبالغة في الإخبار أو الوصف فإن اشتدت المبالغة فهو غلو وإغراب وذلك مستكره عند أهل هذا الشأن
الباب الحادي عشر في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل
ويدل على ذلك عشرة أوجه الأول فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين الثاني نظمه العجيب وأسلوبه الغريلب من قواطع آياته وفواصل كلماته الثالث عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله الرابع ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم ذلك ولا قرأه في كتاب الخامس ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال السادس ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله وذكر صفاته وأسمائه وما يجوز عليه وما يستحيل عليه ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده وإقامة البراهين القاطعة والحجج الواضحة والرد على اصناف الكفار وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه بل يوحي من العليم الخبير ولا يشك عاقل في صدق من عرف الله تلك المعرفة وعظم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد الله إلى صراطه المستقيم السابع ما شرع فيه من الأحكام وبين من الحلال والحرام وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة وأرشد إليه من مكارم الأخلاق وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم الثامن كونه محفوظا عن الزيادة والنقصان محروسا عن التغيير والتبديل على طول الزمان بخلاف سائر الكتب التاسع تيسيره للحفظ وذلك معلوم بالمعاينة العاشر كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد بخلاف سائر الكلام
الباب الثاني عشر في فضل القرآن وإنما نذكر ما ورد في الحديث الصحيح فمن ذلك ما ورد عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اقرؤا القرآن فإنه

(1/25)


يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه وينتفع به وهو عليه شاق فله أجران وعن ابي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه فإن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين وعن ابن عباس قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع راسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اقرأوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر ... 15

(1/26)


15 من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة وعن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يأ ابا المنذر وعن النواس بن سمعان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهما بعد قال وإنهما غمامتان أو طلتان سوداوان بينهما شرف أو كأنهما فرقان من طير صواف تخافان عن صاحبهما وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات أنزلت علي لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس المقدمة الثانية في تفسير معاني اللغات نذكر في هذه المقدمة الكلمات التي يكثر دورها في القرآن أو تقع في موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف وإنما جمعناها في هذا الباب لثلاثة فوائد أحدها تفسيرها للحفظ فإنها وقعت في القرآن متفرقة فجمعها أسهل لحفظها والثانية ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير لما أن تآليف القرآن جمعت فيها الأصول المطردة والكثيرة الدور والثالثة الاقتصار فنستغني بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها من القرآن خوف التطويل بتكرارها وربما نبهنا على بعضها للحاجة إلى ذلك ورتبناها في هذا الكتاب على حروف المعجم فمن لم يجد تفسير كلمة في موضعها من القرآن فلينظر في هذا الباب واعتبرنا في هذا الحروف الحرف الذي يكون فاء الكلمة وهو الأصلي دون الحروف الزائدة في أول الكلمات

حرف الهمزة آية لها معنيان أحدهما علامة وبرهان والثاني آية

(1/27)


من القرآن وهي كلام متصل إلى الفاصلة والفواصل هي رؤس الآيات أتى بقصر الهمزة معناه جاء ومضارعه يأتي ومصدره إتيان واسم الفاعل منه آت واسم المفعول منه مأتي ومنه قوله تعالى آتي بمد الهمزة معناه أعطي ومضارعه يؤتي واسم الفاعل مؤت ومنه والمؤتون الزكاة أبى يأبى أي امتنع أثر الشيء بقيته وأمارته وجمعه آثار والأثر ايضا الحديث وأثارة من علم بقية وأثاروا الأرض حرثوها وأثر الرجل الشيء يؤثره فضله إثم ذنب ومنه آثم وأثيم أي مذنب أجر ثواب وبمعنى الأجرة ومنه استأجره وعلى أن تأجرني وأما استجارك فأجره ويجركم من عذاب أليم ومن يجيرني من الله وهو يجير ولا يجار عليه فذلك كله من الجوار بمعنى التأمين آمن إيمانا أي صدق والإيمان في اللغة التصديق مطلقا وفي الشرع التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والمؤمن في الشرع المصدق بهذه الأمور والمؤمن اسم الله تعالى أي المصدق لنفسه وقيل إنه من الأمن أي يؤمن أولياءه من عذابه وأمن بقصر الهمزة وكسر الميم أمنا وأمانة ضد الخوف وأمن من الأمانة وأمن غيره من التأمين أليم مؤلم أي موجع ومنه تألمون إمام له أربعة معان القدوة والكتاب والطريق وجمع أم أي تابع وهي للمتقين إماما أمة لها أربعة معان الجماعة من الناس والدين ... 16

(1/28)


16 والحين والإمام أي القدوة أمي لا يقرأ ولا يكتب ولذلك وصف العرب بالأميين أم لها معنيان الوالدة والأصل وأم القرى مكة أخرى مؤنثة آخر وآخر آل له معنيان الأهل ومنه آل لوط والأتباع والجنود ومنه آل فرعون أمس اليوم الذي قبل يومك والزمان الماضي إناه وقته وجمعه إنا ومنه آناء الليل أمر له معنيان أحدهما طلب الفعل على الوجوب أو الندب أو الإباحة وقد تأتي صفة الأمر لغير الطلب والتهديد والتعجيز والتعجب والخبر والثاني بمعنى الشأن والصفة وقد يراد به العذاب ومنه جاء أمرنا إسراءيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وهو والد الأسباط واليهود ذريتهم إياب رجوع ومنه مآب أي مرجع ورجل أواب كثير الرجوع إلى الله والتأويب التسبيح يا جبال أوبي إفك أشد الكذب والأفاك الكذاب وأفك الرجل عن الشيء أي صرف عنه ومنه تؤفكون أوى الرجل إلى الموضع بالقصر وآواه غيره بالمد ومنه المأوى أف كلمة شر آلاء الله نعمه ومنه آلاء ربكما أسف له معنيان الحزن والغضب ومنه فلما آسفونا أسوة بكسر الهمزة وضمها قدوة أسى . . . الرجل يأسى أسآ أي حزن ومنه فلا تأس وكيف آسى أذان بالقصر إعلام بالشيء ومنه الأذان بالصلاة والآذان بالمد جمع أذن إذن الله بمعنى العلم والإرادة والإباحة وأذنت بالشيء أعلمت به بكسر الذال وآذنت به غيري بالمد إصر له معنيان الذنب والعهد أيد اي قوة ومنه أيدناه وبنيناها بأيد والأيدي جمع يد فهمزتها زائدة أكل بضم الهمزة اسم المأكول ويجوز فيه ضم الهمزة وإسكانها والأكل بضم الهمزة المصدر أيلة غيضة أثاث متاع البيت أجاج مر أرائك أسرة واحدها أريكة آنية له معنيان أحدهما جمع إناء ومنه آنية من فضة وشديدة الحر ومنه عين آنية ووزن الأولى أفعلة والثانية فاعلة ومذكرها آن أحد له معنيان واحد ومنه الله أحد واسم جنس بمعنى

(1/29)


إنسان أيان معناه متى أنى بمعنى كيف ومتى و أين للحصر إن المكسورة المخففة أربعة أنواع شرطية ونافية وزائدة ومخففة من الثقيلة أن المفتوحة المخففة أربعة أنواع مصدرية وزائدة ومخففة من الثقيلة وعبارة عن القول إنما نوعان ظرف زمان مستقبل ومعناها الشرط وقد تخلو عن الشرط ومجانبة إذا لها معنيان ظرف زمان ماضي وسببية للتقليل أو العاطفة لها خمسة معان الشك والإبهام والإباحة والتخيير والناصبة للفعل بمعنى إلى أو إلا أم استفهامية وقد يكون فيها معنى الإنكار والإضراب وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها ومنفصلة مما قبلها إما المكسورة المشددة للتنويع والشك والتخيير وقد تكون مركبة من إن الشرطية وما الزائدة إلا المفتوحة المشددة أداة استثناء وتكون للإيجاب بعد غير الواجب وتكون مركبة من إن الشرطية ولا النافية أي المشددة سبعة أنواع شرطية واستفهامية وموصولة ومنادى وصفة وظرفية إذا أضيفت إلى ظرف ومصدرية إذا أضيفت إلى مصدر إي المكسورة المخففة ومعناها التصديق إلي معناه انتهاء الغاية وقيل تكون بمعنى مع الهمزة للاستفهام والتقرير والتوبيخ والتسوية وللمتكلم وأملية وزائدة للبناء

حرف الباء باري خالق ومنه البرية أي الخلق بعث له معنيان بعث الرسل وبعث الموتى من القبور بسط الله الرزق وسعه ومعنى قبض وقدر الرزق أي ضيقه ومن أسماء الله تعالى القابض والباسط وبسطة زيادة بشر من البشارة وهي الإعلام بالخير قبل وروده وقد يكون للشر إذا ذكر ... 17

(1/30)


17 معها ويجوز في الفعل التشديد والتخفيف ومنه المبشر والبشير واستبشر بالشيء فرح به بعد له معنيان ضد القرب والفعل منه بعد بضم العين والهلاك والفعل منه بكسرها ومنه كما بعدت ثمود بلاء له معنيان العذاب والاختبار ومنه أيضا ونبلوكم بر له معنيان الكرامة ومنه بر الوالدين و أن تبروهم والتقوى والجمع لخصال الخير ومنه البر من اتقى ورجل بار وبر والجمع أبرار والبر من أسماء الله تعالى بات معروف ومصدره بيات وبيت الأمر دبره بالليل بغتة فجأة بروج جمع برج وهو الحصن وبروج السماء منازل الشمس والقمر بين ظرف وبين يدي الشيء ما تقدم قبله والبين الفراق والاجتماع لأنه من الأضداد بينات براهين من المعجزة وغيرها ومبينة من البيان يبين من البيان وله معنيان بين غير متعد ومبين لغيره بدا يبدو بغير همز ظهر وأبديته أظهرته والبادي أيضا من البداية ومنه بادون في الأعراب بدأ بالهمزة من الابتداء ويقال بدأ الخلق وأبدأه وقد جاء القرآن بالوجهين بغى له معنيان العدوان على الناس والحسد والبغا بكسر الباء الزنا ومنه امرأة بغي أي زانية وابتغاء الشيء وبغاه أي طلبه بث الحديث وغيره نشره والمبثوث المنتشر ومبثوثه متفرقة والبث الحزن الشديد ومنه أشكو بثي بوأ أنزل الرجل ومنه بوأكم في الأرض ولنبوأنهم ومبوأ بوار هلك ومنه قوما بورا أي هلكى باء بالشيء رجع به وقد يقال بمعنى اعترف بأساء الفقر والبؤس والشدة والمحنة والبائس الفقير من البؤس والبأس القتال والشجاعة والمكروه وبأس الله عذابه وبئس كلمة ذم برزخ شيء بين شيئين والبرزخ ما بين الموت والقيامة بديع له معنيان جميل ومبدع أي خالق الشيء ابتداء بسر عبس ومنه باسرة بصير من أبصر يقال أبصرته وبصرته والبصائر البراهين جمع بصيرة برز ظهر ومنه بارزة وبارزون بطش أخذ بشدة بخس نقص بعل له معنيان زوج

(1/31)


المرأة وجمعه بعولة والبعل ايضا الرب وقيل اسم صنم ومنه أتدعون بعلا بهجة حسن وبهيج حسن مبلسون جمع مبلس وهو البائس وقيل الساكت الذي انقطعت حجته وقيل الحزين النادم منه يبلس ومنه اشتق إبليس ( بهت ) انقطعت حجته تبارك من البركة وهي الكثرة والنماء وقيل تقدس بلى جواب يقتضي إثبات الشيء بل معناها الإضراب عما قبلها الباء للإلصاق ولنقل الفعل في التعدي وللقسم وللتعليل وللمصاحبة وللاستعانة وظرفية وزائدة حرف التاء تلا يتلو له معنيان قرأ واتبع تقوى مصدر مشتق من الوقاية فالتاء بدل من الواو معناه الخوف والتزام طاعة الله وترك معاصيه فهو جامع لكل خير تاب يتوب رجع توبة وتوبا فهو تائب وتواب كثير التوبة وتواب اسم الله تعالى أي كثير التوبة على عباده وتاب الله على العبد ألهمه التوبة وقبل توبته تباب خسران وتب خسر تبار هلاك ومنه متبر أترفوا أنعموا والمترفون المنعمون في الدنيا

حرف الثاء ثمود قبيلة من العرب الأقدمين ثوى في الموضع أفام فيه ومنه مثوى ثبور هلاك ومنه دعوا هنالك ثبورا أي صاحوا هلاكا ثمر ما يؤكل مما تنبت الأرض ويقال بالفتح والضم ثقفوا أخذوا وظفر بهم ومنه فإما تثقفنهم في الحرب ثاقب مضيء ثم بالفتح ظرف وبالضم حرف عطف يقتضي الترتيب والمهلة وقد يرد لغير الترتيب كالتأكيد وترتيب الأخبار حرف الجيم جعل له أربعة معان صير وألقى وخلق وأنشأ يفعل كذا جناح الطائر معروف وجناح ... 18

(1/32)


18 الإنسان إبطه ومنه اضمم إليك جناحك ولا جناح لا إثم فمعناه الإباحة وجنح للشيء مال إليه لا جرم لا بد اجتبى اختار جدال مخالفة ومخاصمة واحتجاج تجأرون تصيحون بالدعاء جوارى جمع جارية وهي السفينة أجرم فهو مجرم له معنيان الكفر والعصيان جنة الجنون وقد جاء بمعنى الملائكة جان له معنيان الجن والحية الصغيرة جنة بالفتح البستان وبالكسر الجنون وبالضم الترس وما أشبهه مما يستتر به ومنه استعير أيمانهم جنة جاثية أي على ركبهم لا يستطيعون مما هم فيه وقوله جثيا جمع جاث الجرز الأرض التي لا نبات فيها جاثمين باركين على ركبهم جبار اسم الله تعالى له معنيان قهار ومتكبر وقد يكون من الجبر للكسير وشبهه والجبار أيضا الظالم أجداث قبور جزى له معنيان من الجزاء بالخير والشر وبمعنى أغنى ومنه لا تجزي نفس وأما أجزأ بالهمز فمعناه كفى جرح له معنيان من الجروح وبمعنى الكسب والعمل ومنه جرحتم بالنهار واجترحوا السيئات ولذلك سميت كلاب الصيد جوارح لأنها كواسب لأهلها جنب له معنيان من الجنابة وبمعنى البعد ومنه عن جنب

حرف الحاء حمد هو الثناء سواء كان جزاء على نعمه أو ابتداء والشكر إنما يكون جزاء فالحمد من هذا الوجه أعم والشكر باللسان والقلب والجوارح ولا يكون الحمد إلا باللسان فالشكر من هذا الوجه أعم حميد اسم الله تعالى أي بمعنى محمود حكمة عقل أو علم وقيل في الكتاب والحكمة هي السنة حكيم اسم الله من الحكمة ومن الحكم بين العباد أو من إحكام الأمور وإتقانها حليم الحلم العقل وقد يقال بمعنى العفو والأحلام العقول والحليم من اسماء الله تعالى قيل الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه وقيل معناه العفو عن الذنوب والأحلام ما يرى في النوم حبط بطل وأحبطه الله ابطله حنيف مسلم وموحد الله وقيل حاج وقيل مختتن والجمع حنفاء محصنين ومحصنات

(1/33)


الإحصان له أربع معان الإسلام والحرية والعفاف والتزوج وليحصنكم من بأسكم بغيكم حجة بالضم دليل وبرهان وحاج فلان فلانا جادله وحجة عليه بالحجة والحج بالفتح والكسر القصد ومنه أخذ حج البيت وحجة بالكسر سنة وجمعها حجج حطة أي حط عنا ذنوبنا وقيل كلمة بالعبرانية تفسيرها لا إله إلا الله حضر بالضاد من الحضور ومنه محضرون وشرب محتضر وبالظاء من المنع ومنه وما كان عطاء ربك محظورا وكهشيم المحتظر وبالذال من الحذر وهو الخوف ومنه إن عذاب ربك كان محذورا حفظ العلم وعيه وحفظ الشيء حراسته والحفيظ اسم الله تعالى قيل معناه العليم وقيل حافظ الخلق كالئهم من المهالك حاق بهم أي حل بهم حبل من الله ومن الناس أي عهد وحبل الله القرآن وأصله بالحبل المعروف حسب بكسر السين ظن مضارعه بالفتح والكسر وحسب بالفتح من العدد ومضارعه بالضم ومنه الحساب والحسبان وحسبانا من السماء أي مرام واحداها حسبانة حساب من الظن والعدد وبغير حساب يحتمل الوجهين وأن يكون من المحاسبة أن لا يحاسب عليه ومن التقدير أي بغير تضييق وعطاء حسابا أي كافيا حسيب اسم الله تعالى فيه أربعة اقوال كافي وعالم وقادر ومحاسب حسبك الله أي كافيك حزن تأسف على ماض أو حال الخوف ترفع في المستقبل ويقال حزن بكسر الزاي وحزنه غيره وأحزنه أيضا حصير مجلس من الحصر وأحصر عن الشيء حبس عنه وحسير بالسين كليل حصيد هو ما يحصد من الزرع وغيره واستعير قائم وحصيد أي باق وزاهد حميم له معنيان الصديق والماء الحار محيص ... 19

(1/34)


19 مهرب حجر له أربعة معان الحرام والعقل ومنازل ثمود وحجر الكعبة حمل بكسر الحاء ما على ظهر الدابة وغيرها ويستعار للذنوب وبالفتح ما في بطن المرأة وجمعه أحمال إحسان له ثلاث معان فعل الحسنات والإنعام على الناس ومراقبة الله تعالى المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه حق له أربعة معان الصدق والعدل في الحكم والشيء الثابت والأمر الواجب والحق اسم الله تعالى أي الواجب الوجود حاصب أي ريح شديدة سميت بذلك لأنها ترمى بالحصباء أي الحصا والحاصب أيضا الحجارة حلية حلي حرج ضيق أو مشقة حول له معنيان العام والحيلة وحولا بكسر الحاء انتقالا حرث الأرض مصدر ثم استعمل بمعنى الأرض والزرع والجنات حس بغير ألف قتل ومنه إذ تحسونهم وأحس من الحس حرم بضمتين محرمون بالحج حقب بضمتين وأحقاب جمع حقب وهو مدة من الدهر يقال إنه ثمانون سنة حف الشيء بالشيء أطاف به من جوانبه ومنه حففناهما بنخل والملائكة حافين حل بالمكان يحل بالضم والكسر وحل من إحرامه يحل بالكسر لا غير حطام فتات والحطام ما تحطم من عيون الزرع اليابس

حرف الخاء خلق له معنيان من الخلقة ومنه الخالق اسم الله وكذا الخلاق وخلق الرجل كذب ومنه تخلقون إفكا واختلاق أي كذب خلاق نصيب خير ضد الشر وله أربعة معان العمل الصالح والمال والخيرة والتفضيل بين شيئين خلا له معنيان من الخلوة وبمعنى ذهب ومنه أمة قد خلت خطيئة ذنب وجمعه خطايا وخطيات والفعل منه خطىء فهو خاطىء وأما الخطأ بغير عمد فالفعل منه أخطأ خاسئين مطرودين من قولك خسئت الكلب ومنه اخسؤا فيها خلف بفتح الخاء وإسكان اللام وله معنيان وراء ومن خلف خلفه بشر فإذا خلفه بخير قيل بفتح اللام خلاف له معنيان من المخالفة وبمعنى بعد أو دون ومنه بمقعدهم خلاف رسول الله خول أعطى خلة بضم الخاء

(1/35)


مودة ومنه الخليل وجمعه أخلاء خلال له معنيان وداد ومنه لا بيع فيه ولا خلال وبمعنى بين ومنه خلال الديار وخلالكم خر يخر سقط على وجهه خامدون هالكون وأصله من خمود النار خطب الخطب سبب الأمر والخطب أيضا الأمر العظيم وخطبة النساء بالكسر وخطبة الخطيب بالضم يخرصون يكذبون ومنه يخرصون والخرص أيضا التقدير وقيل يخرصون منه أي يقولون بالظن من غير تحقيق خوان كثير الخيانة مختال من الخيلاء مخمصة من الخمص وهو الجوع أخدان جمع خدن وهو الخليل خراج وخرج أي أجرة وعطية

حرف الدال دين له خمسة معان الملة والعادة والجزاء والحساب والقهر دأب له معنيان عادة وجد وملازمة ومنه سبع سنين دأبا متتابعة للزراعة من قولك دأبت على الشيء دمت عليه أدنى له معنيان أقرب من الدنو وأقل فهو من الداني الحقير دار السلام الجنة دوائر صروف الدهر واحدها دائرة ومنه دائرة السوء دعاء له خمسة معان الطلب من الله والعبادة ومنه تدعون من دون الله والتمني ولهم فيها ما يدعون والنداء ادعوا شهداءكم والدعوة إلى الشيء ادع إلى سبيل ربك دابة كل ما يدب فيجمع جميع الحيوان دحور إبعاد ومنه المدحور المطرود دع بتشديد العين يدع أي دفع بعنف ومنه يدع اليتيم ويدعون إلى نار جهنم دعا درأ دفع ومنه يدرؤون مدرارا من در المطر إذا ... 20

(1/36)


20 صب داخرين صاغرين دكت الأرض أي دقت حبالها حتى استوت مع وجه الأرض ومنه جعله دكا أي مستويا مع الأرض

حرف الذال ذكر له أربعة معان ضد النسيان والذكر باللسان والقرآن ومنه نزلنا الذكر والشرف ومذكر مفعل من الذكر ذنوب بضم الذال جمع ذنب وبالفتح النصيب ومنه ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم أي نصيبا من العذاب والذنوب أيضا الدلو ذبح بكسر الذال المذبوح وبالفتح المصدر ذرأ خلق ونشر ذلول مذللة للعمل من الفك ومنه ذللناها لهم ورجل ذلول من الذل بالضم وذللت قطوفها أدنيت أذقان جمع ذقن
حرف الراء رب له أربعة معان الإله والسيد والمالك الشيء والمصلح للأمر ريب شك ومنه ارتابوا ومريب وريب المنون حوادث الدهر رجع يستعمل متعديا بمعنى رد وغير متعدوالمرجع اسم مصدر أو زمان أو مكان من الرجوع رعى له معنيان من النظر ومن رعي الغنم روح له أربعة معان للنفس التي بها الحياة يسئلونك عن الروح والوحي ينزل الملائكة بالروح وجبريل نزل به الروح الأمين وملك عظيم تنزل الملائكة والروح وروح بفتح الراء رائحة طيبة والريحان الرزق وقيل الشجر المعروف ركام بعضه فوق بعض ومنه مركوم ويركمه رجا طمع وقد يستعمل في الخوف ومنه لا يرجون لقاءنا رجال جمع رجل وجمع راجل أي غير راكب ومنه يأتوك رجالا ومثله بخيلك ورجلك رفث له معنيان الجماع والكلام بهذا المعنى رجز عذاب والرجز فاهجر فهي الأوثان والرجس بالسين النجس حقيقة أو مجازا وقد يستعمل بمعنى العذاب رهب خوف ومنه يرهبون رؤف من الرأفة وهي الرحمة إلا أن الرأفة في دفع المكروه والرحمة في دفع المكروه وفعل الجميل فهي أعم من الرأفة مرضاة مفعلة من الرضا راسيات ثابتات ومنه قيل للجبال رواسي ومنه مرساها رغدا أي كثيرا ربوة مكان مرتفع ربا هو في اللغة الزيادة ومنه ويربي الصدقات وربت الأرض انفتحت أرحام جمع رحم

(1/37)


وهو فرج المرأة ويستعمل أيضا في القرابة أرجئه أخره ومنه ترجى ويرجون ويجوز فيه الهمز وتركه رأى من رؤية العين يتعدى إلي واحد ومن رؤية القلب بمعنى العلم يتعدى إلى مفعولين تربص انتظر رفات فتات أرذل العمر الهرم والأرذلون من الرذالة رقى من الرقية بفتح القاف ومنه وقيل من راق ورقى في السلم بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل أرداكم أهلككم والردى الهلاك ومنه تردين وتردى رجفة زلزلة وشدة
حرف الزاي زبر بضمتين كتب والزبور كتاب داود عليه السلام زخرف زينة والزخرف أيضا الذهب زكاة له في اللغة معنيان الزكاة والطهارة ثم استعمله الشرع في إعطاء المال وهو من الزيادة لأنه يبارك له فيه فيزيد أو من الطهارة لأنه يطهره من الذنوب وزكيت الرجل أثنيت عليه وزكا هو مخففة أي صار زكيا زوج له ثلاث معان الرجل والمرأة وقد يقال زوجة والمعنى الصنف والنوع ومنه أزواج من نبات ومن كل زوج كريم زل له معنيان زل القدم عن الموضع وفعل الزلل زاغ عن الشيء زيغا مال عنه وأزاغه غيره أماله زلفى قربى وأزلفت قربت وزلفا من الليل ساعات زعم أي ادعى ولم يوافقه غيره قال ابن عباس زعم كناية عن كذب زعيم ضامن تزجى ... 21

(1/38)


21 تسوق زلزلة الأرض اهتزازها وتستعمل بمعنى الشدة والخوف ومنه زلزلوا زجرة واحدة صيحة بمعنى نفخة الصور والزجرة الصيحة بشدة وانتهار وازدجر من الزجر

حرف السين أسباط جمع سبط وهم ذرية يعقوب عليه السلام كان له اثني عشر ولدا ذكرا فأعقب كل واحد منهم عقبا والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب سبيل هو الطريق وجمعه سبل ثم استعمل في طريق الخير والشر وسبيل الله الجهاد وابن السبيل الضيف وقيل القريب سوى بالتشديد له معنيان من التسوية بين الأشياء وجعلها سواء وبمعنى اتقن وأحسن ومنه فسواك فعدلك سواء بالفتح والهمز من التسوية بين الأشياء وسواء الجحيم وسطها وسواء الصراط قصد الطريق سوى بالكسر والضم مع ترك الهمزة استثناء وقد يكون من التسوية سفهاء جمع سفيه وهو الناقص العقل وأصل السفه الحمق ولذلك قيل لمبذر المال سفيه وللكفار والمنافقين سفهاء سلوى طائر يشبه السماني وكان ينزل على بني إسرائيل مع المن سأل له معنيان طلب الشيء والاستفهام عنه وسال بغير همز من المعنيين المذكورين ومن السيل سبحان تنزيه وسبحان الله أي نزهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأنداد وصفات الحدوث وجميع العيوب والنقائص سار يسير مشى ليلا أو نهارا سرى يسري مشى ليلا ويقال أيضا أسرى بألف سخر يسخر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع أي استهزأ وسخر بالتشديد من التسخير سخريا بضم السين من السخرة وهي تكليف الأعمال وبالكسر من الاستهزاء سلطان له معنيان البرهان والقوة ومنه لا ينفذون إلا بسلطان سام يسوم أي كلف الأمر وألزمه ومنه يسومونكم سوء العذاب وأصله من سوم السلعة في البيع سئم يسأم أي مل ومنه وهم لا يسامون سنة أي عادة سلف الأمر أي تقدم وأسلفه الرجل أي قدمه ومنه هنيئا بما أسلفتم سراء فعلاء من السرور سارع إلى الشيء بادر إليه سوءة

(1/39)


عورة والسوء ما يسوء بالفتح والضم والسوآى فعلاء من السوء وسيء بهم فعل بهم السوء سنة بفتح السين عام ولامها محذوفة وجمعها سنون وقد تقال بمعنى الحفظ والجذب سنة بكسر السين ابتداء النوم وفاؤها واو محذوفة لأنها من الوسن سلك يسلك له معنيان أدخل ومنه أسلك يدك وسلكه ينابيع ومنه سلوك الطريق أسفار جمع سفر بفتحتين وجمع سفر وهو الكتاب ساح يسيح أي سار ومنه فسيحوا في الأرض والسائحون الصائمون سول بتشديد الواو زين ومنه سولت لكم أنفسكم أمرا سرابيل جمع سربال وهو القميص سبأ قبيلة من العرب سموم شدة الحر سلام له ثلاثة معان التحية والسلامة والقول الحسن ومنه إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما سلام اسم الله تعالى معناه السلامة من كل نقص فهو من أسماء التنزيه وقيل سلم العباد من المهالك وقيل ذو السلام على المؤمنين في الجنة سلم بفتحتين انقياد وإلقاء باليد وهو أيضا بيع سلم بفتح السين وإسكان اللام صلح ومهادنة سلم بكسر السين وإسكان اللام ومعناه الإسلام وبضم السين وفتح اللام مشددة هو الذي يصعد فيه أسلم يسلم له ثلاث معان الدخول في الإسلام والإخلاص لله والانقياد ومنه فلما اسلما سعى يسعى له ثلاث معان عمل عملا ومنه وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ومشى ومنه فاسعوا إلى ذكر الله وأسرع في مشيه ومنه رجل يسعى سكن يسكن له معنيان من السكون ضد الحركة ومن السكنى في الموضع سكينة وقار وطمأنينة سائغ سهل الشرب ... 22

(1/40)


22 لا يغص به من شربه سابغات دروع واسعات أساطير الأولين ما كتبه المتقدمون مسيطر أي مسلط وأم هم المسيطرون الأرباب سندس وإستبرق ثياب حرير قيل السندس رقيق الديباج والإستبرق صفيقة سحقا بعدا ومنه مكان سحيق أي بعيد سعير جهنم وسعرت أوقدت سبب وجمعه أسباب له خمسة معان الحبل ومنه فليمدد بسبب إلى السماء والاستعارة من الحبل في المودة والقرابة ومنه وتقطعت بهم الأسباب والطريق ومنه فأتبع سببا والباب ومنه أسباب السموات وسبب الأمر موجبه

حرف الشين شعر بالأمر يشعر أي علمه والشعور العلم من طريق الحس ومنه لا يشعرون شهد يشهد له معنيان من الشهادة على الشيء ومن الحضور ومن الشهادة في سبيل الله شكرا قد تقدم في الحمد والشكر والشكور اسم الله المجازي لعباده على أعمالهم بجزيل الثواب وقيل المثني على العباد شرى أي باع وقد يكون بمعنى اشترى شقاق عداوة ومعاندة ومنه ومن يشاقق الله شهاب كوكب وقد يطلق على شعلة النار شجر هو كل ما ينبت في الأرض وشجر بينهم أي اختلفوا فيه شنآن عداوة وشر ويجوز فيه فتح النون وإسكانها شرع الله الأمر أي أمر به والشريعة والشرعة الملة وشرعة الماء في الدواب شعائر الله معالم دينه واحدها شعيرة أو شعارة شرك له معنيان من الإشراك وهو أيضا النصيب ومنه أم لهم شرك في السموات شركاء جمع شريك مشحون أي مملوء
حرف الصاد صراط هو في اللغة الطريق ثم استعمل في القرآن بمعنى الطريقة الدينية وأصله بالسين ثم قلبت صادا لحرف الإطباق بعدها وفيه ثلاث لغات بالصاد وبالسين وبين الصاد والزاي صلاة إذا كانت من الله فمعناها رحمة وإذا كانت من المخلوق فلها معنيين الدعاء والأفعال المعلومة صوم أصله في اللغة الإمساك مطلقا ثم استعمل شرعا في الإمساك عن الطعام والشراب وقد جاء بمعنى الصمت في قوله إني نذرت للرحمن صوما لأنه إمساك عن

(1/41)


الكلام صدقة يطلق على الزكاة الواجبة وعلى التطوع ومنه إن المصدقين والمصدقات و أما أئنك لمن المصدقين بالتخفيف فهو من التصديق صدقة بضم الدال صداق المرأة ومنه وآتوا النساء صدقاتهن نحلة والصدق في القول ضد الكذب والصدق في الفعل صدق النية فيه والصدق في القصد العزم الصادق صعد يصعد أي ارتفع وأصعد بالألف يصعد بالضم أي أبعد في الهروب ومنه إذ تصعدون صعيدا طيبا أي ترابا والصعيد وجه الأرض صد له معنيان فالمتعدي بمعنى منع غيره من شيء ومصدره صد ومضارعه بالضم وغيره بمعنى أعرض ومصدره صدود صار له معنيان من الانتقال ومنه تصير الأمور والمصير وبمعنى ضم ومضارعه يصور ومنه فصرهن إليك صاعقة له ثلاثة معان الموت وكل بلاء يصيب وقطعة نار تنزل من شدة الرعد والمطر وجمعها صواعق أصر على الذنب يصر إصرارا دام عليه ولم يتب منه صواع مكيال وهو السقاية والصاع وسواع بالسين اسم صنم صابئين قوم يعبدون الملائكة ويقولون إنها بنات الله وقيل إنهم يرون تأثير الكواكب وفيه لغتان الهمز وتركه من صبأ إلى الشيء إذا مال إليه تصطلون تفتعلون من صبأ بالنار إذا تسخن بها والطاء بدل من التاء اصطفى أي اختار وأصله من الصفى أي اتخذه صفيا صغار بفتح الصاد ذلة ومنه صاغرون والصغير ضد الكبير صدف عن الشيء يصدف أعرض عنه صريخ مغيث ومنه ما أنا بمصرخكم صلصال طين يابس فإذا مسته النار فهو فخار صرح قصر وهو أيضا البناء العالي ... 23

(1/42)


23 حرف الضاد ضرب له أربعة معان من الضرب باليد وشبهه ومن ضرب الأمثال ومن السفر ومنه ضربتم في الأرض ومن الالتزام ومنه ضربت عليهم الذلة أي ألزموها وضربنا على آذانهم أي ألقينا عليهم النوم و أفنضرب عنكم الذكر أي نمسك عنكم التذكير ضاعف الشيء كثره ويجوز فيه التشديد وضعف الشيء بكسر الضاد مثلاه وقيل مثله والضعف أيضا العذاب والضعف بالضم ويجوز فيه الفتح ضر بفتح الضاد وضمها بمعنى واحد وكذلك الضير بالياء ومنه لا يضركم كيدهم والضر ما يصيب من المرض وشبهه ضحى أول النهار والفعل منه أضحى وأما ضحى بكسر الحاء يضحى في المضارع فمعناه برز للشمس وأصابه حرها ومنه لا تظمأ فيها ولا تضحى ضيف يقال للواحد والاثنين والجماعة ضيق بكسر الضاد مصدر وبفتحها مع إسكان الياء تخفيف من ضيق المشدد كميت وميت

حرف الطاء طبع ختم والخاتم الطابع طول بفتح الطاء فضل أو غنى طائر له معنيان من الطيران ومن الطيرة طوى قيل اسم الوادي وقيل معناه مرتين أي قدس الوادي مرتين طهارة له معنيان الطهارة بالماء ومنه جنبا فاطهروا والماء الطهور وهو المطهر والطهارة من القبائح والرذائل ومنه أناس يتطهرون طيب له معنيان اللذيذ والحلال طوفان السيل العظيم طاغوت أصنام وشياطين ويكون مفردا أو جمعا والطاغوت أيضا رؤوس النصارى على قول طباق بعضها على بعض وطبقا عن طبق حالا بعد حال طور جبل وهو الطور طفق يفعل كذا أي جعل يفعله طائفين من الطواف وطائف من الشيطان لمم وقرىء طيف حرف الظاء ظهر الأمر بدا وأظهره غيره أبداه وظهير معين ظاهر الرجل من امرأته وتظاهر وتظهر أي قال لها أنت علي كظهر أمي وهو الظاهر ظهر البيت أعلاه وظهرته أي ارتفعت عليه ومنه فما استطاعوا أن يظهروه ظلم وقع في القرآن على ثلاثة معان الكفر والمعاصي وظلم الناس أي التعدي عليهم ظن له ثلاثة معان

(1/43)


التحقيق وغلبة أحد الاعتقادين والتهمة ظمىء عطش ظلال جمع ظل وظلل بالضم جمع ظلة وهي ما كان من فوقه وظل بالنهار بمنزلة بات بالليل

حرف العين عاذ بالله يعوذ أي استجار به ليدفع عنه ما يخاف ويقال أيضا استعاذ يستعيذ ومنه عذت بربي ومعاذ الله العالمين جمع عالم وهو عند المتكلمين كل موجود سوى الله تعالى وقيل العالمين الإنس والجن والملائكة فجمعه جمع العقلاء وقيل الإنس خاصة لقوله أتأتون الذكران من العالمين يعمهون يتحيرون في ضلالهم والعمه الحيرة عدل يعدل ضد جار وعدل عن الحق عدولا وعدلت فلانا بفلان سويت بينهما ومنه أو عدل ذلك صياما عزيز اسم الله تعالى معناه الغالب وعز غلب ومنه وعزني في الخطاب والغلبة ترجع إلى القوة والقدرة ومنه فعززنا بثالث أي قوينا وقيل العزيز القديم المثل عفا له أربعة معان عفا عن الذنب أي صفح عنه وعفا أسقط حقه ومنه إلا أن يعفون أو يعفو الذي وعفا القوم كثروا ومنه حتى عفوا وعفا المنزل إذا درس عفو له ثلاث معان العفو عن الذنب والإسقاط والسهل من غير كلفة ومنه ماذا ينفقون قل العفو عين بكسر العين وإسكان الياء وهو جمع عيناء عنت معناه الهلاك أو المشقة ومنه ولو شاء الله لأعنتكم أي أهلككم أو ضيق عليكم والعنت أيضا الزنا ومنه ذلك لمن خشي العنت منكم وأما عنت الوجوه فليس من ... 24

(1/44)


24 هذا لأن لامه واو فهو من عتا يعتو إذا خضع عاقب له معنيان من العقوبة على الذنب ومن العقبى ومنه وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي اصبتم عقبا أعجاز نخل أصولها أعجز الشيء إذا فات ولم يقدر عليه ومنه وما هم بمعجزين وما كان الله ليعجزه من شيء وأما معاجزين بالألف فمعناه مسابقين عال يعيل عيلة أي افتقر ومنه ووجدك عائلا وعال يعول عدل عن الحق وعال يعول أيضا كثر عياله والأشهر أن يقال في هذا المعنى أعال بالألف عرج يعرج بفتح الراء في الماضي وضمها في المضارع صعد وارتقى ومنه المعارج وعرج بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل صار أعرج عتبى معناه الرضى ومنه فما هم من المعتبين ولا هم يستعتبون العتاب العدل أعد بالألف يسد الشيء هيأه وعد بغير الألف من العدد عرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش وأهكذا عرشك وعرش الله فوق السماء وتعرشون تبنون وعلى عروشها سقوفها عورة أصل معناه الانكشاف فيما يكره كشفه ولذلك قيل عورة الإنسان عورات أي أوقات انكشاف وبيوتنا عورة أي خالية معرضة للسراق عافر له معنيان المرأة العقيم واسم فاعل من عقر الحيوان عبر يعبر له معنيان من عبارة الرؤيا ومنه إن كنتم للرؤيا تعبرون ومن الجواز على الموضع ومنه عابر سبيل عمون جمع عم وهو صفة على وزن فعل بكسر العين من العمى في البصر أو في البصيرة علا يعلو تكبر ومنه قوما عالين وعلا في الأرض والعلي اسم الله والمتعالي والأعلى من العلو بمعنى الجلال والعظمة وقيل بمعنى التنزيه عن عما لا يليق به عزب الشيء غاب ومنه لا يعزب عن ربك أي لا يخفى عنه عصبة جماعة من العشرة إلى الأربعين علقة واحدة العلق وهو الدم عاصف ريح شديدة عصف ورق الزرع

حرف الغين غشاوة غطاء إما حقيقة أو مجاز غمام هو السحاب غلف جمع أغلف وهو كل شيء جعلته في غلاف أي قلوبنا محجوبة غرفة

(1/45)


بضم الغين لها معنيان المسكن المرتفع والغرفة من الماء بالضم وبالفتح المرة الواحدة غادر ترك ومنه لم نغادر غل يغل من الغلول وهو الخيانة والأخذ من المغنم بغير حق والغل الحقد أغلال جمع غل بالضم وهو ما يجعل في العنق ومنه مغلولة غلا يغلو من الغلو وهو مجاوزة الحد والإفراط ومنه لا تغلوا في دينكم أي لا تجاوزوا الحد غائط المكان المنخفض ثم استعمل في حاجة الإنسان غشى الأمر يغشى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع معناه غطى حسا ومعنى ومنه والليل إذا يغشى لأنه يغطى بظلامه وينقل بالهمزة والتشديد فيقال غشى وأغشى ومن فوقهم غواش يعني ما يغشاهم من العذاب أو يصيبهم ومنه غاشية من عذاب الله والغاشية أيضا القيامة لأنها تغشى الخلق غبر له معنيان ذهب وبقي ومنه عجوزا في الغابرين أي في الهالكين أو في الباقين في العذاب غرور بضم الغين وبفتحها اسم فاعل مبالغة ويراد به إبليس غاض الشيء نقص ومنه وغيض الماء وتغيض الأرحام وغاظ بالظاء يغيظ من الغيظ غور غاير من غار الماء إذا أذهب غرام عذاب ومنه إنا لمغرمون والمغرم غرم المال ومنه من مغرم مثقلون

حرف الفاء فرقان مفرق بين الحق والباطل ومنه يجعل لكم فرقانا أي تفرقة ولذلك سمي القرآن بالفرقان فئة جماعة من الناس فصال فطام من الرضاع فضل له معنيان الإحسان والربح في التجارة وغيرها ومنه يبتغون من فضل الله فسق أصله الخروج وتارة يرد بمعنى الكفر وتارة بمعنى العصيان ... 25

(1/46)


25 فتنة لها ثلاثة معان الكفر والاختبار والتعذيب فاء يفيء أي رجع فلك بضم الفاء سفينة ويستوي فيه المفرد والجمع فلك بفتحتين القطب الذي تدور به الكواكب فزع له معنيان الخوف والإسراع ومنه إذا فزعوا فلا فوت فرح له معنيان السرور والبطر فاحشة وفحشاء هي كل ما يقبح ذكره من المعاصي فرض له معنيان الوجوب والتقدير فتح له معنيان فتح الأبواب ومنه فتح البلاد وشبهها والحكم ومنه افتح بيننا وبين قومنا ويقال للقاضي فاتح واسم الله الفتاح قيل الحاكم وقيل خالق الفتح والنصر انفضوا تفرقوا فطره خلقه ابتداء ومنه فاطر السموات والأرض وفطرة الله التي خلق الخلق عليها وأفطر بالألف من الطعام فطور شقوق ومنه انفطرت أي انشقت ويتفطرن فج طريق واسع وجمعه فجاج فار التنور يقال لكل شيء هاج وعلا حتى فاض ومنه وهي تفور وقولهم فارت القدر فوج جماعة من الناس وجمعه أفواج فاكهين من التلذذ بالفاكهة أو من الفكهة وهي السرور واللهو فؤاد هو القلب وجمعه أفئدة استفز يستفز أي استخف فقه فهم ومنه لا يفقهون وما نفقه كثيرا في حرف جر بمعنى الظرفية وقد تكون للتعليل وقد تكون بمعنى مع وقيل بمعنى على الفاء لها ثلاثة أنواع عاطفة ورابطة وناصبة للفعل بإضمار أن ومعناها الترتيب والتعقيب والسبب
حرف القاف قرآن القرآن العزيز ومصدره قرأ أي تلا ومنه إن علينا جمعه وقرانه قنوت له خمسة معان العبادة والطاعة والقيام في الصلاة والدعاء والسكوت قضاء له سبعة معان الحكم والأمر والقدر السابق وفعل الشيء والفراغ منه والموت والإعلام بالشيء ومنه قضينا إليه ذلك الأمر قدر له خمسة معان من القدرة ومن التقدير ومن المقدار ومن القدر والقضاء وبمعنى التضييق نحو فقدر عليه رزقه وقد يشد الفعل ويخفف والقدر بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار وبالفتح لا غير من القضاء قام

(1/47)


له معنيان من القيام على الرجلين ومن القيام بالأمر بتقديره وإصلاحه ومنه الرجال قوامون على النساء وقام الأمر ظهر واستقام ومنه الدين القيم دين القيامة أقام له ثلاثة معان أقام الرجل غيره من القيام ومن التقويم ومنه جدارا يريد أن ينقض فأقامه وأقام في الموضع سكن ومنه مقيم أي دائم قيوم اسم الله تعالى وزنه فيعول وهو بناء مبالغة من القيام على الأمور معناه مدبر الخلائق في الدنيا وفي الآخرة ومنه قائم على كل نفس له معنيان مصدر قام على اختلاف معانيه وبمعنى قوام الأمر وملاكه وقيم بغير ألف جمع قيمة قرض سلف والفعل منه أقرض يقرض أقسط بألف قسطا عدلا في الحكم ومنه يحب المقسطين وقسط بغير ألف جار ومنه وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا مقاليد فيه قولان خزائن ومفاتح قدس يقدس من التنزيه والطهارة وقيل من التعظيم والقدوس اسم الله تعالى فعول من النزاهة عما لا يليق به قال يقول من القول وقد يكون بمعنى الظن ومصدره قول وقال يقيل من القايلة ومنه أو هم قائلون وأحسن مقيلا قفى اتبع وأصله من القفا يقال أقفوته إذا حبيت في أثره وقفيته بالتشديد إذا سقت شيئا في أثره ومنه وقفينا من بعده بالرسل قرن جماعة من الناس وجمعه قرون قواعد البيت أساسه واحدها قاعدة والقواعد من النساء واحدة قاعد وهي العجوز قربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها وقربان أيضا من القرابة قلى يقلي أبغض ومنه وما قلى ولعملكم من القالين اقترف اكتسب حسنة أو سيئة قصص له معنيان من الحديث ومن قص الأثر ومنه ... 26

(1/48)


26 على آثارهما قصصا وقصيه قررت به عينا قرر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع قسطاس ميزان قتر وقترة غبار وعبارة عن تغير الوجه وقتور من التقتير قارعة داهية وأمر عظيم قبس شعلة نار قنط يئس من الخير قرطاس صحيفة وجمعه قراطيس
حرف الكاف كافر له معنيان من الكفر وهو الجحود وبمعنى الزرع ومنه أعجب الكفار نباته أي الزراع وتكفير الذنوب غفرانها كرة رجعة كبر بكسر الباء من السن يكبر بالفتح في المضارع وكبر الأمر بالضم في المضارع والماضي وكبر بضم الكاف وفتح الباء جمع كبرى وكبار بالضم والتشديد كبير مبالغة والكبر التكبر وكبر الشيء بكسر الكاف وضمها معظمه والكبرياء الملك والعظمة والمتكبر اسم الله تعالى من الكبرياء وبمعنى العظمة كفل يكفل أي ضم الصبي وحضنه وأكفلنيها اجعلني كافلها كفيل نصيب كلالة هي أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد كاد قارب الأمر ولم يفعله فإذا نفى اقتضى الإثبات كريم من الكرم وهو الحسب والجلالة والفضل وكريم اسم الله تعالى أي محسن أكنه أغطيه وأكنان جمع كن وهو ما وقى من الحر والبرد كهل هو الذي انتهى شبابه أكمام الثمار والنخيل جمع كم وهو ما تكون الثمرة فيه قبل خروجها أكب الرجل على وجهه فهو مكب وكبه غيره بغير ألف كهف غار كيد هو من المخلوق احتيال ومن الله مشيئة أمر ينزل بالعبد من حيث لا يشعر كسفا بفتح السين جمع كسفة وهي القطعة من الشيء وبالسكون كذلك أو مفرد كبتوا أي أهلكوا أي يكبتهم ثم يهلكهم أو يخذلهم أكمه هو الذي ولد أعمى كان على نوعين تامة بمعنى حضر أو حدث أو وقع وهي ترفع الفاعل وناقصة ترفع الاسم وتنصب الخبر وتقتضي ثبوت الخبر للمخبر عنه في زمانها وقد تأتي بمعنى الدوام في مثل قوله وكان الله غفورا رحيما وكان ربك قديرا وشبه ذلك وهو كثير في القرآن ومعناه لم يزل ولا يزال موصوفا بذلك

(1/49)


الوصف كأن معناها التشبيه كي معناها التعليل كم معناها التكثير وهي خبرية واستفهامية كأين بمعنى كم وهي عند سيبويه كاف التشبيه دخلت على أي كلا حرف ردع وزجر وقيل إنها تكون للنفي أي ليس الأمر كما ظننت وقيل إنها استفتاح كلام بمعنى إلا الكاف بمعنى التشبيه وبمعنى التعليل وقيل إنها تكون زائدة

حرف اللام لبس الأمر أي خلطه بفتح الباء في الماضي وكسرها في المستقبل ألباب عقول وهو جمع لب لبث في المكان أقام فيه لمز يلمز أي عاب الشيء لؤلؤ جوهر لغو الكلام الباطل منه والفحش ولغو اليمين ما لا يلزم لها بفتح الهاء من اللهو ومضارعه يلهو ولهى عن الشيء بالكسر والياء يلهى بالفتح إذا أعرض عنه وألهاه الشيء إذا أشغله ومنه لا تلهكم أموالكم لطيف اسم الله تعالى قيل معناه رفيق وقيل خبير بخفيات الأمور لدى ولدن معناها عند ليت معناها التمني لعل معناها الترجي في المحبوبات والتوقع للمكروهات وأشكل ذلك في حق الله تعالى فقيل جاءت في القرآن على منهاج كلام العرب وبالنظر إلى المخاطب أي ذلك مما يرتجى عندكم أي يتوقع وقد يكون معناها التعليل أو مقاربة الأمر فلا إشكال لولا لها معنيان التمني وامتناع شيء لامتناع غيره لما لها معنيان النفي وهي الجازمة ووجود شيء لوجود غيره وأما لما بالتخفيف فهي لام التأكيد دخلت على ما وقال الكوفيون هي ... 27

(1/50)


27 بمعنى إلا الموجبة بعد النفي لا ثلاثة أنواع نافية وناهية وزائدة اللام خمسة أنواع لام الجر ولام كي ولام الأمر ولام التأكيد في القسم وغيره وهي المفتوحة ثم إن لام الجر لها ثلاثة معان الملك والاستحقاق والتعليل وقد تأتي للتعدي إذا ضعف العامل وقد تأتي بمعنى عند نحو أقم الصلاة لدلوك الشمس ولام كي معناها التشبيه والتعليل وقد تأتي بمعنى الصيرورة والعاقبة نحو فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وقد تأتي بمعنى أن المصدرية ومنه يريد الله ليبين لكم

حرف الميم مرض الجسد معروف ومرض القلب الشك في الإيمان والبغض في الدين المن شبه العسل والسلوى طائر والمن أيضا الإنعام والمن أيضا العطية والمن أيضا القطع ومنه أجر غير ممنون أماني جمع أمنية ولها ثلاثة معان ما تتمناه النفس والتلاوة والكذب وكذلك تمنى له هذه المعاني الثلاثة ملأ القوم أشرفهم وذوو الرأي منهم مثل بفتح الميم والمثلثة لها أربعة معان الشبيه والنظير ومن المثل المضروب واصله من التشبيه ومثل الشيء حاله وصفته والمثل الكلام الذي يتمثل به ومثل الشيء بكسر الميم شبهه مرية شك ومنه الممترين أي الشاكين لا تمار من المراء وهو الجدال أملى لهم أمهلهم وزادهم مهاد فراش مد يمد أي أملى وقد تكون بمعنى زاد مثل أمد بألف من المداد مضغة قطعة لحم إملاق فقر مرد فهو مارد من العتو والضلال مكانة بمعنى مكان أي من التمكين والعز ومنه مكين مواخر فواعل من المخر يقال مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مجيد من المجد وهو الكرم والشرف مقت هو الذم أو البغض على ما فعل من القبيح معين ماء كثير جار وهو من قولك معن الماء إذا كثر وقيل هو مشتق من العين ووزنه مفعول فالميم زائدة مارج مختلط والمارج لهب النار من قولك مرج الشيء إذا اضطرب وقيل من الاختلاط أي خلط نوعين من النار مرج البحرين أي خلى بينهما وقيل

(1/51)


خلطهما وقيل فاض أحدهما في الآخر مهل فيه قولان دردي الزيت وما أذيب من النحاس منون له معنيان الموت والدهر مس له معنيان اللمس باليد وغيره والجنون من لها أربعة أنواع شرطية وموصولة واستفهامية ونكرة موصوفة ما إذا كانت اسما فلها ستة أنواع شرطية وموصولة واستفهامية وموصوفة وصفة وتعجبية وإذا كانت حرفا فلها خمسة أنواع نافية ومصدرية وزائدة وكافية ومبهمة من لها ستة أنواع لابتداء الغاية ولجملة الغاية وللتبعيض ولبيان الجنس والتعليل وزائدة مهما اسم شرط

حرف النون نظر له معنيان من النظر ومن الانتظار فإذا كان من الانتظار تعدى بغير حرف ومن نظر العين يتعدى بإلى ومن نظر القلب يتعدى في أنظر بالألف أخر ومنه أنظرني ومن المنظرين ونظرة إلى ميسرة نضرة بالضاد من التنعم ومنه وجوه يومئذ ناضرة أي ناعمة وأما إلى ربها ناظرة فمن النظر نعمة بفتح النون من النعيم وبكسرها من الإنعام أنعام هي الإبل والبقر والغنم دون سائر البهائم ويجوز تذكيرها وتأنيثها ويقال لها أيضا نعم ونعم كلمة مدح ويجوز فيها كسر النون وفتحها وإسكان العين وكسرها نعم بفتح العين والنون كلمة تصديق وموافقة على ما قبلها بالنفي أو الإثبات بخلاف بلى فإنها للإثبات خاصة ويجوز في نعم فتح العين وكسرها ند هو المضاهي والمماثل والمعانت وجمعه أنداد أنذر أعلم بالمكروه قبل وقوعه ومنه نذير ومنذر والمنذرين وكيف كان نذير أي إنذاري فهو مصدر ومنه عذابي ونذر والنذر بغير ألف ومنه نذر ثم من نذر فليوفوا نذورهم نكال له معنيان ... 28

(1/52)


28 العقوبة والعبرة نجى بتشديد الجيم له معنيان من النجاة ومن النجوة وهو الموضع المرتفع ومنه ننجيك ببدنك على قول نجوى معناه كلام خفي ومنه ناجى وقربناه نجيا وقيل إنه يكون بمعنى الجماعة من الناس في قوله وإذ هم نجوى وقد يجمع ذلك على حذف مضاف تقديره وإذ هم أصحاب نجوى نسيان له معنيان الذهول ومنه إن نسينا أو أخطأنا والترك ومنه نسوا الله فنسيهم نسخ له معنيان الكتابة ومنه نستنسخ ما كنتم تعملون والإزالة ومنه ما ننسخ من آية أو ننسها نصر بالصاد المهملة معروف وبالسين اسم صنم ويعوق ونسرا أو اسم طائر أيضا نشوز بالزاي له معنيان شر بين الرجل والمرأة وارتفاع ومنه انشزوا أي قوموا من المكان نزل بضمتين رزق وهو ما يطعم الضيف نأى بعد ومنه ينأون عنه نكص رجع إلى وراء نفر نفورا عن الشيء ونفر ينفر بضم المضارع ومنه نفرت الدابة ونفر ينفر بكسر المضارع نفيرا أتى أسرع وجد ومنه انفروا في سبيل الله نبأ خبر ومنه اشتق النبىء بالهمز وترك الهمز تخفيفا وقيل إنه عند من ترك مشتق من النبوة وهي الارتفاع نطفة أي نقطة من ماء ومنه خلقكم من نطفة يعني من المني أناب إلى الشيء رجع ومال إليه ومنه منيب نفذ ينفذ أي تم وانقطع نهر بفتح الهاء الوادي ويجوز الإسكان وأما السائل فلا تنهر فهو من الانتهار وهو الزجر منير من النور وهو الضوء حسا أو معنى نصب بضمتين وبضم النون وإسكان الصاد وبفتح النون وإسكان الصاد بمعنى واحد وهو حجر أو صنم كان المشركون يذبحون عنده وجمعه أنصاب نصب بفتحتين تعب ومسني الشيطان بنصب أي بلاء وشر نقم الشيء ينقمه أي كرهه وعابه نضيد أي منصوب بعضه إلى بعض نكير إنكار ويقال نكر الشيء وأنكره نسل بمعنى أسرع ومنه ينسلون من النسلان وهو الإسراع في المشي مع قرب الخطا
حرف الهاء الهدى له معنيان الإرشاد والبيان ومن البيان فأما ثمود

(1/53)


فهديناهم والإرشاد قد يكون إلى الطريق إلى الدين وبمعنى التوفيق والإلهام هدى بفتح الهاء وإسكان الدال ما يهدى إلى الكعبة من الهائم هاد يهود أي تاب ومنه هدنا إليك والذين هادوا أي تهودوا أي صاروا يهودا وأصله من قولهم هدنا إليك هود له معنيان اسم نبي عاد عليه السلام وبمعنى اليهود ومنه كونوا هودا هوى النفس مقصور وهو ما تحبه وتميل إليه والفعل منه بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع والهواء بالمد والهمز ما بين السماء والأرض وأفئدتهم هواء أي متحرقة لا تعي شيئا وهوى يهوي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع وقع من علو ويقال أيضا بمعنى الميل ومنه أفئدة من الناس تهوي إليهم هاجر خرج من بلاده ومنه سمي المهاجرون هجر من الهجران ومنه الهجر أيضا وهو فحش الكلام وقد يقال في هذا اهجر بالألف أهل لغير الله به أي صيح والإهلال الصياح وفي النية أي أريد به غير الله مهيمن عليه شاهد وقيل مؤتمن والمهيمن اسم الله القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم وقيل الشهيد وقيل الرقيب ( هوان هون ) أي ذل مهين بضم الميم أي مفعل مشتق من الهوان أي مذل وأما مهين بفتح الميم فمعناه ضعيف أو ذليل
حرف الواو وقود النار بفتح الواو ما توقد به من الحطب وشبهه والوقود بالضم المصدر وجه له معنيان الجارحة والجهة وأما وجه الله ففي قوله ابتغاء وجه الله أي طلب رضاه وفي قوله كل شيء هالك إلا وجهه ويبقى وجه ربك قيل الوجه الذات وقيل صفة كاليدين وهو من المتشابه وعد يعد ... 29

(1/54)


29 وعدا بالخير وقد يقال في الشر وأوعد بالألف يوعد وعيدا بالشر لا غير ود يود له معنيان من المودة والمحبة وبمعنى تمنى ودوا لو تكفرون والود بالضم المحبة وود اسم صنم بضم الواو وفتحها ودود اسم الله تعالى أي محب لأوليائه وقيل محبوب ويل كلمة شر وقيل إن الويل واد في جهنم وجب له معنيان من وجوب الحق بمعنى سقط كقولهم وجب الحائط إذا سقط ومنه وجبت جنوبها وسط وأوسط له معنيان من التوسط بين الشيئين وبمعنى الخيار والأحسن وسع يسع سعة من الاتساع ضد الضيق والسعة الغنى والواسع اسم الله تعالى أي واسع العلم والقدرة والغنى والرحمة واسع جواد موسع غني أي واسع الحال وهو ضد المقتر وإنا لموسعون قيل أغنياء وقيل قادرون وإلا وسعها طاقتها ولى له معنيان أدبر وجعل واليا وتولى له ثلاث معان أدبر وأعرض بالبدن أو بالقلب وصار واليا واتخذ وليا ومنه ومن يتولى الله ورسوله ولى ناصر والولي اسم الله قيل ناصر وقيل متولي أمر الخلائق مولى له سبعة معان السيد والأعظم والناصر والوالي أي القريب والمالك والمعتق وبمعنى أولى ومنه النار مولاكم ولج يلج أي دخل ومنه ما يلج في الأرض وأولج أدخل ومنه يولج الليل في النهار وهن يهن ضعف ومنه وهن العظم والوهن الضعف ورد الماء يرده إذا جاء إليه وأورده غيره وأرسلوا واردهم الذي يتقدمهم إلى الماء فيسقي لهم أوزعني أي ألهمني ووفقني يوزعون يدفعون وليد صبي والجمع ولدان وجل يوجل وجلا خاف ومنه لا توجل أوجس وجد في نفسه وأضمر وارى يواري أي يستر ومنه يواري سوأة أخيه وما ووري عنهما وتواروا أي استتروا واستخفوا وطأ يطأ له ثلاث معان جماع المرأة ومن الوطئ بالأقدام ومنه أرضا لم تطؤها والإهلاك ومنه لم تعلموهم أن تطؤهم وقر بفتح الواو وهو الصمم والثقل في الأذن والوقر بكسر الواو الحمل ومنه فالحاملات وقرا ودق هو المطر

(1/55)


واصب أي دائم وكيل كفيل بالأمر وقيل كاف وزر بفتحتين أي ملجأ وزير أي معين وأصله من الوزر بمعنى الثقل لأن الوزير يحمل عن الملك أثقاله وسوس الشيطان إلى الإنسان ألقى في نفسه والوسواس الشيطان أوحى يوحي وحيا له ثلاث معان كلام الملك من الله للأنبياء ومنه قيل للقرآن وحي وبمعنى الإلهام ومنه أوحى ربك إلى النحل وبمعنى الإشارة ومنه فأوحى إليهم أن سبحوا أي أشار وعى العلم يعي حفظه ومنه أذن واعية وأوعى بالألف يوعي جمع المال في وعاء ومنه جمع فأوعى
حرف الياء يمين له أربعة معان اليد اليمين وبمعنى القوة وبمعنى الحلف وأيمن أي إلى الجهة اليمين يسير له معنيان قليل ومنه كيل يسير وهين ومنه ذلك على الله يسير واليسر ضد العسر يئس أي انقطع رجاؤه ومنه لا تيئسوا من روح الله وإنه ليؤس وأما أفلم ييئس الذين آمنوا فمعناه ألم يعلم يم هو البحر ميسر هو القمار في النرد والشطرنج وغير ذلك وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب واليسر بفتح الياء والسين الرجل الذي يشتغل بالميسر وجمعه أيسار وميسر العرب أنهم كانوا لهم عشرة قداح وهم الأزلام لكل واحد منها نصيب معلوم من ناقة ينحرونها وبعضها لا نصيب له ويجزؤنها عشرة أجزاء ثم يدخلون الأزلام في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يدخل يده فيها فيخرج باسم رجل قدحا فمن خرج له قدح له نصيب أخذ ذلك النصيب ومن خرج له قدح لا نصيب له غرم ثمن الناقة كلها ينبوع أي عين من ماء والجمع ينابيع ... 30

(1/56)


30 الكلام على الاستعاذة في عشرة فوائد من فنون مختلفة الأولى لفظ التعوذ على خمسة أوجه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والمختار عند القراء وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي وأعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد وهي محدثة وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
الثانية يؤمر القاريء بالاستعاذة قبل القراءة سواء ابتدأ أول سورة أو جزء سورة على الندب
الثالثة يجهر بالاستعاذة عند الجمهور وهو المختار وروى الإخفاء عن حمزة ونافع
الرابعة لا يتعوذ في الصلاة عند مالك ويتعوذ في أول ركعة عند الشافعي وأبي حنيفة وفي كل ركعة عند قوم فحجة مالك عمل أهل المدينة وحجة قول غيره قول الله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وذلك يعم الصلاة وغيرها
الخامسة إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل لأنها كالدعاء وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده مشاكلة للأمر به في قوله فاستعذ
السادسة الشيطان يحتمل أن يراد به الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس وهو من شطن إذا بعد فالنون أصلية والياء زائدة وزنه فيعال وقيل من شاط إذا هاج فالنون زائدة والياء أصلية ووزنه فعلان وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف والنون وانصرف على الأول
السابعة الرجيم فعيل بمعنى مفعول ويحتمل معنيين أن يكون بمعنى لعين وطريد وهذا يناسب إبليس لقوله وجعلناها رجوما للشياطين والأول أظهر
الثامنة من استعاذ بالله صادقا أعاذه فعليك بالصدق ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذريتها عصمها الله ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلا ابن مريم وأمه
التاسعة الشيطان عدو وحذر

(1/57)


الله منه إذ لا مطمع في زوال علة عداوته وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم فيأمره أولا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلا أمره بالمعاصي فإن أطأعه وإلا ثبطه عن الطاعة فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب
العاشرة القواطع عن الله أربعة الشيطان والنفس والدنيا والخلق فعلاج الشيطان الاستعاذة والمخالفة له وعلاج النفس بالقهر وعلاج الدنيا بالزهد وعلاج الخلق بالانقباض والعزلة
الكلام على البسملة فيه عشر فوائد الأولى ليست البسملة عند مالك آية من الفاتحة ولا من غيرها إلا في النمل خاصة وهي عند الشافعي آية من الفاتحة وعند ابن عباس آية من أول كل سورة فحجة مالك ما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنزلت علي سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ثم قال الحمد لله رب العالمين فبدأ بها دون البسملة وما ورد في الحديث الصحيح إن الله يقول قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يقول العبد الحمد لله رب العالمين فبدأ بها دون البسملة وحجة الشافعي ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ... 31

(1/58)


31 الحمد لله رب العالمين وحجة ابن عباس ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف
الثانية إذا ابتدأت أول سورة بسملت إلا براءة وسنذكر علة سقوطها من براءة في موضعه وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير بين البسملة وتركها عند أبي عمرو الداني وتترك البسملة عند غيره وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القراء في البسملة وتركها
الثالثة لا يبسمل في الصلاة عند مالك ويبسمل عند الشافعي جهرا في الجهر وسرا في السر وعند أبي حنيفة سرا في الجهر والسر فحجة مالك من وجهين أحدهما أنه ليست عنده آية في الفاتحة حسبما ذكرنا والآخر ما ورد في الحديث الصحيح عن أنس أنه قال صليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة ولا في آخرها وحجة الشافعي من وجهين أحدهما أن البسملة عنده آية من الفاتحة والأخرى ما ورد في الحديث من قراءتها حسبما ذكرنا
الرابعة كانوا يكتبون باسمك اللهم حتى نزلت بسم الله مجراها فكتبوا بسم الله حتى نزلت أو ادعوا الرحمن فكتبوا بسم الله الرحمن حتى نزل إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبوها وحذفت الألف في بسم الله لكثرة الاستعمال
الخامسة الباء من بسم الله متعلقة باسم محذوف عند البصريين والتقدير ابتداء كائن بسم الله فموضعها رفع وعند الكوفيين تتعلق بفعل تقديره أبدأ أو أتلو فموضعها نصب وينبغي أن يقدر متأخرا لوجهين أحدهما إفادة الحصر والاختصاص والأخرى تقديم اسم الله اعتناء كما قدم في بسم الله مجراها السادسة الاسم مشتق من السمو عند البصريين فلامه واو محذوفه وعند الكوفيين مشتق من السمة وهي العلامة ففاؤه محذوفة ودليل البصريين التصغير والتكبير لأنهما يردان الكلمات إلى أصولها وقول الكوفيين أظهر في المعنى لأن الاسم علامة على المسمى
السابعة قولك الله اسم مرتجل جامد والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف

(1/59)


وقيل إنه مشتق من التأله وهو التعبد وقيل من الولهان وهي الحيرة لتحير العقول في شأنه وقيل أصله إله من غير الف ولام ثم حذفت الهمزة من أوله على غير قياس ثم أدخلت الألف واللام عليه وقيل أصله الإله بالألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام كما نقلت إلا الأرض وشبهه فاجتمع لامان فأدغمت إحداهما في الأخرى وفخم للتعظيم إلا إذا كان قبله كسرة الثامنة الرحمن الرحيم صفتان من الرحم ومعناهما الإحسان فهي صفة فعل وقيل إرادة الإحسان فهي صفة ذات
التاسعة الرحمن الرحيم على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة وقيل الرحمن عام في رحمة المؤمنين والكافرين لقوله وكان بالمؤمنين رحيما فالرحمن أعم وأبلغ وقيل الرحمن أبلغ لوقوعه بعده على طريقة الارتقاء إلى الأعلى
العاشرة إنما قدم الرحمن لوجهين اختصاصه بالله وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات انتهى والله أعلم ... 32

(1/60)


32 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سورة أم القرآن وتسمى سورة الحمد لله وفاتحة الكتاب والواقية والشافية والسبع المثاني وفيها عشرون فائدة سوى ما تقدم في اللغات من تفسير ألفاظها واختلف هل هي مكية أو مدنية ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي يعد البسملة آية منها والمالكي يسقطها ويعد أنعمت عليهم آية الفائدة الأولى قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة وحجتهما قوله صلى الله عليه وسلم للذي علمه الصلاة اقرأ ما تيسر من القرآن الفائدة الثانية اختلف هل أول الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد أي قولوا الحمد لله أو هو ابتداء كلام الله ولا بد من إضمار القول في إياك نعبد وما بعده الفائدة الثالثة الحمد أعم من الشكر لأن الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمه والحمد يكون جزاء كالشكر ويكون ثناء ابتداء كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب والجوارح فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والواحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات ويتضمن معاني اسمائه الحسنى التسعة والتسعين ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات واتفق دون عدة عقول الخلائق ويكفيك أن الله جعلها أول كتابه وآخر دعوى أهل الجنة الفائدة الرابعة الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحدث بالنعم شكر والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة والعلم بأنها من الله وحده والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد واعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام

(1/61)


نعم دنيوية كالعافية والمال ونعم دينية كالعلم والتقوى ونعم أخروية وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير والناس في الشكر على مقامين منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم والشكر على ثلاث درجات فدرجات العوام الشكر على النعم ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم قال رجل لإبراهيم بن أدهم الفقراء إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا ومن فضيلة ... 33

(1/62)


33 الشكر أنه من صفات الحق ومن صفات الخلق فإن من أسماء الله الشاكر والشكور وقد فسرتهما في اللغة الفائدة الخامسة قولنا الحمد لله رب العالمين أفضل عند المحققين من لا إله إلا الله لوجهين أحدهما ما خرجه النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله كتب له عشرون حسنة ومن قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة والثاني أن التوحيد الذي يقتضيه لا إله إلا الله حاصل في قولك رب العالمين وزادت بقولك الحمد لله وفيه من المعاني ما قدمنا وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها وهذ المؤمن يقولها لطلب الثواب وأما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلا الله الفائدة السادسة الرب وزنه فعل بكسر العين ثم أدغم ومعانيه أربعة الإله والسيد والمالك والمصلح وكلها في رب العالمين إلا أن الأرجح معنى الإله لاختصاصه لله تعالى كما أن الأرجح في العالمين أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى فيعم جميع المخلوقات الفائدة السابعة ملك قراءة الجماعة بغير ألف من الملك وقرأ عاصم والكسائي بالألف والتقدير على هذا مالك مجيء يوم الدين أو مالك الأمر يوم الدين وقراءة الجماعة ارجح من ثلاثة أوجه الأول أن الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله وأما الملك فهو سيد الناس والثاني قوله وله الملك يوم ينفخ في الصور والثالث أنها لا تقتضي حذفا والأخرى تقتضيه لأن تقديرها مالك الأمر أو مالك مجيء يوم الدين والحذف على خلاف الأصل وأما قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين فهي على طريقة الاتساع وأجرى الظرف مجرى المفعول به والمعنى على الظرفية أي الملك في يوم الدين ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين فيكون فيه حذف وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله صلى

(1/63)


الله عليه وسلم وقد قريء ملك بوجوه كثيرة إلا أنها شاذة الفائدة الثامنة الرحمن الرحيم مالك صفات فإن قيل كيف جر مالك ومالك صفة للمعرفة وإضافة اسم الفاعل غير محضة فالجواب أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال وأما هذا فهو مستمر دائما فإضافته محضة الفائدة التاسعة هو يوم القيامة ويصلح هنا في معاني الدين والحساب والجزاء والقهر ومنه إنا لمدينون الفائدة العاشرة إياك في الموضعين مفعول بالفعل الذي بعده وإنما قدم ليفيد الحصر فإن تقديم المعمولات يقتضي الحصر فاقتضى قول العبد إياك نعبد أن يعبد الله وحده لا شريك له واقتضى قوله وإياك نستعين اعترافا بالعجز والفقر وأنا لا نستعين إلا بالله وحده الفائدة الحادية عشرة إياك نستعين أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية وأن الحق بين ذلك الفائدة الثانية عشرة اهدنا دعاء بالهدى فإن قيل كيف يطلب المؤمنون الهدى وهو حاصل لهم فالجواب أن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت أو الزيادة منه فإن الارتقاء في المقامات لا نهاية له الفائدة الثالثة عشرة قدم الحمد والثناء على الدعاء لأن تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح وذلك أقرب للإجابة وكذلك قدم الرحمن على ملك يوم الدين لأن رحمة الله سبقت غضبه وكذلك قدم إياك نعبد على إياك نستعين لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة الفائدة الرابعة عشرة ذكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده وذلك يسمى الالتفات وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه ... 34

(1/64)


34 فصار من أهل الحضور فناداه الفائدة الخامسة عشرة الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشي ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير والشر ومعنى المستقيم القويم الذي لا عوج فيه فالصراط المستقيم الإسلام وقيل القرآن والمعنيان متقاربان لأن القرآن يضمن شرائع الإسلام وكلاهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرئ الصراط بالصاد والسين وبين الصاد والزاي وقد قيل إنه قرئ بزاي خالصة والأصل فيه السين وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر الفائدة السادسة عشرة الذين أنعمت عليهم قال ابن عباس هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وقيل المؤمنون وقيل الصحابة وقيل قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا والأول أرجح لعمومه ولقوله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الفائدة السابعة عشرة إعراب غير المغضوب بدل ويبعد النعت لأن إضافته غير مخصوصة وهو قد جرى عن معرفة وقريء بالنصب على الإستثناء أو الحال الفائدة الثامنة عشرة إسناد نعمة عليهم إلي الله والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب كقوله وإذا مرضت فهو يشفين وعليهم أول في موضع نصب والثاني في موضع رفع الفائدة التاسعة عشرة المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وجلالة قائله وذكر ولا في قوله ولا الضالين دليل على تغاير الطائفتين وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله فباؤا بغضب والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم عليه السلام ولقول الله فيه قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل الفائدة العشرون هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكانها نسخة

(1/65)


مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والدار الآخرة في قوله مالك يوم الدين والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي في قوله إياك نعبد والشريعة كلها في قوله الصراط المستقيم والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين خاتمة أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها وقولك آمين اسم فعل معناه اللهم استجب وقيل هو من أسماء الله ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها أو لا يجوز تشديد الميم وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسر واختلفوا إذا جهر ... 35

(1/66)


35 سورة البقرة الم اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور وهي المص والر والمر وكهيعص وطه وطسم وطس ويس وص وق وحم وحم عسق ون فقال قوم لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله قال أبو بكر الصديق لله في كل كتاب سر وسره في القرآن فواتح السور وقال قوم تفسر ثم اختلفوا فيها فقيل هي أسماء السور وقيل أسماء الله وقيل أشياء أقسم الله بها وقيل هي حروف مقطعة من كلمات فالألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك في سائرها وورد في الحديث أن بني إسرائيل فهموا أنها تدل بحروف أبجد على السنين التي تبقي هذه الأمة وسمع النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك فلم ينكره وقد جمع أبو القاسم السهيلي عددها على ذلك بعد أن أسقط المتكرر فبلغت تسعمائة وثلاثة وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك الله لأفعلن ذلك الكتاب هو هنا القرآن وقيل التوراة والإنجيل وقيل اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين يعني القرآن باتفاق وخبر ذلك لا ريب فيه وقيل خبره الكتاب فعلى هذا ذلك الكتاب جملة مستقلة فيوقف عليه لا ريب فيه أي لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق ولم يعتبر أهل الباطل وخبر لا ريب فيه فيوقف عليه وقيل خبرها محذوف فيوقف على لا ريب والأول أرجح لتعينه في قوله لا ريب في مواضع أخر فإن قيل فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله لا فيها غول فالجواب أنه إنما قصد نفي الريب عنه ولو قدم فيه لكان إشارة إلى أن ثم كتاب آخر فيه ريب كما أن لا

(1/67)


فيها غول إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر هدى هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله هدى للناس وإعرابه خبر ابتداء أو مبتدأ وخبره فيه عند ما يقف على لا ريب أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة للمتقين مفتعلين من التقوى وقد تقدم معناه في الكتاب فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول الأول في فضائلها المستنبطة من القرآن وهي خمس عشرة الهدى كقوله هدى للمتقين والنصرة لقوله إن الله مع الذين اتقوا والولاية لقوله الله ولي المتقين والمحبة لقوله إن الله يحب المتقين والمغفرة لقوله إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله ومن يتق الله ... 36

(1/68)


36 يجعل له مخرجا ) الآية وتيسير الأمور لقوله ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وتقبل الأعمال لقوله إنما يتقبل الله من المتقين والفلاح لقوله واتقوا الله لعلكم تفلحون والبشرى لقوله لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ودخول الجنة لقوله إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم والنجاة من النار لقوله ثم ننجي الذين اتقوا
الفصل الثاني البواعث على التقوى عشرة خوف العقاب الأخروي وخوف الدنيوي ورجاء الثواب الدنيوي ورجاء الثواب الأخروي وخوف الحساب والحياء من نظر الله وهو مقام المراقبة والشكر على نعمه بطاعته والعلم لقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء وتعظيم جلال الله وهو مقام الهيبة وصدق المحبة لقول القائل ( تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع ) ( لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع ) ولله در القائل ( قالت وقد سألت عن حال عاشقها لله صفه ولا تنقص ولا تزد ) ( فقلت لو كان يظن الموت من ظمإ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد )
الفصل الثالث درجات التقوى خمس أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإسلام وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة الذين يؤمنون بالغيب فيه قولان يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها فالغيب على هذا بمعنى الغائب إما تسميه بالمصدر كعدل وإما تخفيفا في فعيل كميت والآخر يؤمنون في حال غيبهم أي باطنا وظاهرا وبالغيب على القول الأول يتعلق بيؤمنون وعلى الثاني في موضع الحال ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت أو نصبا على إضمار فعل أو رفعا على أنه خبر مبتدأ ويقيمون الصلاة إقامتها علمها من قولك قامت السوق وشبه ذلك

(1/69)


والكمال المحافظة عليها في أوقاتها بالإخلاص لله في فعلها وتوفية شروطها وأركانها وفضائلها وسننها وحضور القلب الخشوع فيها وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل ومما رزقناهم ينفقون فيه ثلاثة أقوال الزكاة لاقترانها مع الصلاة والثاني أنه التطوع والثالث العموم وهو الأرجح لأنه لا دليل على التخصيص والذين يؤمنون هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب فيكون عطفا للمغايرة أو مبتدأ وخبره الجملة بعد بما أنزل إليك القرآن وما أنزل من قبلك التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل إن الذين كفروا فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل فإن كان الذين للجنس فلفظها عام يراد به الخصوص وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم وقد اختلف فيهم فقيل المراد من قتل ببدر من كفار قريش وقيل المراد حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ... 37

(1/70)


37 اليهوديان سواء خبر إن و أنذرتهم فاعل به لأنه في تقدير المصدر وسواء مبتدأ وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن و لا يؤمنون على هذه الوجوه استئنافا للبيان أو للتأكيد أو خبر بعد خبر أو تكون الجملة اعتراضا ولا يؤمنون الخبر والهمزة في ءأنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام ختم الآية تعليل لعدم إيمانهم وهو عبارة عن إضلالهم فهو مجاز وقيل حقيقة وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال أصبعا أصبعا حتى يختم عليه والأول أبرع وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم فيوقف عليه وقيل الوقف على قلوبهم والسمع راجع إلى ما بعده والأول أرجح لقوله وختم على سمعه وقلبه غشاوة مجاز باتفاق وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع ومن الناس أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا من يقول إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ ومن وما هم بمؤمنين هم المنافقين وكانوا جماعة من الأوس والخزرج رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول يظهرون الإسلام ويسرون الكفر ويسمى الآن من كذلك زنديقا وهم في الآخرة مخلدون في النار وأما في الدنيا إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان فمذهب مالك القتل دون الاستتابة ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل فإن قيل كيف جاء قولهم آمنا جملة فعلية وما هم بمؤمنين جملة اسمية فهلا طابقتها فالجواب أن قولهم وما هم بمؤمنين أبلغ وآكد في نفي الإيمان عنهم من لو قال ما آمنوا فإن قيل لم جاء قولهم آمنا مقيدا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين مطلقا فالجواب أنه يحتمل وجهين التقييد فتركه لدلالة الأول عليه والإطلاق وهو أعم في سلبهم من الإيمان يخادعون

(1/71)


أي يفعلون فعل المخادع ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون وقيل معناه يخدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر وما يخادعون إلا أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم وقرىء وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف من خدع وهو أبلغ في المعنى لأنه يقال خادع إذا رام الخداع وخدع إذا تم له وما يشعرون حذف معموله أي لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم في قلوبهم مرض يحتمل أن يكون حقيقة وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد فزادهم يحتمل الدعاء والخبر يكذبون بالتشديد أي يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وقرىء بالتخفيف أي يكذبون في قولهم آمنا لا تفسدوا أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك إنما نحن مصلحون يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا أو اعتقاد أمنهم على إصلاح ... 38

(1/72)


38 كما آمن الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية أنؤمن إنكار منهم وتقبيح هم السفهاء رد عليهم وإناطة السفه بهم وكذلك هم المفسدون وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه والفساد فيهم وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب قالوا آمنا كذبوا خوفا من المؤمنين خلوا إلى شياطينهم هم رؤساء الكفر وقيل شياطين الجن وهو بعيد وتعدى خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا وقيل إلى بمعنى مع أو بمعنى الباء وجه قولهم إنا معكم إنما نحن مستهزؤن بجملة إسمية مبالغة وتأكيد بخلاف قولهم آمنا فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم الله يستهزىء بهم فيه ثلاثة أقوال تسمية للعقوبة باسم الذنب كقوله ومكروا ومكر الله وقيل يملي لهم بدليل قوله ويمدهم وقبل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا الآية ويمدهم يزيدهم وقيل يملي لهم وقد ذكروا يعمهون اشتروا الضلالة عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة فهو مجاز بديع فما ربحت تجارتهم ترشيح للمجاز لما ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر وما كانوا مهتدين في هذا الشراء أو على الإطلاق وقال الزمخشري نفى الربح في قوله فما ربحت ونفى سلامة رأس المال في قوله وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة استوقد أي أوقد وقيل طلب الوقود على الأصل في استفعل فلما أضاءت إن تعدى فما حوله مفعول به وإن لم يتعد فما زائدة أو ظرفية ذهب الله بنورهم أي اذهبه وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره طفيت النار وذهب

(1/73)


الله بنورهم جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين فعلى هذا يكون الذي على بابه من الإفراد والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا سواء كان واحدا أو جماعة ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه لأنهم جماعة فإن قيل ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت فالجواب من ثلاثة أوجه أحدها أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده والثاني أن استخفاء كفرهم كالنور وفضيحتهم كالظلمة والثالث أن ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر فإيمانه نور وكفره بعده ظلمة ويرجح هذا قوله ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فإن قيل لم قال ذهب الله بنورهم ولم يقل أذهب الله نورهم مشاكلة لقوله فلما أضاءت فالجواب أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير صم ... 39

(1/74)


39 بكم عمي ) يحتمل أن يراد به المنافقون والمستوقد المشبه بهم وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم وليس المراد فقد الحواس فهم لا يرجعون إن أريد به المنافقون فمعناه لا يرجعون إلى الهدى وإن أريد به أصحاب النار فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق أو كصيب عطف على الذي استوقد والتقدير أو كصاحب صيب أو للتنويع لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين والصيب المطر وأصله صيوب ووزنه فعيل وهو مشتق من قولك صاب يصوب وفي قوله من السماء إشارة إلى قوته وشدة انصبابه قال ابن مسعود إن رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك فعزما على الإيمان ورجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامهما فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين وقيل المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق فضل عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه وهذا التشبيه على الجملة وقيل إن التشبيه على التفصيل فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة فإن قيل لم قال رعد وبرق بالإفراد ولم يجمعه كما جمع ظلمات فالجواب أن الرعد والبرق مصدران والمصدر لا يجمع ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما لأنهما في الأصل مصدران يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق أي من أجل الصواعق قال ابن مسعود كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو على هذا حقيقة في المنافقين والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان وقيل لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم والصواعق على هذا حقيقة وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد ونزول قطعة نار

(1/75)


والموت أيضا حقيقة وقيل إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد فإن قيل لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة والله محيط بالكافرين أي لا يفوتونه بل هم تحت قهره وهو قادر على عقابهم يخطف أبصارهم إن رجع إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين فهو بين في المعنى وإن رجع إلى المنافقين فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين أحدهما تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم والآخر يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كلما أضاء لهم مشوا فيه إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وإذا أظلم عليهم قاموا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان ثبتوا على كفرهم وقيل إن المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا ... 40

(1/76)


40 هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء وإذا أصابتهم شدة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا فهذا مثل الظلمة فان قيل لم قال مع الإضاءة كلما ومع الظلام إذا فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما لأنها تقتضي التكرار والكثرة ولو شاء الله الآية إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى ذهب الله بنورهم يا أيها الناس الآية لما قدم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف المؤمنين والكافرين والمنافقين أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله وجاء بالدعوة عامة للجميع لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس اعبدوا ربكم يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لعلكم يتعلق بخلقكم أي خلقكم لتتقوه كقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أو بفعل مقدر من معنى الكلام أي دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون وهذا أحسن وقيل يتعلق بقوله اعبدوا وهذا ضعيف وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين جريا على عادة كلام العرب وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو عسى فإذا قالها الله فمعناها أطباع العباد وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى الأرض فراشا تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء من الثمرات من للتبعيض أو لبيان الجنس لأن الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها والباء في به سببية أو كقولك كتبت بالقلم لأن الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فلا تجعلوا لا ناهية أو نافية وانتصب الفعل بإضمار أن بعد

(1/77)


الفاء في جواب اعبدوا والأول أظهر أندادا يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جل وعلا وأنتم تعلمون حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدم من البراهين ويحتمل أن يتعلق بقوله اعبدوا والأول أظهر فوائد ثلاث الأولى هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقتين أحدهما إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات والآخر ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام فذكر أولا ربوبيته لهم ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم لأن الخالق يستحق أن يعبد ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء ومن إنزال المطر وإخراج الثمرات لأن المنعم يستحق أن يعبد ويشكر وانظر قوله جعل لكم ورزقا لكم يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع ... 41

(1/78)


41 الثانية المقصود الأعظم من هذه الآية الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها فلا تجعلوا لله أندادا وذلك هو الذي يترجم عنه بقولنا لا إله إلا الله فيقتضى ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد وقول لا إله إلا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وذلك أنها تدل بالعقل على عشرة أمور وهي أن الله موجود لأن الصنعة دليل على الصانع لا محالة وأنه واحد لا شريك له لأنه لا خالق إلا هو أفمن يخلق كمن لا يخلق وأنه حي قدير عالم مريد لأن هذه الصفات الأربع من شروط الصانع إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث وأنه باق لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه وأنه حكيم لأن آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت وأنه رحيم لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على المخاطبين دون الذين من قبلهم مع أنه أمر الجميع بالتقوى فالجواب أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمراد الجميع فإن قيل هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا فالجواب أن التقوى غاية العبادة وكمالها فكان قوله لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس وإن كنتم في ريب الآية إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الدليل على أن القرآن جاء به من عند الله فلما قدم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوة فإن قيل كيف قال إن كنتم في ريب ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أن الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان فلذلك وضع حرف

(1/79)


التوقع والاحتمال في الأمر الواقع ليعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى لا ريب فيه على عبدنا هو النبي صلى الله عليه وسلم والعبودية على وجهين عامة وهي التي بمعنى الملك وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص وهي من أوصاف أشراف العباد ولله در القائل ( لا تدعني إلا بياعبدها فإنه أشرف أسمائي ) فأتوا بسورة أمر يراد به التعجيز من مثله الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن ومن لبيان الجنس وقيل يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فمن على هذا لابتداء الغاية من بشر مثله والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة شهداءكم آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم من دون الله أي غير الله وقيل هو من الدين الحقير فهو مقلوب اللفظ ولن تفعلوا اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة وهو إخبار ظهير مصداقه في الوجود إن لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن مع فصاحة العرب في زمان نزوله وتصرفهم في الكلام وحرصهم على التكذيب وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين أحدهما أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح والثاني أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه والإعجاز حاصل على الوجهين ... 42

(1/80)


42 وقد بينا سائر وجوه إعجازه في المقدمة فاتقوا النار أي فآمنوا لتنجوا من النار وعبر باللازم عن ملازمه لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف وقودها حطبها الحجارة قال ابن مسعود هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدة حرها وقبح رائحتها وقيل الحجارة المعبودة وقيل الحجارة على الإطلاق أعدت دليل على أنها قد خلقت وهو مذهب الجماعة وأهل السنة خلافا لمن قال إنها تخلق يوم القيامة وكذلك الجنة وبشر يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو خطابا لكل أحد ورجح الزمخشري هذا لأنه أفخم الذين آمنوا وعملوا الصالحات دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه خلافا لمن قال الإيمان اعتقاد وقول وعمل وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال خلافا للمرجئة تجري من تحتها الأنهار أي تحت اشجارها وتحت مبانيها وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود منها من ثمرة رزقا من الأولى للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس ومن الثانية لبيان الجنس من قبل أي في الدنيا بدليل قولهم إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين في الدنيا فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر وأتوا به متشابها أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى مطهرة من الحيض وأقذار النساء وسائر الأقذار التي تختص بالنساء كالبول وغيره ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق لا يستحي تأول قوم أن معناه لا يترك لأنهم زعموا أن الحياء مستحيل على الله لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر وليس كذلك وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب ويرد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم إن الله حي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردهما

(1/81)


صفرا أن يضرب سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك وقيل المثلين المتقدمين في المنافقين تكلموا في ذلك فنزلت الآية ردا عليهم مثلا ما بعوضة إعراب بعوضة مفعول بيضرب ومثلا حال أو مثلا مفعول وبعوضة بدل منه أو عطف بيان أو هما مفعولان بيضرب لأنها على هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين وما صفة للنكرة أو زائدة فما فوقها في الكبر وقيل في الصغر والأول أصح فيعلمون أنه الحق لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة وضرب أمثال وبيان للناس ولأن الصادق جاء بها من عند الله ماذا أراد الله لفظه الاستفهام ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب وفي إعراب ماذا وجهان أن تكون ما مبتدأ وذا خبره وهي موصولة وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد ومثلا منصوب على الحال أو التمييز يضل به من كلام الله جوابا للذين قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا وهو أيضا تفسير لما أراد ... 43

(1/82)


43 الله بضرب المثل من الهدى والضلال عهد الله مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويشار بقطع ما أمر الله به أن يوصل إلى قريش لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين لأن الفساد من أفعالهم حسبما تقدم في وصفهم ميثاقه الضمير للعهد أو لله تعالى كيف تكفرون موضعها الاستفهام ومعناها هنا الإنكار والتوبيخ وكنتم أمواتا أي معدومين أي في أصلاب الآباء أو نطفا في الأرحام فأحياكم أي أخرجكم إلى الدنيا ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم بالبعث ثم إليه ترجعون للجزاء وقيل الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد وقيل في الحياة الثانية إنها في القبور والراجح القول الأول لتعيينه في قوله وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فوائد ثلاثة الأولى هذه الآية في معرض الرد على الكفار وإقامة البرهان على بطلان قولهم فإن قيل إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له فالجواب أنهم ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث لأن القدرة صالحة لذلك كله الثانية قوله وكنتم أمواتا في موضع الحال فإن قيل كيف جاز ترك قد وهى لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل والمراد مجموع الكلام كأنه يقول وحالهم هذه فلذلك لم تلزم قد الثالثة عطف فأحياكم بالفاء لأن الحياة أثر العدم ولا تراخي بينهما وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم للتراخي الذي بينهما خلق لكم ما في الأرض دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض ثم استوى أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة فسواهن أي أتقن خلقهن كقوله فسواك فعدلك وقيل جعلهن

(1/83)


سواء فائدة هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض وقوله و الأرض بعد ذلك دحاها ظاهره خلاف ذلك والجواب من وجهين أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء ودحيت بعد ذلك فلا تعارض والآخر تكون ثم لترتيب الأخبار الملائكة جمع ملك واختلف في وزنه فقيل فعل فالميم أصلية ووزن ملائكة على هذا مفاعلة وقيل هي من الألوكة وهي الرسالة فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد خليفة هو آدم عليه السلام لأن الله استخلفه في الأرض وقيل ذريته لأن بعضهم يخلف بعضا والأول أرجح ولو أراد الثاني لقال خلفاء أتجعل فيها الآية سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه وليس فيه اعتراض لأن الملائكة منزهون عنه وإنما علموا أن بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك وقيل ... 44

(1/84)


44 كان في الأرض جن فأفسدوا فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم فقاس الملائكة بني آدم عليهم ونحن نسبح اعتراف والتزام للتسبيح لا افتخار بحمدك أي حامدين لك والتقدير نسبح متلبسين بحمدك فهو في موضع الحال ونقدس لك يحتمل أن تكون الكاف مفعولا ودخلت عليها اللام كقولك ضربت لزيدا وأن يكون المفعول محذوفا أي نقدسك على معنى ننزهك أو نعظمك وتكون اللام في لك للتعليل أي لأجلك أو يكون التقدير نقدس أنفسنا أي نطهرها لك ما لا تعلمون أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة الأسماء كلها أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء لتشمية القمر والشجر وغير ذلك ثم عرضهم أي عرض المسميات وبين أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء أنبؤني أمر على وجه التعجيز إن كنتم صادقين أي في قولكم إن الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء وقيل إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء لا علم لنا اعتراف أنبئهم بأسمائهم أي أنبىء الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء اسجدوا لآدم السجود على وجه التحية وقيل عبادة لله وآدم كالقبلة فسجدوا روى أن من أول من سجد إسرافيل ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ إلا إبليس استثناء متصل عند من قال إنه كان ملكا ومنقطع عند من قال كان من الجن استكبر لقوله أنا خير منه وكان من الكافرين قيل كفر بإبايته من السجود وذلك بناء على أن المعصية كفر والأظهر أنه كفر باعتراضه على الله وتسفيهه له في أمره بالسجود لآدم وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية وزوجك هي حواء خلقها الله من ضلع آدم ويقال زوجة وزوج هنا أفصح الجنة هي جنة الخلد عند الجماعة وعند أهل السنة خلافا لمن قال هي غيرها لا تقربا النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى وإنما نهى عن القرب سدا للذريعة فهذا أصل في سد الذرائع الشجرة

(1/85)


قيل هي شجرة العنب وقيل شجرة التين وقيل الحنطة وذلك مفتقر إلى نقل صحيح واللفظ مبهم فتكونا عطف على تقربا أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي فأزلهما متعد من أزل القدم وأزالهما بالألف من الزوال عنها الضمير عائد على الجنة أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا فائدة اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان لقوله تعالى فنسي ولم نجد له عزما وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها وهذا باطل لأن خمر الجنة لا تسكر وقيل أكل عمدا وهي معصية صغرى وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر وقيل تأول آدم أن النهي ... 45

(1/86)


45 كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها وقيل لما حلف له إبليس صدقه لأنه ظن أنه لا يحلف أحد كذبا اهبطوا خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل بعضكم لبعض عدو مستقر موضع استقرار وهو في مدة الحياة وقيل في بطن الأرض بعد الموت ومتاع ما يتمتع به إلى حين إلى الموت فتلقى أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات فتلقى على هذا من اللقاء كلمات هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين بدليل ورودها في الأعراف وقيل غير ذلك اهبطوا كرر ليناط به ما بعده ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء والآخر من الجنة وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله فإما يأتينكم إن شرطية وما زائدة للتأكيد والهدى هنا يراد به كتاب الله ورسالته فمن تبع شرط وهو جواب الشرط الأول وقيل فلا خوف جواب الشرطين يا بني إسرائيل لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم وتارة بالتخويف وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم وذكر العقوبات التي عاقبهم بها فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء وهي وإذ نجيناكم من آل فرعون وإذا فرقنا بكم البحر وبعثناكم من بعد موتكم وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى وعفونا عنكم وتاب عليكم ويغفر لكم خطاياكم وآتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وانفجرت منه اثنتى عشرة عينا وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء قولهم سمعنا وعصينا واتخذتم العجل وقالوا أرنا الله جهرة وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد ويحرفونه وتوليتم من بعد ذلك وقست قلوبكم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وذكر من عقوباتهم عشرة

(1/87)


أشياء ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ويعطوا الجزية واقتلوا أنفسكم وكونوا قردة وأنزلنا عليهم رجزا من السماء وأخذتكم الصاعقة وجعلنا قلوبهم قاسية وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين وخوطب المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم وقد وبخ المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم بتوبيخات أخر وهي كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم به ويحرفون الكلم ويقولون هذا من عند الله وتقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر وقولهم نحن أبناء الله وقولهم يد الله مغلولة نعمتي اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع ومعناه عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة واللفظ يعم النعم جميعا بعهدي مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوي لأنه مقصود الكلام بعهدكم دخول الجنة ... 46

(1/88)


46 وإياي مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير وليفيد الحصر يفسره فارهبون ولا يصح أن يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله وكذلك إياي فاتقون بما أنزلت يعني القرآن مصدقا لما معكم أي مصدقا للتوراة وتصديق القرآن للتوراة وغيرها وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان أحدها أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به والآخر أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم والثالث أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك ولا تكونوا أول كافر به الضمير عائد على القرآن وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال لأن هذا مفهوم معطل بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره ولما يعرفون من علامته ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال كقوله اشتروا الضلالة بالهدى والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رياستهم وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك وقيل كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن الحق بالباطل الحق هنا يراد به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والباطل الكفر به وقيل الحق التوراة والباطل ما زادوا فيها وتكتمون معطوف على النهي أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي والواو بمعنى الجمع والأول أرجح لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين بخلاف النصب بالواو فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين لا النهي عن كل واحد على انفراده وأنتم تعلمون أي تعلمون أنه حق الصلاة وآتو الزكاة يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم فهو

(1/89)


يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام واركعوا خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأن صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع وقيل اركعوا للخضوع والانقياد مع الراكعين مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم وقيل الأمر بالصلاة مع الجماعة أتأمرون تقريع وتوبيخ لليهود بالبر عام في أنواعه فوبخهم على أمر الناس وتركهم له وقيل كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه وقال ابن عباس بل كانوا يأمرون باتباع التوراة ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم تنسون أي تتركون وهذا تقريع تتلون الكتاب حجة عليهم أفلا تعقلون توبيخ واستعينوا بالصبر والصلاة قيل معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ونعى إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلى ... 47

(1/90)


47 ركعتين وقرأ الآية وقيل استعينوا بهما على طلب الآخرة وقيل الصبر هنا الصوم وقيل الصلاة هنا الدعاء وإنها الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة أو على الاستعانة أو على الصلاة لكبيرة أي شاقة صعبة يظنون هنا يتيقنون على العالمين أي أهل زمانهم وقيل تفضيل من وجه ما هو كثرة الأنبياء وغير ذلك لا تجزى لا تغني وشيئا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف والجملة في موضع الصفة وحذف الضمير أي فيه ولا يقبل منها شفاعة ليس نفي الشفاعة مطلقا فإن مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وشفاعة الملائكة والأنبياء والمؤمنين وإنما المراد أنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن الله له لقوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ولقوله ما من شفيع إلا من بعد إذنه ولقوله ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له وانظر ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن في الشفاعة فيقال له اشفع تشفع فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقا يحمل على هذا لأن المطلق يحمل على المقيد فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة عدل هنا فدية ولا هم ينصرون جمع لأن النفس المذكورة يراد بها نفوس وإذ نجيناكم تقديره اذكروا إذ نجيناكم أي نجينا آباءكم وجاء الخطاب للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم منهم لأنهم ذريتهم وعلى دينهم ومتبعون لهم فحكمهم كحكمهم وكذلك فيما بعد هذا من تعداد النعم لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء ومن ذكر مساويهم لأن ذريتهم راضون بها من آل فرعون المراد من فرعون وآله وحذف لدلالة المعنى وآل فرعون هم جنوده وأشياعه وآل دينه لا قرابته خاصة ويقال إن اسمه الوليد بن مصعب وهو من ذرية عمليق ويقال فرعون لكل من ولي مصر وأصل آل أهل ثم أبدلت من الهاء همزة وأبدل من الهمزة ألف فائدة كل ما ذكره في هذه الصور من الأخبار معجزات للنبي صلى

(1/91)


الله عليه وسلم لأنه أخبر بها من غير تعلم يسومونكم سوء العذاب أي يلزمونهم به وهو استعارة من السوم في البيع وفسر سوء العذاب بقوله يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ولذلك لم يعطفه هنا وأما حيث عطفه في سورة إبراهيم فيحتمل أن يراد بسوء العذاب غير ذلك بل فيكون عطف مغايرة أو أراد به ذلك وعطف لاختلاف اللفظة وكان سبب قتل فرعون لابناء بني إسرائيل وقيل إن آل فرعون تذاكروا وعد الله لإبراهيم بأن يجعل في ذريته ملوكا وأنبياء فحسدوهم على ذلك وروى أنه وكل بالنساء رجالا يحفظون من تحمل منهن وقيل بل وكل على ذلك القوابل ولأجل هذا قيل معنى يستحيون يفتشون الحياة ضد الموت فرقنا بكم البحر فصلناه وجعلناه فرقا اثنى عشر طريقا على عدد ... 48

(1/92)


48 الأسباط والباء سببية أو للمصاحبة والبحر المذكور هنا هو بحر القلزم وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر ذي الحجة وإنما خص الليالي بالذكر لأن العام بها والأيام تابعة لها والمراد أربعين ليلة بأيامها اتخذتم العجل اتخذتموه إلها فحذف لدلالة المعنى من بعده أي بعد غيبته في الطور الكتاب هنا التوراة والفرقان أي المفرق بين الحق والباطل وهو صفة للتوراة عطف عليها لاختلاف اللفظ وقيل الفرقان هنا فرق البحر وقيل آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه فاقتلوا انفسكم أي يقتل بعضكم بعضا كقوله سلموا على أنفسكم وروى أن من لم يعبد العجل قتل من غده وروى أن الظلام ألقي عليهم فقتل بعضهم بعضا حتى بلغ القتلى سبعون ألفا فعفى الله عنهم وإنما خص هنا اسم البلد لأن فيه توبيخا للذين عبدوا العجل كأنه يقول كيف عبدتم غير الذي براكم ومعنى الباري الخالق فتاب عليكم قبله محذوف لدلالة الكلام عليه وهو فحوى الخطاب أي ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم لن نؤمن لك تعدى باللام لأنه تضمن معنى الإنقياد جهرة عيانا الصاعقة الموت وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور فسمعوا كلام الله ثم طلبوا الرؤية فعوقبوا لسوء أدبهم وجراءتهم على الله وظللنا أي جعلنا الغمام فوقهم كالظلة يقيهم حر الشمس وكان ذلك في التيه وكذا أنزل عليه فيه المن والسلوى تقدم في اللغات كلوا معمول لقول محذوف هذه القرية بيت المقدس وقيل أريحاء وقيل قريب من بيت المقدس فكلوا جاء هنا بالفاء التي للترتيب لأن الأكل بعد الدخول وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله اسكنوا لأن الدخول لا يتأتى معه السجود وقيل متواضعين حطة تقدم في اللغات وسنزيد أي نزيدهم أجرا إلى المغفرة فبدل روى أنه قالوا حنطة وروى حبة في شعرة الذين ظلموا

(1/93)


يعني المذكورين وضع الظاهر موضع ... 49
49 المضمر لقصد ذمهم بالظلم وكرره زيادة في تقبيح أمرهم رجزا روى أنهم أصابهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا استسقى طلب السقيا لما عطشوا في التيه الحجر كان مربعا ذراعا في ذراع تفجر من كل جهة ثلاث عيون وروى أن آدم كان أهبطه من الجنة وقيل هو جنس غير معين وذلك أبلغ في الإعجاز فانفجرت قبله محذوف تقديره فضربه فانفجرت مشربهم أي موضع شربهم وكانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين كلوا أي من المن والسلوى واشربوا من الماء المذكور فومها هي الثوم وقيل الحنطة أدنى من الدنيء الحقير وقيل أصله أدون ثم قلب بتأخير عينه وتقديم لامه مصر قيل البلد المعروف وصرف لسكون وسطه وقيل هو غير معين فهو نكرة لما روى أنهم نزلوا بالشام والأول أرجح لقوله تعالى وأورثناها بني إسرائيل يعني مصر ضربت أي قضى عليهم بها وألزموها وجعله الزمخشري استعارة من ضرب القبة لأنها تعلوا الإنسان وتحيط به المسكنة الناقة وقيل الجزية ذلك بأنهم الإشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب والباء للتعليل بآيات الله الآيات المتلوات أو العلامات بغير الحق معلوم أنه لا يقتل نبي إلا بغير حق وذلك أفصح فائدة قال هنا بغير الحق بالتعريف باللام للعهد لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس وقال في الموضع الآخر من آل عمران بغير حق بالتنكير لاستغراق النفي لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك بما عصوا يحتمل أن يكون تأكيدا للأول وتكون الإشارة بذلك إلى القتل والكفر والباء للتعليل أي اجترؤا على الكفر وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان والعدوان إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية قال ابن عباس نسختها ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقيل معناها أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحا فله أجره فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت

(1/94)


وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام فلا نسخ وقيل إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا نسخ من آمن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر إن أو من آمن بدل فلهم أجرهم خبر إن ورفعنا فوقكم الطور لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم إن لم تأخذوها وقع عليكم بقوة جد في العلم بالتوراة أو العمل بها اعتدوا منكم في السبت اصطادوا ... 50
50 فيه الحوت وكان محرما عليهم كونوا قردة عبارة عن مسخهم وخاسئين صفة أو خبر ثان ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب فجعلناها الضمير للفعلة وهي المسخ نكالا أي عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخر وقيل عبرة لمن تقدم ومن تأخر أن تذبحوا بقرة قصتها أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبه ليرثه وادعى على قوم أنهم قتلوه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فقام وأخبر بمن قتله ثم عاد ميتا أتتخذنا هزوا جفاء وقلة أدب وتكذيب فارض مسنة بكر صغيرة عوان متوسطة بين ذلك أي بين ما ذكر ولذلك قال ذلك مع الإشارة إلى شيئين صفراء من الصفرة المفروقة وقيل سوداء وهو بعيد والظاهر صفراء كلها وقيل القرن والظلف فقط وهو بعيد فاقع شديد الصفرة تسر الناظرين لحسن لونها وقيل لسمنها ومنظرها كله لا ذلول غير مذللة للعمل تثير الأرض أي تحرثها وهو داخل تحت النفي على الأصح ولا تسقي الحرث لا يسقى عليها مسلمة من العمل أو من العيوب لاشية لا لمعة غير الصفرة وهو من وشى ففاؤه واو محذوفة كعدة الآن جئت بالحق العامل في الضرب جئت بالحق وقيل العامل فيه مضمر تقديره الآن تذبحوها والأول أظهر فإن كان قولهم أتتخذنا هزوا هكذا فهذا تصديق وإن كان غير ذلك فالمعنى الحق المبين وما كادوا لعصيانهم وكثرة سؤالهم أو لغلاء البقرة فقد جاء بأنها كانت ليتيم وأنهم اشتروها بوزنها ذهبا أو لقلة وجود

(1/95)


تلك الصفة فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة أجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد عليهم وإذ قتلتم نفسا هو أول قصة البقرة فمرتبته التقديم إن الله يأمركم قال الزمخشري إنما أخر لتعدد توبيخهم لقصتين وهما ترك المسارعة إلى الأمر وقتل النفس ولو قدم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد فادارأتم أي اختلفتم وهو من المدارأة أي المدافعة ما كنتم تكتمون من أمر القتيل ومن قتلة ضربوه القتيل أو قريبة ببعضها مطلقا وقيل الفخذ وقيل اللسان وقيل الذنب كذلك ... 51

(1/96)


51 إشارة إلى حياة القتيل واستدلال بها على الإحياء للبعث وقبله محذوف لا بد منه تقديره ففعلوا ذلك فقام القتيل فائدة استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول فلان قتلني وهو ضعيف لأن هذا المقتول قام بعد موته ومعاينة الآخرة وقصته معجزة للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فلا يتأتى أن يكذب المقتول بخلاف غيره واستدلوا ايضا بها على أن القاتل لا يرث ولا دليل فيها على ذلك قست قلوبكم خطابا لبني إسرائيل من بعد ذلك أي بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات أو أشد عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء أي هي أشد وأو هنا إما للإيهام أو للتخيير كأن من علم حالها مخير بين أن يشبهها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة كالحديد أو التفضيل أي فهم أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل لكون أشد أدل على فرط القسوة وإن من الحجارة الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم يهبط أي يتردى من علو إلى أسفل والخشية عبارة عن انقيادها وقيل حقيقة وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله أفتطمعون خطاب للمؤمنين أن يؤمنوا يعني اليهود وتعدى باللام لما تضمن معنى الانقياد فريق منهم السبعون الذي يسمع كلام الله على الطور ثم حرفوه وقيل بنو إسرائيل حرفوا التوراة من بعد ما عقلوه وهم يعلمون بيان لقبح حالهم قالوا آمنا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود وقيل قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين ويسمعوا إلى أخبارهم أتحدثونهم توبيخ بما فتح الله عليكم فيه ثلاثة أوجه بما حكم عليهم من العقوبات وبما في كتبهم من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام وكل وجه حجة عليهم ولذلك قالوا ليحاجوكم به عند ربكم قيل في الآخرة وقيل أي في حكم ربكم وما أنزل في كتابه فعنده بمعنى حكمه أفلا تعقلون من بقية كلامهم توبيخا لقولهم ولا يعلمون

(1/97)


الآية من كلام الله ردا عليهم وفضيحة لهم ومنهم أميون أي الذين لا يقرؤن ولا يكتبون فهم لا يعلمون الكتاب والمراد قوم من اليهود وقيل من المجوس وهذا غير صحيح لأن الكلام كله من اليهود إلا أماني تلاوة بغير فهم أو أكاذيب وما تتمناه النفوس بأيديهم تحقيق لافترائهم ثمنا قليلا عرض الدنيا من الرياسة والرشوة وغير ذلك يكسبون من الدنيا أو هي الذنوب أياما ... 52
52 معدودة ) أربعين يوما عدد عبادتهم العجل وقيل سبعة أيام تخذتم الآية تقرير يقتضي إبطال بلى تحقيق لطول مكثهم في النار ولقولهم ما لا يعلمون من كسب سيئة الآية في الكفار لأنها رد على اليهود ولقوله بعدها والذين آمنوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار لا تعبدون إلا الله جواب لقسم يدل عليه الميثاق وقيل خبر بمعنى النهي ويرحجه قراءة لا يعبدون وقيل الأصل بأن لا تعبدوا ثم حذفت الباء وأن وبالوالدين يتعلق بإحسان أو بمحذوف تقديره أحسنوا ووكد بإحسانا وذي القربى القرابة اليتامى جمع يتيم وهو من فقد والده قبل البلوغ واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم فقدم الوالدين لحقهما الأعظم ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم ثم اليتامى لقلة حيلتهم ثم المساكين لا تسفكون دماءكم لا يسفك بعضكم دم بعض وإعرابه مثل لا تعبدون ولا تخرجون أنفسكم لا يخرج بعضكم بعضا ثم اقررتم بالميثاق واعترفتم بلزومه وأنتم تشهدون بأخذ الميثاق عليكم هؤلاء منصوب على التخصيص بفعل مضمر وقيل هؤلاء مبتدأ وخبره أنتم وتقتلون حالا لازمة تم بها المعنى تقتلون أنفسكم كانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه ويتقيه من موضعه إذا ظفر به تظاهرون أي تتفاوتون تفادوهم قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد وكذلك أسارى بالألف وحذفها جمع

(1/98)


أسير وهو محرم الضمير للإخراج من ديارهم وهو مبتدأ وخبره محرم وإخراجهم بدل والضمير للأمر والشأن وإخراجهم مبتدأ ومحرم خبره والجملة خبر الضمير أفتؤمنون ببعض الكتاب فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم وتكفرون ببعض القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم خزي الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم أو مطلق وقفينا ... 53
53 من بعده بالرسل ) أي جئنا من بعده بالرسل وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول بالبينات المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك روح القدس جبريل وقيل الإنجيل وقيل الإسم الذي كان يكنى به الموتى والأول أرجح لقوله قل نزله روح القدس ولقوله صلى الله عليه وسلم لحسان اللهم أيده بروح القدس تقتلون جاء مضارعا مبالغة لأنه أيد استحضاره في النفوس أو لأنهم حاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أن الله عصمه غلف جمع أغلف أي عليها غلاف وهو الغشاء فلا تفقهه بل لعنهم الله ردا عليهم وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم فقليلا أي إيمانا قليلا ما يؤمنون ما زائدة ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها لأن من دخل منهم في الإسلام قليل أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض كتاب من عند الله هو القرآن مصدق تقدم أن له ثلاثة معان يستفتحون أي ينتصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم المشركين قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقيل يستفتحون أي يعرفون الناس النبي صلى الله عليه وسلم والسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر وعلى الأول للطلب فلما جاءهم ما عرفوا القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم قال المبرد كفروا جوابا لما الأولى والثانية وأعيدت الثانية لطول الكلام ولقصد التأكيد وقال الزجاج كفروا جوابا لما الثانية وحذف جواب الأولى للاستغناء

(1/99)


عنه لذلك وقال الفراء جواب لما الأولى فلما وجواب الثانية كفر على الكافرين أي عليهم يعني اليهود ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم واللام للعهد أو للجنس فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار بئسما فاعل ليس مضمر وما مفسرة له وإن يكفروا هو المذموم وقال الفراء بئسما مركب كحبك وقال الكاسي ما مصدرية أي اشتراكهم فهي فاعله اشتروا هنا بمعنى باعوا أن يكفروا في موضع خبر ابتداء أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس أو مفعول من أجله أو بدل من الضمير في به بما أنزل الله القرآن أو التوراة لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أن ينزل في موضع مفعول من أجله من فضله القرآن والرسالة من يشاء يعني محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنهم إنما كفروا حسدا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما تفضل الله عليه بالرسالة بغضب على غضب لعبادتهم العجل أو لقولهم عزير ابن الله أو لغير ذلك من قبائحهم بما أنزل الله القرآن بما وراءه أي بما بعده ... 54

(1/100)


54 وهو القرآن فلم تقتلون ردا عليهم فيما ادعوا من الإيمان بالتوراة وتكذيب لهم وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به إن كنتم مؤمنين شرطية بمعنى القدح في إيمانهم وجوابها يدل عليه ما قبل أو نافية فيوقف قبلها والأول أظهر بالبينات يعني المعجزات كالعصا وفلق البحر وغير ذلك اتخذتم العجل ذكر هنا على وجه ألزم لهم والإبطال بقولهم نؤمن بما أنزل علينا وكذلك رفع الطور وذكر قبل هذا على وجه تعداد النعم لقوله ثم عفونا عنكم ولولا فضل الله عليكم ورحمته وعطفه بثم في الموضعين إشارة إلى قبح ما فعلوه من ذلك من بعده الضمير لموسى عليه السلام أي من بعد غيبته في مناجاة الله على جبل الطور سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك وعصينا أمرك ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال أو بلسان الحال وأشربوا عبارة عن تمكن حب العجل من قلوبهم فهو مجاز تشبيها بشرب الماء أو بشرب الصبغ في الصواب وفي الكلام محذوف أي أشربوا حب العجل وقيل إن موسى برد العجل بالمبرد ورمى برادته في الماء فشربوه فالشرب على هذا حقيقة ويرد هذا قوله في قلوبهم بكفرهم الباء سببية للتعليل أو بمعنى المصاحبة يأمركم إسناد الأمر إلى إيمانهم فهو مجاز على وجه التهكم فهو كقولك أصلاتك تأمرك كذلك إضافة الإيمان إليهم إن كنتم شرط أو نفي فتمنوا الموت بالقلب أو اللسان أو باللسان خاصة وهذا أمر على وجه التعجيز والتبكيت لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وروي أنهم لو تمنوا الموت لماتوا وقيل إن ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم دامت طول حياته ولن يتمنوه إن قيل لم قال في هذه السورة ولن يتمنوه وفي سورة الجمعة ولا يتمنونه فنفى هنا بلن وفي الجمعة بلا فقال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير الجواب أنه لما كان الشرط في المغفرة مستقبلا وهو قوله إن كانت لكم الدار الآخرة خالصة جاءت

(1/101)


جوابه بلن التي تخلص الفعل للاستقبال ولما كان الشرط في الجمعة حالا وهو قوله إن زعمتم أنكم أولياء لله جاء جوابه بلا التي تدخل على الحال أو تدخل على المستقبل بما قدمت أي لسبب ذنوبهم وكفرهم عليم بالظالمين تهديد لهم ومن الذين أشركوا فيه وجهان أحدهما أن يكون عطفا على ما قبله فيوصل به والمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين اشركوا فحمل على المعنى كأنه قال أحرص من الناس ومن الذين أشركوا وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة بإفراط حبهم للحياة الدنيا والآخر أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله والمعنى من الذين أشركوا قوم يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فحذف الموصوف وقيل أراد به المجوس لأنهم يقولون لملوكهم عش ... 55

(1/102)


55 ألف سنة والأول أظهر لأن الكلام إنما هو في اليهود وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم وما هو بمزحزحه الآية فيها وجهان أحدهما أن يكون هو عائد على أحدهم وأن يعمر فاعل لمزحزحه والآخر أن يكون هو للتعمير وأن يعمر بدل من كان عدوا لجبريل الآية سببها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم جبريل عدونا لأنه ملك الشدائد والعذاب فلذلك لا نؤمن به ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك لأنه ملك الأمطار والرحمة فإنه نزله فيه وجهان الأول فإن الله نزل جبريل والآخر فإن جبريل نزل القرآن وهذا أظهر لأن قوله مصدقا لما بين يديه من أوصاف القرآن والمعنى الرد على اليهود بأحد وجهين أحدهما من كان عدوا لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه لأنه نزله على قلبك فهو مستحق للمحبة ويؤكد هذا قوله وهدى وبشرى والثاني من كان عدوا لجبريل فإنما عاداه لأنه نزله على قلبك فكان هذا تعليل لعداوتهم لجبريل وجبريل وميكائيل ذكرا بعد الملائكة تجديدا للتشريف والتعظيم أو كلما الواو للعطف قال الأخفش زائدة نبذه فريق منهم نزلت في مالك بن الصيف اليهودي وكان قد قال والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد رسول يعني محمدا صلى الله عليه وسلم كتاب الله يعني القرآن أوالتوراة لما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أو المتقدمين ما تتلو هو من القراءة أو الاتباع على ملك أي في ملك أو عهد ملك سليمان وما كفر سليمان تبرئه له مما نسبوه إليه وذلك أن سليمان عليه السلام دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته ونسبوه إليه وقالت اليهود إنما كان سليمان ساحرا وقيل إن الشياطين استرقوا السمع وألقوه إلى الكهان فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك ودفنه فلما مات قالوا ذلك علم سليمان وما كفر سليمان بتعليم السحر وبالعمل به أو بنسبته إلى سليمان عليه السلام وما أنزل نفي أو عطف على السحر عليهما إلا أن ذلك يرده آخر الآية وإن كانت معطوفة بمعنى الذي

(1/103)


فالمعنى أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاء من الله لعباده أو ليعرف فيحذر وقرىء الملكين بكسر اللام وقال الحسن هما علجان فعلى هذا يتعين أن تكون ما غير نافية ببابل موضع معروف هاروت وماروت اسمان علمان بدل من الملكين أو عطف بيان إنما نحن فتنة أي محنة وذلك تحذير من السحر فلا تكفر أي بتعليم السحر ومن هنا أخذ مالك أن الساحر يقتل كفرا يفرقون زوال العصمة ... 56
56 أو المنع من الوطء يضرهم أي في الآخرة علموا أن اليهود والشياطين أي اشتغلوا به وذكر الشرى لأنهم كانوا يعطون الأجرة عليه شروا هنا بمعنى باعوا لمثوبة من الثواب وهو جواب لو أنهم وإنما جاء جوابها بجملة إسمية وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره وقيل الجواب محذوف أي لأثيبوا لو كانوا يعلمون في الموضعين نفي لعلمهم لا تقولوا راعنا كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله راعنا وذلك من المراعاة أي راقبنا وانظرنا فكان اليهود يقولونها ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي صلى الله عليه وسلم وربما كانوا يقولونها على معنى النداء فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود فالنهي سدا للذريعة وأمروا أن يقولوا انظرنا لخلوه عن ذلك الاحتمال المذموم فهو من النظر والانتظار وقيل إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير واسمعوا عطف على قولوا لا على معمولها والمعنى الأمر بالطاعة والانقياد ما يود الذين كفروا جنس يعم نوعين أهل الكتاب والمشركين من العرب ولذلك فسره بهما ومعنى الآية أنهم لا يحبون أن ينزل الله خيرا على المسلمين من خير من للتبعيض وقيل زائدة لتقدم النفي في قوله ما يود برحمته قيل القرآن وقيل النبوة وللعموم أولى ومعنى الآية الرد على من كره الخير للمسلمين ما

(1/104)


ننسخ نزل حكمه ولفظه أو أحدهما وقرىء بضم النون أي نأمر بنسخه أو ننسها من النسيان وهو ضد الذكر أي ينساها النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله كقوله سنقرؤك فلا تنسى إلا ما شاء الله أو بمعنى الترك أي نتركها غير منزلة أي غير منسوخة وقرىء بالهمز بمعنى التأخير أي نؤخر إنزالها أو نسخها بخير في خفة العمل أو في الثواب قدير استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات خلافا لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه على الله وهو جائز عقلا وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها تسألوا رسولكم أي تطلبوا الآيات ويحتمل السؤال عن العلم والأول أرجح لما بعده فإنه شبهه بسؤالهم لموسى وهو قولهم له أرنا الله جهرة ود كثير من ... 57

(1/105)


57 أهل الكتاب ) أي تمنوا ونزلت الاية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر وأشباههما من اليهود الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين ويطمعون أن يردوهم عن الإسلام حسدا مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال والعامل فيه ما قبله فيجب وصله معه وقيل هو مصدر والعامل فيه محذوف تقديره يحسدونكم حسدا فعلى هذا يوقف على ما قبله والأول أظهر وأرجح من عند أنفسهم يتعلق بحسدا وقيل بيود فاعف منسوخ بالسيف بأمره يعني إباحة قتالهم أو وصول آجالهم وقالوا لن يدخل الجنة الآية أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا هودا يعني اليهود وهذه الكلمة جمع هايد أو مصدر وصف به وقال الفراء حذفت منه يا هودا على غير قياس أمانيهم أكاذيبهم أو ما يتمنونه هاتوا أمر على وجه التعجيز والرد عليهم وهو من هاتي يهاتي ولم ينطق به وقيل أصله آتوا وأبدل من الهمزة هاء بلى إيجاب لما نفوا أي يدخلها من ليس يهوديا ولا نصرانيا من أسلم وجهه لله أي دخل في الإسلام وأخلص وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان وقالت اليهود الآية سببها اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة قدمت كل طائفة الأخرى وهم يتلون تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب الذين لا يعلمون المشركون من العرب لأنهم لا كتاب لهم منع مساجد الله لفظه الاستفهام ومعناه لا أحد أظلم منه حيث وقع قريش منعت الكعبة أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم خائفين في حق قريش لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحج بعد هذا العام مشرك وفي حق النصارى ضربهم عند بيت المقدس أو الجزية خزي في حق قريش غلبتهم وفتح مكة وفي حق النصارى فتح بيت المقدس أو الجزية فأينما تولوا في الحديث الصحيح أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت وقيل هي في نفل المسافر حيث ما توجهت به دابته وقيل هي راجعة إلى

(1/106)


ما قبلها أي إن منعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم وقيل إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة فهي كقوله بعد هذا قل لله المشرق والمغرب الآية والقول الأول هو الصحيح ويؤخذ منه أن من ... 58
58 أخطأ القبلة فلا تجب عليه الإعادة وهو مذهب مالك وجه الله المراد به هنا رضاه كقوله ابتغاء وجه الله أي رضاه وقيل معناه الجهة التي وجهه إليها وأما قوله كل شيء هالك إلا وجهه ويبقى وجه ربك فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف ويرد علمه إلى الله وقال الأصوليين هو عبارة عن الذات أو عن الوجود وقال بعضهم هو صفة ثابتة بالسمع وقالوا اتخذ قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت الصابئون وبعض العرب الملائكة بنات الله سبحانه تنزيه لهم عن قولهم بل له الآية رد عليهم لأن الكل ملكه والعبودية تنافي النبوة قانتون أي طائعون منقادون بديع السموات أي مخترعها وخالقها ابتداء وإذا قضى أمرا أي قدره وأمضاه قال ابن عطية يتحد في الآية المعنيان فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد قلت لا يكون قضى هنا بمعنى قدر لأن القدرقديم وإذا تقتضي الحدوث والاستقبال وذلك يناقض القدم وإنما قضى هنا بمعنى أمضى أو فعل أو وجد كقوله فقضاهن سبع سموات وقد قيل إنه بمعنى ختم الأمر وبمعنى حكم والأمر هنا بمعنى الشيء وهو واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر فإنما يقول له كن فيكون قال الأصوليون هذا عبارة عن تعود قدرة الله تعالى وليس بقول حقيقي لأنه إن كان قول كن خطابا للشيء في حال عدمه لم يصح لأن لمعدوم لم يخاطب وإن كان خطابا في حال وجوده لأنه قد كان وتحصيل الحاصل غير مطلوب وحمله المفسرون على حقيقته وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة أحدها أن الشيء الذي يقول له كن فيكون هو موجود في علم الله وإنما يقول له كن ليخرجه إلى العيان

(1/107)


لنا والثاني أن قوله كن لا يتقدم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه قاله الطبري والثالث أن ذلك خطابا لمن كان موجودا على حاله فيأمر بأن يكون على حالة أخرى كإحياء الموتى ومسخ الكفار وهذا ضعيف لأنه تخصيص من غير مخصص والرابع أن معنى يقول له يقول من أجله فلا يلزم خطابه والأول أحسن هذه الأجوبة وقال ابن عطية تلخيص المعتقد في هذه الآية أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجىء بعد أن لم تكن فيكون رفع على الاستثناء قال سيبويه معناه فهو يكون قال غيره يكون عطف على يقول واختاره الطبري وقال ابن عطية وهو فاسد من جهة المعنى ويقتضي أن القول مع التكوين والوجود وفي هذا نظر وقال الذين لا يعلمون هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح وقيل هم اليهود والنصارى لولا يكلمنا الله لولا هنا عرض والمعنى أنهم قالوا لن نؤمن حتى يكلمنا الله أو تأتينا آية أي دلالة من المعجزات كقولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وما بعده كذلك قال الذين من قبلهم يعني اليهود والنصارى على القول بأن الذين لا يعلمون كفار العرب وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى فالذين من قبلهم هم أمم الأنبياء المتقدمين تشابهت قلوبهم الضمير للذين لا يعلمون وللذين من قبلهم وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ... 59

(1/108)


59 ما لا يصح أن يطلب وهو كقولهم لولا يكلمنا الله قد بينا الآيات أخبر تعالى أنه قد بين الآيات لعنادهم إنا أرسلناك بالحق خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بالحق التوحيد وكل ما جاءت به الشريعة بشيرا ونذيرا تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكافرين بالنار وهذا معنى حديث وقع ولا تسأل بالجزم نهي وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت وقيل إن ذلك على معنى التهويل كقولك لا تسأل عن فلان لشدة حاله وقرأ غير نافع بضم التاء واللام أي لا تسأل في القيامة عن ذنوبهم ملتهم ذكرها مفردة وإن كانت ملتين لأنهما متفقتان في الكفر فكأنهما ملة واحدة قل إن الهدى هدى الله لا ما عليه اليهود والنصارى والمعنى أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي لأنه هدى من عند الله بخلاف ما يدعيه اليهود والنصارى ولئن اتبعت أهواءهم جمع هوى ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة والأقوال المضلة لأنهم اتبعوها بغير حجة بل بهوى النفوس والضمير لليهود والنصارى والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن علم الله أنه لا يتبع أهواءهم ولكن قال ذلك على وجه التهديد لو وقع ذلك فهو على معنى الفرض والتقدير ويحتمل أن يكون خطابا له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره الذين آتيناهم الكتاب يعني المسلمين والكتاب على هذا القرآن وقيل هم من أسلم من بني إسرائيل والكتاب على هذا التوراة ويحتمل العموم ويكون الكتاب اسم جنس يتلونه حق تلاوته أي يقرؤونه كما يجب من التدبر له والعمل به وقيل معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والأولى أظهر فإن التلاوة وإن كانت تقال بمعنى القراءة وبمعنى الاتباع فإنه أظهر في معنى القراءة لا سيما إذا كانت تلاوة الكتاب ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ويكون الخبر أولئك يؤمنون وهذا أرجح لأن مقصود الكلام الثناء عليهم بالإيمان أو إقامة الحجة

(1/109)


بإيمانهم على غيرهم ممن لم يؤمن يا بني إسرائيل الآية تقدم الكلام على نظيرتها وإذا تتلى أي اختبر فالعامل في إذ فعل مضمر تقديره اذكر وقوله بكلمات قيل مناسك الحج وقيل خصال الفطرة العشرة وهي المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وإعفاء اللحية وقص الأظافر ونتف الإبطين وحلق العانة والختان والاستنجاء وقيل هي ثلاثون خصلة عشرة ذكرت في براءة من قوله التائبون العابدون وعشرة في الأحزاب من قوله إن المسلمين والمسلمات وعشرة في المعارج من قوله إلا المصلين فأتمهن أي عمل بهن ومن ذريتي ... 60

(1/110)


60 استفهام أو رغبة عهدي الإمامة البيت الكعبة مثابة اسم مكان من قولك ثاب إذا رجع لأن الناس يرجعون إليه عاما بعد عام واتخذوا بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم عليه السلام وبالكسر إخبار لهذه الأمة وافق قول عمر رضي الله عنه لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى وقيل أمر لإبراهيم وشيعته وقيل لبني إسرائيل فهو على هذا عطف على قوله اذكروا نعمتي وهذا بعيد من مقام إبراهيم هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة وقيل المسجد الحرام وعهدنا عبارة عن الأمر والوصية طهرا بيتي عبارة عن بنيانه بنية خالصة كقوله أسس على التقوى وقيل المعنى طهراه عن عبادة الأصنام للطائفين هم الذين يطوفون بالكعبة وقيل الغرباء القادمون على مكة والأول أظهر والعاكفين هم المعتكفون في المسجد وقيل المصلون وقيل المجاورون من الغرباء وقيل أهل مكة والعكوف في اللغة اللزوم بلدا يعني مكة آمنا أي مما يصيب غيره من الخسف والعذاب وقيل آمنا من إغارة الناس على أهله لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة وهذا أرجح لقوله أولم نمكن لهم حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم فإن قيل لم قال في البقرة بلدا آمنا فعرف في إبراهيم ونكر في البقرة أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة الجواب الأول قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير وهو أنه تقدم في البقرة ذكر البيت في قوله القواعد من البيت وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه فلم يحتج إلى تعريف بخلاف آية إبراهيم فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد ولا المعرفة به فذكره بلام التعريف الجواب الثاني قاله السهبلي وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم لأنها مكية فلذلك قال فيه البلد بلام التعريف التي للحضور كقولك هذا الرجل وهو حاضر بخلاف آية البقرة فإنها مدنية ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها فلم يعرفها بلام الحضور

(1/111)


وفي هذا نظر لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة الجواب الثالث قاله بعض المشارقة أنه قال هذا بلد آمنا قبل أن يكون بلدا فكأنه قال اجعل هذا الموضع بلدا آمنا وقال هذا البلد بعد ما صار بلدا وهذا يقتضي أن ابراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين والظاهر أنه مرة واحدة حكى لفظه فيها على وجهين من آمن بدل بعض من كل ومن كفر أي قال الله وأرزق من كفر لأن الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر ربنا تقبل منا على حذف القول أي يقولان ذلك وأرنا مناسكنا علمنا موضع الحج وقيل العبادات فيهم أي في ذريتنا رسولا منهم هو محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا دعوة أبي إبراهيم والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل وهم العرب الذين من نسل عدنان وأما الذين من قحطان فاختلف هل هم من ذرية إسماعيل أم لا آياتك ... 61

(1/112)


61 هنا القرآن والحكمة هنا هي السنة ويزكيهم أي يطهرهم من الكفر والذنوب سفه نفسه منصوب على التشبيه بالمفعول به وقيل الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب وقيل تمييز وأوصى بها أي بالكلمة والملة ويعقوب بالرفع عطف على إبراهيم فهو موصى وقرىء بالنصب عطفا على نبيه فهو موصى أم كنتم أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار وإسماعيل كان عمه والعم يسمى ايا وقالوا كونوا أي قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى بل ملة منصوب بإضمار فعل لا نفرق أي لا نؤمن بالبعض دون البعض وهذا برهان لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبي فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض فسيكفيكهم وعد ظهر مصداقه فقتل بني قريظة وأجلي بني النضير وغير ذلك صبغة الله أي دينه وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره ونصبه على الإغراء وعلى المصدر من المعاني المتقدمة أو بدل من ملة إبراهيم كتم شهادة من الشهادة بأن الأنبياء على الحنيفية من الله يتعلق بكتم أو كأن المعنى شهادة تخلصت له من الله سيقول ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه إلا أن ابن عباس قال نزلت بعد ... 62

(1/113)


62 قولهم السفهاء هنا اليهود أو المشركون أو المنافقون ما ولاهم أي ما ولى المسلمين عن قبلتهم الأولى وهي بيت المقدس إلى لكعبة لله المشرق والمغرب الآية ردا عليهم لأن الله يحكم ما يريد ويولي عباده حيث شاء لأن الجهات كلها له وكذلك بعد ما هديناكم جعلناكم أمة وسطا أي خيارا شهداء على الناس أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم عليكم شهيدا أي بأعمالكم قال عليه الصلاة والسلام أقول كما قال أخي عيسى وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم الآية فإن قيل لم قدم المجرور في قوله عليكم شهيدا وآخره في قوله شهداء على الناس فالجواب أن تقديم المعمولات يفيد الحصر فقدم المجرور في قوله عليكم شهيدا لاختصاص شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ولم يقدمه في قوله شهداء على الناس لأنه لم يقصد الحصر القبلة التي كنت عليها فيها قولان أحدهما أنها الكعبة وهو قول ابن عباس والآخر هو بيت المقدس وهو قول قتادة وعطاء والسدي وهذا مع ظاهر قوله كنت عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ثم انصرف عنه إلى الكعبة وأما قول ابن عباس فتأويله بوجهين الأول أن كنت بمعنى أنت والثاني قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى الكعبة قبل بيت المقدس وإعراب التي كنت عليها مفعول بجعلنا أو صفة للقبلة ومعنى الآية على القولين اختبار وفتنة للناس بأمر القبلة وأما على قول قتادة فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب لأنهم كانوا يعظمون الكعبة أو فتنة لمن أنكر تحويلها وتقديره على هذا ما جعلنا صرف القبلة أما على قول ابن عباس فإن الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود لأنهم يعظمون بيت المقدس وهم مع ذلك ينكرون النسخ فأنكروا صرف القبلة أو فتنة لضعفاء المسلمين حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة لنعلم أي العلم الذي تقوم به الحجة على العبد وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه

(1/114)


الله ينقلب على عقبيه عبارة عن الارتداد عن الإسلام وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء وإن كانت إن مخففة من الثقيلة واسم كان ضمير الفعلة وهي التحول عن القبلة إيمانكم قيل صلاتكم إلى بيت المقدس واستدل به من قال إن الأعمال من الإيمان وقيل معناه ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة تقلب وجهك كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة شطر المسجد جهة وما أنت بتابع قبلتهم خبر يتضمن النهي ووحدت قبلتهم وإن كانت جهتين لاتحادهم في البطلان وما بعضهم بتابع قبلة بعض لأن ... 63

(1/115)


63 اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب والنصارى المشرق يعرفونه أي يعرفون القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر القبلة كما يعرفون أبناءهم مبالغة في وصف المعرفة وقال عبد الله بن سلام معرفتي بالنبي صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني لأن ابني قد يمكن فيه الشك ولكل أي لكل أحد أو لكل طائفة وجهة أي جهة ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان وقيل إنه مصدر وثبت فيه الواو على غير قياس هو موليها أي موليها وجهه وقرىء مولاها أي ولاه الله إليها والمعنى أن الله جعل لكل أمة قبلة فاستبقوا الخيرات أي بادروا إلى الأعمال الصالحات يأت بكم الله أي يبعثكم من قبوركم فول وجهك الأمر كرر للتأكيد أو ليناط به ما بعده لئلا يكون للناس الاية معناها أن الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس فإن أريد اليهود فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحول إلى الكعبة فلما صلى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين وإن أريد قريش فحجتهم أنهم قالوا قبلة آبائه أولى به إلا الذين ظلموا أي من يتكلم بغير حجة ويعترض التحول إلى الكعبة والاستثناء متصل لأنه استثناء من عموم الناس ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة ولأتم متعلق بمحذوف أي فعلت ذلك لأتم أو معطوف على لئلا يكون كما أرسلنا متعلق بقوله لأتم أو بقوله فاذكروني والأول أظهر فاذكروني أذكركم قال سعيد بن المسيب معناه اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب وقيل اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك وقد أكثر المفسرون ولا سيما المتصوفة في تفسير هذا الموضع بألفاظ لها معاني مخصوصة ولا دليل على التخصيص وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر وبينها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يرويه عن ربه أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني

(1/116)


في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم والذكر ثلاثة أنواع ذكر بالقلب وذكر باللسان وبهما معا واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة ... 64
64 وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال كالصلاة وغيرها فإن ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه الأول النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال ذكر الله قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله فقال لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما لكان الذاكر أفضل منه الوجه الثاني أن الله تعالى حيث ما أمر بالذكر أو أثنى على الذكر اشترط فيه الكثرة فقال اذكروا الله ذكرا كثيرا والذاكرين الله كثيرا ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال الوجه الثالث أن للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره وهي الحضور في الحضرة العلية والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية فإن الله تعالى يقول أنا جليس من ذكرني ويقول أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني وللناس في المقصد بالذكر مقامان فمقصد العامة اكتساب الأجور ومقصد الخاصة القرب والحصور وما بين المقامين بون بعيد فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة فمنها التهليل والتسبيح والتكبير والحمد والحوقلة والحسبلة وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار وغير ذلك ولكل ذكر خاصيته وثمرته وأما التهليل فثمرته التوحيد أعني التوحيد الخاص فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن وأما التكبير فثمرته

(1/117)


التعظيم والإجلال لذي الجلال وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك فثمرتها ثلاث مقامات وهي الشكر وقوة الرجاء والمحبة فإن المحسن محبوب لا محالة وأما الحوقلة والحسبلة فثمرتهما التوكل على الله والتفويض إلى الله والثقة بالله وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك فثمرتها المراقبة وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فثمرتها شدة المحبة فيه والمحافظة على اتباع سنته وأما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى والمحافظةعلى شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدمة ثم إن ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا الله الله فهذا هو الغاية وإليه المنتهى استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين أي بمعونته ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات قيل إنها نزلت في الشهداء المقتولين في غزوة بدر وكانوا أربعة عشر رجلا لما قتلوا حزن عليهم أقاربهم فنزلت الآية مبينه لمنزلة الشهداء عند الله وتسلية لأقاربهم ولا يخصها نزولها ... 65

(1/118)


65 فيهم بل حكمها على العموم في الشهداء ولنبلونكم أي نختبركم وحيث ما جاء الاختبار في حق الله فمعناه أن يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد وليس كاختبار الناس بعضهم بعضا لأن الله يعلم ما كان وما يكون والخطاب بهذا الابتلاء للمسلمين وقيل لكفار قريش والأول أظهر لقوله بعد هذا وبشر الصابرين بشيء من الخوف من الأعداء والجوع بالجدب ونقص من الأموال بالخسارة والأنفس والثمرات بالجوائح وقيل ذلك كله بسبب الجهاد إنا لله اللام للملك والمالك يفعل في ملكه ما يشاء راجعون تذكروا الآخرة لتهون عليهم مصائب الدنيا وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أصابته مصيبة فقال إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها أخلف الله له خيرا مما أصابه قالت أم سلمة فلما مات زوجي أبو سلمة قلت ذلك فأبدلني الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فائدة ورد ذكر الصبر من القرآن في أكثر من سبعين موضعا وذلك لعظمة موقعه في الدين قال بعض العلماء كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة أولها المحبة قال والله يحب الصابرين والثاني النصر قال إن الله مع الصابرين والثالث غرفات الجنة قال يجزون الغرفة بما صبروا والرابع الأجر الجزيل قال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية ففيها البشارة قال وبشر الصابرين والصلاة والرحمة والهداية أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون والصابرون على أربعة أوجه صبر على البلاء وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان وعدم التكبر بها وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام

(1/119)


عليها وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها وفوق الصبر التسليم وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهرا وترك الكراهة باطنا وفوق التسليم الرضا بالقضاء وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة وكل ما يفعل المحبوب محبوب إن الصفا والمروة جبلان صغيران بمكة من شعائر الله أي معالم دينه واحدها شعيرة أو شعارة فلا جناح عليه إباحة للسعي بين الصفا والمروة والسعي بينهما واجب عند مالك والشافعي وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهم لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك ثم إن السعي بينهما للسنة قالت عائشة رضي الله عنها سن رسول الله صلى الله عليه وسلم السعي بين ... 66

(1/120)


66 الصفا والمروة وليس لأحد تركه وقيل إن الوجوب يؤخذ من قوله شعائر الله وهذا ضعيف لأن شعائر الله منها واجبة ومنها مندوبة وقد قيل إن السعي مندوب يطوف أصله يتطوف ثم أدغمت التاء في الطاء وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط ومن تطوع عاما في أفعال البر وخاصة في الوجوب من السنة أو معنى التطوع بحج بعد حج الفريضة إن الذين يكتمون أمر محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب التوراة هنا اللاعنون الملائكة والمؤمنون وقيل المخلوقات إلا الثقلين وقيل البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق وبينوا أي شرط في توبتهم أن يبينوا لأنهم كتموا والناس أجمعين هم المؤمنون فهو عموم يراد به الخصوص لأن المؤمنين هم الذين يعتد بلعنهم للكافرين وقيل يلعنهم جميع الناس خالدين فيها أي في اللعنة وقيل في النار لا هم ينظرون من أنظر إذا أخر أي لا يؤخرون عن العذاب ولا يمهلون أو من نظر لقوله لا ينظر إليهم إلا أن يتعدى بإلى وإلهكم إله واحد الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى أحدها أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد والآخر أنه لا شريك له والثالث أنه لا يتبعض ولا ينقسم وقد فسر المراد به هنا في قوله لا إله إلا هو واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولي توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا وينجي من الخلود في النار في الآخرة وهو نفي الشركاء والأنداد والصاحبة والأولاد والأشباه والأضداد الدرجة الثانية توحيد الخاصة وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق فلا يرجو إلا الله ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلا إياه ويرى جميع

(1/121)


الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب والدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات حتى كأنها عنده معدومة وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه وعن توحيده أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله إن في خلق السموات والأرض الآية ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيها على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله وإلهكم إله واحد واختلاف الليل والنهار أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر وقيل إن أحدهما يخلف الاخر بما ينفع الناس من التجارة وغيرها وتصريف الرياح إرسالها من جهات ... 67

(1/122)


67 مختلفة وهي الجهات الأربع وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة بالشجر وعقيم وصر وللنصر وللهلاك والذين آمنوا أشد حبا لله
اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين إحداهما المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن وهي واجبة والأخرى المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون والأولياء والأصفياء وهي أعلى المقامات وغاية المطلوبات فإن سائر مقامات الصالحين كالخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة واعلم أن سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوة المعرفة وتضعف على قدر ضعف المعرفة فإن الموجب للمحبة إحدى أمرين وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال الموجب الأول الحسن والجمال والآخر الإحسان والإجمال فأما الجمال فهو محبوب بالطبع فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن والإجمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار التي تروق العقول وتهيج القلوب وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر لا بالأبصار وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي والمؤمن والكافر وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه وهو المستحق للمحبة وحده واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجد في طاعته والنشاط لخدمته والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته والرضا بقضائه والشوق إلى لقائه والأنس بذكره والاستيحاش من غيره والفرار من الناس والانفراد في الخلوات وخروج الدنيا من القلب ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه قال الحارث المحاسبي المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك

(1/123)


ثم إيثارك له على نفسك وروحك ثم موافقته سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه ولو ترى من رؤية العين والذين ظلموا مفعول وجواب لو محذوف وهو العامل في أن التقدير لو ترى الذين ظلموا لعلمت أن القوة لله أو لعلموا أن القوة لله والقوي بالياء وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب والذين ظلموا فاعل وأن القوة مفعول يرى وجواب لو محذوف والتقدير لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله لندموا ولاستعظموا ما حل بهم إذ تبرأ بدل من إذ يرون أو استئناف والعامل فيه محذوف وتقديره اذكر الذين اتبعوا هم الآلهة أو الشياطين أو الرؤساء من الكفار والعموم أولى الأسباب هنا الوصلات من الأرحام والمودات أعمالهم حسرات أي سيادتهم وقيل حسنتهم إذا لم تقبل ... 68

(1/124)


68 منهم أو ما عملوا لآلهتهم كلوا أمر محمول على الإباحة حلالا حال مما في الأرض أو مفعول بكلوا أو صفة لمفعول محذوف أي سيئا حلالا طيبا يحتمل أن يريد الحلال خطوات الشيطان ما يأمر به وأصله من خطوت الشيء وقال المنذر بن سعيد يحتمل أن يكون من الخطيئة ثم سهلت همزته وقريء بضم الطاء وإسكانها وهي لغتان بالسوء والفحشاء المعاصي وأن تقولوا الإشراك وتحريم الحلال كالبحيرة وغير ذلك أولو كان آباؤهم ردا على قولهم بل نتبع الآية في كفار العرب وقيل في اليهود أنهم يتبعونهم ولو كانوا لا يعقلون فدخلت همزة الإنكار على واو الحال ومثل الذين كفروا الآية في معناها قولان الأول تشبيه الذين كفروا بالبهائم لقلة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم ولا بد في هذا من محذوف وفيه وجهان أحدهما أن يكون المحذوف أول الآية والتقدير مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان كمثل الذي ينعق أي يصيح بما لا يسمع وهي البهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء ولا يعقل معنى والآخر أن يكون المحذوف بعد ذلك والتقدير مثل الذين كفروا كمثل مدعو الذي ينعق ويكون دعاء ونداء على الوجهين مفعولا يسمع والنعيق هو زجر الغنم والصياح عليها فعلى هذا القول شبه الكفار بالغنم وداعيهم بالذي يزجرها وهو يصيح عليها الثاني تشبيه الذين كفروا في دعائهم وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع لأن الأصنام لا تسمع شيئا ويكون دعاء ونداء على هذا منعطف أي أن الداعي يتعب نفسه بالدعاء أو النداء لمن لم يسمعه من غير فائدة فعلى هذا شبه الكفار بالنعق صم وما بعده راجع إلى الكفار وذلك غير التآويل الأول ورفعوا على إضمار مبتدأ واشكروا الآية دليل على وجوب الشكر لقوله إن كنتم إياه تعبدون الميتة ما مات حتف أنفه وهو عموم خص منه الحوت والجراد وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت ومنعه أبو حنيفة ومنع مالك الجراد حتى تسيب في بيوتها

(1/125)


بقطع عضو منها أو وضعها في الماء وغير ذلك وأجازه عبد الحكم دون ذلك والدم يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم ولحم الخنزير هو حرام سواء ذكى أو لم يذك وكذلك شحمه بإجماع وإنما خص اللحم بالذكر لأنه الغالب في الأكل ولأن الشحم تابع له وكذلك من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث بخلاف العكس وما أهل به أي صيح لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له ثم استعمل في النية في الذبح لغير الله الأصنام وشبهها اضطر بالجوع أو بالإكراه وهو مشتق من الضرورة ووزنه افتعل وأبدل من التاء طاء غير باغ ولا عاد قيل باغ على المسلمين وعاد عليهم ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه ... 69

(1/126)


69 للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة والمشهور عنه الترخيص له وقيل غير باغ باستعمالها من غير إضرار وقيل باغ أي متزايد على إمساك رمقه ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة قال مالك بل يشبع ويتزود فلا إثم عليه رفع للحرج ويجب على المضطر أكل الميتة لئلا يقتل نفسه بالجوع وإنما تدل الآية على الإباحة لا على الوجوب وقد اختلف هل يباح له ميتة بني آدم أم لا فمنعه مالك وأجازه الشافعي لعموم الآية إن الذين يكتمون اليهود ما يأكلون في بطونهم إلا النار أي أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار فوضع السبب موضع المسبب وقيل يأكلون النار في جهنم حقيقة ولا يكلمهم الله عبارة عن غضبه عليهم وقيل لا يكلمهم بما يحبون ولا يزكيهم لا يثني عليهم فما أصبرهم على النار تعجب من جرأتهم على ما يقودهم إلى النار أو من صبرهم على عذاب النار في الآخرة وقيل إنها استفهام وأصبرهم بمعنى صبرهم وهذا بعيد وإنما حمل قائله عليه اعتقاده أن التعجب مستحيل على الله لأنه استعظام خفي سببه وذلك لا يلزم فإنه في حق الله غير خفي السبب ذلك إشارة إلى العذاب ورفعه بالابتداء أو بفعل مضمر بأن الله الباء سببية نزل الكتاب القرآن هنا بالحق أي بالواجب أو بالإخبار الحق أي الصادق والباء فيه سببية أو للمصاحبة الذين اختلفوا في الكتاب اليهود والنصارى والكتاب على هذا التوراة والإنجيل وقيل الذين اختلفوا العرب والكتاب على هذا القرآن ويحتمل جنس الكتاب في الموضعين في شقاق بعيد أي بعيد من الحق والاستقامة ليس البر الآية خطاب لأهل الكتاب لأن المغرب قبلة اليهود والمشرق قبلة النصارى أي إنما البر التوجه إلى الكعبة وقيل خطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة خاصة بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا ولكن البر من آمن لا يصح أن يكون خبرا عن البر فتأويله لكن صاحب البر من آمن أو لكن البر بر من آمن أو يكون البر

(1/127)


مصدرا وصف به وآت المال صدقة التطوع وليست بالزكاة لقوله بعد ذلك وآتي الزكاة على حبه الضمير عائد على المال لقوله ويؤثرون على أنفسهم الآية وهو الراجح من طريق المعنى وعود الضمير على الأقرب وهو على هذا تتميم وهو من أدوات البيان وقيل يعود على مصدر آتي وقيل على الله ذوي القربى وما بعده ترتيب بتقديم الأهم فالأهم والأفضل لأن الصدقة على القرابة صدقة وصلة بخلاف من بعدهم ثم اليتامى لصغرهم وحاجتهم ثم المساكين للحاجة خاصة وابن السبيل الغريب وقيل الضعيف والسائلين وإن كانوا غير محتاجين وفي الرقاب عتقها والموفون بعهدهم أي العهد مع الله ومع الناس والصابرين نصب بإضمار فعل في البأساء ... 70

(1/128)


70 الفقر والضراء المرض وحين البأس القتال صدقوا في القول والفعل والعزيمة كتب عليكم القصاص أي شرع لكم وليس بمعنى فرض لأن ولي المقتول مخير بين القصاص والدية والعفو وقيل بمعنى فرض أي فرض على القاتل الانقياد على القصاص وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره كفعل الجهلة وعلى الحاكم التمكين من القصاص الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ظاهره اعتبار التساوي بين القاتل والمقتول في الحرية والذكورية ولا يقتل حر بعبد ولا ذكر بأنثى إلا أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى وزاد قوم أن يعطى أولياءها حينئذ نصف الدية لأولياء الرجل المقتصر منه خلاف لمالك وللشافعي وأبو حنيفة وأما قتل الحر بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافا لمالك والشافعي فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية لا في الذكورية ولا في الحرية لأنها عنده منسوخة وأخذ مالك بظاهرها في الحرية كما في الذكورية وتأويلها عنده أن قوله الحر بالحر والعبد بالعبد عموم يدخل فيه الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى والأنثى بالذكر والذكر بالأنثى ثم كرر قوله الأنثى بالأنثى تأكيدا للتجديد لأن بعض العرب إذا قتل منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرا وعدوانا وقد يتوجه قول مالك على نسخ جميعها ثم يكون عدم قتل الحر بالعبد من السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل حر بعبد والناسخ لها على القول بالنسخ عموم قوله النفس بالنفس على أن هذا ضعيف لإنه إخبار عن حكم بني إسرائيل فمن عفى له الآية فيها تأويلان أحدهما أن المعنى من قتل منفي عنه فعليه أداء الدية بإحسان وعلى أولياء المقتول اتباعه بها على وفاء فعلى هذا من كناية عن القاتل وأخوه هو المقتلول أو وليه وعفى من العفو عن القصاص وأصله أن يتعدى بعن وإنما تعدى هنا باللام لأنه كقولك تجاوزت لفلان عن ذنبه وعلى الثاني أن من أعطيته الدية فعليه اتباع المعروف وعلى القاتل أداء بإحسان فعلى هذا

(1/129)


من كناية عن أولياء المقتول وأخوه هو القاتل أو عاقلته وعفى بمعنى يسر كقوله خذ العفو أي ما تيسر ولا إشكال في تعدي عفى باللام على هذا المعنى ذلك تخفيف إشارة إلى جواز أخذ الدية لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية وإنما هو القصاص فمن اعتدى أي قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية عذاب أليم القصاص منه وقيل عذاب الآخرة ولكم في القصاص حياة بمعنى قولهم القتل أبقى للقتل أي أن القصاص يردع الناس عن القتل وقيل المعنى أن القصاص أقل قتلا لأنه قتل واحد بواحد بخلاف ما كان في الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل والمقتول حتى يقتل بسبب ذلك جماعة الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضا قبل الميراث ثم نسخها آية الميراث مع قوله صلى الله عليه وسلم ... 71

(1/130)


71 لا وصية لوارث وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين وقيل معناها الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض فلا تعارض بينها وبين المواريث ولا نسخ والأول أشهر كتب عليكم الصيام أي فرض والقصد بقوله كما كتب على الذين من قبلكم وبقوله أياما معدودات تسهيل الصيام على المسلمين وكأنه اعتذار عن كتبه عليهم وملاطفة جميلة والذي كتب على الذين من قبلنا الصيام مطلقا وقيل كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه أياما منصوب بالصيام أو بمحذوف ويبعد انتصابه بتتقون فمن كان منكم مريضا الاية إباحة للفطر مع المرض والسفر وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب والتقدير فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر ولم يفعل الظاهرية بهذا المحذوف فرأوا أن صيام المسافر والمريض لا يصح وأوجبوا عليه عدة من أيام أخر وإن صام في رمضان وهذا منهم جهل بكلام العرب وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر وبذلك قال الظاهرية وحده في مشهور مذهب مالك أربعة برد وعلى الذين يطيقونه فدية قيل يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفرون ثم نسخ جواز الإفطار بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقيل يطيقونه بمشقة كالشيخ الهرم فيجوز له الفطر فلا نسخ على هذا فمن تطوع أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة وذلك على القول بالنسخ وقيل تطوع بالزيادة في مقدار الإطعام وذلك على القول بعدم النسخ شهر رمضان مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر أو بدل من الصيام أنزل فيه القرآن قال ابن عباس أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان ثم نزل به جبريل علىالنبي صلى الله عليه وسلم بطول عشرين سنة وقيل المعنى أنزل في شأنه القرآن كقولك أنزل القرآن في فلان وقيل المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن هدى للناس وبينات من الهدى أي أن القرآن هدى للناس ثم هو مع ذلك من

(1/131)


مبينات الهدى وذلك أن الهدى على نوعين مطلق وموصوف بالبينات فالهدى الأول هنا على الإطلاق وقوله من البينات والهدى أي وهو من الهدى المبين فهو من عطف الصفات كقولك فلان عالم وجليل من العلماء فمن شهد أي كان حاضرا غير مسافر والشهر منصوب على الظرفية واليسر والعسر على الإطلاق وقيل اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم فيه ولتكملوا متعلق بمحذوف تقديره شرع أو عطف على اليسر العدة الأيام التي أفطر فيها ولتكبروا التكبير يوم العيد أو مطلقا أجيب دعوة الداع مقيد بمشيئة الله ... 72

(1/132)


72 وموافقة القدر وهذا جواب من قال كيف لا يستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة فليستجيبوا لي أي امتثال ما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة أحل لكم الاية كان الأكل والجماع محرما بعد النوم في ليل رمضان فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولصرمة بن مالك فأحلهما الله تخفيفا على عباده الرفث هنا الجماع وإنما تعدى بإلى لأنه في معنى الإفضاء هن لباس لكم تشبيه بالثياب لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر وهذا تعليل للإباحة تختانون أنفسكم أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان فتاب عليكم وعفى عنكم أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك وقيل رفع عنكم ذلك الحكم باشروهن إباحة ما كتب الله لكم قيل الولد يبتغى بالجماع وقيل الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه من الفجر بيان للخيط الأبيض لا للأسود لأن الفجر ليس له سواد والخيط هنا استعارة يراد بالخيط الأبيض بياض الفجر وبالخيط الأسود سواد الليل وروي أن قوله من الفجر نزل بعد ذلك بيانا لهذا المعنى لأن بعضهم جعل خيطا أبيض وخيطا أسود تحت وسادته وأكل حتى تبين له فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بياض النهار وسواد الليل إلى الليل أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس فمن أفطر قبل ذلك فعليه القضاء والكفارة ومن شك هل غربت أم لا فأفطر فعليه القضاء والكفارة أيضا وقيل القضاء فقط وقالت عائشة رضي الله عنها إلى الليل يقتضي المنع من الوصال وقد جاء ذلك في الحديث ولا تباشروهن تحريم للمباشرة حين الاعتكاف قال الجمهور المباشرة هنا الجماع فما دونه وقيل الجماع فقط في المساجد دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد خلافا لمن قال لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة وبيت المقدس وفيه أيضا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد لا في غيرها خلافا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية حدود الله

(1/133)


أحكامه التي أمر بالوقوف عندها فلا تقربوها أي لا تقربوا مخالفتها واستدل بعضهم به على سد الذرائع لأن المقصود النهي عن المخالفة للمحدود لقوله تلك حدود الله فلا تعتدوها ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدا للذريعة ولا تأكلوا أموالكم أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كالقمار والغصب وجحد الحقوق وغير ذلك وتدلوا عطف على لا تأكلوا أو نصب بإضمار أن وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها والمعنى نهى عن أن يحتج بحجة باطلة ليصل بها إلى أكل مال الناس وقيل نهى عن رشوة الحكام بأموال للوصول إلى أكل أموال الناس فالباء على ... 73

(1/134)


73 الأول سببية وعلى الثاني للإلصاق بالإثم الباء سببية أو للمصاحبة والإثم على القول الأول في تدلوا إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور والأيمان الكاذبة وعلى القول الثاني الرشوة يسألونك عن الأهلة سببها أنهم سألوا عن الهلال وما فائدته ومخالفته لحال الشمس والهلال ليلتان من أول الشهر وقيل ثلاث ثم يقال له قمر مواقيت جمع ميقات لمحل الديون والأكرية والقضاء والعدد وغير ذلك ثم ذكر الحج اهتماما بذكره وإن كان قد دخل في المواقيت للناس وليس البر الاية كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها وإنما يدخلون من ظهورها ويقولون لا يحول بيننا وبين السماء شيء فنزلت الاية إعلاما بأن ذلك ليس من البر وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج لأنه كان عندهم من تمام الحج وقيل المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها مما لا فائدة لكم فيه فتأتون الأمور على غير ما يجب فعلى هذا البيوت وأبوابها وظهورها استعارة يراد بالبيوت المسائل وبظهورها السؤال عما لا يفيد وأبوابها السؤال عما يحتاج إليه البر من اتقى تأويله مثل البر من آمن الذين يقاتلونكم كان القتال غير مباح في أول الإسلام ثم أمر بقتال الكفار الذين يقاتلون المسلمين دون من لم يقاتل وذلك مقتضى هذه الآية ثم أمر بقتال جميع الكفار في قوله قاتلوا المشركين كافة اقتلوهم حيث وجدتموهم فهذه الآية منسوخة وقيل إنها محكمة وأن المعنى قاتلوا الرجال الذين هم بحال من يقاتلونكم دون النساء والصبيان الذين لا يقاتلونكم والأول أرجح وأشهر ولا تعتدوا أي بقتال من لم يقاتلكم على القول الأول وبقتال النساء والصبيان على القول الثاني وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي من مكة لأن قريشا أخرجوا منها المسلمين والفتنة أشد من القتل أي فتنة المؤمن عن دينه أشد عليه من قتله وقيل كفرالكفار أشد من قتل المؤمنين لهم في الجهاد عند المسجد الحرام منسوخ بقوله

(1/135)


حيث وجدتموهم وهذا يقوي نسخ الذين يقاتلونكم فإن انتهوا عن الكفر فاسلموا بدليل قوله غفور رحيم وإنما يغفر للكافر إذا أسلم لا تكون فتنة أي لا يبقى دين كفر الشهر الحرام الآية نزلت لما صد الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة للعمرة عام الحديبية في شهر ذي الحجة فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة أي الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها والحرمات قصاص أي حرمة ... 74

(1/136)


74 الشهر والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر والبلد حين صددتم عنها فاعتدوا عليه تسمية للعقوبة باسم الذنب أي قاتلوا من قاتلكم ولا تبالوا بحرمة من صدكم عن دخول مكة تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال أبو أبو أيوب الأنصاري المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد وقيل لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة وقيل لا تقنطوا من التوبة وقيل لا تقتحموا المهالك والباء في بأيديكم زائدة وقيل التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم وأتموا الحج والعمرة لله أي أكملوها إذا ابتدأتم عملهما قال ابن عباس إتمامهما كمال المناسك وقال علي إتمامهما أن تحرم بهما من دارك ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء فإن أحصرتم المشهور في اللغة أحصره المرض بالألف وحصره العدو وقيل بالعكس وقيل هما بمعنى واحد فقال مالك أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة فأوجب عليه الهدي ولم يوجبه على من حصره العدو وقال الشافعي وأشهب يجب الهدي على من حصره العدو وعمل الآية على ذلك واستدلا بنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية وقال أبو حنيفة يجب الهدي على المحصر بعدو وبمرض فما استيسر أي فعليكم ما استيسر من الهدي وذلك شاة ولا تحلقوا رؤسكم خطابا للمحصر وغيره فمن كان منكم مريضا الآية نزلت في كعب بن عجرة حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لعلك يؤذيك هوام رأسك احلق رأسك وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك بشاة فمعنى الاية أن من كان في الحج واضطره مرض أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النحر جاز له حلقه وعليه صيام أو صدقة أو نسك حسبما تفسر في الحديث وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج منها إلا الصيد والوطء وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس ولا بد في الآية من مضمر لا ينتقل الكلام عنه وهو المسمى فحوى الخطاب وتقديرها فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه

(1/137)


فدية فإذا أمنتم أي من المرض على قول مالك ومن العدو على قول غيره والمعنى إذا كنتم بحال أمن سواء تقدم مرض أو خوف عدو أو لم يتقدم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج التمتع عند مالك وغيره هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج ثم يحج من عامه فهو قد تمتع بإسقاط أحد السفرين للحج أو العمرة وقال عبد الله بن الزبير التمتع هو أن يحصر عن الحج بعدو حتى يفوته الحج فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه ثم يحج من قابل قضاء لحجته فهو قد تمتع بفعل الممنوعات من الحج في وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل وقيل التمتع هو قران الحج والعمرة فما استيسر من الهدي شاة ثلاثة أيام في الحج وقتها من إحرامه إلى يوم عرفة فإن فاته صام أيام التشريق إذا رجعتم إلى بلادكم أو في الطريق تلك عشرة فائدته أن السبع تصام بعد الثلاثة فتكون عشرة ورفع لئلا يتوهم أن السبعة بدل من الثلاثة وقيل هو مثل الفذلكة وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا وقيل كاملة في الثواب لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام يعني غير أهل مكة ... 75

(1/138)


75 وذي طوى بإجماع وقيل أهل الحرام كله وقيل من كان دون الميقات وقوله ذلك إشارة إلى الهدي أو الصيام أي إنما يجب الهدي أو الصيام بدلا منه على الغرباء لا على أهل مكة وقيل ذلك إشارة إلى التمتع الحج أشهر التقدير أشهر الحج أشهر أو الحج في أشهر وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة وقيل العشر الأول منه وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة فعليه دم على القول بالعشر الأول ولا دم عليه على القول بجميع الشهر واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر فأجازه مالك على كراهة ولم يجزه الشافعي وداود لتعيين هذا الإسم كذلك فكأنها كوقت الصلاة فمن فرض فيهن الحج أي ألزم بالحج نفسه فلا رفث ولا فسوق الرفث الجماع وقيل الفحش من الكلام والفسوق المعاصي والجدال المراء مطلقا وقيل المجادلة في مواقيت الحج وقيل النسيء الذي كانت العرب تفعله وتزودوا قيل احملوا زادا في السفر وقيل تزودوا للآخرة بالتقوى وهو الأرجح لما بعده فضلا من ربكم التجارة في أيام الحج اباحها الله تعالى وقرأ ابن عباس فضلا من ربكم في مواسم الحج أفضتم اندفعتم جملة واحدة من عرفات اسم علم للموقف والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف فإن فيه التعريف والتأنيث المشعر الحرام المزدلفة والوقوف بها سنة كما هداكم الكاف للتعليل وإن كنتم إن مخففة من الثقيلة ولذلك جاء اللام في خبرها من قبله أي من قبل الهدى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فيه قولان أحدهما أنه أمر للجنس وهم قريش ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم ويقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حل ويقولون نحن أهل الحرم لا نقف إلا بالحرم فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس ويفيضوا منها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقا من الله تعالى له والقول الثاني أنها خطاب لجميع الناس ومعناها أفيضوا من

(1/139)


المزدلفة إلى منى فثم على هذا القول على بابها من الترتيب وأما على القول الأول فليست للترتيب بل للعطف خاصة قال الزمخشري هي كقولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم فإن معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها أوكد قضيتم مناسككم فرغتم من أعمال الحج كذكركم آباءكم لأن الإنسان كثيرا ما يذكر آباءه وقيل كانت العرب يذكرون آباءهم مفاخرة عند الجمرة فأمروا بذكر الله عوضا من ذلك آتنا في الدنيا كان الكفار إنما يدعون بخير الدنيا خاصة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة حسنة قيل العمل ... 76

(1/140)


76 الصالح وقيل المرأة الصالحة وفي الاخرة حسنة الجنة نصيب مما كسبوا يحتمل أن تكون من سببية أي لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها والنصيب على هذا الثواب سريع الحساب فيه وجهان أحدهما أن يراد به سرعة مجىء يوم القيامة لأن الله لا يحتاج إلى عدة ولا فكرة وقيل لعلي رضي الله عنه كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم قال كما يرزقهم على كثرتهم في أيام معدودات ثلاثة بعد يوم النحر وهي أيام التشريق والذكر فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار وغير ذلك فمن تعجل في يومين أي انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق ومن تأخر إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار وأما المتعجل فقيل يترك رمي جمار اليوم وقيل يقدمها في اليوم الثاني فلا إثم عليه في الموضعين قيل إنه إباحة للتعجل والتأخر وقيل إنه إخبار عن غفران الإثم وهو الذنب للحاج سواء تعجل أو تأخر لمن اتقى أما على القول بأن معنى فلا إثم عليه الإباحة فالمعنى أن الإباحة في التعجل والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما فقد أبيح له ذلك من غير إثم وأما على القول بأن معنى فلا إثم عليه إخبار بغفران الذنوب فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه كقوله صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فاللام متعلقة إما بالغفران أو بالإباحة المفهومين من الآية من يعجبك الآية قيل نزلت في الأخنس بن شريق فإنه أظهر الإسلام ثم خرج فقتل دواب المسلمين وأحرق لهم زرعا وقيل في المنافقين وقيل عامة في كل من كان على هذه الصفة في الحياة متعلق بقوله يعجبك أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا ويحتمل أن يتعلق بيعجبك ويشهد الله أي يقول الله أعلم إنه لصادق ألد الخصام شديد الخصومة تولى أدبر بجسده أو أعرض بقلبه وقيل صار واليا ويهلك الحرث والنسل على القول بأنها في الأخنس فإهلاك الحرث حرقه الزرع

(1/141)


وإهلاك النسل قتله الدواب وعلى القول بالعموم فالمعنى مبالغته في الفساد وعبر عن ذلك بإهلاك الحرث والنسل لأنهما قوام معيشة ابن آدم فإن الحرث هو الزرع والفواكه وغير ذلك من النبات والنسل هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل أخذته العزة بالإثم المعنى أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرا وطغيانا والباء يحتمل أن تكون سببية أو بمعنى مع وقال الزمخشري هي كقولك أخذ الأمير الناس بكذا أي ألزمهم إياه فالمعنى حملته العزة على الإثم من يشري نفسه أي يبيعها قيل نزلت في صهيب وقيل على العموم وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد ... 77

(1/142)


77 وقيل في تغيير المنكر وأن الذي قبلها فيمن غير عليه فلم ينزجر السلم بفتح السين المسالمة والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية والأمر على هذا لأهل الكتاب وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة وقيل هو الإسلام وكذلك هو بكسر السين فيكون الخطاب لأهل الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام وقيل إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا البيت كما كانوا فالمعنى على هذا ادخلوا في الإسلام واتركوا سواه ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه والدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي كافة عموم في المخاطبين أوفى شرائع الإسلام فاعلموا أن الله عزيز حكيم تهديد لمن زل بعد البيان هل ينظرون أي ينتظرون يأتيهم الله تأويله عند المتأولين يأتيهم عذاب الله في الآخرة أو أمره في الدنيا وهي عند السلف الصالح من المتشابه يجب الإيمان بها من غير تكييف ويحتمل أن لا تكون من المتشابه لأن قوله ينظرون بمعنى يطلبون بجهلهم كقولهم لولا يكلمنا الله في ظلل جمع ظلة وهي ما علاك من فوق فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال وإن كان لله فهو من المتشابه الغمام السحاب وقضي الأمر فرغ منه وذلك كناية عن وقوع العذاب سل بني إسرائيل على وجه التوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم من آية معجزات موسى أو الدلالات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن يبدل وعيد ويسخرون كفار قريش سخروا من فقراء المسلمين كبلال وصهيب والذين اتقوا هم المؤمنون الذين سخر الكفار منهم فوقهم أي أحسن حالا منهم ويحتمل فوقية المكان لأن الجنة في السماء يرزق من يشاء إن أراد في الآخرة فمن كناية عن المؤمنين والمعنى رد على الكفار أي إن رزق الله الكفار في الدنيا فإن المؤمنين يرزقون في الآخرة وإن أراد في الدنيا فيحتمل أن يكون من كناية عن المؤمنين أي سيرزقهم ففيه وعد لهم

(1/143)


وأن تكون كناية عن الكافرين أي أن رزقهم في الدنيا بمشيئة الله لا على وجه الكرامة لهم بغير حساب إن كان للمؤمنين فيحتمل أن يريد بغير تضييق ومن حيث لا يحتسبون أو لا يحاسبون عليه وإن كان للكفار فمن غير تضييق أمة واحدة أي متفقين في الدين وقيل كفارا في زمن نوح عليه السلام وقيل مؤمنين ما بين آدم ونوح أو من كان مع نوح في السفينة وعلى ذلك يقدر فاختلفوا بعد اتفاقهم ويدل عليه أمة واحدة فاختلفوا الكتاب هنا جنس أو في كل نبي وكتابه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه الضمير المجرور يعود على الكتاب أو على الضمير المجرور المتقدم وقال الزمخشري يعود على ... 78

(1/144)


78 الحق وأما الضمير في أوتوه فيعود على الكتاب والمعنى تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات بغيا أي حسدا أو عدوانا وهو مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال فهدى الله الذين آمنوا يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما اختلفوا فيه أي للحق لما اختلفوا فيه فما بمعنى الذي وقبلها مضاف محذوف والضمير في اختلفوا لجميع الناس يريد اختلافهم في الأديان فهدى الله المؤمنين لدين الحق وتقدير الكلام فهدى الله الذين آمنوا لإصابة ما اختلف فيه الناس من الحق ومن في قوله من الحق لبيان الجنس أي جنس ما وقع فيه الخلاف بإذنه قيل بعلمه وقيل بأمره أم حسبتم خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم والأمر بالصبر على الشدائد ولما يأتكم أي لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم مثل الذين أي حالهم وعبر عنه بالمثل لأنه في شدته يضرب به المثل وزلزلوا بالتخويف والشدائد ألا إن نصر الله قريب يحتمل أن يكون جوابا للذين قالوا متى نصر الله وأن يكون إخبارا مستأنفا وقيل إن الرسول قال ذلك لما قال الذين معه متى نصر الله فللوالدين والأقربين إن أريد بالنفقة الزكاة فذلك منسوخ والصواب أن المراد التطوع فلا نسخ وقدم في الترتيب الأهم فالأهم ورد السؤال على المنفق والجواب عن مصرفه لأنه كان المقصود بالسؤال وقد حصل الجواب عن المنفق في قوله من خير كتب عليكم القتال إن كان على الأعيان فنسخه وما كان المؤمنون لينفروا كافة فصار القتال فرض كفاية وإن كان على الكفاية فلا نسخ كره مصدر ذكر للمبالغة أو اسم مفعول كالخبز بمعنى المخبوز وعسى أن تكرهوا حض على القتال الشهر الحرام جنس وهو أربعة أشهر رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم قتال فيه بدل من الشهر وهو مقصود السؤال قل قتال فيه كبير أي ممنوع ثم نسخه فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وذلك بعيد فإن حيث

(1/145)


وجدتموهم عموم في الأمكنة لا في الأزمنة ويظهر أن ناسخه وقاتلوا المشركين كافة بعد ذكر الأشهر الحرم فكان التقدير قاتلوا فيها ويدل عليه فلا تظلموا فيهن أنفسكم ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام أي إباحته حسبما استقر في الشرع فلا تكون الاية منسوخة بل ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم وصد عن سبيل الله ابتداء وما بعده معطوف عليه وأكبر عند الله خبر الجميع أي أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام الذي عير به الكفار المسلمين سرية عبد الله بن جحش حين قاتل في أول يوم ... 79

(1/146)


79 من رجب وقد قيل إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى والمسجد عطف على سبيل الله حتى يردوكم قال الزمخشري حتى هنا للتعليل فأولئك حبطت أعمالهم ذهب مالك على أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد سواء رجع إلى الإسلام أو مات على الارتداد ومن ذلك انتقاض وضوئه وبطلان صومه وذهب الشافعي إلى أنه لا يحبط إلا إن مات كافرا لقوله فيمت وهو كافر وأجاب المالكية بقوله حبطت أعمالهم جزاء على الردة وقوله أصحاب النار هم فيها خالدون جزاء على الموت على الكفر وفي ذلك نظر إن الذين آمنوا الآية نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه الخمر كل مسكر من العنب وغيره والميسر القمار وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور ثم يدخل في ذلك النرد والشطرنج وغيرهما وروي أن السائل عنهما كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إثم كبير نص في التحريم وأنهما من الكبائر لأن الإثم حرام لقوله قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم خلافا لمن قال إنما حرمتها آية المائدة لا هذه الآية ومنافع في الخمر التلذذ والطرب وفي القمار الاكتساب به ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة قال ابن عباس المنافع قبل التحريم والإثم بعده وإثمهما أكبر تغليبا للإثم على المنفعة وذلك أيضا بيان للتحريم قل العفو أي السهل من غير مشقة وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل مشاكلة للسؤال على أن يكون ما مبتدأ وذا خبره تتفكرون في الدنيا والآخرة أي في أمرهما ويسألونك عن اليتامى كانوا قد تجنبوا اليتامى تورعا فنزلت إباحة مخالطتهم بالإصلاح لهم فإن قيل لم جاءو يسألونك بالواو ثلاث مرات وبغير واو ثلاث مرات قبلها فالجواب أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأول وقع في أوقات مفترقة فلم يأت بحرف عطف وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانت متناسقة والله يعلم تحذير من الفساد وهو أكل أموال اليتامى لأعنتكم لضيق عليكم بالمنع من مخالطتهم

(1/147)


قال ابن عباس لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى ولا تنكحوا أي لا تتزوجوا والنكاح مشترك بين الوطىء والعقد المشركات عباد الأوثان من العرب فلا تتناول اليهود ولا النصارى المباح نكاحهن في المائدة فلا تعارض بين الموضعين ولا نسخ خلافا ... 80
80 لمن قال آية المائدة نسخت هذه ولمن قال هذه نسخت آية المائدة فمنع نكاح الكتابيات ونزول الآية بسبب مرثد الغنوي أراد أن يتزوج امرأة مشركة ولأمة مؤمنة أي أمة لله حرة كانت أو مملوكة وقيل أمة مملوكة خير من حرة مشركة ولو أعجبتكم في الجمال والمال وغير ذلك ولا تنكحوا المشركين أي لا تزوجوهم نساءكم وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يتزوج مسلمة سواء كان كتابيا أو غيره واستدل المالكية على وجوب الولاية في النكاح بقوله ولا تنكحوا المشركين لأنه أسند نكاح النساء إلى الرجال ولعبد أي عبد لله وقيل مملوك أولئك المشركات والمشركون يدعون إلى النار إلى الكفر الموجب إلى النار بإذنه أي بإرادته أو علمه ويسألونك سأل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن حضير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نجامع النساء في المحيض خلافا لليهود هو أذى مستقذر وهذا تعليل لتحريم الجماع في المحيض فاعتزلوا النساء اجتنبوا جماعهن وقد فسر ذلك الحديث بقوله لتشد عليها إزارها وشأنك بأعلاها حتى يطهرن أي ينقطع عنهن الدم فإذا تطهرن أي اغتسلن بالماء وتعلق الحكم بالآية الأخيرة عند مالك والشافعي فلا يجوز عندهما وطء حتى تغتسل وبالغاية الأولى عند أبي حنيفة فأجاز الوطء عند انقطاع الدم وقبل الغسل وقرىء حتى يطهرن بالتشديد ومعنى هذه الآية بالماء فتكون الغايتان بمعنى واحد وذلك حجة لمالك من حيث أمركم الله قبل المرأة التوابين من الذنوب المتطهرين بالماء أو من الذنوب حرث لكم أي موضع حرث وذلك تشبيه للجماع في إلقاء النطفة وانتظار الولد

(1/148)


بالحرث في إلقاء البذر وانتظار الزرع أنى شئتم أي كيف شئتم من الهيئات أو من شئتم لا أين شئتم لأنه يوهم الإتيان في الدبر وقد افترى من نسب جوازه إلى مالك وقد تبرأ هو من ذلك وقال إنما الحرث في موضع الزرع وقدموا لأنفسكم أي الأعمال الصالحة عرضة لأيمانكم أي لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه وأن تبروا على هذا علة للنهي فهو مفعول من أجله أي نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا وقيل المعنى لا تحلفوا على أن تبروا وتتقوا وافعلوا البر والتقوى دون يمين فأن تبروا على هذا هو المحلوف عليه والعرضة على هذين القولين لقولك فلان عرضة لفلان إذا أكثر التعرض له وقيل عرضة ما منع من قولك عرض له أمر حال بينه وبين كذا أي لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح فأن تبروا على هذا علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله أو مفعول بعرضة لأنها بمعنى مانع باللغو الساقط وهو عند مالك قولك نعم والله ولا والله الجاري على اللسان من غير قصد وفاقا ... 81

(1/149)


81 للشافعي وقيل أن يحلف على الشيء بظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه وفاقا لأبي حنيفة وقال ابن عباس اللغو الحلف حين الغضب وقيل اللغو اليمين على المعصية والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة بما كسبت قلوبكم أي قصدت فهو على خلاف اللغو وقال ابن عباس هو اليمين الغموس وذلك أن يحلف على الكذب متعمدا وهو حرام إجماعا وليس فيه كفارة عند مالك خلافا للشافعي يولون من نسائهم يحلفون على ترك وطئهن وإنما تعدى بمن لأنه تضمن معنى البعد منهن ويدخل في عموم قوله الذين كل حالف حرا كان أو عبدا إلا أن مالك جعل مدة إيلاء العبد شهرين خلافا للشافعي ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم خلافا للشافعي في قصر الإيلاء على الحلف بالله ووجهه أنها اليمين الشرعية ولا يكون موليا عند مالك والشافعي إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقف المولى عند مالك والشافعي فإما فاء وإلا طلق فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم وقال أبو حنيفة إذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف ولفظ الآية يحتمل القولين فإن فاؤا رجعوا إلى الوطىء وكفروا عن اليمين غفور رحيم أي يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة عزموا الطلاق العزيمة على قول مالك التطليق أو الإباية فيطلق عليه الحاكم وعند أبي حنيفة ترك الفيء حتى تنقضي الأربعة الأشهر والطلاق في الإيلاء رجعي عند مالك بائن عند الشافعي وأبي حنيفة والمطلقات يتربصن بيان للعدة وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن واليائسة والصغيرة بقوله واللائي يئسن من المحيض الآية والتي لم يدخل بها بقوله فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فيبقى حكمها في المدخول بها وهي سن من تحيض وقد خص مالك منها الأمة فجعل عدتها قرءين ويتربصن خبر بمعنى الأمر ثلاثة قروء انتصب ثلاثة على أنه

(1/150)


مفعول به هكذا قال الزمخشري وقروء جمع قرء وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض فحمله مالك والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة فإن الطهر مذكر والحيض مؤنث ولقول عائشة الأقراء هي الإطهار وحمله أبو حنيفة على الحيض لأنه الدليل على براءة الرحم وذلك مقصود العدة فعلى قول مالك تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه وعند أبي حنيفة بالطهر منها ما خلق الله في أرحامهن يعني الحمل والحيض وبعولتهن جمع بعل وهو هنا الزوج في ذلك أي في زمان العدة ولهن مثل الذي عليهن من الاستمتاع وحسن المعاشرة درجة في الكرامة وقيل الإنفاق وقيل كون الطلاق ... 82

(1/151)


82 بيده الطلاق مرتان بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه دون زوج آخر وقيل بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه وهو طلاق السنة فإمساك ارتجاع وهو مرفوع بالابتداء أو بالخبر بمعروف حسن المعاشرة وتوفية الحقوق أو تسريح هو تركها حتى تنقضي العدة فتبين منه بإحسان المتعة وقيل التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين وروي في ذلك حديث ضعيف وهو بعيد لأن قوله تعالى بعد ذلك فإن طلقها هو الطلقة الثالثة وعلى ذلك يكون تكرارا والطلقة الرابعة لا معنى لها ولا يحل لكم أن تأخذوا الآية نزلت بسبب ثابت بن قيس اشتكت منه امرأته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها أتردين عليه حديقته قالت نعم فدعاه فطلقها على ذلك وحكمها على العموم وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية وهي الخلع وظاهرها أنه لا يجوز الخلع إلا إذا خاف الزوجان ألا يقيما حدود الله وذلك إذا ساء ما بينهما وقبحت معاشرتهما ثم إن المخالعة على أربعة أحوال الأول أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة فأجازه مالك وغيره لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء الآية ومنعها قوم لقوله تعالى إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله والثاني أن يكون الضرر منهما جميعا فمنعه مالك في المشهور لقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن وأجازه الشافعي لقوله تعالى إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله والثالث أن يكون الضرر من الزوجة خاصة فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية والرابع أن يكون الضرر من الزوج خاصة فمنعه الجمهور لقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج الآية وأجازه أبو حنيفة مطلقا وقوله في ذلك مخالف للكتاب والسنة فإن خفتم خطاب للحكام والمتوسطين في هذا الأمر فإن طلقها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله الطلاق مرتان حتى تنكح زوجا غيره أجمعت الأئمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول والوطىء

(1/152)


لقوله صلى الله عليه وسلم للمطلقة ثلاثا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطىء وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث وخرقه للإجماع وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحا لا شبهة فيه والوطء مباحا في غير حيض ولا إحرام ولا اعتكاف ولا صيام خلافا لابن الماجشون في الوطء غير المباح وأما نكاح المحلل فحرام ولا يحل الزوجة لزوجها عند مالك خلافا لأبي حنيفة والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة ولا المحلل له وقال قوم من نوى التحليل منهم أفسد فإن طلقها يعني هذا الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على الزوجة والزوج الأول أن يقيما حدود الله أي أوامره فيما يجب من حقوق الزوجة وإذا طلقتم النساء الآية خطاب للأزواج وهي نهي عن أن يطول الرجل العدة على المرأة مضارة منه لها بل يرتجع قرب انقضاء العدة ثم يطلق بعد ذلك ومعنى بلغن أجلهن في هذا الموضع قاربن انقضاء العدة وليس المراد انقضاؤها لأنه ليس ... 83

(1/153)


83 بيده إمساك حينئذ ومعنى أمسكوهن راجعوهن بمعروف هنا قيل هو الإشهاد وقيل النفقة وإذا طلقتم النساء الآية هذه الأخرى خطاب للأولياء وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة فلا تعضلوهن أي لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن أي يراجعن الأزواج الذين طلقوهن قال السهيلي نزلت في معقل بن يسار كان له أخت فطلقها زوجها ثم أراد مراجعتها وأرادت هي مراجعته فمنعها أخوها وقيل نزلت في جابر بن عبد الله وذلك أن رجلا طلق أخته وتركها حتى تمت عدتها ثم أراد مراجعتها فمنعها جابر وقال تركتها وأنت أملك بها لا زوجتكها أبدا فنزلت الآية والمعروف هنا العدل وقيل الإشهاد وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في نكاح وليته خلافا لأبي حنيفة ذلك يوعظ به خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل واحد على حدته ولذلك وحد ضمير الخطاب ذلكم أزكى لكم خطابا للمؤمنين والإشارة إلى ترك الفصل ومعنى أزكى أطيب للنفس ومعنى أطهر أي للدين والعرض والوالدات يرضعن أولادهن خبر بمعنى الأمر وتقتضي الآية حكمين الحكم الأول من يرضع الولد فمذهب مالك أن المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده إلا أن تكون شريفة لا يرضع مثلها فلا يلزمها ذلك وإن كان والده قد مات وليس للولد مال لزمها رضاعه في المشهور وقيل أجرة رضاعه على بيت المال وإن كانت مطلقة بائن لم يلزمها رضاعه لقوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن إلا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل فإن لم يقبل غيرها وجب عليها إرضاعه ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنها لا يلزمها إرضاعه أصلا والأمر في هذه الآية عندهما على الندب وقال أبو ثور يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب وأما مالك فحملها في موضع على الوجوب وفي موضع على الندب وفي موضع على التخيير حسبما ذكر من التقسيم في المذهب الحكم الثاني مدة الرضاع وقد ذكرها في قوله حولين كاملين وإنما وصفهما بكاملين لأنه يجوز أن يقال

(1/154)


في حول وبعض آخر حولين فرفع ذلك الاحتمال وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله فإن أرادا فصالا الآية فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فلا جناح عليهما ومن دعا منهما إلى تمام الحولين فذلك له وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له وقال ابن عباس إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر فمن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون لقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن في هذه النفقة والكسوة قولان أحدهما أنها ... 84

(1/155)


84 أجرة رضاع الولد أوجبها الله للأم على الوالد وهو قول الزمخشري وابن العربي الثاني أنها نفقة الزوجات على الإطلاق وقال منذر ابن سعيد البلوطي هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته وعلى هذا حملها ابن الفرس بالمعروف أي على قدر حال الزوج في ماله والزوجة في منصبها وقد بين ذلك بقوله لا تكلف نفسا إلا وسعها لا تضار والدة بولدها قرىء بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي وبرفعهما على الخبر ومعناها النهي ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل فيكون ما قبل الآخر مكسورا قبل الإدغام أو يكون مسندا إلى المفعول فيكون مفتوحا والمعنى على الوجهين النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد ويدخل في عموم النهي وجوه الضرر كلها والباء في قوله بولدها وبولده سببية والمراد بقوله ولا مولود له الوالد وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلاما بأن الولد ينسب له لا للأم وعلى الوارث مثل ذلك اختلف في الوارث فقيل وارث المولود له وقيل وارث الصبي لو مات وقيل هو الصبي نفسه وقيل من بقي من أبويه واختلف في المراد بقوله مثل ذلك فقال مالك وأصحابه عدم المضارة وذلك يجري مع كل قول في الوارث لأن ترك الضرر واجب على كل أحد وقيل المراد أجرة الرضاع في النفقة والكسوة ويختلف هذا القول بحسب الاختلاف في الوارث فأما على القول بأن الوارث هو الصبي فلا إشكال لأن أجرة رضاعه في ماله وأما على سائر الأقوال فقيل إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد وقيل إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات أو على وارث الوالد وهو قول قتادة والحسن البصري وإن أردتم أن تسترضعوا إباحة لاتخاذ الغير إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف أي دفعتم أجرة الرضاع والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا الآية عموم في كل متوفى عنها سواء توفي زوجها قبل الدخول أو بعده إلا الحامل

(1/156)


فعجتها وضع حملها سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشر أو بعدها عند مالك والشافعي وجمهور العلماء وقال علي بن أبي طالب عدتها أبعد الأجلين وخص مالك من ذلك الأمة فعدتها في الوفاة شهران وخمس ليال ويتربص معناه عن التزويج وقيل عن الزينة فيكون أمرا بالإحداد وإعراب الذين مبتدأ وخبره يتربصن على تقدير أزواجهم يتربصن وقيل التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن وقال الكوفيون الخبر عن الذين متروك والقصد عن الإخبار عن أزواجهم فيما فعلن في أنفسهن من التزويج والزينة بالمعروف هنا إذا كان غير منكر وقيل معناه الإشهاد ولا جناح عليكم فيما عرضتم به الآية إباحة ... 85

(1/157)


85 التعريض بخطبة المرأة المعتدة ويقتضي ذلك النهي عن التصريح ثم أباح ما يضمر في النفس بقوله أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن أي تذكروهن في أنفسكم بألسنتكم لم يخف عليكم وقيل أي ستخطبونهن إن لم تنتهوا عن ذلك لا تواعدوهن سرا أي لا تواعدوهن في العدة خفية بأن تتزوجوهن بعد العدة وقال مالك فيمن يخطب في العدة ثم يتزوج بعدها فراقها أحب إلي ثم يكون خاطبا من الخطاب وقال ابن القاسم يجب فراقها إلا أن تقولوا قولا معروفا استثناء منقطع والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض كقوله إنكم لأكفاء كرام وقوله إن الله سيفعل معك خيرا وشبه ذلك ولا تعزموا عقدة النكاح الآية نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدة والكتاب هنا القدر الذي شرع فيه من المدة ومن تزوج امرأة في عدتها يفرق بينهما اتفاقا فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافا للشافعي وأبي حنيفة واختلف عن مالك في تأبيد التحريم إذا لم يدخل بها وإذا دخل بها ولم يطأها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن الآية قيل إنها إباحة للطلاق قبل الدخول ولما نهى عن التزويج بمعنى الذوق وأمر بالتزويج طلب العصمة ودوام الصحبة ظن قوم أن من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك وقيل إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول وذلك أن من طلق قبل الدخول فإن كان لم يفرض لها صداقا وذلك في نكاح التفويض فلا شيء عليه من الصداق لقوله لا جناح عليكم إن طلقتم النساء الآية والمعنى لا طلب عليكم بشيء من الصداق ويؤمر بالمتعة لقوله تعالى ومتعوهن وإن كان قد فرض لها فعليه نصف الصداق لقوله تعالى فنصف ما فرضتم ولا متعة عليه لأن المتعة إنما ذكرت فيما لم يفرض لها بقوله أو تفرضوا أو فيه بمعنى الواو ومتعوهن أي أحسنوا إليهن وأعطوهن شيئا عند الطلاق والأمر بالمتعة مندوب عند مالك وواجب عند

(1/158)


الشافعي على الموسع قدره أي يمتع كل واحد على قدر ما يجد والموسع الغني والمقتر الضيق الحال وقرىء بإسكان دال قدره وفتحها وهما بمعنى وبالمعروف هنا أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين حقا على المحسنين تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله حقا وتعلق مالك بالندب في قوله على المحسنين لأن الإحسان تطوع بما لا يلزم وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن الآية بيان أن المطلقة قبل البناء لها نصف الصداق إذا كان فرض لها صداق مسمى بخلاف نكاح التفويض إلا أن يعفون النون فيه نون جماعة النسوة يريد المطلقات والعفو هنا بمعنى الإسقاط أي للمطلقات قبل الدخول نصف الصداق إلا أن يسقطنه وإنما يجوز إسقاط المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها أو يعفو الذي بيده عقدة ... 86

(1/159)


86 النكاح ) قال ابن عباس ومالك وغيرهما هو الوالي الذي تكون المرأة في حجره كالأب في ابنته المحجورة والسيد في أمته فيجوز له أن يسقط نصف الصداق الواجب لها بالطلاق قبل الدخول وأجاز شريح إسقاط غير الأب من الأولياء وقال علي بن ابي طالب والشافعي الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق ولا يجوز عندهما أن يسقط الأب لنصف الواجب لابنته وحجة مالك أن قوله الذي بيده عقدة النكاح في الحال والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح وحجة الشافعي قوله تعالى وأن تعفو أقرب للتقوى فإن الزوج إذا تطوع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه فذلك فضل وأما إسقاط الب لحق ابنته فليس فيه تقوى لأنه إسقاط حق الغير ولا تنسوا الفضل بينكم قيل نه يعني إسقاط المرأة نصف صداقها أو دفع الرجل النصف الساقط عنه واللفظ أعم من ذلك والصلوة الوسطى جدد ذكرها بعد دخولها في الصلوة اعتناء بها وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة والعصر عند علي بن ابي طالب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر وقيل هي الظهر وقيل المغرب وقيل هي العشاء الآخرة وقيل الجمعة وسميت الوسطى لتوسطها في عدد الركعات وعلى القول بأنها المغرب لأنها بين الركعتين والأربع أو لتوسط وقتها وعلى القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار وعلى القول بأنها الظهر أو الجمعة لأنها في وسط النهار أو لفضلها من الوسط وهو الخيار وعلى هذا يجري اختلاف الأقوال فيها وقوموا لله معناه في صلاتكم قانتين هنا ساكتين وكانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت قاله ابن مسعود وزيد بن أرقم وقيل خاشعين وقيل طول القيام فإن خفتم أي من عدو أو سبع أو غير ذلك مما يخاف منه على النفس فرجالا جمع راجل أي على رجليه أو ركبانا جمع راكب أي صلوا كيف ما كنتم من ركوب أو غيره وذلك في صلاة المسايفة ولا تنقص منها عن ركعتين في السفر

(1/160)


وأربع في الحضر عند مالك فإذا أمنتم فاذكروا الله الآية قيل المعنى إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها وهي التامة وقيل إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف فالذكر على القول الأول في حال الصلاة وعلى الثاني بمعنى الشكر والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم هذه الاية منسوخة ومعناها أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله وذلك وصية لها ثم نسخ إقامتها سنة بالأربعة الأشهر والعشر ونسخت النفقة بالربع أو الثمن الذي لها في الميراث حسبما ذكر في سورة النساء وإعراب وصية مبتدأ وأزواجهم خبر أو مضمر تقديره فعليهم وصية وقرئت بالنصب على المصدر تقديره ليوصوا وصية ومتاعا نصب على المصدر غير إخراج أي ليس لأولياء الميت إخراج المرأة فإن خرجت معناه إذا كان الخروج من قبل المرأة فلا جناح على أحد فيما فعلت في نفسها من تزوج وزينة وللمطلقات ... 87

(1/161)


87 متاع ) عام في إمتاع كل مطلقة وبعمومه أخذ أبو ثور واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول وقد فرض لها بالآية المتقدمة منه واستثنى مالك المختلعة والملاعنة حقا على المتقين يدل على وجوب المتعة وهي الإحسان للمطلقات لأن التقوى واجبة ولذلك قال بعضهم نزلت مؤكدة للمتعة لأنه نزل قبلها حقا على المحسنين فقال رجل فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع فنزلت حقا على المتقين ألم تر رؤية قلب إلى الذين خرجوا من ديارهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا الموت بالقتال فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء وقيل بل فروا من الطاعون وهم ألوف جمع ألف قيل ثمانون ألفا وقيل ثلاثون ألفا وقيل ثمانية آلاف وقيل هو من الألفة وهو ضعيف فقال لهم الله موتوا عبارة عن إماتتهم وقيل إن ملكين صاحا بهم موتوا فماتوا ثم أحياهم ليستوفوا آجالهم وقاتلوا خطاب لهذه الأمة وقيل للذين أماتهم الله ثم أحياهم من ذا الذي يقرض الله استفهام يراد به الطلب والحض على الإنفاق وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظر المسلف رد ما أسلف وروي أن الآية نزلت في أبي الدحداح حين تصدق بحائط لم يكن له غيره قرضا حسنا أي خالصا طيبا من حلال من غير من ولا أذى فيضاعف قرىء بالتشديد والتخفيف وبالرفع على الاستئناف أو عطفا على يقرض وبالنصف في جواب الاستفهام أضعافا كثيرة عشرة فما فوقها إلى سبعمائة يقبض ويبسط إخبار يراد به الترغيب في الإنفاق ألم تر إلى الملإ رؤية قلب وكانوا قوما نالهم الذلة من أعدائهم فطلبوا الإذن في القتال فلما أمروا به كرهوه لنبي لهم قيل اسمه شمويل وقيل شمعون هل عسيتم أي قاربتم وأراد النبي المذكور أن يتوثق منهم ويجوز في السين من عسيتم الكسر والفتح وهو أفصح ولذلك انفرد نافع بالكسر وأما إذا لم يتصل بعسى ضمير فلا يجوز فيها

(1/162)


إلا الفتح طالوت ملكا قال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبيهم إذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملكهم وقال السدي أرسل الله إلى نبيهم عصا وقال له إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم فكان ذلك طالوت ونحن أحق بالملك منه روي أنه كان ... 88
88 دباغا ولم يكن من بيت الملك والواو في قوله ونحن واو الحال والواو في قوله ولم يؤت لعطف الجملة على الأخرى بسطة في العلم والجسم كان عالما بالعلوم وقيل بالحروب وكان أطول رجل يصل إلى منكبه والله يؤتي ملكه من يشاء رد عليهم في اعتقادهم أن الملك يستحق بالبيت أو المال أن أن يأتيكم التابوت كان هذا التابوت قد تركه موسى عند يوشع فجعله يوشع في البرية فبعث الله ملائكة حملته فجعلته في دار طالوت وفيه قصص كثيرة غير ثابته فيه سكينة قيل رمح فيه رأس ووجه كوجه الإنسان وقيل طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء وقيل رحمة وقيل وقار وبقية قال ابن عباس هي عصى موسى ورضاض الألواح وقيل العصا والنعلان وقيل ألواح من التوراة آل موسى وآل هارون يعني أقاربهما قال الزمخشري يعني الأنبياء من بني إسرائيل ويحتمل أن يريد موسى وهارون وأقحم الأهل فصل طالوت أي خرج من موضعه إلى الجهاد بنهر قيل هو نهر فلسطين فمن شرب منه الآية اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب باليد إلا من اغترف غرفة رخص لهم في الغرفة باليد وقرىء بفتح الغين وهو المصدر وبضمها هو الاسم فشربوا منه إلا قليلا قيل كانوا ثمانين ألفا فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وبضعة عشر عدد أصحاب بدر فأما من شرب فاشتد عليه العطش وأما من لم يشرب فلم يعطش جالوت وجنوده كان كافرا عدوا لهم وهو ملك العمالقة ويقال إن البربر من ذريته يظنون أي يوقنون وهم أهل البصائر من أصحابه قتل داود جالوت كان داود في جند طالوت فقتل جالوت فأعطاه الله ملك بني إسرائيل وفي ذلك قصص كثيرة غير صحيحة

(1/163)


والحكمة هنا النبوة والزبور وعلمه مما يشاء صنعة الدروع ومنطق الطيور وغير ذلك ولولا دفع الله الآية منة على العباد بدفع بعضهم ببعض وقرىء دفاع بالألف ودفع بغير ألف والمعنى متفق تلك الرسل الإشارة إلى جماعتهم فضلنا نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول كقوله صلى الله عليه وسلم لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوني ... 89
89 على يونس بن متى فإن معناه النهي عن تعيين المفضول لأنه تنقيص له وذلك غيبة ممنوعة وقد صرح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنبياء بقوله أنا سيد ولد آدم لا بفضله على واحد بعينه فلا تعارض بين الحديثين من كلم الله موسى عليه السلام ورفع بعضهم درجات قيل هو محمد صلى الله عليه وسلم لتفضيله على الأنبياء بأشياء كثيرة وقيل هو إدريس لقوله ورفعناه مكانا عليا فالرفعة على هذا في المسافة وقيل هو مطلق في كل من فضله الله منهم من بعدهم أي من بعد الأنبياء والمعنى بعد كل نبي لا بعد الجميع ولو شاء الله ما اقتتلوا كرره تأكيدا وليبني عليه ما بعده أنفقوا يعم الزكاة والتطوع لا بيع فيه أي لا يتصرف أحد في ماله والمراد لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق في الدنيا ويدخل فيه نفي الفدية لأنه بشراء الإنسان نفسه ولا خلة أي مودة نافعة لأن كل أحد يومئذ مشغول بنفسه ولا شفاعة أي ليس في يوم القيامة شفاعة إلا بإذن الله فهو في الحقيقة رحمة من الله للمشفوع فيه وكرامة للشافع ليس فيها تحكم على الله وعلى هذا يحمل ما ورد من نفي الشفاعة في القرآن أعني أن لا تقع إلا بإذن الله فلا تعارض بينه وبين إثباتها وحيث ما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة والتخويف بها نفيت الشفاعة على الإطلاق ومبالغة في التهويل وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نفيت الشفاعة إلا بإذنه والكافرون هم الظالمون قال عطاء بن دينار الحمد لله الذي قال هكذا ولم يقل

(1/164)


والظالمون هم الكافرون الله لا إله إلا هو الحي القيوم هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن حسبما ورد في الحديث وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح وفي غيره لا تأخذه سنة ولا نوم تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية والفرق بين السنة والنوم أن السنة هي ابتداء النوم لا نفسه كقول القائل في عينه سنة ليس بنائم من ذا الذي يشفع عنده استفهام مراد به نفي الشفاعة إلا بإذن الله فهي في الحقيقة راجعة إليه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم الضمير عائد على من يعقل ممن تضمنه قوله له ما في السموات وما في الأرض والمعنى يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم وقال مجاهد ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة من علمه من معلوماته أي لا يعلم عباده من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلموه وسع كرسيه الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش وهو أعظم من السموات والأرض وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء وقيل كرسيه علمه وقيل كرسيه ملكه ولا يؤده أي لا يشغله ولا يشق عليه لا إكراه في الدين المعنى أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه ... 90

(1/165)


90 بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه دون إكراه ويدل على ذلك قوله قد تبين الرشد من الغي أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه وقيل معناها الموادعة وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة بالعروة الوثقى العروة في الأجرام هي موضع الإمساك وشد الأيدي وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان لا انفصام لها لا انكسار لها ولا انفصال يخرجهم من الظلمات إلى النور أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان أولياؤهم الطاغوت جمع الطاغوت هنا وأفرد في غير هذا الموضع فكأنه اسم جنس لما عبد من دون الله ولمن يضل الناس من الشياطين وبني آدم الذي حاج إبراهيم هو نمرود الملك وكان يدعي الربوبية فقال لإبراهيم من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت فقال نمروذ أنا أحيي وأميت وأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر فقال قد أحييت هذا وأمت هذا فقال له إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت أي انقطع وقامت عليه الحجة فإن قيل لم انتقل إبراهيم عن دليله الأول إلى هذا الدليل الثاني والانتقال علامة الانقطاع فالجواب أنه لم ينقطع ولكنه لما ذكر الدليل الأول وهو الإحياء والإماتة كان له حقيقة وهو فعل الله ومجازا وهو فعل غيره فتعلق نمروذ بالمجاز غلطا منه أو مغالطة فحينئذ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني لأنه لا مجاز له ولا يمكن الكافر عدول عنه أصلا أو كالذي مر على قرية تقديره أو رأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه لأن كلتيهما كلمتا تعجب ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول أرايت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية وهذا المار قيل إنه عزير وقيل الخضر فقوله أنى يحيى هذه الله ليس إنكارا للبعث ولا استبعادا ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيى الموتى أو سؤال عن كيفية

(1/166)


الإحياء وصورته لا شك في وقوعه وذلك مقتضى كلمة أنى فأراه الله ذلك عيانا ليزداد بصيرة وقيل بل كان كافرا وقالها إنكارا للبعث واستبعادا فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه وذلك أعظم برهان وهي خاوية على عروشها أي خالية من الناس وقال السدي سقطت سقوفها وهي العروش ثم سقطت الحيطان على السقف أنى يحيى هذه الله ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب ولكن المعنى إحياء أهلها بعد موتهم لأن هذا الذي يمكن فيه الشك والإنكار ولذلك أراه الله الحياة بعد موته والقرية كانت بيت المقدس لما أخربها بختنصر وقيل قرية الذين خرجوا ... 91

(1/167)


91 من ديارهم وهم ألوف كم لبثت سؤال على وجه التقرير قال لبثت يوما أو بعض يوم استقل مدة موته قيل أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام فظن أنه يوم واحد ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله يوما فقال أو بعض يوم فانظر إلى طعامك وشرابك قيل كان طعامه تينا وعنبا وأن شرابه كان عصيرا ولبنا لم يتسنه معناه لم يتغير بل بقي على حاله طول مائة عام وذلك أعجوبة إلهية واللفظ يحتمل أن يكون مشتقا من السنة لأن لامها هاء فتكون الهاء في يتسنه أصلية أي لم يتغير السنون ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك تسنن الشيء إذا فسد ومنه الحمأ المسنون ثم قلبت النون حرف علة كقولهم قصيت أظفاري ثم حذف حرف العلة للجازم والهاء على هذا هاء السكت وانظر إلى حمارك قيل بقي حماره حيا طول المائة عام دون علف ولا ماء وقيل مات ثم أحياه الله وهو ينظر إليه ولنجعلك آية للناس التقدير فعلنا بك هذا لتكون آية للناس وروي أنه قام شابا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخا وانظر إلى العظام هي عظام نفسه وقيل عظام الحمار على القول بأنه مات ننشرها بالراء نحيبها وقرىء بالزاي ومعناه نرفعها للأحياء قال أعلم بهمزة قطع وضم الميم أي قال الرجل ذلك اعترافا وقرىء بألف وصل والجزم على الأمر أي قال له الملك ذلك وإذ قال إبراهيم الآية قال الجمهور لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى وإنما طلب المعاينة لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات فسأل ذلك السؤال ويدل على ذلك قوله كيف فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه ولكن ليطمئن قلبي أي بالمعاينة أربعة من الطير قيل هي الديك والطاوس والحمام والغراب فقطعها وخلط أجزاءها ثم جعل من المجموع جزءا على كل جبل وأمسك رأسها بيدها ثم قال تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت وبقيت بلا رؤس ثم كرر النداء فجاءته تسعى حتى وضعت

(1/168)


أجسادها في رؤسها وطارت بإذن الله فصرهن أي ضمهن وقيل قطعهن على كل جبل قيل أربعة جبال وقيل سبعة وقيل الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد في سبيل الله ظاهره الجهاد وقد يحمل على جميع وجوه البر كمثل حبة كل ما يزرع ويقتان وأشهره القمح وفي الكلام حذف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة أو يقدر في آخر الكلام كمثل صاحب حبة أنبتت سبع سنابل بيان أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث أن رجلا جاء بناقة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 92

(1/169)


92 لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة والله يضاعف لمن يشاء أي يزيده على سبعمائة وقيل هو تأكيد وبيان للسبعمائة والأول أرجح لأنه ورد في الحديث ما يدل عليه الذين ينفقون الآية قيل نزلت في عثمان وقيل في علي وقيل في عبد الرحمن بن عوف منا ولا أذى المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها والأذى السب قول معروف هو رد السائل بجميل من القول كالدعاء له والتأنيس ومغفرة عفو عن السائل إذا وجد منه جفاء وقيل مغفرة من الله لسبب الرد الجميل والمعنى تفضيل عدم العطاء إذا كان بقول معروف ومغفرة على العطاء الذي يتبعه أذى لا تبطلوا صدقاتكم عقيدة أهل السنة أن السيئات لا تبطل الحسنات فقالوا في هذه الآية إن الصدقة التي يعلم من صاحبها أنه يمن أو يؤذي لا تقبل منه وقيل إن المن والأذى دليل على أن نيته لم تكن خالصة فلذلك بطلت صدقته كالذي ينفق تمثيل لمن يمن ويؤذي بالذي ينفق رياء وهو غير مؤمن فمثله أي مثل المرائي في نفقته كحجر عليه تراب يظنه من يراه أرضا منبتة طيبة فإذا أنزل عليها المطر انكشف التراب فيبقى الحجر لا منفعة فيه فكذلك المرائي يظن أن له أجرا فإذا كان يوم القيامة انكشف سره ولم تنفعه نفقته صفوان حجر كبير وابل مطر كثير صلدا أملس لا يقدرون أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم وتثبيتا أي تيقنا وتحقيقا للثواب لأن أنفسهم لها بصائر تحملهم على الإنفاق ويحتمل أن يكون معنى التثبيت أنهم يثبتون أنفسهم على الإيمان باحتمال المشقة في بذل المال وانتصاب ابتغاء على المصدر في موضع الحال وعطف عليه وتثبيتا ولا يصح في تثبيتا أن يكون مفعولا من أجله لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت فامتنع ذلك في المعطوف عليه وهو ابتغاء كمثل حبة تقديره كمثل صاحب حبة أو يقدر ولا مثل نفقة الذي ينفقون بربوة لأن ارتفاع موضع الجنة أطيب لتربتها وهوائها فطل

(1/170)


الطل الرقيق الخفيف فالمعنى يكفي هذه الجنة لكرم أرضها أيود أحدكم الآية مثل ضرب للإنسان يعمل صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره ختم له بعمل السوء أو مثل للكافر أو المنافق أو المرائي المتقدم ذكره آنفا أو ذي المن والأذى فإن كل واحد منهم يظن أنه ينتفع بعمله فإذا كان وقت حاجة إليه لم يجد شيئا فشبههم الله بمن كانت له جنة ثم أصابتها الجائحة المهلكة أحوج ما كان إليها لشيخوخته ... 93
93 وضعف ذريته قالوا في قوله وأصابه الكبر للحال إعصار أي ريح فيها سموم محرقة من طيبات ما رزقناكم والطيبات هنا عند الجمهور الجيد غير الرديء فقيل إن ذلك في الزكاة فيكون واجبا وقيل في التطوع فيكون مندوبا لا واجبا لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء ومما أخرجنا من النبات والمعادن وغير ذلك ولا تيمموا الخبيث أي لا تقصدوا الرديء منه تنفقون في موضع الحال ولستم بآخذيه الواو للحال والمعنى أنكم لا تأخذونه في حقوقكم وديونكم إلا أن تتسامحوا بأخذه وتعملوا من قولك أغمض فلان عن بعض حقه إذا لم يستوفه وإذا غض بصره الشيطان يعدكم الفقر الآية دفع لما يوسوس به الشيطان من خوف الفقر ففي ضمن ذلك حض على الإنفاق ثم بين عداوة الشيطان بأمره بالفحشاء وهي المعاصي وقيل الفحشاء البخل والفاحش عند العرب البخيل قال ابن عباس في الآية اثنتان من الشيطان واثنتان من الله والفضل هو الرزق والتوسعة يؤتي الحكمة قيل هي المعرفة بالقرآن وقيل النبوة وقيل الإصابة في القول والعمل وما أنفقتم من نفقة الآية ذكر نوعين وهما ما يفعله الإنسان تبرعا وما يفعله بعد إلزامه نفسه بالنذر وفي قوله فإن الله يعلمه وعد بالثواب وقوله وما للظالمين من أنصار وعيد لمن يمنع الزكاة أو ينفق لغير الله إن تبدوا الصدقات هي التطوع عند الجمهور لأنها يحسن إخفاؤها وإبداء الواجبة كالصلوات فنعما هي ثناء على الإظهار ثم حكم أن

(1/171)


الإخفاء خير من ذلك الإبداء وما من نعما في موضع نصب تفسير للمضمر والتقدير فنعم شيء إبداؤها ليس عليك هداهم قيل إن المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة فنزلت الآية مبيحة للصدقة على من ليس على دين الإسلام وذلك في التطوع وأما الزكاة فلا تدفع لكافر أصلا فالضميرفي هداهم على هذا القول للكافر وقيل ليس عليك أن تهديهم لما أمروا به من الانفاق وترك المن والأذى والرياء والانفاق من الخبيث إنما عليك أن تبلغهم والهدى بيد الله فالضمير على هذا للمسلمين وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أي إن منفعته لكم لقوله من عمل صالحا فلنفسه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله قيل إنه خبر عن الصحابة أنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله ففيه تزكية لهم ... 94

(1/172)


94 وشهادة بفضلهم وقيل ما تنفقون نفقة تقبل منكم إلا ابتغاء وجه الله ففي ذلك حض على الإخلاص للفقراء متعلق بمحذوف تقديره الانفاق للفقراء وهم هنا المهاجرون أحصروا حبسوا بالعدو وبالمرض في سبيل الله يحتمل الجهاد والدخول في الإسلام ضربا في الأرض هو التصرف في التجارة وغيرها يحسبهم الجاهل أغنياء أي يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لقلة سؤالهم والتعفف هنا هو عن الطلب ومن سببية وقال ابن عطية لبيان الجنس تعرفهم بسيماهم علامة وجوههم وهي ظهور الجهد والفاقة وقلة النعمة وقيل الخشوع وقيل السجود لا يسألون الناس إلحافا الإلحاف هو الإلحاح في السؤال والمعنى أنهم إذا سألوا يتلطفون ولا يلحون وقيل هو نفي السؤال والإلحاح معا وباقي الآية وعد بالليل والنهار سرا وعلانية تعميم لوجوه الإنفاق وأوقاته قال ابن عباس نزلت في علي فإنه تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سرا وبدرهم علانية وقال أبو هريرة نزلت في علف الخيل الذين يأكلون الربا أي ينتفعون به وعبر عن ذلك بالأكل لأنه أغلب المنافع وسواء من أعطاه أو من أخذه والربا في اللغة الزيادة ثم استعمل في الشريعة في بيوعات ممنوعة أكثرها راجع إلى الزيادة فإن غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم أتقضي أم تربي فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه ثم إن الربا على نوعين ربا النسيئة وربا التفاضل وكلاهما يكون في الذهب والفضة وفي الطعام فأما النسيئة فتحرم في بيع الذهب بالذهب وبيع الفضة بالفضة وفي بيع الذهب بالفضة وهو الصرف وفي الطعام بالطعام مطلقا وأما التفاضل فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين ومن الطعام ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام ومذهب الشافعي أنه يحرم في كل طعام ومذهب أبي حنيفة أنه يحرم في المكيل والموزون من الطعام وغيره لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس

(1/173)


أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون ويتخبطه يتفعله من قولك خبط يخبط والمس الجنون ومن تتعلق بيقوم ذلك بأنهم تعليل للعقاب الذي يصيبهم وإنما هذا للكفار لأن قولهم إنما البيع مثل الربا رد على الشريعة وتكذيب للإثم وقد يأخذ العصاة بحظ من هذا الوعيد فإن قيل هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز فالجواب أن هذا مبالغة فإنهم جعلوا الربا أصلا حتى شبهوا به البيع وأحل الله البيع عموم يخرج منه البيوع الممنوعة شرعا وقد عددناها في الفقه ثمانين نوعا وحرم الربا رد على الكفار وإنكار للتسوية بين البيع والربا وفي ذلك دليل على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم تحليل ... 95

(1/174)


95 الله وتحريمه فله ما سلف أي له ما أخذ من الربا أي لا يؤاخذ بما فعل منه قبل نزول التحريم وأمره إلى الله الضمير عائد على صاحب الربا والمعنى أن الله يحكم فيه يوم القيامة فلا تؤاخذوه في الدنيا وقيل الضمير عائد على الربا والمعنى أن أمر الربا إلى الله في تحريم أو غير ذلك ومن عاد الآية يعني من عاد إلى فعل الربا وإلى القول إنما البيع مثل الربا ولذلك حكم عليه بالخلود في النارلأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة لكونها في الكفار يمحق الله الربا ينقصه ويذهبه ويربي الصدقات ) ينميها في الدنيا بالبركة وفي الآخرة بمضاعفة الثواب كفار أثيم أي من يجمع بين الكفر والإثم بفعل الربا وهذا يدل على أن الآية في الكفار وذروا ما بقي من الربا سبب الآية أنه كان بين قريش وثقيف ربا في الجاهلية فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته كل ربا كان في الجاهلية موضوع ثم إن ثقيف أرسلت تطلب الربا الذي كان لهم على قريش فأبوا من دفعه وقالوا قد وضع الربا فتحاكموا إلى عتاب بن أسيد أمير مكة فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فنزلت الآية إن كنتم مؤمنين شرط لمن خوطب به من قريش وغيرهم فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب أي إن لم تنتهوا عن الربا حوربتم ومعنى فأذنوا اعلموا وقرىء بالمد أي أعلموا غيركم ولما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله لا تظلمون ولا تظلمون أي لا تظلمون بأخذ زيادة على رءوس أموالكم ولا تظلمون بالنقص منها وإن كان ذو عسرة كان تامة بمعنى حضر ووقع وقرىء ذا عسرة أي إن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة حكم الله للمعسر بالإنظار إلى أن يوسر وقد كان قبل ذلك يباع فيما عليه ونظرة مصدر معناه التأخير وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره فالجواب نظرة أو مبتدأ وميسرة أيضا مصدر وقرىء بضم السين وفتحها وأن

(1/175)


تصدقوا خير لكم ندب الله إلى الصدقة على المعسر بإسقاط الدين عنه فذلك أفضل من إنظاره وباقي الآية وعظ وقيل إن آخر آية نزلت آية الربا وقيل بل قوله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية وقيل آية الدين المذكورة بعد إذا تداينتم بدين أي إذا عامل بعضكم بعضا بدين وإنما ذكر الدين وإن كان مذكورا في تداينتم ليعود عليه الضمير في اكتبوه وليزول الاشتراك الذي في تداينتم إذ يقال لمعنى الجزاء إلى أجل مسمى دليل على أنه لا يجوز إلى أجل مجهول وأجاز مالك البيع إلى الجذاذ والحصاد لأنه معروف عند الناس ومنعه الشافعي وأبو حنيفة قال ابن عباس نزلت الآية في السلم خاصة يعني أن سلم أهل المدينة كان سبب نزولها قال مالك وهذا يجمع الدين كله يعني ... 96

(1/176)


96 أنه يجوز التأخير في السلم والسلف وغيرهما فاكتبوه ذهب قوم إلى أن كتابة الدين واجبة بهذه الآية وقال قوم إنها منسوخة لقوله فإن أمن بعضكم بعضا وقال قوم إنها على الندب وليكتب بينكم كاتب قال قوم يجب على الكاتب أن يكتب وقال قوم نسخ ذلك بقوله ولا يضار كاتب ولا شهيد وقال آخرون يجب عليه إذا لم يوجد كاتب سواه وقال قوم إن الأمر بذلك على الندب ولذلك جاز أخذ الأجرة على كتب الوثائق بالعدل يتعلق عند ابن عطية بقوله وليكتب وعند الزمخشري بقوله كاتب فعلى الأول تكون الكتابة بالعدل وإن كان الكاتب غير مرضي وعلى الثاني يجب أن يكون الكاتب مرضيا في نفسه قال مالك لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ولا يأب كاتب أن يكتب نهى عن الإباية وهو يقوي الوجوب كما علمه الله يتعلق بقوله أن يكتب والكاف للتشبيه أي يكتب مثل ما علمه الله أو للتعليل أي ينفع الناس بالكتابة كما علمه الله لقوله أحسن كما أحسن الله إليك وقيل يتعلق بقوله بعدها فليكتب وليملل يقال أمللت الكتاب وأمليته فورد هنا على اللغة الواحدة وفي قوله تملى عليه على الأخرى الذي عليه الحق لأن الشهادة إنما هي باعترافه فإن كتب الوثيقة دون إملاله ثم أقر بها جاز ولا يبخس أمر الله بالتقوى فيما يملي ونهاه عن البخس وهو نقص الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو السفيه الذي لا يحسن النظر في ماله والضعيف الصغير وشبهه والذي لا يستطيع أن يمل الأخرس وشبهه وليه أبوه أو وصيه والضمير عائد على الذي عليه الحق واستشهدوا شهيدين شهادة الرجلان جائزة في كل شيء إلا في الزنا فلا بد من أربعة من رجالكم نص في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء وأما العبيد فاللفظ يتناولهم ولذلك أجاز ابن حنبل شهادتهم ومنعها مالك والشافعي لنقص الرق فرجل وامرأتان قال قوم لا تجوز شهادة المرأتين إلا مع الرجال وقال معنى الآية إن لم

(1/177)


يكونا أي إن لم يوجدا وأجاز الجمهور أن المعنى إن لم يشهد رجلان فرجل وامرأتان وإنما يجوز عند مالك شهادة الرجل والمرأتين في الأموال لا في غيرها وتجوز شهادة المرأتين دون رجل فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والاستهلال وعيوب النساء وارتفع رجل بفعل مضمر تقديره فليكن رجل فهو فاعل أو تقديره فليستشهد رجل فهو مفعول لم يسم فاعله أو بالابتداء تقديره فرجل وامرأتان يشهدون ممن ترضون صفة للرجل والمرأتين وهو مشترط أيضا في الرجلين الشاهدين لأن الرضا مشترط في الجميع وهو العدالة ومعناها اجتناب الذنوب الكبائر وتوقي الصغائر مع المحافظة على المروءة أن تضل مفعول من أجله والعامل فيه هو المقدر العامل في رجل وامرأتان والضلال في الشهادة وهو نسيانها أو نسيان بعضها وإنما جعل ضلال إحدى المرأتين مفعولا من أجله وليس هو المراد لأنه سبب لتذكير الأخرى لها ... 97

(1/178)


97 وهو المراد فاقيم السبب مقام المسبب وقرىء إن تضل بكسر الهمزة على الشرط وجوابه الفاء في فتذكر ولذلك رفعه من كسر الهمزة ونصبه من فتحها على العطف وقرىء تذكر بالتشديد والتخفيف والمعنى واحد ولا يأب الشهداء أي لا يمتنعون إذا ما دعوا إلى أداء الشهادة وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجب إذا دعي إليها وقيل إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها وقيل إلى الأمرين ولا تسأموا أن تكتبوه أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت سواء كان الحق صغيرا أو كبيرا ونصب صغيرا على الحال ذلكم إشارة إلى الكتابة أقسط من القسط وهو العدل واقوم بمعنى أشد إقامة وينبني أفعل فيهما من الرباعي وهو قليل وأدنى أن لا ترتابوا أي أقرب إلى عدم الشك في الشهادة إلا أن تكون تجارة حاضرة أن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل والمعنى إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة وهو ما يباع بالنقد وغيره تديرونها بينكم يقتضي القبض والبينونة وأشهدوا إذا تبايعتم ذهب قوم إلى وجوب الإشهاد على كل بيع صغيرا أو كبيرا وهم الظاهرية خلافا للجمهور وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله فإن أمن بعضكم بعضا وذهب قوم إلى أنه على الندب ولا يضار كاتب ولا شهيد يحتمل أن يكون كاتب فاعلا على تقدير كسر الراء المدغمة من يضار والمعنى على هذا نهي للكاتب والشاهد أن يضار صاحب الحق أو الذي عليه الحق بالزيادة فيها أو النقصان منه أو الامتناع من الكتابة أو الشهادة ويحتمل أن يكون كاتب مفعولا لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يضارر بالتفكيك وفتح الراء والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب والشاهد بإذايتهما بالقول أو بالفعل وإن تفعلوا أي إن وقعتم في الإضرار فإنه فسوق حال بكم ويعلمكم الله

(1/179)


إخبار على وجه الامتنان وقيل معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه وهذا المعنى صحيح ولكن لفظ الآية لا يعطيه لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا وإن كنتم على سفر الآية لما أمر الله تعالى بكتب الدين جعل الرهن توثيقا للحق عوضا عن الكتابة حيث تتعذر الكتابة في السفر وقال الظاهرية لا يجوز الرهن إلا في السفر لظاهر الاية وأجازه مالك وغيره في الحضر لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه بالمدينة فرهان مقبوضة يقتضي بينونة المرتهن بالرهن وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله وأجاز مالك والجمهور وضعه على يد عدل والقبض للرهن شرط في الصحة عند الشافعي وغيره لقوله تعالى مقبوضة وهو عند مالك شرط كمال لا صحة فإن أمن بعضكم بعضا الآية أي إن أمن صاحب الحق المديان لحسن ظنه به فليستغن عن الكتابة وعن الرهن فأمر أولا بالكتابة ثم بالرهن ثم بالائتمان فللدين ثلاثة أحوال ثم أمر المديان بأداء الأمانة ليكون عند ظن صاحبه به ولا تكتموا الشهادة محمول على الوجوب فإنه ... 98

(1/180)


98 آثم قلبه ) معناه قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة وارتفع آثم بأنه خبر إن وقلبه فاعل به ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ وآثم خبره وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كان جملة الكاتم هي الآثمة لأن الكتمان من فعل القلب إذ هو يضمرها ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب سواء أبدوه أم أخفوه ثم المعاقبة على ذلك لمن يشاء الله أو الغفران لمن شاء الله وفي ذلك إشكال لمعارضته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا أهلكنا إن حوسبنا على خواطر أنفسنا فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا فقالوها فأنزل الله بعد ذلك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فكشف الله عنهم الكربة ونسخ بذلك هذه الآية وقيل هي في معنى كتم الشهادة وإبدائها وذلك محاسب به وقيل يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم ثم يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين والصحيح التأويل الأول لوروده في الصحيح وقد ورد ايضا عن ابن عباس وغيره فإن قيل إن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ فالجواب أن النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه فلفظ الآية خبر ومعناها حكم فيغفر لمن يشاءويعذب قرىء بجزمهما عطفا على يحاسبكم وبرفعهما على تقدير فهو يغفر آمن الرسول الآية سببها ما تقدم في حديث أبي هريرة لما قالوا سمعنا وأطعنا مدحهم الله بهذه الآية وقدم ذلك قبل كشف ما شق عليهم والمؤمنون عطف على الرسول أو مبتدأ فعلى الأول يوقف على المؤمنون وعلى الثاني يوقف على من ربه والأول أحسن كل آمن بالله إن كان المؤمنون معطوفا فكل عموم في الرسول والمؤمنون وإن كان مبتدأ فكل عموم في

(1/181)


المؤمنين ووحد الضمير في آمن على معنى أن كل واحد منهم آمن وكتبه قرىء بالجمع أي كل كتاب أنزله الله وقرىء بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس لا نفرق بين أحد من رسله التقدير يقولون لا نفرق والمعنى لا نفرق بين أحد من الرسل وبين غيره في الإيمان بل نؤمن بجميعهم ولسنا كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وقالوا سمعنا وأطعنا حكاية عن قول المؤمنين على وجه المدح لهم غفرانك مصدر والعامل فيه مضمر ونصبه على المصدرية تقديره اغفر غفرانك وقيل على المفعولية تقديره نطلب غفرانك وإليك المصير إقرار بالبعث مع تذلل وانقياد وهنا تمت حكاية كلام المؤمنين لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إخبار من الله تعالى برفع تكليف ما لا يطاق وهو جائز عقلا عند الأشعرية ومحال عقلا عند المعتزلة واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة لها ما كسبت أي من الحسنات وعليها ما اكتسبت أي من السيئات وجاءت العبارة بلها ... 99

(1/182)


99 في الحسنات لأنها مما ينتفع العبد به وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر بالعبد وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشر اكتسبت لأن في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله ويتعداه بخلاف الحسنات فإنه فيها على الجادة من غير تكلف أو لأن السيئات يجد في فعلها لميل النفس إليها فجعلت لذلك مكتسبة ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا أي قولوا ذلك في دعائكم ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكاية قولهم كما حكى عنهم قولهم سمعنا وأطعنا والنسيان هنا هو ذهول القلب على الإنسان والخطأ غير العمد فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقد كان يجوز أن يأخذ به لولا أن الله رفعه ولا تحمل علينا إصرا التكاليف الصعبة وقد كانت لمن تقدم من الأمم كقتل أنفسهم وقرض أبدانهم ورفعت عن هذه الأمة قال تعالى ويضع عنهم إصرهم وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع ثم إن الشرع دفع وقوعه وتحقيق ذلك أن ما لا يطاق أربعة أنواع الأول عقلي محض كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن فهذا جائز وواقع بالاتفاق والثاني عادي كالطيران في الهواء والثاني عقلي وعادي كالجمع بين الضدين فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما والاتفاق على عدم وقوعه والرابع تكليف ما يشق ويصعب فهذا جائز اتفاقا فقد كلفه الله من تقدر من الأمم ورفعه عن هذه الأمه واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أن العفو ترك المؤاخذة بالذنب والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام مولانا ولينا وسيدنا
وثمانين آية لما

(1/183)


سورة آل عمران
نزل صدرها إلى نيف
قدم نصارى نجران المدينة المنورة يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام الم تقدم الكلام على حروف الهجاء وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل لالتقاء الساكنين نحو من الناس وقال الزمخشري هي حركة الهمزة نقلت إلى الميم وهذا ضعيف لأنها ألف وصل تسقط في الدرج الحي القيوم رد على النصارى في قولهم إن عيسى هو الله لأنهم زعموا أنه صلب فليس بحي وليس بقيوم الكتاب هنا هو القرآن بالحق أي تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها أو بالاستحقاق مصدقا قد تقدم في مصدقا لما معكم بين يديه الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل أعجميان ... 100

(1/184)


100 فلا يصح ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما وأنزل الفرقان يعني القرآن وإنما كرر ذكره ليصفه بأنه الفارق بين الحق والباطل ويحتمل ان يكون ذكره أولا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله مصدقا لما بين يديه ثم ذكره ثانيا على وجه الامتنان بالهدى به كما قال في التوراة والانجيل هدى للناس فكأنه قال وأنزل الفرقان هدى للناس ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأول عليه فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارا وقيل الفرقان هنا كل ما فرق بين الحق والباطل من كتاب وغيره وقيل هو الزبور وهذا بعيد لا يخفى عليه شيء خبر عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفضيل وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لغيره ففي ذلك رد على النصارى هو الذي يصوركم برهان على إثبات علم الله المذكور قبل وفيه رد على النصارى لأن عيسى لا يقدر على التصوير بل كان مصورا كسائر بني آدم كيف يشاء من طول وقصر وحسن وقبح ولون وغير ذلك منه آيات محكمات المحكم من القرآن هو البين المعنى الثابت الحكم والمتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء قال ابن عباس المحكمات الناسخات والحلال والحرام والمتشابهات المنسوخات والمقدم والمؤخر وهو تمثيل لما قلنا هن أم الكتاب أي عمدة ما فيه ومعظمه فأما الذين في قلوبهم زيغ نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه قال نعم قالوا فحسبنا إذا فهذا من المتشابه الذي اتبعوه وقيل نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حكيم ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن ابتغاء الفتنة أي ليفتنوا به الناس وابتغاء تأويله أي يبتغون أن يتأولوه على ما تقتضي مذاهبهم أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق وما يعلم تأويله إلا الله إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه

(1/185)


من القرآن وذم لمن طلب علم ذلك من الناس والراسخون في العلم مبتدأ مقطوع مما قبله والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفتة وقيل إنه معطوف على ما قبله وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله وكلا القولين مروى عن ابن عباس والقول الأول قول ابي بكر الصديق وعائشة وعروة بن الزبير وهو ارجح وقال ابن عطية المتشابه نوعان نوع انفرد الله بعلمه ونوع يمكن وصول الخلق إليه فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول وعطفا بالنظر إلى الثاني كل من عند ربنا أي المحكم والمتشابه من عند الله ربنا لا تزغ قلوبنا حكاية عن الراسخين ويحتمل أن يكون منقطعا على وجه التعليم ... 101

(1/186)


101 والأول أرجح لاتصال الكلام وأما قوله وما يذكر إلا أولو الألباب فهو من كلام الله تعالى لا حكاية قول الراسخين إن الله لا يخلف الميعاد استدلال على البعث ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين أو منقطعا فهو من كلام الله كدأب في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وفي ذلك تهديد والذين من قبلهم عطف على آل فرعون ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والضمير عائد على آل فرعون بآياتنا البراهين أو الكتاب ستغلبون وتحشرون قرىء بتاء الخطاب ليهود المدينة وقيل لكفار قريش وقرىء بالياء إخبارا عن يهود المدينة وقيل عن قريش وهو صادق على كل قول أما اليهود فغلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع وأما قريش ففي بدر وغيرها والأشهر أنها في بني قينقاع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر فقالوا له لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال فلو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس فنزلت الآية ثم أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قد كان لكم آية قيل خطاب للمؤمنين وقيل لليهود وقيل لقريش والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم ستغلبون ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم في فئتين التقتا فئة المسلمون والمشركون يوم بدر يرونهم مثليهم قرىء ترونهم بالتاء خطابا لمن خوطب بقوله قد كان لكم آية والمعنى ترون الكفار مثلي المؤمنين ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم وقرىء بالياء والفاعل في يرونهم المؤمنون والمفعول به هم المشركون والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم فإن قيل إن الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين فالجواب من وجهين أحدهما أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين لأن الكفار كانوا قريبا من ألف والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر ثم إن الله تعالى قلل عدد الكفار في أعين المؤمنين حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين ليتجاسروا على قتالهم

(1/187)


إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للإثنين من قوله إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وهذا المعنى موافق لقوله تعالى وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلا وذلك قدر عدد المسلمين مرتين وقيل إن الفاعل في يرونهم ضمير المشركين والمفعول ضمير المؤمنين وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم ويرد هذا قوله تعالى ويقللكم في أعينهم رأي العين نصب على المصدرية ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها والله يؤيد ... 102

(1/188)


102 بنصره من يشاء ) أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم زين للناس قيل المزين هو الله وقيل الشيطان ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة والقناطير جمع قنطار وهو ألف ومائتا أوقية وقيل ألف ومائتا مثقال وكلاهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم المقنطرة مبنية من لفظ القناطير وللتأكيد كقولهم ألوف مؤلفة وقيل المضروبة دنانير أو دراهم المسومة الراعية من قولهم سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح وقيل المعلمة في وجوهها شيئان فهي من السمات بمعنى العلامات قيل المعدة للجهاد ذلك متاع الحياة الدنيا تحقير لها ليزهد فيها الناس قل أؤنبئكم بخير من ذلكم تفضيل للآخرة على الدنيا ليرغب فيها وتمام الكلام في قوله من ذلكم ثم ابتدأ قوله للذين اتقوا تفسيرا لذلك فجنات على هذا مبتدأ وخبره للذين اتقوا وقيل إن قوله للذين اتقوا متعلق بما قبله وتمام الكلام في قوله عند ربهم فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر ورضوان من الله زيادة إلى نعيم الجنة وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث الذين يقولون نعت للذين اتقوا ورفع بالابتداء أو نصب بإضمار فعل ( الصادقين ) في الأقوال والأفعال والقانتين العابدين والمطيعين والمستغفرين الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نستغفر فقال قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم بالأسحار جمع سحر وهو آخر الليل يقال إنه الثلث الأخير وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذ من يستغفرني فأغفر له شهد الله الآية شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل معناها إعلامه لعباده بذلك والملائكة وأولوا العلم عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية ويعني

(1/189)


بأولي العلم العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته قائما منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح بالقسط بالعدل لا إله إلا هو إنما كرر التهليل لوجهين أحدهما أنه ذكر أولا الشهادة بالوحدانية ثم ذكرها ثانيا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة والآخر أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها إن الدين بكسر الهمزة ابتداء وبفتحها بدل من أنه وهو بدل شيء من شيء لأن التوحيد هو الإسلام وما اختلف الذين الآية إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي وهو الحسد والآية ... 103

(1/190)


103 في اليهود وقيل في النصارى وقيل فيهما سريع الحساب قد تقدم معناه في البقرة وهو هنا تهديد ولذلك وقع في جواب من يكفر فإن حاجوك أي جادلوك في الدين والضمير لليهود ونصارى نجران أسلمت وجهي أي أخلصت نفسي وجملتي لله وعبر بالوجه على الجملة ومعنى الاية إقامة الحجة عليهم لأن من اسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك فسقطت حجة من خالفه ومن اتبعن عطف على التاء في أسلمت ويجوز أن يكون مفعولا معه أأسلمتم تقرير بعد إقامة الحجة عليهم أي قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا فإنما عليك البلاغ أي إنما عليك أن تبلغ رسالة ربك فإذا أبلغتها فقد فعلت ما عليك وقيل إن فيها موادعة نسختها آية السيف إن الذين يكفرون الآية نزلت في اليهود والنصارى توبيخا لهم ووعيدا على قبح أفعالهم وأفعال أسلافهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود والكتاب هنا التوراة أو جنس يدعون إلى كتاب الله قال ابن عباس دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد فقالوا له على أي دين أنت فقال لهم على دين إبراهيم فقالوا إن إبراهيم كان يهوديا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلي التوراة فهي بيننا وبينكم فأبوا عليه فنزلت الاية فكتاب الله على هذا التوراة وقيل هو القرآن كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فيعرضون عنه ذلك بأنهم الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة فكيف إذا جمعناهم أي كيف يكون حالهم يوم القيامة والمعنى تهويل واستعظام لها أعد لهم اللهم منادى والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين ولذلك لا يجتمعان وقال الكوفيون أصله يا ألله أمنا بخير فالميم عندهم من أمنا مالك الملك منادى عند سيبويه وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله

(1/191)


وقيل إن الآية نزلت ردا على النصارى في قولهم إن عيسى هو الله لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى وقيل لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر استبعد ذلك المنافقون فنزلت الآية بيدك الخير قيل المراد بيدك الخير ... 104
104 والشر فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وقيل إنما خص الخير بالذكر لأن الآية في معنى دعاء ورغبة فكأنه يقول بيدك الخير فأجزل حظي منه تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي قال عبد الله بن مسعود هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة وقال عكرمة هي إخراج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة وقيل يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر فالحياة والموت على هذا استعارة وفي ذكر الحي من الميت المطابقة وهي من أدوات البيان وفيه أيضا القلب لأنه قدم الحي على الميت ثم عكس بغير حساب بغير تضييق وقيل بغير محاسبة لا يتخذ المؤمنون الاية عامة في جميع الأعصار وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود وقيل كتاب حاطب إلى مشركي قريش فليس من الله في شيء تبرؤ ممن فعل ذلك ووعيد على موالاة الكفار وفي الكلام حذف تقديره ليس من التقرب إلى الله في شيء وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله قاله ابن عطية إلا أن تتقوا منهم إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن تقاة وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين وفاؤه واو وابدل منها تاء ولامه ياء أبدل منها ألف وهو منصوب على المصدرية ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا ويحذركم الله نفسه تخويف يوم تجد منصوب على الظرفية والعامل فيه فعل مضمر تقديره اذكروا أو خافوا وقيل العامل فيه قدير وقيل المصير وقيل يحذركم وما عملت من سوء مبتدأ خبره تود أو معطوف أمدا أي مسافة والله رؤوف ذكر بعد التحذير تأنيسا لئلا يفرط الخوف أو لأن

(1/192)


التحذير والتنبيه رأفة فاتبعوني جعل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له وقيل إن الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس إن الله اصطفى الاية لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه السلام وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما السلام تكميلا للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء ثم ذكر إبراهيم تدريجا إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام وقيل إن عمران هنا هو والد موسى وبينهما ألف وثمانمائة سنة والأظهر أن المراد هنا والد مريم لذكر قصتها بعد ذلك آل إبراهيم وآل عمران يحتمل أن يريد بآل القرابة أو الأتباع وعلى الوجهين ... 105

(1/193)


105 يدخل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في آل إبراهيم ذرية بدل مما تقدم أو حال ووزنه فعلية منسوب إلى الذر لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر وغير أوله في النسب وقيل أصل ذرية ذرورة وزنها فعولة ثم أبدل من الراء الأخيرة ياء فصار ذروية ثم أدغمت الواو في الياء وكسرت الراء فصارت ذرية إذ قالت العامل فيه محذوف تقديره اذكروا وقيل عليم وقال الزجاج العامل فيه معنى الاصطفاء امرأة عمران اسمها حنة بالنون وهي أم مريم وعمران هذا هو والد مريم نذرت أي جعلت نذراعلى أن يكون هذا الولد في بطني حبسا على خدمة بيتك وهو بيت المقدس محرر أي عتيقا من كل شغل إلا خدمة المسجد فلما وضعتها الآية كانوا لا يحررون الإناث بخدمة المساجد فقالت إني وضعتها أنثى تحسرا وتلهفا على ما فاتها من النذر الذي نذرت والله أعلم بما وضعت قرىء وضعت بإسكان التاء وهو من كلام الله تعظيما لوضعها وقرىء بضم التاء وإسكان العين وهو على هذا من كلامها وليس الذكر كالأنثى يحتمل أن يكون من كلام الله فالمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لك وأن يكون من كلامها فالمعنى ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث سميتها مريم إنما قالت لربها سميتها مريم لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة فأرادت بذلك التقرب إلى الله ويؤخذ من هذا تسمية المولود يوم ولادته وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث وفيه أيضا العجمة وإني أعيذها بك ورد في الحديث ما من مولود إلا نخسه الشيطان يوم ولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها لقوله وإني أعيذها بك الآية فتقبلها ربها أي رضيها للمسجد مكان الذكر بقبول حسن فيه وجهان أحدهما أن يكون مصدرا على غير المصدر والآخر أن يكون اسما لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به وأنبتها نباتا حسنا عبارة عن حسن النشأ وكفلها زكريا أي ضمها إلى

(1/194)


إنفاقه وحضانته والكافل هو الحاضن وكان زكريا زوج خالتها وقرىء كفلها بتشديد الفاء ونصب زكريا أي جعله الله كافلها المحراب في اللغة أشرف المجالس وبذلك سمي موضع الإمام ويقال إن زكريا بنى لها غرفة في المسجد وهي المحراب هنا وقيل المحراب موضع العبادة وجد عندها رزقا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويقال إنها لم ترضع ثديا قط وكان الله يرزقها أنى لك هذا إشارة إلى مكان أي كيف ومن أين إن الله يرزق يحتمل أن يكون من كلام مريم أو من كلام الله تعالى هنالك إشارة إلى مكان وقد يستعمل في الزمان وهو الأظهر هنا أي لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم سأل من الله الولد فنادته ... 106

(1/195)


106 الملائكة ) أنث رعاية للجماعة وقرىء بالألف على التذكير وقيل الذي ناداه جبريل وحده وإنما قيل الملائكة لقولهم فلان يركب الخيل أي جنس الخيل وإن كان فرسا واحدا يحيى اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقا وبناء في العربية وهو لا ينصرف فإن كان في الإعراب أعجميا ففيه التعريف والعجمة وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل مصدقا بكلمة من الله أي مصدقا بعيسى عليه السلام مؤمنا به وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله كن لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم وسيدا السيد الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف والفضل وحصورا أي لا يأتي النساء فقيل خلقه الله كذلك وقيل كان يمسك نفسه وقيل الحصور الذي لا يأتي الذنوب أنى يكون لي غلام تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته ويقال كان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون سنة فاستبعد ذلك في العادة مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك فسأله مع علمه بقدرة الله واستبعده لأنه نادر في العادة وقيل سأله وهو شاب وأجيب وهو شيخ ولذلك استبعده كذلك الله يفعل ما يشاء أي مثل هذه الفعلة العجيبة يفعل الله ما يشاء فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلة والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا واسم الله مرفوع بالابتداء أو كذلك خبره فيجب وصله معه وقيل الخبر يفعل الله ما يشاء ويحتمل كذلك على هذا وجهين أحدهما أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل والآخر أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك أو أنتما كذلك وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام وارتباط قوله يفعل ما يشاء مع ما قبله ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله كذلك أخذ ربك اجعل لي آية أي علامة على حمل المرأة آيتك ألا تكلم الناس أي علامتك أن لا تقدر على كلام الناس ثلاثة أيام بمنع لسانه عن ذلك مع

(1/196)


إبقاء الكلام بذكر الله ولذلك قال واذكر ربك كثيرا وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكرا على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر إلا رمزا إشارة باليد أو بالرأس أو غيرهما فهو استثناء منقطع بالعشي من زوال الشمس إلى غروبها والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وإذ قالت الملائكة اختلف هل المراد جبريل أو جمع من الملائكة والعامل في إذ مضمر اصطفاك أولا حين تقبلك من أمك وطهرك من كل عيب في خلق وخلق ودين واصطفاك على نساء العالمين يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصا بأن وهب لها عيسى من غير أب فيكون على نساء العالمين عاما أو يكون الاصطفاء عاما فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة أو يكون المعنى على نساء ... 107

(1/197)


107 زمانها وقد قيل بتفضيلها على الإطلاق وقيل إنها كانت نبية لتكليم الملائكة لها اقنتي القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة وقيل طول القيام في الصلاة وهو قول الأكثرين واسجدي واركعي أمرت بالصلاة فذكر القنوت والسجود لكونها من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها اركعي مع الراكعين بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أو في الجماعة فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع لأنه لم يرد الركوع والسجود المنضمين في ركعة واحدة وقيل أراد ذلك وقدم السجود لأن الواو لا ترتب ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع ذلك إشارة إلى ما تقدم من القصص وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ما كنت لديهم احتجاجا على نبوته صلى الله عليه وسلم لكونه أخبر بهذه الأخبار وهو لم يحضر معهم يلقون أقلامهم أي أزلامهم وهي قداحهم وقيل الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اقترعوا بها على كفالة مريم حرصا عليها وتنافسا في كفالتها وتدل الآية على جواز القرعة وقد ثبتت أيضا من السنة أيهم يكفل مريم مبتدأ وخبر في موضع نصب بفعل تقديره ينظرون أيهم يختصمون يختلفون فيمن يكفلها منهم إذ قالت الملائكة إذ بدل من إذ قالت أو من إذ يختصمون والعامل فيه مضمر اسمه أعاد الضمير المذكر على الكلمة لأن المسمى بها ذكر المسيح قيل هو مشتق من ساح في الأرض فوزنه مفعل وقال الأكثرون من مسح لأنه مسح بالبركة فوزنه فعيل وإنما قال عيسى ابن مريم والخطاب لمريم لينسبه إليها إعلاما بأنه يولد من غير والد وجيها نصب على الحال ووجاهته في الدنيا النبوة والتقديم على الناس وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة في المهد في موضع الحال وكهلا عطف عليه والمعنى أنه يكلم الناس صغيرا آية تدل على براءة أمه مما قذفها به اليهود وتدل على نبوته ويكلمهم أيضا كبيرا ففيه إعلام بعيشه إلى أن يبلغ سن الكهولة وأوله ثلاث

(1/198)


وثلاثون سنة وقيل أربعون ويعلمه عطف على يبشرك أو ويكلم
الكتاب هنا جنس وقيل الخط باليد والحكمة هنا العلوم الدينية أو الإصابة في القول والفعل ورسولا حال معطوف على وبعلمه إذ التقدير ومعلما الكتاب أو يضمر له فعل تقديره أرسل رسولا أو جاء رسولا إلى بني إسرائيل أي أرسل إليهم عيسى عليه السلام مبينا لحكم التوراة أنى تقديره بأني أخلق بفتح الهمزة بدل من أني الأولى أو من آية وبكسرها ابتداء كلام فأنفخ فيه ذكر هنا الضمير لأنه يعود على الطين أو على الكاف من كهيئة وأنث في ... 108

(1/199)


108 المائدة لأنه يعود على الهيئة فيكون طيرا قيل إنه لم يخلق غير الخفاش وقرىء طيرا بياء ساكنة على الجمع وبالألف وهمزة على الإفراد ذكر بإذن الله رفعا لوهم من توهم في عيسى الربوبية وأبرىء روي أنه كان يجتمع إليه جماعة من العميان والبرصاء فيدعو لهم فيبرؤن وأحيي الموتى روي أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلمه وروي أنه أحيى سام بن نوح وأنبئكم كان يقول يا فلان أكلت كذا وادخرت في بيتك كذا ومصدقا عطف على رسولا أو على موضع بآية من ربكم لأنه في موضع الحال وهو أحسن لأنه من جملة كلام عيسى فالتقدير جئتكم بآية من ربكم وجئتكم مصدقا ولأحل لكم عطف على بآية من ربكم وكانوا قد حرم عليهم الشحم ولحم الإبل وأشياء من الحيتان والطير فأحل لهم عيسى بعض ذلك إن الله ربي وربكم رد على من نسب الربوبية لعيسى وانتهى كلام عيسى عليه السلام إلى قوله صراط مستقيم وابتداؤه من قوله أني قد جئتكم وكل ذلك يحتمل أن يكون مما ذكرت الملائكة لمريم حكاية عن عيسى عليه السلام أنه سيقوله ويحتمل أن يكون خطاب مريم قد انقطع ثم استؤنف الكلام من قوله ورسولا على تقدير جاء عيسى رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم ثم استمر كلامه إلى آخره فلما أحس عيسى أي علم علما ظاهرا كعلم ما يدرك بالحواس من أنصاري طلب للنصرة والأنصار جمع ناصر إلى الله تقديره من يضيف أنفسهم في نصرتي إلى الله فلذلك قيل إلى هنا بمعنى مع أو يتعلق بمحذوف تقديره ذاهبا أو ملتجئا إلى الله الحواريون حواري الرجل صفوته وخاصته ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي حواري وإن حواري الزبير وقيل إن الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها ولذلك سماهم الحواريين بما أنزلت يريدون الإنجيل والرسول هنا عيسى عليه السلام مع الشاهدين أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم وقيل مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم

(1/200)


لأنهم يشهدون على الناس ومكروا الضمير لكفار بني إسرائيل ومكرهم أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة ومكر الله أي رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل عوضا منه وعبر عن فعل الله بالمكر مشاكله لقوله مكروا والله خير الماكرين أي أقواهم وهو فاعل ذلك بحق والماكر من البشر فاعل بالباطل إذ قال الله العامل فيه فعل مضمر أو يمكر إني متوفيك قيل وفاة موت ثم أحياه الله في السماء وقيل رفع حيا ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال وقيل يعني وفاة نوم وقيل المعنى قابضك من الأرض إلى السماء ... 109

(1/201)


109 ورافعك إلي أي إلى السماء ومطهرك أي من سوء جوارهم الذين اتبعوك هم المسلمون وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر وقيل الذين اتبعوك النصارى والذين كفروا اليهود فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود وإذلالهم لهم ذلك نتلوه إشارة إلى ما تقدم من الأخبار من الآيات المتلوات أو المعجزات الذكر القرآن الحكيم الناطق بالحكمة إن مثل عيسى الآية حجة على النصارى في قولهم كيف يكون ابن دون أب فمثله الله بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب وذلك اغرب مما استبعدوه فهو أقطع لقولهم خلقه من تراب تفسير لحال آدم فيكون حكاية عن حال ماضية والأصل لو قال خلقه من تراب ثم قال له كن فكان لكنه وضع المضارع موضع الماضي ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم الحق خبر مبتدأ مضمر فمن حاجك فيه أي في عيسى وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى وكان لهم سيدان يقال لأحدهما السيد والآخر العاقب نبتهل نلتعن والبهلة اللعنة أي نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم هذا أصل الابتهال ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن لعنة ولما نزلت الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة فخافوا أن يهلكهم الله أو يمسخهم الله قردة وخنازير فأبوا من الملاعنة وأعطوا الجزية قل يأ أهل الكتاب خطاب لنصارى نجران وقيل اليهود سواء أي عدل ونصف أن لا نعبد بدل من كلمة أو رفع على تقدير هي ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وترك ما عبدوه من دونه كالمسيح والأحبار والرهبان لم تحاجون في إبراهيم قالت اليهود كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا فنزلت الآية ردا عليهم لأن ملة اليهود والنصارى ... 110

(1/202)


110 إنما وقعت بعد موت إبراهيم بمدة طويلة ها أنتم ها تنبيه وقيل بدل من همزة الاستفهام وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وحاججتم استئناف أو هؤلاء منصوب على التخصيص وحاججتم الخبر فيما لكم به علم فيما نطقت به التوراة والإنجيل فيما ليس لكم به علم ما تقدم على ذلك من حال إبراهيم ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ردا على اليهود والنصارى وما كان من المشركين نفي للاشتراك الذي هو عبادة الأوثان ودخل في ذلك الإشراك الذي يتضمن دين اليهود والنصارى وهذا النبي عطف على الذين اتبعوه أي محمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس بإبراهيم لأنه على دينه والذين آمنوا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودت طائفة هم اليهود دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وما يضلون إلا أنفسهم أي لا يعود وبال الإضلال إلا عليهم وأنتم تشهدون أي تعلمون أن محمد صلى الله عليه وسلم نبي لم تلبسون الحق أي تخلطون والحق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والباطل الكفر به آمنوا بالذي أنزل كان قوم من اليهود لعنهم الله أظهروا الإسلام أول النهار ثم كفروا آخره ليخدعوا المسلمين فيقولوا ما رجع هؤلاء إلا عن علم وقال السهيلي إن هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله متصلا بقوله إن الهدى هدى الله وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلا بقولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ويكون إن الهدى اعتراضا بين الكلامين فعلى الأول يكون المعنى كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقلتم ما قلتم ودبرتم ما دبرتم من الخداع فموضع أن يؤتى مفعول من أجله أو منصوب بفعل مضمر تقديره فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة وعلى الثاني فيكون المعنى لا تؤمنوا أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا

(1/203)


لمن تبع دينكم واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم لئلا يدعوهم إلى الإسلام فموضع أن يؤتى مفعول بتؤمنوا المضمن معنى تقروا ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله أي لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عطف على أن يؤتى وضمير الفاعل للمسلمين وضمير المفعول لليهود إن الفضل بيد الله رد على اليهود في قولهم لم يؤت أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة والشرف ومن ... 111

(1/204)


111 أهل الكتاب ) الآية إخبار أن أهل الكتاب على قسمين أمين وخائن وذكر القنطار مثالا للكثير فمن أداه أدى ما دونه وذكر الدنيا مثالا للقليل فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى قائما يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد أو من القيام بالأمر وهو العزيمة عليه ذلك بأنهم الإشارة إلى خيانتهم والباء للتعليل ليس علينا زعموا بأن أموال الأميين وهم العرب حلال لهم الكذب هنا قولهم إن الله أحلها عليهم في التوراة أو كذبهم على الإطلاق بلى عليهم سبيل وتباعة في أموال الأميين بعهده الضمير يعود على من أو على الله إن الذين يشترون الآية قيل نزلت في اليهود لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا وقيل نزلت بسبب خصومة بين الأشعث من قيس وآخر فأراد خصمه أن يحلف كاذبا وإن منهم الضمير عائد على أهل الكتاب يلوون ألسنتهم أي يحرفون اللفظ أو المعنى لتحسبوه الضمير يعود على ما دل عليه قوله يلوون ألسنتهم وهو الكلام المحرف ما كان لبشر الآية هذا النفي متسلط على ثم يقول للناس والمعنى لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوة والإشارة إلى عيسى عليه السلام رد على النصارى الذين قالوا إنه الله وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالوا له يا محمد تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى فقال معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت ربانيين جمع رباني وهو العالم وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره بما كنتم الباء سببية وما مصدرية تعلمون بالتخفيف تعرفون وقرىء بالتشديد من التعليم ولا يأمركم بالرفع استئناف والفاعل الله أو البشر المذكور وقرىء بالنصب عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول والفاعل على هذا البشر وإذ أخذ ميثاق الله النبيين معنى الآية أن الله أخذ العهد والميثاق على كل نبي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصره إن أدركه وتضمن ذلك أخذ هذا

(1/205)


الميثاق على أمم الأنبياء واللام في قوله لما آتيتكم لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستخلاف واللام في لتؤمنن ... 112
112 جواب القسم وما يحتمل أن تكون شرطية ولتؤمنن سد مسد جواب القسم والشرط وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيناكموه لتؤمنن به والضمير في به ولتنصرنه عائد على الرسول ءأقررتم أي اعترفتم إصري عهدي فاشهدوا أي على أنفسكم وعلى أممكم بالتزام هذا العهد وأنا معكم تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جل جلاله بعد ذلك أي من تولى عن الإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الميثاق فهو فاسق مرتد متمرد في كفره أفغير الهمزة للإنكار والفاء عطفت جملة على جملة وغير مفعول قدم للاهتمام به أو للحصر وله أسلم أي انقاد واستسلم طوعا وكرها مصدر صدر في موضع الحال والطوع للمؤمنين والكره للكافر إذا عاين الموت وقيل عند أخذ الميثاق المتقدم وقيل إقرار كل كافر بالصانع هو إسلامه كرها قل آمنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أمته بالإيمان وما أنزل علينا تعدى هنا بعلى مناسبة لقوله قل وفي البقرة بإلى لقوله قولوا لأن على حرف استعلاء يقتضي النزول من علو ونزوله على هذا المعنى مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلى حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمة ومن يبتغ الآية إبطال لجميع الأديان غير الإسلام وقيل نسخت إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى الآية كيف سؤال والمراد به هنا استبعاد الهدى قوما كفروا نزلت في الحرث بن سويد وغيره أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بالكفار ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة فنزلت الاية إلى قوله إلا الذين تابوا فرجعوا إلى الإسلام وقيل نزلت في اليهود والنصارى شهدوا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث وشهدوا عطف على إيمانهم لأن معناه بعد أن آمنوا وقيل الواو للحال وقال ابن عطية عطف على

(1/206)


كفروا والواو لا ترتب والناس أجمعين عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة خالدين فيها الضمير عائد على اللعنة وقيل على النار وإن لم تكن ذكرت لأن المعنى ... 113
113 يقتضيها ثم ازدادوا كفرا قيل هم اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بعداوتهم له وطعنهم عليه وقيل هم الذين ارتدوا لن تقبل توبتهم قيل ذلك عبارة عن موتهم على الكفر أي ليس لهم توبة فتقبل وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر وقيل لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر فذلك عام فلن يقبل من أحدهم ملء جزم بالعذاب لكل من مات على الكفر والواو في قوله ولو افتدى به قيل زائدة وقيل للعطف على محذوف كأنه قال لن يقبل من أحدهم لو تصدق به ولو افتدى به وقيل نفي أولا القبول جملة على الوجوه كلها ثم خص الفدية بالنفي كقولك أنا لا أفعل كذا أصلا ولو رغبت إلى لن تنالوا البر أي لن تكونوا من الأبرار ولن تنالوا البر الكامل حتى تنفقوا مما تحبون من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة وكان ابن عمر يتصدق بالسكر ويقول إني لأحبه كل الطعام الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل أبوهم على نفسه وهو لحم الإبل ولبنها ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم وفيها رد عليهم في قولهم إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها خلافا لليهود في قولهم إن النسخ محال على هذه الأشياء وفيها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد وسبب تحريم

(1/207)


إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض فنذر إن شفاه الله أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا لله وتقربا إليه ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم فأتوا بالتوراة تعجيزا لليهود وإقامة حجة عليهم وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فمن افترى أي من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره كان محرما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل صدق الله أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم ففيه تعريض بكذبهم فاتبعوا ملة إبراهيم إلزام لهم أن يسلموا كما ثبت أن ملة الإسلام هي ملة إبراهيم التي لم يحرم فيها شيء مما هو محرم عليهم إن أول بيت أي أول مسجد بني في الأرض وقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم أي مسجد بني أول قال المسجد الحرام ثم بيت المقدس وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعنى أنه أول بيت وضع مباركا وهدى وقد كانت قبله بيوتا ببكة قيل هي مكة والباء بدل من الميم وقيل مكة الحرم كله وبكة المسجد وما حوله مباركا ... 114

(1/208)


114 نصب على الحال والعامل فيه على قول على وضع مباركا على أنه حال من الضمير الذي فيه وعلى القول الأول هو حال من الضمير المجرور والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار فيه آيات بينات آيات البيت كثيرة منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين وذلك الأثر باق إلى اليوم ومنها أن الطيور لا تعلوه ومنها إهلاك أصحاب الفيل ورد الجبابرة عنه ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه وحفر عبد المطلب بعدد ثورها وأن ماؤها ينفع لما شرب له إلى غير ذلك مقام إبراهيم قيل إنه بدل من الآيات أو عطف بيان وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك وقيل الايات مقام إبراهيم وأمن من دخله فعلى هذا يكون قوله ومن دخله عطفا وعلى الأول استئنافا وقيل التقدير منهن مقام إبراهيم فهو على هذا مبتدأ والمقام هو الحجر المذكور وقيل البيت كله وقيل مكة كلها كان آمنا أي آمنا من العذاب فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب ولا يعاقب فأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص وقال ابن عباس وأبو حنيفة ذلك الحكم باق في الإسلام إلا أن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج وقيل آمنا من النار حج البيت بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي وفي الآية رد على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم قيل لهم إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه من استطاع بدل من الناس وقيل فاعل بالمصدر وهو حج وقيل شرط مبتدأ أي من استطاع فعليه الحج والاستطاعة عند مالك هي القدرة على لوصول إلى مكة بصحة البدن

(1/209)


إما راجلا وإما راكبا مع الزاد المبلغ والطريق الآمن وقيل الاستطاعة الزاد والراحلة وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب وروي في ذلك حديث ضعيف ومن كفر قيل المعنى من لم يحج وعبر عنه بالكفر تغليظا كقوله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة فقد كفر وقيل أراد اليهود لأنهم لا يحجون وقيل من زعم أن الحج ليس بواجب لم تكفرون توبيخ لليهود لم تصدون توبيخ أيضا وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم سبيل الله هنا الإسلام تبغونها عوجا الضمير يعود على السبيل أي تطلبون لها الاعوجاج وأنتم تشهدون أي تشهدون أن الإسلام حق إن تطيعوا فريقا الآية لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم وكيف ... 115

(1/210)


115 تكفرون ) إنكار واستبعاد حق تقاته قيل نسخها فاتقوا الله ما استطعتم وقيل لا نسخ إذ لا تعارض فإن العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزا من الإكراه وشبهه واعتصموا بحبل الله أي تمسكوا والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد والمراد هنا القرآن وقيل الجماعة ولا تفرقوا نهي عن التدابر والتقاطع إذ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم ويحتمل أن يكون نهيا عن التفرق في أصول الدين ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع إذ كنتم أعداء كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة إلى أن جمعهم الله بالإسلام شفا حفرة أي حرف حفرة وذلك تشبيه لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار ولتكن منكم أمة الآية دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وقوله منكم دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض وقيل إنها لبيان الجنس وأن المعنى كونوا أمة وتغيير المنكر يكون باليد واللسان وبالقلب على حسب الأحوال كالذين تفرقوا هم اليهود والنصارى نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم وورد في الحديث أنه عليه السلام قال افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل ومن تلك الواحدة قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه يوم تبيض وجوه العامل فيه محذوف وقيل عذاب عظيم أكفرتم بعد إيمانكم أي يقال لهم أكفرتم والخطاب لمن ارتد عن الإسلام وقيل للخوارج وقيل لليهود لأنهم آمنوا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في التوراة ثم كفروا به لما بعث كنتم خير أمة كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله وكان الله غفورا رحيما وقيل كنتم في علم الله وقيل كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة وقيل كنتم بمعنى ... 116

(1/211)


116 أنتم والخطاب لجميع المؤمنين وقيل للصحابة خاصة لن يضروكم إلا أذى أي بالكلام خاصة وهو أهون المضرة يولوكم الأدبار إخبار بغيب ظهر في الوجوه صدقة ثم لا ينصرون إخبار مستأنف غير معطوف على يولوكم وفائدة ذلك أن توليهم الأدبار مقيد بوقت القتال وعدم النصر على الإطلاق وعطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء وثم لترتيب الأحوال لأن عدم نصرهم على الإطلاق أشد من توليهم الأدبار حين القتال إلا بحبل من الله الحبل هنا العهد والذمة ليسوا سواء أي ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم أمة قائمة أي قائمة بالحق وذلك فيمن أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأخيه أسد وغيرهم وهم يسجدون يدل أن تلاوتهم للكتاب في الصلاة فلن تكفروه أي لن تحرموا ثوابه مثل ما ينفقون الآية تشبيه لنفقة الكافرين بزرع أهلكته ريح باردة فلن ينتفع به أصحابه فكذلك لا ينتفع الكفار بما ينفقون وفي الكلام حذف تقديره مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح وإنما احتيج لهذا لأن ما ينفقون ليس تشبيها بالريح إنما هو تشبيه بالزرع الذي أهلكته الريح صر أي برد حرث قوم ظلموا أنفسهم أي عصوا الله فعاقبهم بإهلاك حرثهم وما ظلمهم الله الضمير للكفار أو المنافقين أو لأصحاب الحرث والأول أرجح لأن قوله أنفسهم يظلمون فعل حال يدل على أنه للحاضرين بطانة من دونكم أي أولياء من غيركم فالمعنى نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم وقيل لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلا من النصارى لا أحد أحسن خطا منه أفلا يكتب عنك قال إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في إفسادكم والخبال الفساد ودوا ما عنتم أي تمنوا مضرتكم وما مصدرية وهذه ... 117

(1/212)


117 الجملة والتي قبلها صفة للبطانة أو استئناف وتؤمنون بالكتاب كله أي بكل كتاب أنزله الله واليهود لا يؤمنون بقرآنكم عضوا عليكم الأنامل من الغيظ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه والأنامل جمع أنملة بضم الميم وفتحها موتوا بغيظكم تقريع وإغاظة وقيل دعاء إن تمسسكم حسنة الحسنة هنا الخيرات من النصر والرزق وغير ذلك والسيئة ضدها لا يضركم من الضير بمعنى الضر وإذ غدوت من أهلك نزلت في غزوة أحد وكان غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة تبوىء المؤمنين تنزلهم وذلك يوم السبت حين حضر القتال وقيل ذلك يوم الجمنعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة وذلك ضعيف لأنه لا يقال غدوت فيما بعد الزوال إلا على المجاز وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف لأنه لم يبوىء حينئذ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة مقاعد مواضع وهو جمع مقعد طائفتان منكم هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج لما رأوا كثرة المشركين وقلة المؤمنين هموا بالانصراف فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفشلا الفشل في البدن هو الإعياء والفشل في الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم والله وليهما أي مثبتهما وقال جابر بن عبد الله ما وددنا أنها لم تنزل لقوله والله وليهما ولقد نصركم الله ببدر تذكير بنصر الله لهم يوم بدر لتقوى قلوبهم وأنتم أذلة الذلة هي قلة عددهم وضعف عددهم كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ولم يكن لهم إلا فرس واحد وكان المشركون ما بين التسعمائة والألف وكان معهم مائة فرس فقتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون وانهزم سائرهم لعلكم تشكرون متعلق بنصركم أو باتقوا والأول أظهر إذ تقول للمؤمنين كان هذا القول يوم بدر

(1/213)


وقيل يوم أحد فالعامل في إذ على الإول محذوف وعلى الثاني بدل من إذ غدوت ألن يكفيكم تقرير جوابه بلى وإنما جاوب المتكلم لصحة الأمر وبيانه كقوله قل من رب السموات والأرض قل الله ويأتوكم من فورهم الضمير للمشركين والفور السرعة أي من ساعتهم وقيل المعنى من سفرهم بخمسة آلاف بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم فإن كان هذا يوم ... 118
118 بدر فقد قاتلت فيه الملائكة وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله إن تصبروا وتتقوا فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة مسومين بفتح الواو وكسرها أي معلمين أو معلمين أنفسهم أو خيلهم وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء إلا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء وقيل كانت عمائمهم صفر وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب وقيل كانوا على خيل بلق وما جعله الضمير عائد على الإنزال أو الإمداد ولتطمئن معطوف على بشرى لأن هذا الفعل بتأويل المصدر وقيل يتعلق بفعل مضمر يدل عليه جعله ليقطع يتعلق بقوله ولقد نصركم الله أو بقوله وما النصر ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية بين المعطوفين ونزلت لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على أحياء من العرب فترك الدعاء عليهم أو يتوب عليهم معناه يسلمون أضعافا مضاعفة كانوا يزيدون كل ما حل عاما بعد عام سارعوا بغير واو استئناف وبالواو عطف على ما تقدم إلى مغفرة أي إلى الأعمال متى تستحقون بها المغفرة عرضها قال ابن عباس تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله وقيل ليس العرض هنا خلاف الطول وإنما المعنى سعتها كسعة السموات والأرض في السراء والضراء في العسر واليسر وهم يعلمون حذف مفعولة وتقديره وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا قد خلت من قبلكم سنن خطاب للمؤمنين تأنيسا لهم وقيل للكافرين تخويفا لهم فانظروا من نظر العين عند الجمهور وقيل

(1/214)


هو بالفكر ولا تهنوا تقوية لقلوب المؤمنين وأنتم الأعلون إخبار بعلو كلمة الإسلام إن يمسسكم قرح الآية معناها إن مسكم قتل أو جراح في أحد فقد مس الكفار مثله في بدر وقيل قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه فإنهم ... 119
119 نالوا منكم ونلتم منهم وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي نداولها تسلية أيضا عما جرى يوم أحد وليعلم متعلق بمحذوف تقديره أصابكم ما أصابهم يوم أحد ليعلم والمعنى ليعلم ذلك علما ظاهرا لكم تقوم به الحجة شهداء من قتل من المسلمين يوم أحد وليمحص الله أي يظهر وقيل يميز وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد والمعنى أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين أي يهلكهم أم حسبتم أم هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه وهذه الاية وما بعدها معاتبة لقوم من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد تمنون الموت خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد وهو سبب الموت وقيل إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله وما محمد إلا رسول المعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل قد بلغ الرسالة كما بلغوا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد إن محمدا قد مات فتزلزل بعض الناس أفإن مات دخلت ألف التوبيخ على جملة الشرط والجزاء ودخلت الفاء لتربط الجملة الشرطية بالجملة التي قبلها والمعنى أن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتله لا يقتضي انقلاب أصحابه على أعقابهم لأن شريعته قد تقررت وبراهينه قد صحت فعاتبهم على تقدير أن لو صدر منهم انقلاب لو مات صلى الله عليه وسلم أو قتل وقد علم أنه لا يقتل ولكن ذكر ذلك لما صرخ به صارخ ووقع في نفوسهم الشاكرين قال علي بن أبي

(1/215)


طالب رضي الله عنه الثابتون على دينهم كتابا مؤجلا نصب على المصدر لأن المعنى كتب الموت كتابا وقال ابن عطية نصب على التمييز نؤته منها في ثواب الدنيا مقيد بالمشيئة بدليل قوله عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وكأين من نبي قاتل الفعل مسند إلى ضمير النبي ومعه ربيون على هذا في موضع الحال وقيل إنه مسند إلى الربيين فيكون ربيون على هذا مفعولا لما لم يسم فاعله فعلى الأول يوقف على قوله قتل ويترجح الأول بما صرخ به الصارخ يوم أحد إن محمدا قد مات فضرب لهم المثل بنبي قتل ويترجح الثاني بأنه لم يقتل قط نبي في محاربة ربيون علماء مثل ربانيين وقيل جموع كثيرة فما ... 120

(1/216)


120 وهنوا ) الضمير لربيون على إسناد القتل للنبي وهو لم يق منهم على إسناد القتل إليهم وما استكانوا أي لم يذلوا للكفار قال بعض النحاة الاستكان مشتق من السكون ووزنه افتعلوا مطلت فتحة الكاف فحدث عن مطلها ألف وذلك كالإشباع وقيل إنه من كان يكون فوزنه استفعلوا وقوله تعالى فما وهنوا وما بعده تعريض لما صدر من بعض الناس يوم أحد وثبت أقدامنا أي في الحرب ثواب الدنيا النصر ثواب الآخر الجنة إن تطيعوا الذين كفروا هم المنافقون الذين قالوا في قضية أحد ما قالوا وقيل مشركوا قريش وقيل اليهود الرعب قيل ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأحد فرجعوا إلى مكة من غير سبب وقيل لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين فألقى الله الرعب في قلوبهم فأمسكوا والاية تتناول جميع الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب ولقد صدقكم الله وعده كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المسلمين عن الله بالنصر فنصرهم الله أولا وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر الرماة أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا فلما رأوا المشركين قد انهزموا طمعوا في الغنيمة وأتبعوهم وخالفوا ما أمروا به من الثبوت في مكانهم فانقلبت الهزيمة على المسلمين إذ تحسونهم أي تقتلونهم قتلا ذريعا يعني في أول الأمر وتنازعتم وقع النزاع بين الرماة فثبت بعضهم كما أمروا ولم يثبت بعضهم وعصيتم أي خالفتم ما أمرتم به من الثبوت وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم وعظا للجميع وسترا على من فعل ذلك وجواب إذ محذوف تقديره لانهزمتم منكم من يريد الدنيا الذين حرصوا على الغنيمة معه ليبتليكم معناه لينزل بكم ما نزل من القتل والتمحيص ولقد عفا عنكم إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم لولا عفو الله عنهم فمعناه لقد أبقى عليكم وقيل هو

(1/217)


عفو عن الذنب إذ تصعدون العامل في إذ عفا فيوصل إذ تصعدون مع ما قبله ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمر ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام والرسول يدعوكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إلي عباد الله وهم يفرون في أخراكم في سقايتكم وفيه مدح للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الأخرى هي ... 121
121 موقف الأبطال فأثابكم أي جازاكم غما بغم قيل أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين إذ عصيتم وتنازعتم قيل أثابكم غما متصلا بغم وأحد الغمين ما أصابهم من القتل والجراح والآخر ما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فاتكم من النصر والغنيمة ولا ما أصابكم من القتل والجراح والانهزام أمنة نعاسا قال ابن مسعود نعسنا يوم أحد والنعاس في الحرب أمان من الله يغشى طائفة منكم هم المؤمنون المخلصون غشيهم النعاس تأمينا لهم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان والمشركون غير الحق معناه يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن الله لا ينصرهم وظن الجاهلية بدل وهو على حذف الموصوف تقديره ظن المودة الجاهلية أو الفرقة الجاهلية هل لنا من الأمر من شيء قالها عبد الله بن أبي ابن سلول والمعنى ليس لنا رأي ولا يسمع قولنا أو لسنا على شيء من الأمر الحق فيكون قولهم على هذا كفرا يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يحتمل أن يريد الأقوال التي قالوها أو الكفر لو كان لنا من الأمر شيء قاله معشب بن قشير ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي قل لو كنتم في بيوتكم الآية رد عليهم وإعلام بأن أجل كل إنسان إنما هو واحد وأن من لم يقتل يموت لأجله ولا يؤخر وأن من كتب عليه القتل لا ينجيه منه شيء وليبتلي يتعلق بفعل تقديره فعل بكم ذلك ليبتلي إن الذين تولوا الآية فيمن فر يوم أحد

(1/218)


استزلهم أي طلب منهم أن يزلوا ويحتمل أن يكون معناه أزلهم أي أوقعهم في الزلل ببعض ما كسبوا أي كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بأن مكن الشيطان من استزلالهم عفى الله عنهم أي غفر لهم ما وقعوا فيه من الفرار لا تكونوا كالذين كفروا أي المنافقين لإخوانهم هي أخوة القرابة لأن المنافقين كانوا من الأوس والخزرج وكان أكثر المقتولين يوم أحد منهم ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة إذا ضربوا في الأرض أي سافروا وإنما قال إذا التي للاستقبال مع قالوا لأنه على حكاية الحال الماضية أو كانوا غزا جمع غاز وزنه فعل بضم الفاء وتشديد العين لو كانوا عندنا اعتقاد منهم فاسد لأنهم ظنوا أن إخوانهن لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يقتلوا وهذا ... 122

(1/219)


122 قول من لا يؤمن بالقدر والأجل المحتوم ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجلين ليجعل متعلق بقالوا أي قالوا ذلك فكان حسرة في قلوبهم فاللام لام الصيرورة لبيان العاقبة ( ذلك ) إشارة إلى قولهم واعتقادهم الفاسد الذي أوجب لهم الحسرة لأن الذي يتيقن بالقدر والأجل تذهب عنه الحسرة والله يحيي ويميت رد على قولهم واعتقادهم ولئن قتلتم الآية إخبار أن مغفرة الله ورحمته لهم إذا قتلوا وماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا ولئن متم أو قتلتم الآية إخبار أن من مات أو قتل فإنه يحشر إلى الله فبما رحمة ما زائدة للتأكيد لانفضوا أي تفرقوا فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحق الله وشاورهم المشاورة مأمور بها شرعا وإنما يشاور النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الرأي في الحروب وغيرها لا في الأحكام الشرعية وقال ابن عباس وشاورهم في بعض الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها وهو من أعلى المقامات لوجهين أحدهما قوله إن الله يحب المتوكلين والآخر الضمان الذي في قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقد يكون واجبا لقوله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فجعله شرطا في الإيمان والظاهر قوله جل جلاله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإن الأمر محمول على الوجوب واعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب الأولى أن يعتمد العبد على ربه كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له وقيامه بمصالحه والثانية أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه فإنه لا يعرف سواها ولا يلجأ إلا إليها والثالثة أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل قد أسلم نفسه إليه بالكلية فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار

(1/220)


بخلاف صاحب الثالثة وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله وإلهكم إله واحد فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه فإن قيل هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا فالجواب أن الأساب على ثلاثة أقسام أحدهما سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى فهذا لا يجوز تركه كالأكل لدفع الجوع واللباس لدفع البرد والثاني سبب مظنون كالتجارة وطلب المعاش وشبه ذلك فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب لا من أعمال البدن ويجوز تركه لمن قوي عليه والثالث سبب موهوم بعيد فهذا يقدم فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية فإن المتوكل له مراد واختيار وهو يطلب مراده باعتماده على ربه وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى فهو أكمل أدبا مع الله تعالى وما ... 123

(1/221)


123 كان لنبي أن يغل ) هو من الغلول وهو أخذ الشيء خفية من المغانم وغيرها وقرىء بفتح الياء وضم الغين ومعناه تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول وسببها أنه فقدت من المغانم قطيفة حمراء فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها وقرىء بضم الياء وفتح الغين أي ليس لأحد أن يغل نبيا أي يخونه في المغانم وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا من الأمر لشنعة الحال مع النبي لأن المعاصي تعظم بحضرته وقيل معنى هذه القراءة أن يوجد غالا كما تقول أحمدت الرجل إذا أصبته محمودا فعلى هذا القول يرجع معنى هذه القراءة إلى معنى فتح الياء ومن يغلل يأت بما غل وعيد لمن غل بأن يسوق يوم القيامة على رقبته الشيء الذي غل وقد جاء ذلك مفسرا في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لاألفين أحدكم على رقبته فرس لاألفين أحدكم على رقبته رقاع لاألفين أحدكم على رقبته صامت لاألفين أحكم على رقبته إنسان فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك أفمن اتبع الآية فقيل إن الذي اتبع رضوان الله من لم يغلل والذي باء بالسخط من غل وقيل الذي اتبع الرضوان من استشهد بأحد والذي باء بالسخط المنافقون الذين رجعوا عن الغزو وهم درجات ذووا درجات والمعنى تفاوت بين منازل أهل الرضوان وأهل السخط أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان فإن بعضهم فوق بعض فكذلك درجات أهل السخط لقد من الله الآية إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنفسهم معناه في الجنس واللسان فكونه من جنسهم يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه وكونه بلسانهم يوجب حسن ألفهم عنه ولكونه منهم يعرفون حسبه وصدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم ويكون هو صلى الله عليه وسلم أشفق عليهم وأرحم بهم من الأجنبيين أو لما أصابتكم مصيبة الآية عتاب للمسلمين على كلامهم

(1/222)


فيمن أصيب منهم يوم أحد ودخلت ألف التوبيخ على واو العطف والجملة معطوفة على ما تقدم من قصة أحد أو على محذوف قد أصبتم مثليها قتل يوم أحد من المسلمين سبعون وكان قد قتل من المشركين يوم بدر سبعون وأسر سبعون قل هو من عند أنفسكم قيل معناه أنهم عوقبوا بالهزيمة لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يقيم بالمدينة ولا يخرج إلى المشركين فأبوا إلا الخروج وقيل بل ذلك إشارة إلى عصيان الرماة حسبما تقدم يوم التقى الجمعان أي جمع المسلمين والمشركين يوم أحد وقيل لهم تعالوا الاية كان رأي ... 124

(1/223)


124 عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرج المسلمون إلى المشركين فلما طلب الخروج قوم من المسلمين فخرج رسول الله غضب عبد الله وقال أطاعهم وعصانا فرجع ورجع معه ثلاثمائة رجل خمسين فمشى في أثرهم عبد الله بن عمر بن حزام الأنصاري وقال لهم ارجعوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا فقال له عبد الله بن أبي ما أرى أن يكون فقال لو علمنا أنه يكون قتال لكنا معكم أو ادفعوا أي كثروا السواد وإن لم تقاتلوا الذين قالوا بدل من الذين نافقوا أو لإخوانهم في النسب لأنهم كانوا من الأوس والخزرج قل فادرءوا أي ادفعوا المعنى رد عليهم بل أحياء إعلام بأن حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة بخلاف سائر الأموات من المؤمنين فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم المعنىأنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم فينالوا مثل ما نالوا من الشهادة ألا خوف في موضع المفعول أو بدل من الذين يستبشرون كرر ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل للذين استجابوا صفة للمؤمنين أو مبتدأ وخبره للذين أحسنوا الآية ونزلت في الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتباع المشركين بعد غزوة أحد فبلغ بهم إلى حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلآثة أيام وكانوا قد أصابتهم جراحات وشدائد فتجلدوا وخرجوا فمدحهم الله بذلك الذين قال لهم الناس الاية لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد بعد أحد بلغ ذلك أبا سفيان فمر عليه ركب من عبد القيس يريدون المدينة بالميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب على أن يثبطوا المسلمين عن اتباع المشركين فخوفوهم بهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فخرجوا فالناس الأول ركب عبد القيس والناس الثاني مشركو قريش وقيل نادى أبو سفيان يوم أحد موعدنا ببدر في القابل فقال

(1/224)


رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله فلما كان العام القابل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر للميعاد فأرسل ابو سفيان نعيم ابن مسعود الأشجعي ليثبط المسلمين فعلى هذا الناس الأول نعيم وإنما قيل له الناس وهو واحد لأنه من جنس الناس كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا فزادهم الفاعل ضمير المفعول وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص فمعناه هنا قوة يقينهم وثقتهم بالله حسبنا ... 125

(1/225)


125 الله ونعم الوكيل ) كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ومعنى حسبنا الله كافينا وحده فلا نخاف غيره ومعنى ونعم الوكيل ثناء على الله وأنه خير من يتوكل العبد عليه ويلجأ إليه فانقلبوا أي رجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر واتبعوا رضوان الله بخروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلكم الشيطان المراد به هنا أبو سفيان أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أو إبليس وذلكم مبتدأ والشيطان خبره وما بعده مستأنف أو الشيطان نعت وما بعده خبر يخوف أولياءه أي يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه وهم الكفار فالمفعول الأول محذوف ويدل عليه قوله فلا تخافونهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه وقيل المعنى يخوف المنافقين وهم اولياؤه من كفار قريش فالمفعول الثاني على هذا محذوف ولا يحزنك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقرىء بفتح الياء وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثاني وهو أشهر في اللغة من أحزن الذين يسارعون في الكفر أي يبادرون إلى أقواله وأفعاله وهم المنافقون والكفار إن الذين اشتروا الآية هم المذكورون قبل أو على العموم في جميع الكفار إنما نملي لهم خير أي نمهلهم أن مفعول يحسبن وما اسم أن فحقها أن تكتب منفصلة وخير خبر إنما نملي لهم ما هنا كافة والمعنى رد عليهم أي أن الإملاء لهم ليس خيرا لهم إنما هو استدراج ليكتسبوا الإثم ما كان الله ليذر المؤمنين الآية خطاب للمؤمنين والمعنى ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين ولكنه ميز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو على النفاق وما كان الله ليطلعكم على الغيب أي ما كان الله ليطلعكم على ما في القلوب من الإيمان والنفاق أو ما كان الله ليطلعكم على أنكم تغلبون أو تغلبون ولكن الله يجتبي أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على ما شاء من غيبة

(1/226)


الذين يبخلون يمنعون الزكاة وغيرها هو خيرا هو فضل وخيرا مفعول ثان والأول محذوف تقديره لا يحسبن البخل خيرا لهم سيطوقون أي يلزمون إثم ما بخلوا به وقيل يجعل ما بخلوا به حية يطوقها في عنقه يوم القيامة لقد سمع الله الآية لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قال بعض اليهود وهو ... 126
126 فنحاص أو حيي بن أخطب أو غيرهما إنما يستقرض الفقير من الغنى فالله فقير ونحن أغنياء فنزلت هذه الآية وكان ذلك القول منهم اعتراضا على القرآن أوجبه قلة فهمهم أو تحريفهم للمعاني فإن كانوا قالوه باعتقاد فهو كفر وإن قالوه بغير اعتقاد فهو استخفاف وعناد سنكتب ما قالوا أي تكتبه الملائكة في الصحف وقتلهم الأنبياء أي قتل آبائهم للأنبياء وأسند إليهم لأنهم راضون به ومتبعون لمن فعله من آبائهم الذين قالوا صفة للذين وليس صفة للعبيد حتى يأتينا بقربان كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا قبول الله لصدقة أو غيرها جعلوه في مكان فتنزل نار من السماء فتحرقه وإن لم تنزل فليس بمقبول فزعموا أن الله جعل لهم ذلك علامة على صدق الرسل قل قد جاءكم رسل الآية رد عليهم بأن الرسل قد جاءتهم بمعجزات توجب الإيمان بهم وجاؤهم أيضا بالقربان الذي تأكله النار ومع ذلك كذبوهم وقتلوهم فذلك يدل على أن كفرهم عناد فإنهم كذبوا في قولهم إن الله عهد إلينا فإن كذبوك فقد كذب الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره فمن زحزح أي نحي وأبعد لتبلون الآية خطاب للمسلمين والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفي الأموال بالمصائب والإنفاق ولتسمعن الآية سببها قول اليهود إن الله فقير وسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين لتبيننه للناس ولا تكتمونه قال ابن عباس هي لليهود أخذ عليهم العهد في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فكتموه وهي عامة في كل من علمه الله علما الذين يفرحون بما أتوا الآية قال ابن عباس نزلت في أهل

(1/227)


الكتاب سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه وقال أبو سعيد الخدري نزلت في المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا ... 127
127 إليه وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الباء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وبالياء وضم الباء أسند الفعل للذين يفرحون أي لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب ومن قرأ تحسبن بالتاء فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والذين يفرحون مفعول به وبمفازة المفعول الثاني وكرر فلا تحسبنهم للتأكيد ومن قرأ لا يحسبن بالياء من أسفل فإنه حذف المفعولين لدلالة مفعولي لا تحسبنهم عليهما واختلاف الليل والنهار ذكر في البقرة قياما وقعودا وعلى جنوبهم أي يذكرون الله على كل حال فكأن هذه الهيآت حصر لحال بني آدم وقيل إن ذلك في الصلاة يصلون قياما فإن لم يستطيعوا صلوا قعودا فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم ربنا أي يقولون ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة بل خلقته وخلقت البشر لينظروا فيه فيعرفونك سمعنا مناديا هو النبي صلى الله عليه وسلم ما وعدتنا على رسلك أي على ألسنة رسلك من ذكر وأنثى من لبيان الجنس وقيل زائدة لتقدم النفي بعضكم من بعض النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات وأخرجوا من ديارهم هم المهاجرون آذاهم المشركون بمكة حتى خرجوا منها ثوابا منصوبا على المصدرية لا يغرنك الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تظنوا أن حال الكفار في الدنيا دائمة فتهتموا لذلك وأنزل لا يغرنك منزلة لا يحزنك متاع قليل أي تقلبهم في الدنيا قليل بالنظر إلى ما فاتهم في الآخرة نزلا منصوب على الحال من جنات

(1/228)


أو على المصدرية للأبرار جمع بار وبر ومعناه العاملون بالبر وهي غاية التقوى والعمل الصالح قال بعضهم الأبرار هم الذين لا يؤذون أحدا وإن من أهل الكتاب الآية قيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة فإنه كان نصرانيا فأسلم وقيل في عبد الله بن سلام ... 128
128 وغيره ممن أسلم من اليهود لا يشترون مدح لهم وفيه تعريض لذم غيرهم ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا وصابروا أي صابروا عدوكم في القتال ورابطوا أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم مستعدين للجهاد وقيل هو مرابطة العبد فيما بينه وبين الله أي معاهدته على فعل الطاعة وترك المعصية والأول أظهر قال صلى الله عليه وسلم رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه وأما قوله في انتظار الصلاة فذلكم الرباط فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لعظم أجره والمرابط عند الفقهاء هو الذي يسكن الثغور فيرابط فيها وهي غير موطنه فأما سكانها دائما بأهلهم ومعايشهم فليسوا مرابطين ولكنهم حماة حكاه ابن عطية
سورة النساء
يا أيها الناس اتقوا ربكم خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أول البقرة من نفس واحدة هو آدم عليه السلام زوجها هي حواء خلقت من ضلع آدم وبث نشر تساءلون به أي يقول بعضكم لبعض أسألك بالله أن تفعل كذا والأرحام بالنصب عطفا على اسم الله أي اتقوا الأرحام فلا تقطعوها أو على موضع الجار والمجرور وهو به لأن موضعه نصب وقريء بالخفض عطف على الضمير في به وهو ضعيف عند البصريين لأن الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض إن الله كان عليكم رقيبا إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال ثم يثمر حالين أما العلم فهو معرفة العبد لأن الله مطلع عليه ناظر إليه يرى جميع أعماله ويسمع جميع أقواله ويعلم كل ما يخطر على باله وأما الحال فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ولا يغفل

(1/229)


عنه ولا يكفي العلم دون هذه الحال فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين الحياء من الله وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات وكانت ثمرتها عند المقربين الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فقوله أن تعبد الله كأنك تراه إشارة إلى الثمرة الثانية وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين فلما فسر الإحسان ... 129

(1/230)


129 أول مرة بالمقام الأعلى رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه فنزل عنه إلى المقام الآخر واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله حمد الله وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقص عهد المرابطة عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة ثم اختبر بالمحاسبة فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم خطاب للأوصياء وقيل للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم وعلى القول بأن الخطاب للأوصياء فالمراد أن يأتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم فيكون اليتيم على هذا حقيقة وقيل المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا فيكون اليتيم على هذا مجاز لأن اليتيم قد كبر ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله والدرهم الطيب بالزائف فنهوا عن ذلك وقيل المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث وتدعوا مالكم وهو الطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم المعنى نهى أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم وقيل نهى عن خلط أموالهم بأموال اليتامى ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم وإنما تعدى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل بمعنى مع حوبا أي ذنبا فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا الآية قالت عائشة نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم فيريدون أن يتزوجوهن ويبخسوهن في الصداق مكان ولايتهم عليهم فقيل لهم أقسطوا في مهورهن فمن

(1/231)


خاف أن لا يقسط فليتزوج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفهن حقوقهن وقال ابن عباس إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء فنزلت الآية في ذلك أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى كذلك خافوا النساء وقيل إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر فإذا ضاق ماله أخذ من أمال اليتيم فقيل لهم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب أي ما حل وإنما قال ما ولم يقل من لأنه أراد الجنس وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء ومنه قوله وما ملكت أيمانكم مثنى وثلاث ورباع لا ينصرف للعدل والوصف وهي حال من ما طاب وقال ابن عطية بدل وهي عدوله عن إعداد مكرره ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد فتكررت الأعداد بتكرار الناس والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع وقال قوم لا يعبأ بقولهم إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع يجمع فيه تسعة وهذا خطأ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا وأيضا قد أنعقد الإجماع ... 130

(1/232)


130 على تحريم ما زاد على الرابعة فواحدة أي إن خفتم أن لا تعدلوا بين الإثنين أو الثلاث أو الأربع فاقتصروا على واحدة أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير رغبة في العدول وانتصاب واحدة بفعل مضمر تقديره فانكحوا واحدة ذلك أدنى ألا تعولوا الإشارة إلى الإقتصار على الواحدة والمعنى أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا ومعنى تعولوا تميلوا وقيل يكثر عيالكم وآتوا النساء صدقاتهن خطاب للأزواج وقيل للأولياء لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته وقيل نهى عن الشغار نحلة أي عطية منكم لهن أو عطية من الله وقيل معنى نحلة أي شرعة وديانة وانتصابه على المصدر من معنى آتوهن أو على الحال من ضمير المخاطبين فإن طبن لكم الآية إباحة للأزواج والأولياء على ما تقدم من الخلاف أن يأخذوا ما دفعه النساء من صدقاتهن عن طيب أنفسهن والضمير في منه يعود على الصداق أو على الإيتاء هنيئا مريئا عبارة عن التحليل ومبالغة في الإباحة وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه وهما وصف للمصدر أي أكلا هنيا أو حال من ضمير الفاعل وقيل يوقف على فكلوه ويبدأ هنيئا مريئا على الدعاء ولا تؤتوا السفهاء قيل هم أولاد الرجل وامرأته أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير وقيل السفهاء المحجورون وأموالكم أموال المحجورين وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم قياما جمع قيمة وقيل بمعنى قياما بألف أي تقوم بها معايشكم وارزقوهم فيها واكسوهم قيل إنها فيمن تلزم الرجل نفقته من زوجته وأولاده وقيل في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم وقولوا لهم قولا معروفا أي ادعوا لهم بخير أو عدوهم وعدا جميلا أي إن شئتم دفعنا لكم أموالكم وابتلوا اليتامى أي اختبروا رشدهم بلغوا النكاح بلغوا مبلغ الرجال فإن آنستم منهم رشدا الرشد هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله وإن لم يكن من أهل الدين واشترط قوم الدين

(1/233)


واعتبر مالك البلوغ والرشد وحينئذ يدفع المال واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه وقوله مخالف للقرآن وبدارا أن يكبروا ومعناه مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبرو موضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره مخافة أن يكبروا فليستعفف أمر الوصي الغنى أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال عمر بن الخطاب المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم فإذا أيسر رده وقيل المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته ومعنى بالمعروف من غير إسراف وقيل نسختها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فأشهدوا عليهم أمر بالتحرز والحرز فهو ... 131

(1/234)


131 ندب وقيل فرض للرجال نصيب الآيةسببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء فنزلت الآية ليرث الرجال النساء نصيبا مفروضا منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله فريضة من الله وقال الزمخشري منصوب على التخصيص أعني بمعنى نصيبا وإذا حضر القسمة الآية خطاب للوارثين أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم وعلى اليتامى وعلى المساكين فقيل إن ذلك على الوجوب وقيل على الندب وهو الصحيح وقيل نسخ بآية المواريث وليخش الذين الآية معناها الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في نظير أموالهم فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة وقيل الذين يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدق بماله حتى يجحف بورثته فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم وحذف مفعول وليخش وخافوا جواب لو قولا سديدا على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام الحسن وعلى القول الثاني أن يقول للموروث لا تسرف في وصيتك وأرفق بورثتك إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث وقيل في الأوصياء ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق إنما يأكلون في بطونهم نارا أي أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار وقيل يأكلون النار في جهنم يوصيكم الله في أولادكم هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع وقيل بسبب جابر بن عبد الله إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال وقيل نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال يوصيكم بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر ولم يقل يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال في أولادكم ولم يقل في أبنائكم لأن الابن يقع على الابن

(1/235)


من الرضاعة وعلى ابن البنت وعلى ابن المتبنى وليسوا من الورثة
للذكر مثل حظ الأنثيين هذا بيان للوصية المذكورة فإن قيل هلا قال للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر فالجواب أنه بدأ بالذكر لفضله ولأن القصد ذكر حظه ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث فإن كن نساء إنما أنت ضمير الجماعة في كن لأنه قصد الإناث وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث وقيل يعود على المتروكات وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير فوق اثنتين ظاهره أكثر من اثنتين ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان وأما البنتان فاختلف فيهما فقال ابن عباس لهما النصف كالبنت ... 132

(1/236)


132 الواحدة وقال الجمهور الثلثان وتأولوا فوق اثنتين أن المراد اثنتان فما فوقهما وقال قوم إن فوق زائدة كقوله فاضربوا فوق الأعناق وهذا ضعيف وقال قوم إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل بالقياس على الأختين وإن كانت واحدة بالرفع فاعل وكان تامة وبالنصب خبر كان وقوله تعالى فلهما النصف نص على أن للبنت النصف إذا انفردت ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد لأن للذكر مثل حظ الأنثيين إن كان له ولد الولد يقع على الذكر والأنثى والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب أو ولد ابن وكلهم يرد الأبوين إلى السدس وورثه أبواه فلأمه الثلث لم يجعل الله للأم الثلث إلا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان فاقتضى ذلك أن الأب يأخذ بقية المال وهو الثلثان فإن كان له إخوة فلأمه السدس أجمع العلماء على أن ثلاثة من الإخوة يردون الأم إلى السدس واختلفوا في الإثنين فذهب الجمهور أنهما يردانها إلى السدس ومذهب ابن عباس أنهما لا يردانها إليه بل هما كالأخ الواحد وحجته أن لفظ الإخوة لا يقع على الإثنين لأنه جمع لا تثنية وأقل الجمع ثلاثة وقال غيره أن لفظ الجمع قد يقع على الإثنين كقوله وكنا لحكمهم شاهدين وتسوروا المحراب وأطراف النهار واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة وقال مالك مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا ومذهبه أن أقل الجمع اثنان فعلى هذا يحجب الأبوان من الثلث إلى السدس سواء كانا شقيقين أو لأب أو لأم أو مختلفين وسواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكر أو أنثى فإن كان معهما أب ورث بقية المال ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور فهم يحجبون الأم ولا يرثون وقال قوم يأخذون السدس الذي حجبوه عن الأم وإن لم يكن أب ورثوا من بعد

(1/237)


وصية يوصي بها أو دين قوله من بعد يتعلق بالاستقرار المضمر في قوله فلهن ثلثا ما ترك أي استقر لهن الثلثان من بعد وصية ويمتنع أن يتعلق بترك وفاعل يوصي الميت وإنما قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة اهتماما بها وتأكيدا للأمر بها ولئلا يتهاون بها وأخر الدين لأن صاحبه يتقاضاه فلا يحتاج إلى تأكيد في الأمر بإخراجه وتخرج الوصية من الثلث والدين من رأس المال بعد الكفن وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين ليدل على أنهما قد يكونان وقد لا يكونان فدل ذلك على وجوب الوصية أقرب لكم نفعا قيل بالإنفاق إذا احتيج إليه وقيل بالشفاعة في الآخرة ويحتمل أن يريد نفعا بالميراث من ماله وهو ألبق بسياق الكلام ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآية خطاب للرجال وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة ولا ينقص عن ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام إلا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء خلافا لابن عباس ... 133

(1/238)


133 فإنه لا يقول بالعول فإن قيل لم كرر قوله من بعد وصية مع ميراث الزوج وميراث الزوجة ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين فالجواب أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج وكل واحدة قضية على انفرادها فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة بخلاف الأولى فإن الموروث فيها واحد ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه وهي قضيه واحدة فلذلك قال فيها من بعد وصية مرة واحدة وإن كان رجل يورث كلالة الكلالة هي انقطاع عمود النسب وهو خلو الميت عن ولد ووالد ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث أو على الورثة أو على القرابة أو على المال بأن كانت على الميت فإعرابها خبر كان ويورث في موضع الصفة أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث أو تكون كان تامة ويورث في موضع الصفة وكلالة حال من الضمير وإن كانت المورثة فهي مصدر في موضع الحال وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله وإن كانت للمال فهي مفعول ليورث وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة ويورث في موضع الصفة وأن تكون ناقصة ويورث خبرها وله أخ أو أخت المراد هنا الأخ للأم والأخت للأم بإجماع وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت لأمه وذلك تفسير للمعنى فكل واحد منهما السدس إذا كان الأخ للأم واحد فله السدس وكذلك إذا كانت الأخت للأم واحدة فهم شركاء في الثلث إذا كان الإخوة للأم اثنين فصاعدا فلهما الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى لأن قوله شركاء يقتضي التسوية بينهم ولا خلاف في ذلك غير مضار منصوب على الحال والعامل فيه يوصي ومضار اسم فاعل قال ابن عباس الضرار في الوصية من الكبائر ووجوه المضار كثيرة منها الوصية لوارث والوصية بأكثر من الثلث أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقا واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب والمشهور أنه ينفذ وصية من الله مصدر

(1/239)


مؤكد لقوله يوصيكم الله ويجوز أن ينتصب بغير مصدر تلك حدود الله إشارة إلى ما تقدم من المواريث وغيرها ومن يعص الله ورسوله الآية تعلق بها المعتزلة في قولهم إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار يأتين الفاحشة هي هنا الزنا من نسائكم أو من المسلمات لأن المسلمة تحد حد الزنا ... 134
134 وأما الكافر أو الكافرة فاختلف هل يحد أو يعاقب فاستشهدوا عليهن أربعة منكم قيل إنما جعل شهداء الزنا أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد وقيل ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين فأمسكوهن في البيوت كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا وهو السب والتوبيخ وقيل الإمساك للنساء والأذى للرجال فلا نسخ بينهما ورجحه ابن عطية بقوله في الإمساك من نسائكم وفي الأذى منكم ثم سنخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن وبالجلد لغير المحصن واستقر الأمر على ذلك وأما الجلد فمذكور في سورة النور وأما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه وقد رجم صلى الله عليه وسلم ماعز الأسلمي وغيره فأعرضوا عنهما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب وهو ترك الأذى إنما التوبة على الله أي إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء وقال أبو المعالي يغلب ذلك على الظن ولا يقطع به يعملون السوء بجهالة أي بسفاهة وقلة تحصيل أداة إلى المعصية وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية قال أبو العالية أجمع الصحابة على أن كل معصية فهي بجهالة سواء كانت عمدا أو جهلا ثم يتوبون من قريب قيل قبل المرض والموت وقيل قبل السياق ومعاينة الملائكة وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وليست التوبة الآية في الذين يصرون على

(1/240)


الذنوب إلى حين لا تقبل التوبة وهو معاينة الموت فان كانوا كفارا فهم مخلدون في النار بإجماع وإن كانوا مسلمين فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم فقوله أعتدنا لهم عذابا أليما ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من المسلمين بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فعذابهم مقيد بالمشيئة
لا يحل لكم أن ترثوا النساء قال ابن عباس كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤا تزوجها أحدهم وإن شاؤا زوجوها من غيرهم وإن شاؤا منعوها التزوج فنزلت الآية في ذلك فمعنى الآية على هذا لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال كما يورث المال وقيل الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها من غير غبطة بها وقيل الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج ولا تعضلوهن معطوف على أن ترثوا أو نهي والعضل المنع قال ابن عباس هي أيضا في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوج بعد موته إلا أن قوله ما آتيتموهن على هذا معناه ... 135

(1/241)


135 ما آتاها الرجل الذي مات وقال ابن عباس هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدي بصداقها وهو ظاهر اللفظ في قوله ما آتيتموهن ويقويه قوله وعاشروهن بالمعروف فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج وقد يكون في غيرهم وقيل هي للأولياء إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قيل الفاحشة هنا الزنا وقيل نشوز المرأة وبغضها في زوجها فإذا نشزت جاز له أن يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها وهذا جائز على مذهب مالك في الخلع إذا كان الضرر من المرأة والزنا أصعب على الزوج من النشوز فيجوز له أخذ الفدية فإن كرهتموهن الاية معناها إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر وقيل الخير الكثير الولد والأحسن العموم وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا يترك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي آخر وإن أردتم استبدال زوج الآية معناها المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فدية على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى وعلى هذا جرى مذهب مالك وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر وأرادت الفراق من الزوج فقال قوم إن هذه الآية منسوخة بقوله في البقرة فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال قوم هي ناسخة والصحيح أنها غير ناسخة ولا منسوخة فإن جواز الفدية على وجه ومنعها على وجه فلا تعارض ولا نسخ قنطارا مثال على جهة المبالغة في الكثرة وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك فقال عمر رضي الله عنه امرأة أصابت ورجل أخطأ كل الناس أفقه منك يا عمر أفضى بعضكم إلى بعض كناية عن الجماع ميثاقا غليظا قيل عقدة النكاح ) وقيل قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل الأمر بحسن العشرة ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء كان بعض العرب يتزوج إمرأة أبيه بعده فنزلت الآية تحريما لذلك فكل امرأة تزوجها رجل حرمت على أولاده ما سفلوا سواء دخل بها أو لم يدخل

(1/242)


فالنكاح في الآية بمعنى العقد وما نكح يعني النساء وإنما أطلق عليهن ما وإن كن ممن يعقل لأن المراد الجنس فإن زنى رجل بامرأة فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا فحرمه أبو حنيفة وأجازه الشافعي وفي المذهب قولان واحتج من حرمه بهذه الاية وحمل النكاح فيها على الوطء وقال من أجازه إن الآية لا تتناوله إذ النكاح فيها بمعنى العقد إلا ما قد سلف أي إلا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك وانقطع بالإسلام فقد عفى عنه فلا تؤاخذون به ويدل على هذا قوله إن الله كان غفورا رحيما بعد قوله إلا ما قد سلف في المرأة الأخرى في الجمع بين الأختين قال ابن عباس كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين وقيل المعنى إلا ما قد سلف فانكحوه إن أمكنكم وذلك غير ممكن فالمعنى المبالغة في التحريم إنه كان فاحشة ومقتا كان في هذه الاية تقتضي الدوام كقوله إن الله كان غفورا رحيما وشبه ذلك وقال ... 136

(1/243)


136 المبرد هي زائدة وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبا وزاد هذا المقت على ما وصف من الزنا في قوله تعالى إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا دلالة على أن هذا أقبح من الزنا حرمت عليكم الآية معناها تحريم ما ذكر من النساء والنساء المحرمات على التأييد ثلاثة أصناف بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف وهي المذكورة في هذه الآية وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله ما سفلت وأصوله ما علت وفصول أبويه ما سفلت وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه أمهاتكم يدخل فيه الوالدة والجدة من قبل الأم والأب ما علون وبناتكم يدخل فيه البنت وبنت الابن وبنت البنت ما سفلن وأخواتكم يدخل فيه الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وعماتكم يدخل فيه أخت الوالد وأخت الجد ما علا سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وخالاتكم يدخل فيه أخت الأم وأخت الجد ما علت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وبنات الأخ يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأب أو لأم وبنات الأخت يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم الأم والأخت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وتفصيل ذلك يطول وفي الرضاع مسائل لم نذكرها لأنها ليس لها تعلق بألفاظ الآية وأمهات نسائكم المحرمات بالمصاهرة أربع وهن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة وبنت الزوجة فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلا بعد الدخول بأمها فإن وطئها حرمت عليه بنتها بالإجماع وإن تلذذ بها بما دون الوطء فحرمها مالك والجمهور وإن عقد عليها ولم يدخل بها لم تحرم بنتها إجماعا وتحرم هذه الأربع بالرضاع

(1/244)


كما تحرم بالنسب وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم الربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة وقوله اللاتي في حجوركم على غالب الأمر إذ الأكثر أن تكون الربيبة في حجر زوج أمها وهي محرمة سواء كانت في حجره أم لا هذا عند الجمهور من العلماء إلا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره اللاتي دخلتم بهن اشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة ولم يشترط في غيرها وعلى ذلك جمهور العلماء إلا ما روي عن علي بن أبي طالب أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع وقد انعقد الإجماع بعد ذلك وحلائل أبنائكم الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة الذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل وهو أجنبي عنه كتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش امرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يقال له زيد ابن محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريم الجمع بين الأختين سواء كانتا شقيقتين أو لأب أو لأم وذلك ... 137

(1/245)


137 في الزوجتين وأما الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم ورأوا أنه داخل في عموم لفظ الأختين وأجازه الظاهرية لأنهم قصروا الآية على الجمع بالنكاح وأما الجمع بين الأختين في الملك دون وطء فجائز باتفاق إلا ما قد سلف المعنى إلا ما فعلتم من ذلك في الجاهليه وانقطع بالإسلام فقد عفى عنكم فلا تؤاخذون به وهذا أرجح الأقوال حسبما تقدم في الموضع الأول والمحصنات من النساء المراد هنا ذوات الأزواج وهو معطوف على المحرمات المذكورة قبله والمعنى أنه لا يحل نكاح المرأة إذا كانت في عصمة الرجل إلا ما ملكت أيمانكم يريد السبايا في أشهر الأقوال والاستثناء متصل والمعنى أن المرأة الكافرة إذا كان لها زوج ثم سبيت جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا من العدو لهن أزواج من المشركين فتأثم المسلمون من غشيانهن فنزلت الآية مبيحة لذلك ومذهب مالك أن السبي يهدم النكاح سواء سبي الزوجان الكافران معا أو سبي أحدهما قبل الآخر وقال ابن المواز لا يهدم السبي النكاح كتاب الله عليكم منصوب على المصدرية أي كتب الله عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم وهو عند الكوفيين منصوب على الإغراء وأحل لكم ما وراء ذلكم معناه أحل لكم تزويج من سوى ما حرم من النساء وعطف أحل على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله والفاعل هو الله أي كتب الله عليكم تحريم من ذكر وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا مفعول من أجله أو بدل مما وراء ذلكم وحذف مفعوله وهو النساء محصنين هنا العفة ونصبه على الحال من الفاعل في تبتغوا غير مسافحين أي غير زناة والسفاح هو الزنا فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال ابن عباس وغيره معناها إذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء فقد وجب إعطاء الأجر وهو الصداق كاملا وقيل إنها في نكاح المتعة وهو

(1/246)


النكاح إلى أجل من غير ميراث وكان جائزا في أول الإسلام فنزلت هذه الآية في وجوب الصداق فيه ثم حرم عند جمهور العلماء فالآية على هذا منسوخة بالخبر الثابت في تحريم نكاح المتعة وقيل نسختها آية الفرائض لأن نكاح المتعة لا ميراث فيه وقيل نسختها والذين هم لفروجهم حافظون وروي عن ابن عباس جواز نكاح المتعة وروي أنه رجع عنه ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من قال إن الآية المتقدمة في مهور النساء فمعنى هذه جواز ما يتراضون به من حظ النساء من الصداق أو تأخيره بعد استقرار الفريضة ومن قال إن الآية في نكاح المتعة فمعنى هذا جواز ما يتراضون به من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات معناها إباحة تزويج الفتيات وهن الإماء للرجل إذا لم يجد طولا للمحصنات والطول هنا هو السعة في المال والمحصنات هنا يراد بهن الحرائر غير المملوكات ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز ... 138

(1/247)


138 للحر نكاح أمة إلا بشرطين أحدهما عدم الطول وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة والآخر خوف العنت وهو الزنا لقوله بعد هذا ذلك لمن خشي العنت منكم وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى من فتياتكم المؤمنات إلا أهل العراق فلم يشترطوه وإعراب طولا مفعولا بالاستطاعة وأن ينكح بدل منه وهو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ويحتمل أن يكون طولا منصوبا على المصدر والعامل فيه الإستطاعة لأنها بمعنى يتقارب وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر والله أعلم بإيمانكم معناه أنه يعلم بواطن الأمور ولكم ظواهرها فإذا كانت الأمة ظاهرة الإيمان فنكاحها صحيح وعلم باطنها إلى الله بعضكم من بعض أي إماؤكم منكم وهذا تأنيس بنكاح الإماء لأن بعض العرب كان يأنف من ذلك فانكحوهن بإذن أهلهن أي بإذن ساداتهن المالكين لهن وآتوهن أجورهن أي صدقاتهن وهذا يقتضي أنهن أحق بصدقاتهن من ساداتهن وهو مذهب مالك بالمعروف أي بالشرع على ما تقتضيه السنة محصنات غير مسافحات أي عفيفات غير زانيات وهو منصوب على الحال والعامل فيه فانكحوهن ولا متخذات أخدان جمع خدن وهو الخليل وكان من نساء الجاهلية من تتخذ خدنا تزني معه خاصة ومنهن من كانت لا ترد يد لامس فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب معنى ذلك أن الأمة إذا زنت بعد أن أحصنت فعليها نصف حد الحرة فإن الحرة تجلد في الزنا مائة جلدة والأمة تجلد خمسين فإذا أحصن يريد به هنا تزوجن والفاحشة هنا الزنا والمحصنات هنا الحرائر والعذاب هنا الحد فاقتضت الآية حد الأمة إذا زنت بعد أن تزوجت ويؤخذ حد غير المتزوجة من السنة وهو مثل حد المتزوجة وهذا على قراءة أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد وقرىء بفتحهما ومعناه أسلمن وقيل تزوجن ذلك لمن خشي العنت منكم الإشارة إلى

(1/248)


تزوج الأمة أي إنما يجوز لمن خشي على نفسه الزنا لا لمن يملك نفسه وأن تصبروا خير لكم المراد الصبر عن نكاح الإماء وهذا يندب إلى تركه وعلته ما يؤدي إليه من استرقاق الولد يريد الله ليبين لكم قال الزمخشري أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب وقال الكوفيون اللام مصدرية مثل أن ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم والله يريد أن يتوب عليكم كرر توطئة لفساد إرادة الذين يتبعون الشهوات وهم هنا الزناة عند مجاهد وقيل المجوس لنكاحهم ذات المحارم وقيل عام في كل ... 139

(1/249)


139 متبع شهوة وهو أرجح يريد الله أن يخفف عنكم يقتضي سياق الكلام التخفيف الذي وقع في إباحة نكاح الإماء وهو مع ذلك عام في كل ما خفف الله عن عباده وجعل دينه يسرا وخلق الإنسان ضعيفا قيل معناه لا يصبر على النساء وذلك مقتضى سياق الكلام واللفظ أعم من ذلك لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل يدخل فيه القمار والغصب والسرقة وغير ذلك إلا أن تكون تجارة استثناء منقطع والمعنى لكن إن كانت تجارة فكلوها وفي إباحة التجارة دليل على أنه يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة والمشهور إمضاء البيع وحكي عن ابن وهب أنه يرد إذا كان الغبن أكثر من الثلث وموضع أن نصب وتجارة بالرفع فاعل تكون وهي تامة وقرىء بالنصب خبر تكون وهي ناقصة عن تراض منكم أي اتفاق وبهذا استدل المالكية على تمام البيع بالعقد دون التفرق وقال الشافعي إنما يتم بالتفرق بالأبدان لقوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا ولا تقتلوا أنفسكم قال ابن عطية أجمع المفسرون أن المعنى لا يقتل بعضكم بعضا قلت ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعه ومن يفعل ذلك إشارة إلى القتل لأنه أقرب مذكور وقيل إليه وإلى أكل المال بالباطل وقيل إلى كل ما تقدم من المنهيات من أول السورة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) اختلف الناس في الكبائر ما هي فقال ابن عباس الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب وقال ابن مسعود الكبائر هي الذنوب المذكورة من أول هذه السورة إلى أول هذه الآية وقال بعض العلماء كل ما عصى الله به فهو كبيرة وعدها بعضهم سبعة عشر وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا السبع الموبقات الإشراك بالله والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات فلا شك أن هذه من الكبائر للنص عليها في الحديث وزاد

(1/250)


بعضهم عليها أشياء وورد في الأحاديث النص على أنها كبائر وورد في القرآن أو في الحديث وعيد عليها فمنها عقوق الوالدين وشهادة الزور واليمين الغموس والزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة والقنوط من رحمة الله والأمن مكر الله ومنع ابن السبيل الماء والإلحاد في البيت الحرام والنميمة وترك التحرز من البول والغلول واستطالة المرء في عرض أخيه والجور في الحكم نكفر عنكم سيئاتكم وعد بغفران الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر مدخلا كريما اسم مكان وهو هنا الجنة ولا تتمنوا الآية سببها أن النساء قلن ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشاركناهم في الغزو فنزلت نهيا عن ذلك لأن في تمنيهم رد على حكم الشريعة فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها للرجال نصيب مما اكتسبوا الآية أي من الأجر والحسنات وقيل من الميراث ... 140

(1/251)


140 ويرده لفظ الاكتساب ولكل جعلنا موالي الآية في معناه وجهان أحدهما لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه فما ترك على هذا بيان لكل والآخر لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون فما ترك على هذا يتعلق بفعل مضمر والموالي هنا الورثة والعصبة والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم اختلف هل هي منسوخة أو محكمة فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية وقيل بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ثم نسخها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فصار الميراث للأقارب والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا فقال ابن عباس هي في المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به وقال أبو حنيفة هي في الميراث وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر على أن يتوارثا صح ذلك وإن لم تكن بينهما قرابة الرجال قوامون على النساء قوام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه قال ابن عباس الرجال أمراء على النساء بما فضل الله الباء للتعليل وما مصدرية والتفضيل بالإمامة والجهاد وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك وبما أنفقوا هو الصداق والنفقة المستمرة فالصالحات قانتات أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن أو مطيعة لله في حق أزواجهن حافظات للغيب أي تحفظ كلما غاب عن علم زوجها فيدخل في ذلك صيانة نفسها وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره بما حفظ الله أي بحفظ الله ورعايته أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه فما مصدرية أو بمعنى الذي واللاتي تخافون نشوزهن قيل الخوف هنا اليقين فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب بالوعظ في النشوز الخفيف والهجران فيما هو أشد منه والضرب فيما هو أشد ومتى انتهت عن النشوز بوجه من التأديب لم يتعد إلى ما بعده والهجران هنا هو ترك مضاجعتها وقيل ترك

(1/252)


الجماع إذا ضاجعها والضرب غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أي إذا أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها بهجران ولا ضرب وإن خفتم شقاق بينهما الشقاق الشر والعداوة وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى بل مكر الليل والنهار وأصله مكر بالليل والنهار فابعثوا حكما الآية ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة والحكم في طاعتها ثم ذكر هنا حالة أخرى وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما ولا علم من الظالم منهما فيبعث حكمان مسلمان لينظر في أمرهما وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع ... 141

(1/253)


141 من غير إذن الزوج وقال أبو حنيفة ليس لهما الفراق إلا إن جعل لهما وإن اختلفا لم يلزم شيء إلا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين وقيل يبعثهما الزوجان وجرت عادة القضاة أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا حكمين قال بعض العلماء هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية من أهله وحكما من أهلها يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما الضمير في يريدا للحكمين وفي بينهما للزوجين على الأظهر وقيل الضميران للزوجين وقيل للحكمين والجار ذي القربى والجار الجنب قال ابن عباس الجار ذي القربى هو القريب النسب والجار الجنب هو الأجنبي وقيل ذي القربى القريب المسكن منك والجنب البعيد المسكن عنك وحد الجوار عند بعضهم أربعون ذراعا من كل ناحية الصاحب بالجنب قال ابن عباس الرفيق في السعي وقال علي بن أبي طالب الزوجة مختالا اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه فخورا شديد الفخر الذين يبخلون بدل من قوله مختالا أو نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون والآية في اليهود نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات وهي مع ذلك عامة من فعل هذه الأفعال من المسلمين والذين ينفقون عطف على الذين يبخلون وقيل على الكافرين والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة وقيل في اليهود وقيل في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين قرينا أي ملازما له يغويه وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر الآية استدعاء لهم كملاطفة أو توبيخ على ترك الإيمان والإنفاق كأنه يقول أي مضرة عليهم في ذلك مثقال ذرة أي وزنها وهي النملة الصغيرة وذلك

(1/254)


تمثيل بالقليل تنبيها على الكثير وإن تك حسنة بالرفع فاعل وتك تامة وبالنصب خبر من أنها ناقصة واسمها مضمر فيها يضاعفها أي يكثرها واحد البر بعشر إلى سبعمائة أو أكثر ويؤت من لدنه أي من عنده تفضلا وزيادة على ثواب العمل فكيف إذا جئنا تقديره كيف يكون الحال إذا جئنا بشهيد هو نبيهم يشهد عليهم بأعمالهم وجئنا بك على هؤلاء شهيدا أي تشهد على قومك ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله ... 142

(1/255)


142 صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه لو تسوى بهم الأرض أي يتمنون أن يدفنوا فيها ثم تسوى بهم كما تسوى بالموتى وقيل يتمنون أن يكونوا سواء مع الأرض كقوله ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة
ولا يكتمون الله حديثا استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئا فإن قيل كيف هذا مع قولهم والله ربنا ما كنا مشركين فالجواب من وجهين أحدهما أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم فكأنهم لم يكتموا والآخر أنهم طوائف مختلفة ولهم أوقات مختلفة وقيل إن قوله ولا يكتمون عطف على تسوى أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها ثم قاموا إلى الصلاة وأمهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر قال بعض الناس هي منسوخة بتحريم الخمر وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر وإنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها وقال بعضهم معناها لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب وهذا بعيد من مقتضى اللفظ حتى تعلموا ما تقولون حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤن ويظهر من هذا أن السكران لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أن السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره ولا جنبا إلا عابري سبيل عطف ولا جنبا على موضع وأنتم سكارى إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج وهو واقع على جماعة بدليل استثناء الجمع منه واختلف في عابري سبيل فقيل إنه المسافر ومعنى الآية على هذا نهى أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال فمقتضى الآية إباحة التيمم للجنب في السفر ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث

(1/256)


وقيل عابر السبيل المار في المسجد والصلاة هنا يراد بها المسجد لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا النهي أن يقرب المسجد الجنب إلا خاطرا عليه وعلى هذا أخذ الشافعي بأنه يجوز للجنب أن يمر في المسجد ولا يجوز له أن يقعد فيه ومنع مالك المرور والقعود وأجازهما داود وإن كنتم مرضى أو على سفر الآية سببها عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأبيح لهم التيمم لعدم الماء ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه أحدهما عدمه في السفر والثاني عدمه في المرض فيجوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع لأن الآية نص في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما لقوله وإن كنتم مرضى أو على سفر ثم قال فلم تجدوا ماء الوجه الثالث عدم الماء في الحضر دون مرض فاختلف الفقهاء فيه فمذهب أبو حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم لإن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يعتبر مع المرض أو السفر ومذهب مالك والشافعي أنه يجوز فيه التيمم فإن قلنا إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنة وإن قلنا إن الآية تقتضيه فيؤخذ جوازه منها وهذا هو الأرجح إن شاء الله وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر ثم ذكر الإحداث دون مرض ولا سفر ثم قال بعد ذلك كله فلم تجدوا ماء فيرجع قوله فلم تجدوا ماء إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر فيجوز التيمم على هذا لمن عدم الماء في غير مرض ولا سفر فيكون في الآية حجة لمالك والشافعي ويجوز التيمم أيضا في مذهب مالك للمريض إذا وجد الماء ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه فإن قلنا إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنة وإن قلنا إن السنة تقتضيه فيؤخذ جوازه منها ... 143

(1/257)


143 على أن يتناول قوله إن كنتم مرضى أن معناه مرضى لا تقدرون على مس الماء وحد المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البرء وعند الشافعي خوف الموت لا غير وحد السفر الغيبة عن الحضر كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا أو جاء أحد منكم في أو هنا تأويلان أحدهما أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها والآخر أنها بمعنى الواو فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر وإلى من جاء من الغائط وإلى من لامس سواه كانا مريضين أو مسافرين أم حسبما ذكرنا قبل هذا فيقتضي ذلك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضع آخر والراجح أن تكون أو على بابها لوجهين أحدهما أن جعلها بمعنى الواو إخراج لها عن أصلها وذلك ضعيف والآخر إن كانت على بابها كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها وإذا كانت بمعنى الواو لم تعط هذه الفائدة وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها وهذا لا يلزم لأن العطف بأو هنا للتنويع والتفصيل ومعنى الآية كأنه قال يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماء إن كنتم مرضى أو على سفر وأحدثتم في غير مرض ولا سفر الغائط أصله المكان المنخفض وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين وهو العذرة والريح والبول لأن من ذهب إلى الغائط يكون منه هذه الأحداث الثلاث وقيل إنما هو كناية عن العذرة وأما البول والريح فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة وكذلك الودي والمذي أو لامستم

(1/258)


النساء اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال أحدها أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها وهو قول مالك فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب ويجب معه التيمم إذا عدم الماء ويكون الجنب من أهل التيمم والقول الثاني أنها ما دون الجماع فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس ولا يجوز التيمم للجنب وقد قال بذلك عمر بن الخطاب ويؤخذ جوازه من الحديث والثالث أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة فلم تجدوا ماء هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا فتيمموا التيمم في اللغة القصد وفي الفقه الطهارة بالتراب وهو منقول من المعنى اللغوي صعيدا طيبا الصعيد عند مالك هو وجه الأرض كان ترابا أو رملا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله وهو عند الشافعي التراب لا غير والطيب هنا الطاهر واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق بالآجر وبالجص المطبوخ وبالجدار وبالنبات الذي على وجه الأرض وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد فامسحوا بوجوهكم وأيديكم لا يكون التيمم إلا في هذين العضوين ويقدم الوجه على اليدين لظاهر ... 144

(1/259)


144 الآية وذلك على الندب عند مالك ويستوعب الوجه بالمسح وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين أو إلى المرفقين ولفظ الآية محتمل لأنه لم يحد وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق فيحمل على المقيد وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود هنا وفي الموضع الثاني قال السهيلي فالموضع الأول نزل في رفاعة بن زيد بن التابوت وفي الثاني نزل في كعب بن الأشرف يشترون الضلالة عبارة عن إيثارهم الكفر على الإيمان فالشراء مجاز كقوله اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله كفى بالله مبالغة من الذين هادوا من راجعة إلى الذين أوتوا نصيبا أو إلى أعدائكم فهي بيان وقال الفارسي هي ابتداء كلام تقديره من الذين هادوا قوم وقيل هي متعلقة بنصيرا على قول الفارسي يحرفون الكلم يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى وقيل الكلم هنا التوراة وقيل كلام النبي صلى الله عليه وسلم غير مسمع معناه لا سمعت راعنا ذكر في البقرة سمعنا وأطعنا عوض من قولهم سمعنا وعصينا واسمع عوض من قولهم اسمع غير مسمع وانظرنا عوض من قولهم راعنا وهو النظر أو الانتظار فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضا عن تلك لكان خيرا لهم فإن هذه ليس فيها سوء أدب مصدقا ذكر في البقرة أن نطمس وجوها قال ابن عباس طمسها أن تزال العيون منها وترد في القفا فيكون ذلك ردا على الدبر وقيل طمسها محو تخطيط صورها من أنف أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس أو نلعنهم أي نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت وقد ذكر في البقرة أو يكون من اللعن المعروف والضمير يعود على الوجوه والمراد أصحابها أو على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن

(1/260)


يشاء هذه الآية هي الحاكمة في مسئلة الوعيد وهي المبينة لما تعارض فيها من الايات وهي الحجة لأهل السنة والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم وحجتهم هذه الآية فإنها نص في هذا المعنى ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد ويرد على الطائفتين قوله ويغفر ما دون ذلك ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بد وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان ويرد عليهم قوله لمن يشاء فإنه ... 145

(1/261)


145 تخصيص لبعض العصاة وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم فقالوا لمن يشاء وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب وهذا التأويل بعيد لأن قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به في غير التائب من الشرك وكذلك قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء في غير التائب من العصيان ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد وتأولتها المرجئة على مذهبهم فقالوا لمن يشاء معناه لمن يشاء أن يؤمن وهذا أيضا بعيد لا يقتضيه اللفظ وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد فحملها المعتزلة على العصاة وحملها المرجئة على الكفار وحملها أهل السنة على الكفار وعلى من لا يغفر الله له من العصاة كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا وعلى المذنبين التائبين وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آية الوعد وآية الوعيد بل يجمع بين معانيها بخلاف قول غيرهم فإن الآيات فيه تتعارض وتخليص المذاهب أن الكافر إذا تاب من كفره غفر له بإجماع وإن مات على كفره لم يغفر له وخلد في النار بإجماع وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه الذين يزكون أنفسهم هم اليهود لعنهم الله وتزكيتهم قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل مدحهم لأنفسهم فتيلا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة وقيل ما يخرج بين اصبعيك وكفيك إذا فتلتهما هو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء فيدل على الأكثر بطريق الأولى يفترون دليل على أن تزكيتهم لأنفسهم بالباطل يؤمنون بالجبت والطاغوت قال ابن عباس الجبت هو حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وقال عمر بن الخطاب الجبت السحر والطاغوت الشيطان وقيل الجبت الكاهن والطاغوت الساحر وبالجملة هما كل ما عبد وأطيع من دون الله
ويقولون للذين كفروا الآية سببها أن حيي بن أخطب وكعب بن الشرف أو غيرهما من اليهود قالوا لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من محمد وأصحابه

(1/262)


أم لهم نصيب من الملك الهمزة للاستفهام مع الإنكار نقيرا النقير هي النقرة في ظهر النواة وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء والمراد وصف اليهود بالبخل لو كان لهم نصيب من الملك وأنهم حينئذ يبخلون بالنقير الذي هو أقل الأشياء ويبخلون بما هو أكثر منه من باب أولى أم يحسدون الناس وصفهم بالحسد مع البخل والناس هنا يراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته والفضل النبوة وقيل النصر والعزة وقيل الناس العرب والفضل كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة ... 146

(1/263)


146 التي علمها والمقصود بالآية الرد على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم فلأي شيء تخصون محمدا صلى الله عليه وسلم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم ملكا عظيما الملك في آل إبراهيم هو ملك يوسف وداود وسليمان فمنهم من آمن به الآية قيل المراد من اليهود من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن المذكور في قوله تعالى مصدقا لما معكم أو بما ذكر من حديث إبراهيم فهذه ثلاثة أوجه في ضمير به وقيل منهم أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر كقوله تعالى فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون كلما نضجت جلودهم الآية قيل تبدل لهم جلود بعد جلود أخرى إذ نفوسهم هي المعذبة وقيل تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار وقيل الجلود السرابيل وهو بعيد أزواج مطهرة ذكر في البقرة ظلا ظليلا صفة من لفظ الظل للتأكيد أي دائما لا تنسخه الشمس وقيل نفي الحر والبرد إن الله يأمركم الآية قيل هي خطاب للولاة وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ولفظها عام وكذلك حكمها وأولوا الأمر هم الولاة وقيل العلماء نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فردوه إلى الله والرسول الرد إلى الله هو النظر في كتابه والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته إن كنتم يحتمل أن يكون هذا الشرط راجعا إلى قوله فردوه أو إلى قوله أطيعوا والأول أظهر لأنه أقرب إليه وأحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة وقيل أحسن نظرا منكم الذين يزعمون الآية نزلت في المنافقين وقيل في منافق ويهودي كان بينهما خصومة فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي وقيل إلى كاهن رايت المنافقين وضع الظاهر موضع المضمر ليذمهم بالنفاق ودل ذلك على أن الآية المتقدمة نزلت في

(1/264)


المنافقين فكيف إذا اصابتهم مصيبة الآية أي كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم ثم جاؤك ... 147
147 يحلفون بالله ) يحتمل أن يكون هذا معطوفا على ما قبله أو يكون معطوفا على قوله يصدون ويكون قوله فكيف إذا أصابتهم اعتراضا فأعرض عنهم أي عن معاقبتهم وليس المراد بالإعراض القطيعة لقوله وعظهم ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية وعد بالمغفرة لمن استغفر وفيه استدعاء للاستغفار والتوبة ومعنى جاؤك أتوك تائبين معتذرين من ذنوبهم يطلبون أن تستغفر لهم الله فلا وربك لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها شجر بينهم أي اختلط واختلفوا فيه ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا وقيل بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار في الماء وحكمها عام ولو أنا كتبنا عليهم معناها لو فرض عليهم ما فرض على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها لقلة انقيادهم إلا القليل منهم الذين هم مؤمنون حقا وقد روي أن من هؤلاء القليل أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار بن ياسر وثابت بن قيس إلا قليل بالرفع بدل من المضمر وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على أصل الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا ما يوعظون به من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد له وأشد تثبيتا أي تخفيفا لإيمانهم وإذا لآتيناهم جواب لسؤال مقدر عن حالهم لو فعلوا ذلك فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ثواب على الطاعة أي هم معهم في الجنة وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم والصديق فعيل من الصدق ومن التصديق والمراد به المبالغة والصديقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والشهداء المقتولون في سبيل الله ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء كالغريق وصاحب الهدم حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة وحسن أولئك رفيقا الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة والرفيق يقع على الواحد

(1/265)


والجماعة كالخليط وهو مفرد بين به الجنس ومعنى الكلام إخبار واستدعاء للطاعة التي ينال بها مرافقة هؤلاء ذلك الفضل الإشارة إلى الثواب على الطاعة بمرافقة من ذكر في الجنة والفضل صفة أو خبر خذوا حذركم أي تحرزوا من عدوكم واستعدوا له فانفروا ثبات أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرقين ... 148
148 وذلك كناية عن السرايا وقيل إن الثبتة ما فوق العشرة ووزنها فعلة بفتح العين ولامها محذوفة أو انفروا جميعا أي مجتمعين في الجيش الكثيف فخيرهم في الخروج إلى الغزو في قلة أو كثرة وإن منكم لمن ليبطئن الخطاب للمؤمنين والمراد بمن المنافقين وعبر عنهم بمنكم إذ هم يزعمون أنهم من المؤمنين ويقولون آمنا واللام في لمن للتأكيد وفي ليبطئن جواب قسم محذوف ومعناه يبطىء غيره يثبطه عن الجهاد ويحمله على التخلف عن الغزو وقيل يبطىء يتخلف هو عن الغزو ويتثاقل فإن اصابتكم مصيبة أي قتل وهزيمة والمعنى أن المنافق تسره غيبته عن المؤمنين إذا هزموا وشهيدا معناه حاضرا معهم ولئن أصابكم فضل من الله أي نصر وغنيمة والمعنى أن المنافق يندم على ترك الغزو معهم إذا غنموا فيتمنى أن يكون معهم كأن لم تكن بينكم وبينه مودة جملة اعتراض بين العامل ومعموله فلا يجوز الوقف عليها وهذه المودة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده الذين يشرون أي يبيعون فيقتل أو يغلب ذكر الحالتين للمقاتل ووعد بالأجر على كل واحدة منهما وما لكم لا تقاتلون تحريض على القتال وما مبتدأ والجار والمجرور خبر ولا تقاتلون في موضع الحال والمستضعفين هم الذين حبسهم مشركوا قريش بمكة ليفتنوهم عن الإسلام وهو عطف على اسم الله أو مفعول معه القرية الظالم أهلها هي مكة حين كانت للمشركين يقاتلون في سبيل الله وما بعده إخبار قصد به تقوية قلوب المسلمين وتحريضهم على القتال الذين قيل لهم كفوا أيديكم الآية قيل هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا

(1/266)


بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد فتمنوا أن يؤمروا به فلما أمروا به كرهوه لا شكا في دينهم ولكن خوفا من الموت وقيل هي في المنافقين وهو أليق في سياق الكلام متاع الدنيا قليل وما بعده تحقير للدنيا فتضمن الرد عليهم في كراهتهم للموت في بروج مشيدة ... 149
149 أي في حصون منيعة وقيل المشيدة المطولة وقيل االمبنية بالشيد وهو الجص إن تصبهم حسنة الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك من المحبوبات والسيئة الهزيمة والجوع وشبه ذلك والضمير في تصبهم وفي يقول للذين قيل لهم كفوا أيديكم وهذا يدل على أنها في المنافقين لأن المؤمنين لا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن السيئات من عنده قل كل من عند الله رد على من نسب السيئة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام أن السيئة والحسنة والخير والشر من عند الله أي بقضائه وقدره فما لهؤلاء القوم توبيخ لهم على قلة فهمهم ما أصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مخاطب على الإطلاق فدخل فيه غيره من الناس وفيه تأويلان أحدهما نسبة الحسنة إلى الله والسيئة إلى العبد تأدبا مع الله في الكلام وإن كان كل شيء منه في الحقيقة وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام والخير كله بيديك والشر ليس إليك وأيضا فنسبة السيئة إلى العبد لأنها بسبب ذنوبه لقوله ) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فهي من العبد بتسببه فيها ومن الله بالخلقة والاختراع والثاني أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل والتقدير يقولون كذا فمعناها كمعنى التي قبلها من يطع الرسول فقد أطاع الله هذه الآية من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت طاعته كطاعة الله لأنه يأمر وينهي عن الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا أي من أعرض عن طاعتك فما أنت عليه بحفيظ تحفظ أعماله بل حسابه وجزاؤه على الله وفي هذا متاركة وموادعة منسوخة

(1/267)


بالقتال ويقولون طاعة أي أمرنا وشأننا طاعة لك وهي في المنافقين بإجماع بيت طائفة منهم غير الذي تقول بيت أي تدبر الأمر بالليل والضمير في تقول للمخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو للطائفة فأعرض عنهم أي لا تعاقبهم أفلا يتدبرون القرآن حض على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه اختلافا كثيرا أي تناقضا كما في كلام البشر أو تفاوتا في الفصاحة لكن القرآن منزه عن ذلك فدل على أنه كلام الله وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من القرآن فالواجب أن يتهم نظره ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به قيل هم المنافقون وقيل قوم من ضعفاء المسلمين كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش أو غير ذلك أذاعوا به أي تكلموا به ... 150

(1/268)


150 وشهروه قبل أن يعلموا صحته وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة وقلة التثبت فأنكر الله ذلك عليهم ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم أي لو ترك هؤلاء القوم الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم وردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم لعلمه القوم الذين يستنبطونه أي يستخرجونه من الرسول وأولي الأمر فالذين يستنبطونه على هذا طائفة من المسلمين يسألون عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر وحرف الجر في قوله يستبطونه منهم لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر وقيل الذين يستنبطونه هو أولو الأمر كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه فدخل عليه فقال أطلقت نساءك فقال لا فقام على باب المسجد فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه فأنزل الله هذه القصة قال وأنا الذي استنبطته فعلى هذا يستنبطونه هم أولو الأمر والضمير المجرور يعود عليهم ومنهم لبيان الجنس واستنباطه على هذا هو سؤالهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنظر والبحث واستنباطه على التأويل الأول وهو سؤال الذين أذاعوه للرسول عليه الصلاة والسلام ولأولي الأمر ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي هداه وتوفيقه أو بعثه للرسل وإنزاله للكتب والخطاب في هذه الآية للمؤمنين إلا قليلا أي إلا اتباعا قليلا فالاستثناء من المصدر والمعنى لولا فضل الله ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا في أمور قليلة كنتم لا تتبعونه فيها وقيل إنه استثناء من الفاعل في اتبعتم أي إلا قليلا منكم وهو الذي يقتضيه اللفظ وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان كورقة بن نوفل والفضل والرحمة على بعث الرسول وإنزال الكتاب وقيل إن الاستثناء من قوله أذاعوا به لا تكلف إلا

(1/269)


نفسك لما تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم أي إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك وحرض المؤمنين أي ليس عليك في شأن المؤمنين إلا التحريض عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا قيل عسى من الله واجبة والذين كفروا هنا قريش وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وغيرها وبفتح مكة وأشد تنكيلا أي عقابا وعذابا شفاعة حسنة هي الشفاعة في مسلم لتفرج عنه كربة أو تدفع مظلمة أو يجلب إليه خيرا والشفاعة السيئة بخلاف ذلك وقيل الشفاعة الحسنة هي الطاعة والشفاعة السيئة هي المعصية والأول أظهر والكفل هو النصيب مقيتا قيل قديرا وقيل حفيظا وقيل الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت فحيوا بأحسن منها أو ردوها معنى ذلك الأمر برد السلام والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلم عليه أو بأحسن منه والأحسن أفضل مثل أن يقال له ... 151

(1/270)


151 سلام عليك فيرد السلام ويزيد الرحمة والبركة ورد السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي وقال بعض الناس هو فرض عين واختلف في الرد على الكفار فقيل يرد عليهم لعموم الآية وقيل لا يرد عليهم وقيل يقال لهم عليكم حسبما جاء في الحديث وهو مذهب مالك ولا يبتدؤن بالسلام ليجمعنكم جواب قسم محذوف وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدى بإلى ومن أصدق لفظه استفهام ومعناه لا أحد أصدق من الله
فما لكم في المنافقين فئتين
ما استفهامية بمعنى التوبيخ والخطاب للمسلمين ومعنى فئتين أي طائفتين مختلفتين وهو منصوب على الحال والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين وقال زيد بن ثابت نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد فاختلف الصحابة في أمرهم ويرد هذا قوله حتى يهاجروا أركسهم أي أضلهم وأهلكهم ودوا لم تكفرون الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا فخذوهم يريد به الأسر إلا الذين يصلون الآية استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم ومعناها أن من وصل من الكفار غير المعاهدين إلى الكفار المعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهد ومهادنة فحكمه كحكمهم في المسالمة وترك قتاله وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال في أول سورة براءة قال السهيلي وغيره الذين يصلون هم بنو مدلج بن كنانة إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق بنو خزاعة فدخل بنو مدلج في صلح خزاعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعنى يصلون إلى قوم ينتهون إليهم ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة وقيل معنى يصلون أي ينتسبون وهذا ضعيف جدا بدليل قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وهم أقاربه وأقارب المؤمنين فكيف لا يقاتل أقارب الكفار المعاهدين أو جاؤكم

(1/271)


حصرت صدورهم عطف على يصلون أو على صفة قوم وهي بينكم وبينهم ميثاق والمعنى يختلف باختلاف ذلك والأول أظهر وحصرت صدورهم في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب حصرت ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته ونزلت الآية في قوم جاؤا إلى المسلمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهم وهم أقاربهم الكفار فأمر الله بالكف عنهم ثم نسخ أيضا ذلك بالقتال فإن اعتزلوكم أي إن سالموكم فلا تقاتلوهم والسلم هنا الانقياد ستجدون آخرين ... 152

(1/272)


152 الآية نزلت في قوم مخادعين وهم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم والفتنة هنا الكفر على الأظهر وقيل الاختبار وما كن لمؤمن أن يقتل مؤمنا لا خطأ نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله وقيل إن الاستثناء هنا منقطع والمعنى لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه لكن الخطأ قد يقع والصحيح أنه متصل والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد إذ هو مغلوب فيه وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية فأما التحرير ففي مال القاتل وأما الدية ففي مال عاقلته وجاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان للآية إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره وأجمع الفقهاء عليه واشترط مالك في الرقبة التي تعتق أن تكون مؤمنة ليس فيها عقد من عقود الحرية سالمة من العيوب أما إيمانها فنص هنا ولذلك أجمع العلماء عليه هنا واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة اليمين وأما سلامتها من عقود الحرية فيظهر من قوله تعالى فتحرير رقبة لأن ظاهره أنه ابتداء عتق عند التكفير بها وأما سلامتها من العيب فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه وفي ذلك نظر ولم يبين في الآية مقدار الدية وهي عند مالك مائة من الإبل على أهل الإبل وألف دينار شرعية على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم شرعية على أهل الورق وروي ذلك عن عمر بن الخطاب مسلمة إلى أهله أي مدفوعة إليهم والأهل هنا الورثة واختلف في مدة تسليمها فقيل هي حالة عليهم وقيل يؤدونها في ثلاث سنين وقيل في أربع ولفظ التسليم مطلق وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك إلا أن يصدقوا

(1/273)


الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالك والجمهور خلافا لأهل الظاهر وحجتهم عود الضمير على الأولياء وقال الجمهور إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة معنى الآية أن المقتول خطأ إن كان مؤمنا وقومه كفارا أعداء وهم المحاربون فإنما في قتله التحرير خاصة دون الدية فلا تدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين ورأى ابن عباس أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر وخالفه غيره ورأى مالك أن الدية في هذا البيت المال فالآية عنده منسوخة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق الآية معناها أن المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين ففي مثله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم والمقتول على هذا مؤمن ولذلك قال مالك لا كفارة في قتل الذمي وقيل إن المقتول في هذه الآية كافر فعلى هذا تجب ... 153

(1/274)


153 الكفارة في قتل الذمي وقيل هي عامة في المؤمن والكافر ولفظ الآية مطلق إلا أن قيده قوله وهو مؤمن في الآية التي قبلها وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن
فمن لم يجد فصيام شهرين أي من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوض منه توبة من الله منصوب على المصدرية ومعناه رحمة منه وتخفيفا ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتد مشركا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله والمتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول لا يخلد عصاة المؤمنين في النار واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه أحدها أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا والثاني قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل وذلك يؤول إلى الكفر والثالث قالوا الخلود فيها ليس بمعنى الدوام الأبدي وإنما هو عبارة عن طول المدة والرابع أنها منسوخة بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة بقول ابن عباس الشرك والقتل من مات عليهما خلد وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل المؤمن متعمدا وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب هل تقبل توبته أم لا وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا والصحيح أنه يسقط عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من

(1/275)


أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة وبذاك قال جمهور العلماء ضربتم في سبيل الله أي سافرتم في الجهاد فتبينوا من البيان وقرىء بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته ألقى إليكم السلم بغير ألف أي انقاد وألقى بيده وقرىء السلام بمعنى التحية ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله فحمل عليه أحدهم فقتله فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط وقيل القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن بهيك تبتغون عرض الحياة الدنيا يعني الغنيمة وكان للرجل المقتول غنم فعند الله مغانم كثيرة وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام كذلك كنتم من قبل قيل معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام وقيل كنتم تخفون إيمانكم من قومكم فمن الله عليكم بالعزة والنصر حتى أظهرتموه لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية ... 154

(1/276)


154 معناها تفضيل المجاهدين على من لم يجاهد وهم القاعدون غير أولي الضرر لما نزلت الآية قام ابن أم مكتوم الأعمى فقال يا رسول الله هل من رخصة فإني ضرير البصر فنزل غير أولي الضرر وقرىء غير بالحركات الثلاث بالرفع صفة للقاعدين وبالنصب على الاستثناء أو الحال وبالخفض صفة للمؤمنين درجة قيل هي تفضيل على القاعدين من أهل العذر والدرجات على القاعدين بغير عذر وقيل إن الدرجات مبالغة وتأكيد الدرجة الحسنى الجنة أجرا منصوب على الحال من درجات أو المصدرية من معنى فضل وانتصب درجات على البدل من الأجر أو بفعل مضمر وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلها أي غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة إن الذين توفاهم الملائكة الآية نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا فلما كان يوم بدر خرجوا مع الكفار فقتلوا منهم قيس بن الفاكه والحارث بن زمعة وقيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف ويحتمل أن يكون توفاهم ماضيا أو مضارعا وانتصب ظالمي على الحال قالوا فيم كنتم أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم قالوا كنا مستضعفين في الأرض اعتذار عن التوبيخ الذي وبخهم به الملائكة أي لم تقدروا على الهجرة وكان اعتذار بالباطل قالوا ألم تكن أرض الله واسعة رد عليهم وتكذيب لهم في اعتذارهم إلا المستضعفين الذين كان استضعافهم حقا قال ابن عباس كنت أنا وأبي وأمي ممن عنى الله بهذه الآية مراغما أي متحولا وموضعا يرغم عدوه بالذهاب إليه وسعة أي اتساع في الأرض وقيل في الرزق فقد وقع أجره على الله أي ثبت وصح ومن يخرج من بيته الآية حكمها على العموم ونزلت في ضمرة بن القيس وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال أخرجوني فهيء له فراش فوضع عليه وخرج فمات في الطريق وقيل نزلت في خالد بن حزام فإنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة وإذا ضربتم في

(1/277)


الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا اختلف العلماء في تأوليها على خمسة أقوال أولها أنها في قصر الصلاة الرباعية ... 155
155 إلى ركعتين في السفر ولذلك لا يجوز إلا في حال الخوف على ظاهر الآية وهو قول عائشة وعثمان رضي الله عنهما الثاني أن الآية تقتضي ذلك ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب إن الله يقول إن خفتم وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في السفر وهو آمن الثالث أن قوله إن خفتم راجع إلى قوله وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد الرابع أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة قال ابن عباس فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة الخامس أنها في صلاة المسايفة فالقصر على هذا هو من هيأة الصلاة كقوله فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر فظاهرها أن القصر رخصة والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي وقال مالك القصر أفضل وقيل إنهما سواء وأوجب أبو حنيفة القصر وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة لأن قوله إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة أو السفر المباح دون سفر المعصية فإن لفظها مطلق في السفر ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية ومنعه مالك في سفر المعصية ومنعه ابن حنبل في المعصية وفي المباح وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فاضربنا عن ذكرها

(1/278)


والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره وإذا كنت فيهم الآية في صلاة الخوف وظاهرها يقتضي أنها لا تصلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه شرط كونه فيهم وبذلك قال أبو يوسف وأجازها الجمهور بعده صلى الله عليه وسلم لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته وقد فعلها الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في صلاة الخوف على عشرة أقوال لاختلاف الأحاديث فيها ولسنا نضطر إلى ذكرها فإن تفسيرها لا يتوقف على ذلك وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فلتقم طائفة منهم معك يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة وتقف الأخرى تحرس ثم يصلى بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور أم لا وعلى القول بالإتمام اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك وليأخذوا اسلحتهم اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة فقيل الطائفة المصلية وقيل الحارسة والأول أرجح لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم وإلا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم الضمير في قوله فإذا سجدوا للمصلين والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى وقيل إذا سجدوا في ركعة القضاء والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم يحتمل ... 156

(1/279)


156 أن يكون للذين سجدوا أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحرابة بعد انقضاء الركعة الأولى ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها وإن كان السجود في ركعة القضاء فيقتضي ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلا بعد القضاء وهو مذهب مالك والشافعي ويحتمل أن يكون الضمير في قوله فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلين يحرسونهم ولتأت طائفة أخرى يعني الطائفة الحارسة ود الذين كفروا الآية إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار وفي قوله ميلة واحدة مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر الآية نزلت بسبب عبد الرحمن ابن عوف كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا إن قيل كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين فالجواب أن الأمر بالحذر من العدو يقتضي توهم قوتهم وعزتهم فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا والأظهر أنه في الآخرة فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله الآية أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بألسنتكم وذكر القيام والقعود على الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة كتابا موقوتا أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس فرضا مفروضا ولا تهنوا في ابتغاء

(1/280)


القوم أي لا تضعفوا في طلب الكفار إن تكونوا تألمون الآية معناها إن أصابكم ألم من القتال فكذلك يصيب الكفار ألم مثله ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم النصر في الدنيا والأجر في الآخرة وذلك تشجيع للمسلمين لتحكم بين الناس بما أراك الله يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد أو بهما وإذا تضمنت الاجتهاد ففيها دليل على إثبات النظر والقياس ... 157
157 خلافا لمن منع ذلك من الظاهرية وغيرهم ولا تكن للخائنين خصيما نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة ابن الأبيرق إذ سرق طعاما وسلاحا لبعض الأنصار وجاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إنه بريء ونسبوا السرقة إلى غيره وظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم صادقون فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا فالخائنون في الآية هم السراق بنو الأبيرق وقال السهيلي هم بشر وبشير ومبشر وأسيد ومعناها لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لغيرهم واستغفر الله أي من خصامك عن الخائنين على أنه صلى الله عليه وسلم إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم إذ يبيتون أي يدبرون ليلا وإنما سمى التدبير قولا لأنه كلام النفس وربما كان معه كلام باللسان ومن يكسب خطيئة أو إثما قيل إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد والإثم لا يكون إلا عن عمد وقيل هما بمعنى وكرر لاختلاف اللفظ ثم يرم به بريئا كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل لهمت طائفة منهم أن يضلوك هم الذين جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبرؤا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذه القصة فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها وبقية الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتقدير لنعم الله عليه لا خير في كثير من نجواهم إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي فالاستثناء الذي بعدها منقطع وقد يكون متصلا على حذف مضاف تقديره إلا نجوى من أمر وإن كانت النجوى بمعنى

(1/281)


الجماعة فالاستثناء متصل ومن يشاقق الرسول أي يعاديه والشقاق هو العداوة ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق لأنه ارتد وسار إلى المشركين ومات على الكفر وهي عامة فيه وفي غيره ويتبع غير سبيل المؤمنين استدل الأصوليون بها على صحة إجماع المسلمين وأنه لا يجوز مخالفته لأن من خالفه اتبع غير سبيل المؤمنين وفي ذلك نظر نوله ما تولى أي نتركه مع ... 158
158 اختياره الفاسد إن الله لا يغفر أن يشرك به قد تقدم الكلام على نظيرتها إن يدعون من دونه إلا إناثا الضمير في يدعون للكفار ومعنى يدعون يعبدون واختلف في الإناث هنا فقيل هي الأصنام لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة كاللات والعزى وقيل المراد الملائكة لقول الكفار إنهم إناث وكانوا يعبدونهم فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد وقيل المراد الأصنام لأنها لا تفعل فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث إلا شيطانا مريدا يعنى إبليس وإنما قال إنهم يعبدونه لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال والمريد هو الشديد العتو والإضلال لعنه الله صفة للشيطان وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا الضمير للشيطان أي فرضته لنفسي من قولك فرض للجند وغيرهم والمراد بهم أهل الضلال ولأضلنهم أي أعدهم الأماني الكاذبة فليبتكن آذان الأنعام أي يقطعونها والإشارة بذلك إلى البحيرة وشبهها فليغيرن خلق الله التغيير هو الخصاء وشبهه وقد رخص جماعة من العلماء في خصاء البهائم إذا كان فيه منفعة ومنعه بعضهم لظاهر الآية وقيل التغيير هو الوشم وشبهه ويدل على هذا الحديث الذي لعن فيه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن والمغيرات خلق الله محيصا أي معدلا ومهربا وعد الله حقا مصدران الأول مؤكد للوعد الذي يقتضيه قوله سندخلهم جنات والثاني مؤكد لوعد الله ليس بأمانيكم الآية اسم ليس مضمر تقديره الأمر وشبههه والخطاب للمسلمين وقيل للمشركين أي

(1/282)


لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم ذ بأعمالهم من يعمل سوءا يجز به وعيد حتم في الكفار ومقيد بمشيئة الله في المسلمين ومن يعمل من الصالحات دخلت من للتبعيض رفقا بالعباد لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر وهو مؤمن تقييد باشتراط الإيمان فإنه لا يقبل عمل إلا به نقيرا هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة والمعنى تمثيل بأقل الأشياء واتبع ملة إبراهيم أي دين ... 159

(1/283)


159 الإسلام حنيفا حال من المتبع أو من إبراهيم واتخذ الله إبراهيم خليلا أي صفيا وهو مشتق من الخلة بمعنى المودة وفي ذلك تشريف لإبراهيم وترغيب في اتباعه ويستفتونك في النساء أي يسئلونك عما يجب عليهم في أمر النساء وما يتلى عليكم عطف على اسم الله أي يفتيكم الله والمتلو عليكم في الكتاب يعني القرآن في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن كان الرجل من العرب يتزوج اليتيمة من أقاربه بدون ما تستحقه من الصداق فقوله ما كتب لهن يعني ما تستحقه المرأة من الصداق وقوله وترغبون أن تنكحوهن يعني لجمالهن وما لهن من عير توفيه حقوقهن فنهاهم الله عز وجل عن ذلك أول السورة في قوله وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية وهذه الآية هي التي تليت عليهم في يتامى النساء والمستضعفين من الولدان عطف على يتامى النساء والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله يوصيكم الله في أولادكم لأن العرب كانت لا تورث البنت ولا الإبن الصغير فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث وأن تقوموا لليتامى بالقسط عطف على المستضعفين أي والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط ويجوز أن يكون منصوبا تقديره ويأمركم أن تقوموا أو الخطاب في ذلك للأولياء والأوصياء أو للقضاة وشبههم والذي تلى عليهم في ذلك هو قوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية وقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلى غير ذلك وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين إذا خافت النشوز أو الإعراض وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدم معنى النشوز وأما الإعراض فهو أخف ووجوه الصلح كثيرة منها أن يعطيها الزوج شيئا أو تعطيه هي أو تسقط حقها من النفقة أو الاستمتاع أو غير ذلك وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها

(1/284)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له أمسكني في نسائك ولا تقسم لي وقد وهبت يومي لعائشة والصلح خير لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما وقيل معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل واللام في الصلح للعهد وأحضرت الأنفس الشح معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها لأنها جبلت عليه والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع وشح الزوج هو منع الصداق والتضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء معناه العدل التام الكامل في الأقوال ... 160

(1/285)


160 والأفعال والمحبة وغير ذلك فرفع الله ذلك عن عباده فإنهم لا يستطيعون وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلو تؤاخذني بما لا أملك يعني ميله بقلبه وقيل إن الآية نزلت في ميله صلى الله عليه وسلم بقلبه إلى عائشة ومعناها اعتذار من الله تعالى عن عباده فتذروها كالمعلقة أي لا ذات زوج ولا مطلقة وإن يتفرقا الآية معناها إن تفرق الزوجان بطلاق أغنى الله كل واحد منهما من فضله عن صاحبه وهذا وعد بخير وتأنيس ولقد وصينا الآية إخبار أن الله وصى الأولين والآخرين بأن يتقوه ويأت بآخرين أي بقوم غيركم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي وقال هم قوم هذا من كان يريد ثواب الدنيا الآية تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة لأنه خير من ثواب الدنيا وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده فإن ذلك بيده لا بيد غيره وعلى أحد هذين الوجهين يرتبط الشرط بجوابه فالتقدير على الأول من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وعلى الثاني من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه من الله فعند الله ثواب الدنيا والآخرة كونوا قوامين بالقسط أي مجتهدين في إقامة العدل شهد الله معناه لوجه الله ولمرضاته ولو على أنفسكم يتعلق بشهد وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق ثم ذكر الوالدين والأقربين إذ هم مظنة للتعصب والميل فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى إن يكن غنيا أو فقيرا جواب إن محذوف على الأظهر أي إن يكن المشهود عليه غنيا فلا تمتنع من الشهادة تعظيما له وإن كان فقيرا فلا تمتنع من الشهادة عليه اتفاقا فإن الله أولى بالغني والفقير أي بالنظر إليهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أن مفعول من أجله ويحتمل أن يكون المعنى من العدل فالتقدير إرادة أن تعدلوا بين الناس

(1/286)


أو من العدل فالتقدير كراهة أن تعدلوا عن الحق وإن تلووا أو تعرضوا قيل إن الخطاب للحكام وقيل للشهود واللفظ عام في الوجهين واللي هو تحريف الكلام أي تلووا عن الحكم بالعدل أو عن الشهادة بالحق أو تعرضوا عن صاحب الحق أو عن المشهود له بالحق فإن الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون وقرىء إن تلوا بضم اللام من الولاية أي إن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عنها آمنوا بالله الآية خطاب للمسلمين ... 161
161 معناه الأمر بأن يكون أيمانهم على الكمال بكل ما ذكر أو يكون أمرا بالدوام على الإيمان وقيل خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدمين معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قيل خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية قيل هي في المنافقين لترددهم بين الإيمان والكفر وقيل في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والأول أرجح لأن الكلام من هنا فيهم والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإيمان ثم ارتد وازداد كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ذلك فيمن علم الله أن يموت على كفره وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم وقد نزل عليكم في الكتاب الآية إشارة إلى قوله وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وغيرها وفي الآية دليل على وجوب تجنب أهل المعاصي والضمير في قوله معهم يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين الذين يتربصون بكم صفة للمنافقين أي ينتظرون بكم دوائر الزمان ألم نستحوذ عليكم أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قال علي بن أبي طالب وغيره ذلك في الآخرة وقيل السبيل هنا الحجة البالغة يخادعون الله ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب لأن وبال خداعهم راجع

(1/287)


عليهم مذبذبين أي مضطربين مترددين لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار سلطانا مبينا أي حجة ظاهرة إن المنافقين في الدرك الأسفل أي في الطبقة السفلى من ... 162
162 جهنم وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شر من الكفار إلا الذين تابوا استثناء من المنافقين والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن ما يفعل الله بعذابكم المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم وهو الغني عنكم وقدم الشكر على الإيمان لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان متقدم عليه ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به والشاكر اسم الله ذكر في اللغات إلا من ظلم أي إلا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه وقيل أن يذكر ما فعل به من الظلم وقيل أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه إن تبدوا خيرا أو تخفوه الآية ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة إن الذين يكفرون الآية في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وغيره ومعنى التفريق بين الله ورسله الإيمان به والكفر برسله وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم فحكم الله على من كان كذلك بحكم الكفر الحقيقي الكامل والذين آمنوا الآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم آمنوا بالله وجميع رسله يسألك أهل الكتاب الآية روي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة وقيل كتاب إلى فلان وكتاب إلى فلان بأنك رسول الله وإنما طلبوا ذلك على وجه التعنت فذكر الله سؤالهم من موسى وسوء أدبهم معه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره ثم ذكر أفعالهم

(1/288)


القبيحة ليبين أن كفرهم إنما هو عناد وقد تقدم في البقرة ذكر طلبهم للرؤيا واتخاذهم العجل ورفع الطور فوقهم واعتدائهم في السبت وغير ... 163
163 ذلك بما أشير إليه هنا فبما نقضهم ميثاقهم ما زائدة للتأكيد والباء تتعلق بمحذوف تقديره بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا أو تتعلق بقوله حرمنا عليهم ويكون فبظلم على هذا بدلا من قوله فبما نقضهم بهتانا عظيما هو أن رموا مريم بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم عدد الله في جملة قبائحهم قولهم إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه وهم يعتقدون أنه عيسى وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويكون رفيقي في الجنة فقال أحدهم أنا فألقى عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى وقيل بل دل على عيسى يهودي فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال رسول الله إن قيل كيف قالوا فيه رسول الله وهم يكفرون به ويسبونه فالجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء والثاني أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا رسول الله عندكم أو بزعمكم والثالث أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله وفائدة تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إنا قتلناه وما قتلوه وما صلبوه رد عليهم وتكذيب لهم وللنصارى أيضا في قولهم إنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك والعجب كل العجب من تناقضهم في قوله إنه إله أو ابن إله ثم يقولون إنه صلب ولكن شبه لهم فيه تأويلان أحدهما ما ذكرناه من إلقاء شبهه على الحواري أو على اليهودي والآخر أن معناه شبه لهم الأمر أي خلط لهم القوم الذين حاولوا قتله بأنهم قتلوا رجلا آخر وصلبوه ومنعوا الناس أن يقربوا منه حتى تغير

(1/289)


بحيث لا يعرف وقالوا للناس هذا عيسى ولم يكن عيسى فاعتقد الناس صدقهم وكانوا متعمدين للكذب وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه روى أنه لما رفع عيسى وألقي شبهه على غيره فقتلوه قالوا إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى فاختلفوا فقال بعضهم هو هو وقال بعضهم ليس هو فأجمعوا أن شخصا قتل واختلفوا من كان إلا اتباع الظن استثناء منقطع لأن العلم تحقيق والظن تردد وقال ابن عطية هو متصل إذ الظن والعلم يجمعهما جنس المعتقدات فإن قيل كيف وصفهم بالشك وهو تردد بين احتمالين على السواء ثم وصفهم بالظن وهو ترجيح أحد الاحتمالين فالجواب أنهم كانوا على الشك ثم لاحت لهم أمارات فظنوا قاله الزمخشري وقد يقال الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك وما قتلوه يقينا أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف وقيل هي مصدر في موضع الحال أي ما قتلوه متيقنين وقيل هو تأكيد للنفي الذي في قوله ما قتلوه أي يتيقن نفي قتله وهو على هذا منصوب على المصدرية بل رفعه الله إليه أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته فيها تأويلان ... 164

(1/290)


164 أحدهما أن الضمير في موته لعيسى والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت عيسى وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا وهو دين الإسلام والثاني أن الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله وإن من أهل الكتاب التقدير وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان وذلك حين معاينة الموت وهو إيمان لا ينفعه وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره وفي مصحف أبي بن كعب قبل موتهم وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني والضمير في به لعيسى على الوجهين وقيل هو لمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدهم يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض فيكون كثيرا صفة لمصدر محذوف تقديره صدا كثيرا أو بمعنى صدهم لغيرهم فيكون كثيرا مفعولا بالصد أي صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله
لكن الراسخون في العلم منهم هو عبد الله ابن سلام ومخيرق ومن جرى مجراهم والمقيمين منصوب على المدح بإضمار فعل وهو جائز كثيرا في الكلام وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف وفي مصحف ابن مسعود والمقيمون على الأصل إنا أوحينا إليك الآية رد على اليهود الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي كما أتى من تقدم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة ورسلا قد قصصناهم منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا وكلم الله موسى تكليما تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إن الشجرة هي التي كلمت موسى رسلا مبشرين منصوب بفعل مضمر أو على البدل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول لو أرسل إلي رسولا لآمنت لكن الله يشهد الآية معناها أن الله يشهد بأن القرآن من عنده وكذلك تشهد الملائكة بذلك وسبب الآية إنكار

(1/291)


اليهود للوحي فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا لن نشهد بما أنزل إليك فقيل لكن الله يشهد بذلك وفي الآية من أدوات البيان الترديد وهو ذكر الشهادة أولا ثم ذكرها في آخر الآية أنزله ... 165
165 بعلمه ) في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم وقد تأولوا الآية بتأويل بعيد يا أيها الناس خطاب عام لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس فآمنوا خيرا لكم انتصب خبرا هنا وفي قوله انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره إيتوا خيرا لكم هذا مذهب سيبويه وقال الخليل انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف وقال الكوفيون هو خبر كان المحذوفة تقديره يكن الإيمان خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض أي هو غنى عنكم لا يضره كفركم يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم هذا خطاب للنصارى لأنهم غلوا في عيسى حتى كفروا فلفظ أهل الكتاب عموم يراد به الخصوص في النصارى بدليل ما بعد ذلك والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد وكلمته أي مكون عن كلمته التي هي كن من غير واسطة أب ولا نطفة وروح منه أي ذو روح من الله فمن هنا لابتداء الغاية والمعنى من عند الله وجعله من عند الله لأن الله أرسل به جبريل عليه السلام إلى مريم ولا تقولوا ثلاثة نهى عن التثليث وهو مذهب النصارى وإعراب ثلاثة خبر مبتدأ مضمر له ما في السموات وما في الأرض برهان على تنزيهه تعالى عن الولد لأنه مالك كل شيء لن يستنكف لن يأنف كذلك ومعناه حيث وقع ولا الملائكة فيه دليل لمن قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه قد جاءكم برهان هو القرآن وهو أيضا النور المبين ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج وبالنور ... 166

(1/292)


166 النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سماه سراجا يستفتونك أي يطلبون منك الفتيا ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة ويفتيكم أيضا طلب لها فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه والأول أظهر وقد تقدم معنى الكلالة في أول السورة والمراد بالأخت والأخ هنا الشقائق والذين للأب إذا عدم الشقائق وقد تقدم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية إن امرؤ هلك ارتفع بفعل مضمر عند البصريين ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث أن تضلوا مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا
سورة المائدة
أوفوا بالعقود قيل إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك وقيل ما عقده مع ربه من الطاعات كالحج والصيام وشبه ذلك وقيل ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله أحلت لكم وما بعده بهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها قال الزمخشري هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام وقيل هي الوحش كالظباء وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلا على الإبل والبقر والغنم وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان إلا ما يتلى عليكم يريد الميتة وأخواتها غير محلي الصيد نصب على الحال من الضمير في لكم وأنتم حرم حال من محلي الصيد وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج فالاستثناء بإلا من البهائم المحللة والاستثناء بغير من القوم المخاطبين لا تحلوا شعائر الله قيل هي مناسك الحج كان المشركون يحجون ويعتمرون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقيل لهم لا تحلوا شعائر الله أي لا تغيروا عليهم ولا تصدوهم وقيل هي الحرم وإحلاله الصيد فيه وقيل هي ما

(1/293)


يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك وإحلاله فعله ولا الشهر الحرام قيل هو جنس الأشهر الحرام الأربعة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة وإحلالها هو القتال فيها وتغيير حالها ولا الهدي هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام ويذبح تقربا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه ... 167
167 أو يصد عن البيت ولا القلائد قيل هي التي تعلق في أعناق الهدي فنهى عن التعرض لها وقيل أراد ذوات القلائد من الهدي وهي البدن وجددها بالذكر بعد دخولها في الهدي اهتماما بها وتأكيدا لأمرها ولا آمين البيت الحرام أي قاصدين إلى البيت لحج أو عمرة ونهى الله عن الإغارة عليهم أو صدهم عن البيت ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحكم البكري واسمه شريح بن ضبيعة أخذته خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء عام في المسلمين والمشركين ثم نسخ النهي عن قتال المشركين بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وبقوله فلا يقرب المسجد الحرام وبقوله ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا الفضل الربح في التجارة والرضوان الرحمة في الدنيا والآخرة وإذا حللتم فاصطادوا أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم فالأمر هنا إباحة بإجماع ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا معنى لا يجرمنكم لا يكسبنكم يقال جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه والشنآن هو البغض والحقد ويقال بفتح النون وإسكانها وأن صدوكم مفعول من أجله وأن تعتدوا مفعول ثان ليجرمنكم ومعنى الآية لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد

(1/294)


الحرام عام الحديبية فنهاهم الله عن قتلهم لأن الله علم أنهم يؤمنون وتعاونوا على البر والتقوى وصية عامة والفرق بين البر والتقوى أن البر عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات وفي كل ما يقرب إلى الله والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبر أعم من التقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس والعدوان على الناس حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير تقدم الكلام عليها في البقرة والمنخنقة هي التي تخنق بحبل وشبهه والموقوذة هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبه ذلك والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى وما أكل السبع أي أكل بعضه والسبع كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر إلا ما ذكيتم قيل إنه استثناء منقطع وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح وأكل السبع والمعنى حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم من غيرها فهو حلال وهذا قول ضعيف لأنها إن ماتت بهذه الأسباب فهي ميتة فقد دخلت في عموم الميتة فلا فائدة لذكرها بعدها وقيل إنه استثناء متصل وذلك إن أريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت ذكاته والمعنى على هذا إلى ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال ثم اختلف أهل هذا القول هل يشترط أن تكون لم تنفذ مقاتلها أم لا وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب فذكاتها جائزة باتفاق وما ذبح على النصب عطف على المحرمات المذكورة والنصب ... 168

(1/295)


168 حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها وليست بالأصنام لأن الأصنام مصورة والنصب غير مصورة وهي الأنصاب والمفرد نصاب وقد قيل إن النصب بضمتين مفرد وجمعه أنصاب وأن تستقسموا بالأزلام عطف على المحرمات أيضا والاستقسام هو طلب ما قسم له والأزلام هي السهام واحدها زلم بضم الزاي وفتحها وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها أفعل وعلى الآخر لا تفعل والثالث مهمل فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها في خريطة وأدخل يده وأخرج أحدها فإن خرج له الذي فيه افعل فعل ما أراد وإن خرج له الذي فيه لا تفعل تركه وإن خرج المهمل أعاد الضرب ذلكم فسق الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها أو إلى الاستقسام بالأزلام وإنما حرمه الله وجعله فسقا لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به فهو كالكهانة وغيرها مما يرام به الاطلاع على الغيوب اليوم يئس الذين كفروا من دينكم أي يئسوا أن يغلبوه ويطلبوه ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين ويحتمل أن يكون الزمان الحاضر لا اليوم بعينه اليوم أكملت لكم دينكم هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام فمن اضطر راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا أباحها الله عند الاضطرار في مخمصة في مجاعة غير متجانف لإثم هذا بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم في البقرة فإن الله غفور رحيم قام مقام فلا جناح عليه وتضمن زيادة الوعد يسئلونك ماذا أحل لهم سببها أن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لهم من المأكل وقيل لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب فنزلت مبينة للصيد بالكلاب قل أحل لكم الطيبات هي عند مالك الحلال وذلك مما لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة وعند الشافعي الحلال المستلذ فحرم كل مستقذر

(1/296)


كالخنافس وشبهها لأنها من الخبائث وما علمتم من الجوارح عطف على الطيبات على حذف مضاف تقديره وصيد ما علمتم أو مبتدأ وخبره فكلوا مما أمسكن عليكم وهذا أحسن لأنه لا خلاف فيه والجوارح هي الكلاب ونحوها مما يصطاد به وسميت جوارح لأنها كواسب لأهلها فهو من الجرح بمعنى الكسب ولا خلاف في جواز الصيد بالكلاب واختلف فيمن سواها ومذهب الجمهور الجواز للأحاديث الواردة في البازات وغيرها ومنع بعض ذلك لقوله مكلبين فإنه مشتق من الكلب الكلب ونزلت الآية بسبب عدي بن حاتم كان له كلاب يصطاد بها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل له الصيد مكلبين أي معلمين للكلاب الاصطياد وقيل معناه أصحاب كلاب وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في علمتم ويقتضى قوله علمتم ومكلبين أنه لا يجوز الصيد إلا بجارح معلم لقوله وما علمتم وقوله مكلبين على القول الأول لتأكيده ذلك بقوله تعلمونهن وحد التعليم ... 169

(1/297)


169 عند ابن القاسم أن يعلم الجارح الإشلاء والزجر وقيل الإشلاء خاصة وقيل الزجر خاصة وقيل أن يجيب إذا دعي تعلمونهن مما علمكم الله أي تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد وتأتي تحصيل الصيد وهذا جزء مما علمه الله الإنسان فمن للتبعيض ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية والجملة في موضع الحال أو استئناف فكلوا مما أمسكن عليكم الأمر هنا للإباحة ويحتمل أن يريد مما أمسكن سواء أكلت الجوارح منه أو لم تأكل وهو ظاهر إطلاق اللفظ وبذلك أخذ مالك ويحتمل أن يريد مما أمسكن ولم يأكل منه وبذلك فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه وقد أخذ بهذا بعض العلماء وقد ورد في حديث آخر إذا أكل فكل وهو حجة لمالك واذكروا اسم الله عليه هذا أمر بالتسمية على الصيد ويجري الذبح مجراه وقد اختلف الناس في حكم التسمية فقال الظاهرية إنها واجبة حملا للأمر على الوجوب فإن تركت التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل عندهم وقال الشافعي أنها مستحبة حملا للأمر على الندب تؤكل عنده سواء تركت التسمية عمدا أو نسيانا وجعل بعضهم الضمير في عليه عائدا على الأكل فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ومذهب مالك أنه إن تركت التسمية عمدا لم تؤكل وإن تركت نسيانا أكلت فهي عنده واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم معنى حل حلال والذين أتوا الكتاب هم اليهود والنصارى واختلف في نصارى بني تغلب من العرب وفيمن كان مسلما ثم ارتد إلى اليهودية أو النصرانية هل يحل لنا طعامهم أم لا ولفظ الآية يقتضي الجواز لأنهم من أهل الكتاب واختلف في المجوس والصابئين هل هم أهل كتاب أم لا وأما الطعام فهو على ثلاثة أقسام أحدها الذبائح وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية فأجازوا كل ذبائح اليهود والنصارى واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم هل يحل لنا أم لا على ثلاثة أقوال الجواز والمنع

(1/298)


والكراهة وهذا الاختلاف مبني على هل هو من طعامهم أم لا فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه جاز وإن أريد به ما يحل لهم منع والكراهة توسط بين القولين القسم الثاني ما لا محاولة لهم فيه كالقمح والفاكهة فهو جائز لنا باتفاق والثالث ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة ولأنه يمكن أن يكون نجسا وأجازه الجمهور لأنه رأوه داخلا في طعامهم هذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا فأما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة فلا يجوز أصلا وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى وقال إنه ينجس البائع والمشتري والآلة لأنهم يعقدونه بأنفحة الميتة ويجري مجرى ذلك الزيت إذا علمنا أنهم يجعلونه في ظروف الميتة وطعامكم حل لهم هذه إباحة للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم والمحصنات عطف على الطعام المحلل وقد تقدم أن الإحصان له أربعة معان الإسلام والتزوج والعفة والحرية فأما الإسلام فلا يصح هنا لقوله من الذين أوتوا الكتاب وأما التزوج فلا يصح أيضا لأن ذات الزوج لا تحل لغيره ويحتمل هنا العفة والحرية فمن حمله ... 170

(1/299)


170 على العفة أجاز نكاح المرأة الكتابية سواء كانت حرة أو أمة ومن حمله على الحرية أجاز نكاح الكتابية الحرة ومنع الأمة وهو مذهب مالك ولا تعارض بين هذه الاية وبين قوله ولا تنكحوا المشركات لأن هذه في الكتابيات والأخرى في المشركات وقد جعل بعض الناس هذه ناسخة لتلك وقيل بالعكس وقد تقدم معنى فآتوهن أجورهن ومعنى الأخدان يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية نزلت في غزوة المريسيع حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فنزلت الرخصة في التيمم فقال أسيد بن حضير ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر ولذلك سميت الآية آية التيمم وقد كان الوضوء مشروعا قبلها ثابتا بالسنة وقوله إذا قمتم إلى الصلاة معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤا أو ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة ومذهب الجمهور أنه لا يجب واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال الأول أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد والثاني أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب والثالث أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث والرابع أن تقديرها إذا قمتم من النوم فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ذكر في هذه الآية أربعة أعضاء اثنين محدودين وهما اليدان والرجلان واثنين غير محدودين وهما الوجه والرأس أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين والرجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع فإن ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا وذلك مبني على معنى إلى فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله إلى المرافق وإلى الكعبين أوجب غسلهما ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما واختلف في الكعبين هل هما اللذان عند معقد الشراك أو العظمان

(1/300)


الناتئان في طرف الساق وهو أظهر لأنه ذكرهما بلفظ التثنية ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع كما ذكر المرافق لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد وأما غير المحدودين فاتفق على وجوب إيعاب الوجه وحده طولا من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن أو اللحية وحده عرضا من الأذن إلى الأذن وقيل من العذار إلى العذار وأما الراس فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه لما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يجزىء على اقوال كثيرة وامسحوا برؤسكم اختلف في هذه الباء فقال قوم إنها للتبعيض وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الراس وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية وقال القرافي إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات وأن المعنى امسحوا أيديكم برؤسكم وهذا ضعيف لأن الراس على هذا ما مسح لا ممسوح وذلك خلاف المقصود وقيل إنها زائدة وهو ضعيف لأن هذا ليس موضع زيادتها والصحيح عندي أنها باء الإلصاق التي توصل الفعل إلى مفعوله لأن المسح تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف الجر كقوله فامسحوا بوجوهكم وكقوله فطفق مسحا بالسوق والأعناق وأرجلكم إلى الكعبين قرىء وأرجلكم بالنصب عطفا على الوجوه والأيدي فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين وقرىء بالخفض ... 171

(1/301)


171 فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله برؤسكم فأجاز مسح الرجلين روي ذلك عن ابن عباس وقال الجمهور لا يجوز مسحهما بل يجب غسلهما وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات أحدها أنه خفض على الجوار لا على العطف والآخر أنه يراد به المسح على الخفين والثالث أن ذلك منسوخ بالسنة والفرق بين الغسل والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء والغسل عند مالك إمرار اليد بالماء وعند الشافعي إمرار الماء وإن لم يدلك باليد وإن كنتم مرضى أو على سفر تقدم الكلام على نظيرتها في النساء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله يسر وباقي الآية تفضل من الله على عباده ورحمة وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة وتنشيط عليها وميثاقه الذي واثقكم به هو ما وقع في بيعة العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال المسلمون فيه سمعنا وأطعنا كونوا قوامين تقدم الكلام على نظيرتها في النساء ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم في سببها أربعة اقوال الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير من اليهود فهموا أن يصبوا عليه صخرة يقتلونه بها فأخبره جبريل بذلك فقام من المكان ويقوي هذا القول ما ورد في الآيات بعد هذا في غدر اليهود والثاني أنها نزلت في شأن الأعرابي الذي سل السيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجده في سفر وهو وحده وقال له من يمنعك مني قال الله فأغمد السيف وجلس واسمه غورث بن الحارث الغطفاني والثالث أنها فيما هم به الكفار من الإيقاع بالمسلمين حين نزلت صلاة الخوف والرابع أنها على الإطلاق في دفع الله الكفار عن المسلمين اثني عشر نقيبا النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم إني معكم ... 172

(1/302)


172 أي بنصري والخطاب لبني إسرائيل وقيل للنقباء يحرفون الكلم اختلف هل أريد تحريف الألفاظ أو المعاني ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) أي على خيانة فهو مصدر كالعاقبة وقيل على طائفة خائنة وهو إخبار بأمر مستقبل فاعف عنهم منسوخ بالسيف والجزية ومن الذين قالوا إنا نصارى أي ادعوا أنهم أنصار الله وسموا أنفسهم بذلك ثم كفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به وتتعلق من الذين بأخذنا ميثاقهم والضمير عائد على النصارى فأغرينا أي أثبتنا وألصقنا وهو مأخوذ من الإغراء يا أهل الكتاب في الموضعين يعم اليهود والنصارى وقيل إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنهم كانوا يذكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به قد جاءكم رسولنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وفي الآية دلالة على صحة نبوته لأنه بين لهم ما أخفوه مما في كتبهم وهي أمي لم يقرأ كتبهم ويعفو عن كثير أي يتركه ولا يفضحكم فيه نور وكتاب مبين محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن قل فمن يملك من الله شيئا الآية رد على الذين قالوا إن الله هو عيسى وهم فرقة من النصارى يخلق ما يشاء إشارة إلى خلقه عيسى من غير والد وقالت اليهود والنصارى أي قالت كل فرقة عن نفسها إنهم أبناء الله وأحباؤه والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة وقال الزمخشري المعنى نحن أشياع أبناء الله عندهم وهما المسيح وعزير كما يقول حشم الملوك نحن الملوك فلم يعذبكم رد عليهم لأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أياما معدودات وقد أخذ الصوفية من الآية أن المحب لا يعذب ... 173

(1/303)


173 حبيبه ففي ذلك بشارة لمن أحبه الله وجعلكم ملوكا قيل جعل منكم ملوكا أي أمراء وقيل الملك من له مسكن وامرأة وخادم ما لم يؤت أحدا من العالمين قيل يعني المن والسلوى والغمام وغير ذلك من الآيات وعلى هذا يكون العالمين خاصا بأهل زمانهم لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتيت من آياته مثل ذلك وأعظم وقيل المراد كثرة الأنبياء فعلى هذا يكون عاما لأن الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في سائر الأمم الأرض المقدسة أرض بيت المقدس وقيل الطور وقيل دمشق التي كتب الله لكم أي قضى أن تكون لكم ولا ترتدوا على أدباركم يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين والطاعة والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه فإنه روي أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهموا أن يقدموا على أنفسهم رئيسا ويرجعوا إلى مصر قوما جبارين هم العمالقة قال رجلان هما يوشع وكالب يخافون أي يخافون الله وقيل يخافون الجبارين ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت لصدق إيمانهما ادخلوا عليهم الباب أي باب المدينة فاذهب أنت وربك إفراط في العصيان وسوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون لا أملك إلا نفسي وأخي قاله موسى عليه السلام ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله وإعراب أخي عطف على نفسي لأن أخاه هارون كان يطيعه وقيل عطف على الضمير في لا أملك أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه وقيل مبتدأ وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه فافرق بيننا أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة وقيل افصل بيننا وبينهم بحكم قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة الضمير في قال لله تعالى

(1/304)


وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال إنا لن ندخلها ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب ومات هرون في التيه ومات موسى بعده في التيه أيضا وقيل إن موسى وهارون لم يكونا في التيه لقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة وقاتل الجبارين وفتح المدينة والعامل في أربعين محرمة على الأصح فيجب وصله معه وقيل العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله محرمة عليهم وهذا ضعيف لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأول أكمل معنى لأنه بيان لمدة التحريم والتيه يتيهون أي يتحيرون وروي ... 174

(1/305)


174 أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه فلا تأس أي لا تحزن والخطاب لموسى وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد بالفاسقين من كان في عصره من اليهود نبأ ابني آدم هما قابيل وهابيل إذ قربا قربانا روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده وكانت العادة حينئذ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي فإذا نزلت نار من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله إنما يتقبل الله من المتقين استدل بها المعتزلة وغيرهم على أن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك لئن بسطت إلي يدك الآية قيل معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به وقيل إن بدأتني بالقتال لم أدافعك ثم اختلف على هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه تورعا وفضيلة وهو الأظهر والأشهر وكان واجبا عندهم أن لا يدافع أحد عن نفسه وهو قول مجاهد وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه بل يجب إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة وإنما هو تخيير في أهون الشرين كأنه قال إن قتلتني فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وأما قوله بإثمي وإثمك فمعناه بإثم قتلي لك لو قتلتك وبإثم قتلك لي وإنما يحمل القاتل الإثمين لأنه ظالم فذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم المتسابان ما قالا فهو على البادىء وقيل بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي لأن الظالم تجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم وبإثمك أي في قتلك لي وفي غير ذلك من ذنوبك وذلك جزاء الظالمين يحتمل أن يكون من كلام هابيل أو استئنافا من كلام الله تعالى فبعث الله غرابا الآية روي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر

(1/306)


ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت وقيل بل كان غرابا واحدا يبحث ويلقي التراب على هابيل سوءة أخيه أي عورته وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد والضمير في أخيه عائد على ابن آدم ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دفن من بني آدم قال يا ولتا أصله يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف وفتحت التاء وكذلك يا أسفي ويا حسرتي فأصبح من النادمين على ما وقع فيه من قتل أخيه واختلف في قابيل هل كان كافرا أو عاصيا والصحيح أنه لم يكن في تلك المدة كافرا لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان وأصبح ... 175

(1/307)


175 هنا وفي الموضع عبارة عن جميع الأوقات لا مختصة بالصباح من أجل ذلك يتعلق بكتبنا وقيل بالنادمين وهو ضعيف كتبنا على بني إسرائيل أي فرضنا عليهم أو كتبناه في كتبهم بغير نفس معناه من غير أن يقتل نفسا يجب عليه القصاص أو فساد في الأرض يعني الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة فكأنما قتل الناس جميعا تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يتصور من ثلاث جهات إحداها القصاص فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء الثانية انتهاك الحرمة والإقدام على العصيان والثالثة الإثم والعذاب الأخروي قال مجاهد وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها والغضب واللعنة والعذاب العظيم فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك وهذا الوجه هو الأظهر لأن القصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه لينزجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه وإحياؤها هو إنقاذها من الموت كإنقاذ الحريق أو الغريق وشبه ذلك وقيل بترك قتلها وقيل بالعفو إذا وجب القصاص ولقد جاءتهم الضمير لبني إسرائيل والمعنى تقبيح أفعالهم وفي ذلك إشارة إلى ما هموا به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الاية سببها عند ابن عباس أن قوما من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وقال جماعة نزلت في نفر من عكل وعرينة أسلموا ثم إنهم قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا إبله ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب والمحاربة عند مالك هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج بلد وقال أبو حنيفة لا يكون المحارب إلى خارج البلد وقوله يحاربون الله تغليظ ومبالغة وقال بعضهم تقديره يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ضعيف لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر بعد ذلك وقيل يحاربون عباد الله وهو أحسن ويسعون في الأرض فسادا بيان للحرابة

(1/308)


وهي على درجات أدناها إخافة الطريق ثم أخذ المال ثم قتل النفس أن يقتلوا أو يصلبوا الصلب مضاف إلى القتل وقيل يقتل ثم يصلب ليراه أهل الفساد فينزجروا وهو قول أشهب وقيل يصلب حيا ويقتل على الخشبة وهو قول ابن القاسم أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف معناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرسغ وقطع الرجل من المفصل وذلك في الحرابة وفي السرقة أو ينفوا من الأرض مشهور مذهب مالك أن ينفى من بلد إلى بلد آخر ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته وروى عنه مطرف أنه يسجن في البلد بعينه وبذلك قال أبو حنيفة وقيل ينفى إلى بلد آخر دون أن يسجن فيه ومذهب مالك أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه أو يقتله ولا يصلبه أو يقطع يده ورجله أو ينفيه إلا أنه قال إن كان قتل فلا بد من قتله وإن لم يقتل فالأحسن أن يأخذ ... 176

(1/309)


176 فيه بأيسر العقاب وقال الشافعي وغيره هذه العقوبات مرتبة فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي وحجة مالك عطف هذه العقوبات بأو التي تقتضي التخيير خزي في الدنيا هو العقوبة وعذاب الآخرة النار وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب بخلاف سائر الحدود ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم قيل هي في المشركين وهو ضعيف لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه وبعدها وقيل هي في المحاربين من المسلمين وهو الصحيح وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه فقد سقط عنه حكم الحرابة لقوله فاعلموا أن الله غفور رحيم واختلف يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أولا فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حد الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة ووجه إسقاطها إطلاق قوله غفور رحيم وابتغوا إليه الوسيلة أي ما يتوسل به ويتقرب به إليه من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك ليفتدوا به إن قيل لم وحد الضمير وقد ذكر شيئين وهما ما في الأرض ومثله فالجواب أنه وضع المفرد في موضع الاثنين وأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك أو تكون الواو بمعنى مع عذاب مقيم أي دائم وكذلك نعيم مقيم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما عموم الآية يقتضي قطع كل سارق إلا أن الفقهاء اشترطوا في القطع شروطا خصصوا بها العموم فمن ذلك من اضطره الجوع إلى السرقة لم يقطع عند مالك لتحليل الميتة له وكذلك من سرق مال والده أو سيده أو من سرق من غير حرز أو سرق أقل من النصاب وهو عند مالك ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما يساوي أحدهما وأدلة التخصيص بهذه الأشياء في غير هذه الآية

(1/310)


وقد قيل إن الحرز مأخوذ من هذه الآية لأن ما أهمل بغير حرز أو ائتمن عليه فليس أخذه سرقة وإنما هو اختلاس أو خيانة وإعراب السارق عند سيبويه مبتدأ وخبره محذوف كانه قال فيما يتلى عليكم السارق والسارقة والخبر عند المبرد وغيره فاقطعوا أيديهما ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط فمن تاب من بعد ظلمه الآية توبة السارق هو أن يندم على ما مضى ويقلع فيما يستقبل ويرد ما سرق إلى من يستحقه واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم هل يسقط عنه القطع وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية أو لا يسقط عنه وهو مذهب مالك لأن الحدود عنده ... 177

(1/311)


177 لا تسقط بالتوبة إلا عن المحارب للنص عليه يعذب من يشاء قدم العذاب على المغفرة لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة يا أيها الرسول الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية من الذين قالوا آمنا بأفواههم هم المنافقون ومن الذين هادوا يحتمل أن يكون عطفا على الذين قالوا آمنا ثم يكون سماعون استئناف إخبار عن الصنفين المنافقين واليهود ويحتمل أن يكون من الذين هادوا استئنافا منقطعا مما قبله وسماعون راجع إليهم خاصة سماعون لقوم آخرين أي سماعون كلام قوم آخرين من اليهود الذين لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم لإفراط البعضة والمجاهرة بالعداوة فقوله لم يأتوك صفة لقوم آخرين والمراد بالقوم الآخرين يهود خيبر والسماعون للكذب بنو قريظة يحرفون الكلم من بعد مواضعه أي يبدلونه من بعد أن يوضع في موضعه وقصدت به وجوهه القويمة وذلك من صفة اليهود يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه نزلت بسبب أن يهوديا زنى بيهودية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود عن حد الزاني عندهم فقالوا نجلدهما ونحمم وجوههما فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في التوراة الرجم فأنكروا ذلك فأمرهم أن يأتوا بالتوراة فقرؤها فجعل أحدهم يده على آية الرجم فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهودي واليهودية فرجما فمعنى قولهم إن أوتيتم هذا فخذوه إن أوتيتم الذي ذكرتم من الجلد والتحميم فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه وأفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بغيره فاحذروا فتنته أي ضلالته في الدنيا أو عذابه في الآخرة في الدنيا خزي الذلة والمسكنة والجزية سماعون للكذب إن كان الأول في اليهود فكررها هنا تأكيدا وإن كان الأول في المنافقين واليهود فهذا في اليهود خاصة أكالون للسحت أي للحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم هذا

(1/312)


تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بين اليهود أو يتركهم وهو أيضا يتناول الحاكم وقيل إنه منسوخ بقوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله وكيف يحكمونك الآية استبعادلتحكمهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يؤمنون به مع أنهم يخالفون حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها فمعنى ثم يتولون من بعد ذلك أي يتولون عن اتباع حكم الله في التوراة من بعد كون حكم الله فيها موجودا عندهم ومعلوما في قضية الرجم وغيرها وما أولئك بالمؤمنين يعني أنهم لا يؤمنون بالتوراة وبموسى عليه ... 178

(1/313)


178 السلام وهذا إلزام لهم لأن من خالف كتاب الله وبدله فدعواه الإيمان به باطلة النبيون الذين أسلموا هم الأنبياء الذين بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى أسلموا هنا أخلصوا لله وهو صفة مدح أريد به التعريض باليهود لأنهم بخلاف هذه الصفة وليس المراد هنا الإسلام الذي هو ضد الكفر لأن الأنبياء لا يقال فيهم أسلموا على هذا المعنى لأنهم لم يكفروا قط وإنما هو كقول إبراهيم عليه السلام أسلمت لرب العالمين وقوله تعالى فقل أسلمت وجهي لله
للذين هادوا متعلق بيحكم أي يحكم الأنبياء بالتوراة للذين هادوا ويحملونهم عليها ويتعلق بقوله فيه هدى ونور بما استحفظوا أي كلفوا حفظه والباء هنا سببية قاله الزمخشري ويحتمل أن تكون بدلا من المجرور في قوله يحكم بها فلا تخشوا الناس وما بعده خطابا لليهود ويحتمل أن تكون وصية للمسلمين يراد بها التعريض باليهود لأن ذلك من أفعالهم ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال ابن عباس نزلت الثلاثة في اليهود الكافرون والظالمون والفاسقون وقد روي في هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال جماعة هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان وقال الشافعي الكافرون في المسلمين والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى وكتبنا عليهم فيها كتبنا بمعنى الكتابة في الألواح أو بمعنى الفرض والإلزام والضمير في عليهم لبني إسرائيل وفي قوله فيها للتوراة أن النفس بالنفس أي تقتل النفس إذا قتلت نفسا وهذا إخبار عما في التوراة وهو حكم في شريعتنا بإجماع إلا أن هذا اللفظ عام وقد خصص العلماء منه أشياء فقال مالك لا يقتل مؤمن بكافر للحديث الوارد في ذلك ولا يقتل حر بعبد لقوله الحر بالحر والعبد بالعبد وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة والعين بالعين وما بعده حكم القصاص في

(1/314)


الأعضاء والقراءة بنصب العين وما بعده عطف على النفس وقرىء بالرفع ولها ثلاثة أوجه أحدها العطف على موضع النفس لأن المعنى قلنا لهم النفس بالنفس والثاني العطف على الضمير الذي في الخبر وهو بالنفس والثالث أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء والجروح قصاص بالنصب عطف على المنصوبات قبله وبالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين وهذا اللفظ عام يراد به الخصوص في الجراح التي لا يخاف على النفس منها فمن تصدق به فهو كفارة له فيه تأويلان أحدهما من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه والثاني من تصدق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه فالضمير في له على التأويل الأول يعود على من التي هي كناية عن ... 179

(1/315)


179 المقتول أو المجروح أو الولي وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر ولكن سياق الكلام يقتضيه والأول أرجح لعود الضمير على مذكور وهو من ومعناها واحد على التأويلين والصدقة بمعنى العفو على التأويلين إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا وترغيب في العفو والتأويل الثاني بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عفى عنه مصدقا لما بين يديه قد تقدم معنى مصدق في البقرة ولما بين يديه يعني التوراة لأنها قبله والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل لأنهما قبله ومصدقا عطف على موضع قوله فيه هدى ونور لأنه في موضع الحال ومهيمنا ابن عباس شاهدا وقيل مؤتمنا عما جاءك من الحق تضمن الكلام معنى لا تنصرف أو لا تنحرف ولذلك تعدى بعن لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ابن عباس سبيلا وسنة والخطاب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو الأمم والمعنى أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها وقد استدل بها من قال إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا وذلك في الأحكام والفروع وأما الاعتقاد فالدين فيها واحد لجميع العالم وهو الإيمان بالله وتوحيده وتصديق رسله والإيمان بالدار الآخرة فاستبقوا الخيرات استدل به قوم على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها وهذا متفق عليه في العبادات كلها إلا الصلاة ففيها خلاف فمذهب الشافعي أن تقديمها في أول وقتها أفضل وعكس أبو حنيفة وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل واتفقوا أن تقديم المغرب أفضل وأن احكم بينهم عطف على الكتاب في قوله وأنزلنا إليك الكتاب أو على الحق في قوله بالحق وقال قوم إن هذا وقوله قبله فاحكم بينهم ناسخ لقوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم أي ناسخ للتخيير الذي في الآية وقيل إنه ناسخ للحكم بالتوراة ونزلت الآية بسبب قوم من اليهود طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم فأبى من ذلك ونزلت الآية تقضي أن يحكم بينهم أفحكم الجاهلية يبغون توبيخ لليهود وقرىء بالياء

(1/316)


إخبارا عنهم وبالتاء خطابا لهم لقوم يوقنون قال الزمخشري اللام للبيان أي هذا الخطاب لقوم يوقنون فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكما
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء سببها موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود ... 180
180 بني قينقاع وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم ولفظها عام وحكمها باق ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه فإنه منهم تغليظ في الوعيد فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله واستحاق العقوبة فترى الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والمراد هنا عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود ويستكثرهم ويقول إني رجل أخشى الدوائر فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده الفتح هنا هو ظهور النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والأمر من عنده هو هلاك الأعداء بأمراض عنده لا يكون فيه تسبب لمخلوق أو أمر من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بقتل اليهود فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين الضمير في فيصبحوا للمنافقين والذين أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين وإضمار العداوة للمسلمين يقول الذين آمنوا قرىء يقل بغير واو استئناف وإخبار وقرىء بالواو والرفع وهو عطف جملة على جملة وبالواو والنصب عطفا على أن يأتي الله أو عطفا على فيصبحوا هؤلاء الذين اقسموا الإشارة إلى المنافقين لأنهم كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين وانتصب جهد أيمانهم على المصدر المؤكد حبطت أعمالهم يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين أو من كلام الله ويحتمل أن يكون دعاء أو خبر من يرتد منكم عن دينه خطاب على وجه التحذير والوعيد وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين فهو إخبار بالغيب قبل وقوعه ثم وقع فارتد في حياة رسول الله صلى

(1/317)


الله عليه وسلم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب وبنو مدلج قوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة وقتل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة ثم أسلم وجاهد ثم كثر المرتدون وفشا أمرهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع قبائل بنو فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربوع وكندة وبنو بكر بن وائل وبعض بني تميم ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب وهم جبلة بن الأيهم الذي تنصر من أجل اللطمة فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها وقال هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري والإشارة بذلك والله أعلم إلى أهل اليمن لأن الأشعريين من أهل اليمن وقيل المراد أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الجد في قتالهم والعزم عليه حين خالفه في ذلك بعض الناس فاشتد عزمه حتى وافقوه وأجمعوا عليه فنصرهم الله على أهل الردة ويقوي ذلك أيضا ... 181

(1/318)


181 أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر ألا ترى قوله أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وكان أبو بكر ضعيفا في نفسه قويا في الله وكذلك قوله ولا يخافون لومة لائم إشارة إلى من خالف أبا بكر ولامه في قتال أهل الردة فلم يرجع عن عزمه أذلة على المؤمنين كقوله أشداء على الكفار رحماء بينهم وإنما تعدى أذلة بعلى لأنه تضمن معنى العطف والحنو فإن قيل أين الراجع من الجزاء إلى الشرط فالجواب أنه محذوف تقديره من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم يقاتلونهم إنما وليكم الله ذكر الولي بلفظ المفرد إفرادا لله تعالى بهما ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع وهم راكعون قيل نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه سأله سائل وهو راكع في الصلاة فأعطاه خاتمه وقيل هي عامة وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها فالواو على القول الأول واو الحال وعلى الثاني للعطف فإن حزب الله هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر معناه فإنهم هم الغالبون والكفار بالنصب عطف على الذين اتخذوا وقرىء بالخفض عطف على الذين أوتوا الكتاب ويعضده قراءة ابن مسعود ومن الكفار ويراد بهم المشركون من العرب وإذا ناديتم إلى الصلاة الآية روي أن رجلا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الله الكاذب فوقعت النار في بيته فاحترق هو وأهله واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن ذلك بأنهم قوم لا يعقلون جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين هل تنقمون منا هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا إيماننا بالله ويجمع كتبه ورسله وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة ( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب )

(1/319)


ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وجماعة من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرسل الذي يؤمن بهم فتلا آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية فلما ذكر عيسى قالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به وأن أكثركم فاسقون قيل إنه معطوف على آمنا وقيل على ما أنزل وقيل هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون ويحتمل أن يكون وأن أكثركم مبتدأ وخبره محذوف تقديره فسقكم معلوم أو ثابت قل هل أنبئكم بشر من ... 182

(1/320)


182 ذلك ) لما ذكر أن أهل الكتاب يعيبون المسلمين بالإيمان بالله ورسله ذكر عيوب أهل الكتاب في مقابلة ذلك ردا عليهم فالخطاب في أنبئكم لليهود والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حال المؤمنين مثوبة عند الله هي من الثواب ووضع الثواب موضع العقاب تهكما بهم نحو قوله فبشرهم بعذاب أليم من لعنه الله يعني اليهود ومن في موضع رفع بخبر مبتدأ مضمر تقديره هو من لعنه الله أو في موضع خفض على البدل من بشر ولا بد في الكلام من حذف مضاف تقديره بشر من أهل ذلك وتقديره دين من لعنه الله
وجعل منهم القردة والخنازير مسخ قوم من اليهود قرودا حين اعتدوا في السبت ومسخ قوم منهم خنازير حين كذبوا بعيسى ابن مريم وعبد الطاغوت القراءة بفتح الباء فعل معطوف على لعنه الله وقرىء بضم الباء وخفض الطاغوت على أن يكون عبد اسما على وجه المبالغة كيقظ أضيف إلى الطاغوت وقرىء وعابد وعباد وهو في هذه الوجوه عطف على القردة والخنازير شر مكانا أي منزلة ونسب الشر للمكان وهو في الحقيقة لأهله وذلك مبالغة في الذم وإذا جاؤكم قالوا آمنا نزلت في منافقين من اليهود وقد دخلوا بالكفر تقديره ملتبسين بالكفر والمعنى دخلوا كفارا وخرجوا كفارا ودخلت قد على دخلوا وخرجوا تقريبا للماضي من الحال أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام بالإثم الكذب وسائر المعاصي والعدوان الظلم السحت الحرام لولا ينهاهم عرض وتحضيض وتقريع ليس اللام في الموضعين للقسم وقالت اليهود يد الله مغلولة غل اليد كناية عن البخل وبسطها كناية عن الجود ومنه ولا تجعل يدك مغلولة أي لا تبخل كل البخل ولا تبسطها كل البسط أي لا تجد كل الجود وروي أن اليهود أصابتهم سنة جهد فقالوا هذه المقالة الشنيعة وكان الذي قالها فنحاص ونسبت إلى جملة اليهود لأنهم رضوا بقوله غلت أيديهم يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا ويحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة

(1/321)


فإن كان في الدنيا فيحتمل أن يراد به البخل أو غل أيديهم في الأسر وإن كان في الآخرة فهو جعل الأغلال في جهنم بل يداه مبسوطتان عبارة عن إنعامه وجوده وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود يد الله مغلولة ليكون ردا عليهم ومبالغة في وصفه تعالى بالجود كقول العرب فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها ... 183
183 الله ) إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم أو يراد من كان معاصرا النبي صلى الله عليه وسلم منهم من يأت بعدهم فيكون على هذا إخبار بغيب وبشارة للمسلمين ولو أن أهل الكتاب آمنوا الآية يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى ولو أنهم أقاموا التواراة والإنجيل إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم قيل من فوقهم عبارة عن المطر ومن تحت أرجلهم عبارة عن النبات والزرع وقيل ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أمه مقتصدة أي معتدلة ويراد به من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وإن لم تفعل فما بلغت رسالته هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا فكأنك لم تبلغ شيئا وصار ما بلغت لا يعتد به فمعنى إن لم تفعل إن لم تستوف التبليغ على الكمال والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها ووضع السبب موضع المسبب والله يعصمك من الناس وعد وضمان للعصمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف

(1/322)


أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها فلما نزلت هذه الاية قال يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد عصمني وترك الاحتراس قل يا أهل الكتاب لستم على شيء الآية أي لستم على دين يعتد به يسمى شيئا حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وقوله وما أنزل إليكم قال ابن عباس يعني القرآن ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة وسلام بن بشكم ورافع بن خزيمة وغيرهم من اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها ولا نؤمن بك ولا نتبعك إن الذين آمنوا والذين هادوا تقدم الكلام على نظيرتها في البقرة والصابئون قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة هي من لحن كتاب المصحف وإعرابها عند أهل البصرة مبتدأ وخبره محذوف ... 184

(1/323)


184 تقديره والصابئون كذلك وهو مقدم في نية التأخير وأجاز بعض الكوفيون أن يكون معطوفا على موضع اسم إن وقيل إن هنا بمعنى نعم وما بعدها مرفوع بالابتداء وهو ضعيف وحسبوا أن لا تكون فتنة أي بلاء واختبار وقرىء تكون بالرفع على أن تكون أن مخففة من الثقيلة وبالنصب على أنها مصدرية فعموا وصموا عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان ثم تاب الله عليهم قيل إن هذه التوبة رد ملكهم ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه ثم أخرجوا المرة الثانية فلم ينجبر حالهم أبدا وقيل التوبة بعث عيسى عليه السلام وقيل بعث محمد صلى الله عليه وسلم كثير منهم بدل من الضمير أو فاعل على لغة أكلوني البراغيث والبدل أرجح وأنصح وقال المسيح الآية رد على النصارى وتكذيب لهم وما للظالمين من أنصار يحتمل أن يكون من كلام المسيح أو من كلام الله ما المسيح ابن مريم إلا رسول الآية رد على من جعله إلها وأمه صديقة أي بليغة الصدق في نفسها أو من التصديق ووصفها بهذه الصفة دون النبوة يدفع قول من قال إنها نبية كانا يأكلان الطعام استدلال على أنهما ليسا بإلهين لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا محدث مفتقر ومن كان كذلك فليس بإله لأن الإله منزه عن صفة الحدوث وعن كل ما يلحق البشر وقيل إن قوله يأكلان الطعام عبارة عن الاحتياج إلى الغائط ولا ضرورة تدعو إلى إخراج اللفظ عن ظاهره لأن الحجة قائمة بالوجهين ثم انظر دخلت ثم لتفاوت الأمرين ولقصد التعجيب من كفرهم بعد بيان الآيات قل أتعبدون من دون الله الآية إقامة حجة على من عبد عيسى وأمه وهما لا يملكان ضرا ولا نفعا قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم خطاب للنصارى والغلو الإفراط وسبب ذلك كفر النصارى ولا تتبعوا أهواء قوم قيل هم أئمتهم في دين النصرانية كانوا على ضلال في عيسى وأضلوا كثيرا من الناس ثم ضلوا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم

(1/324)


اليهود والأول أرجح ... 185
185 لوجهين أحدهما أن الضلال وصف لازم للنصارى ألا ترى قوله تعالى ولا الضالين والآخر أنه يبعد نهي النصارى عن اتباع اليهود مع ما بينهم من الخلاف والشقاق على لسان داود وعيسى ابن مريم أي في الزبور والإنجيل لا يتناهون أي لا ينهي بعضهم بعضا عن منكر فإن قيل لم وصف المنكر بقوله فعلوه والنهي لا يكون بعد الفعل فالجواب أن المعنى لا يتناهون عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر إن أرادوا فعله ترى كثيرا منهم إن أراد أسلافهم فالرؤية بالقلب وإن أراد المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر فهي رؤية عين والنبي وما أنزل إليه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ما اتخذوهم أولياء يعني ما اتخذوا الكفار أولياء لتجدن أشد الناس عداوة الآية إخبار عن شدة عداوة اليهود وعبدة الأوثان للمسلمين ولتجدن أقربهم مودة الآية إخبار أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر فكل يهودي شديد العداوة للإسلام والكيد لأهله ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا تعليل لقرب مودتهم والقسيس العالم والراهب العابد وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآية هي في النجاشي وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوسبعون رجلا فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم وقال السهيلي نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى عشرين رجلا فلما سمعوا القرآن بكوا مما عرفوا من الحق من الأولى سببية والثانية بيان للجنس آمنا أي بالقرآن من عند الله مع الشاهدين أي مع المسلمين وكذلك مع القوم الصالحين وما لنا لا نؤمن بالله توقيف لأنفسهم أو محاجة لغيرهم ونطمع قال الزمخشري الواو للحال وقال ابن عطية لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم سببها

(1/325)


أن قوما من ... 186
186 الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل وبعضهم أكل اللحم وهم بعضهم أن يختصوا أو يسيحوا في الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ولا تعتدوا أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم وكلوا أي تمتعوا بالمآكل الحلال وبالنساء وغير ذلك وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أعظم حاجات الإنسان باللغو تقدم في البقرة بما عقدتم الأيمان أي بما قصدتم عقده بالنية وقرىء عقدتم بالتخفيف وعاقدتم بالألف إطعام عشرة مساكين اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزى في الكفارة إطعام غني فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين وليس في الآية ما يدل على ذلك من أوسط ما تطعمون أهليكم اختلف في هذا التوسط هل هو في القدر أو في الصنف واللفظ يحتمل الوجهين فأما القدر فقال مالك يطعم بالمدينة مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وبغيرها وسط من الشبع وقال الشافعي وابن القاسم يجزى المد في كل مكان وقال أبو حنيفة إن غداهم وعشاهم أجزأه وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه أو من عيش أهل بلده فمعنى الآية على التأويل الثاني من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة وعلى الأول يختص الخطاب بالكفر أو كسوتهم قال كثير من العلماء يجزى ثوب واحد لمسكين لأنه يقال فيه كسوة وقال مالك إنما يجزي ما تصح به الصلاة فالرجل ثوب واحد وللمرأة قميص وخمار أو تحرير رقبة اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة لإطلاق اللفظ هنا واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك فمن لم يجد أي من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه

(1/326)


صيام ثلاثة أيام فالخصال الثلاث على التخيير والصيام مرتب بعدها لمن عدمها وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة
ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم معناه إذا حلفتم وخشيتم أو أردتم الحنث واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث أم لا واحفظوا أيمانكم أي احفظوها فبروا فيها ولا تخشوا وقيل احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم وقيل احفظوها أي لا تنسوها تهاونا بها الخمر والميسر ذكر في البقرة والأنصاب والأزلام مذكوران في أول هذه السورة رجس هو في اللغة كل مكروه مذموم وقد يطلق بمعنى النجس وبمعنى الحرام وقال ابن عباس معنى رجس سخط فاجتنبوه نص في التحريم والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء ... 187

(1/327)


187 المذكورة إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر تقبيح للخمر والميسر وذكر لبعض عيوبها وتعليل لتحريمها وقد وقعت في زمان الصحابة عداوة بين أقوام بسبب شربهم لها قبل تحريمها ويقال إن ذلك كان سبب نزول الآية فهل أنتم منتهون توقيف يتضمن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لما نزلت انتهينا انتهينا ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا فيها تأويلان أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة كيف بمن مات منا وهو يشربها فنزلت الاية معلمة أنه لا جناح على من شربها قبل التحريم لأنه لم يعص الله بشربها حينئذ والآخر أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها وعلى هذا أخذها عمر رضي الله عنه حين قال لقدامة إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك وكان قدامة قد شربها واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه فقال عمر أخطأت التأويل إذا ما اتقوا وآمنوا الآية قيل كرر التقوى مبالغة وقيل الرتبة الأولى اتقاء الشرك والثانية اتقاء المعاصي والثالثة اتقاء ما لا بأس به حذرا مما به البأس وقيل الأولى للزمان الماضي والثانية للحال والثالثة للمستقبل وأحسنوا يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس أو الإحسان في طاعة الله وهو المراقبة وهذا ارجح لأنه درجة فوق التقوى ولذلك ذكره في المرة الثالثة وهي الغاية ولذلك قالت الصوفية المقامات ثلاثة مقام الإسلام ثم مقام الإيمان ثم مقام الإحسان ليبلوكم الله بشيء من الصيد أي يختبر طاعتكم من معصيتكم بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام وفي الحرم وكان الصيد من معاش العرب ومستعملا عندهم فاختبروا بتركه كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت وإنما قلله في قوله بشيء من الصيد إشعارا بأنه ليس من الفتن العظيمة وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها تناله أيديكم ورماحكم قال مجاهد الذي تناله

(1/328)


الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر والذي تناله الرماح كبار الصيد والظاهر عموم هذا التخصيص ليعلم الله أي يعلمه علما تقوم به الحجة وذلك إذا ظهر في الوجود فمن اعتدى أي بقتل الصيد وهو محرم والعذاب الأليم هنا في الآخرة لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم والصيد هنا عام خصص منه الحديث الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ومن قتله منكم متعمدا مفهوم الآية يقتضي أن جزاء ... 188

(1/329)


188 الصيد على المتعمد لا على الناسي وبذلك قال أهل الظاهر وقال جمهور الفقهاء المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء ثم اختلفوا في قوله متعمدا على ثلاثة أقوال أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله ومن عاد فينتقم الله منه إذ لا وعيد على الناسي والثاني أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد والثالث أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن وأن الجزاء على الناسي ثبت بالسنة فجزاء مثل ما قتل من النعم المعنى فعليه جزاء وقرىء بإضافة جزاء إلى مثل وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به وقيل مثل زائدة كقولك انا أكرم مثلك أي أكرمك وقرىء فجزاء بالتنوين ومثل بالرفع على البدل أو الصفة والنعم الإبل والبقر والغنم خاصة ومعنى الآية عند مالك والشافعي أن من قتل صيدا وهو محرم أن عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر ففي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الغزالة شاة فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام ومذهب أبي حنيفة أن المثل القيمة يقوم الصيد المقتول ويخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه يحكم به ذوا عدل هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء ولا خلاف في ذلك فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة فإنه لا يحتاج إلى حكمين قاله مالك ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة وفيما لم يحكموا فيه لعموم الآية وقال الشافعي يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة هديا يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى وهو الجذع من الضأن والثني مما سواه وقال الشافعي يخرج المثل في اللحم ولا يشترط السن بالغ الكعبة لم يرد الكعبة بعينها وإنما أراد الحرم ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحل إلى الحرم وقال الشافعي وأبو حنيفة إن اشتراه في الحرم

(1/330)


أجزأه أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما عدد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد فذكر أولا الجزاء من النعم ثم الطعام ثم الصيام ومذهب مالك والجمهور أنها على التخيير وهو الذي يقتضيه العطف بأو ومذهب ابن عباس أنها على الترتيب ولم يبين الله هنا مقدار الطعام فرأى العلماء أن يقدر الجزاء من النعم لأنهم اختلفوا في كيفية التقدير فقال مالك يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام أو الدراهم ثم تقوم الدراهم بالطعام فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حي وقال بعض أصحاب مالك يقدر الصيد بالطعام أي يقال كم كان يشبع الصيد من نفس ثم يخرج قدر شبعهم طعاما وقال الشافعي لا يقدر الصيد نفسه وإنما يقدر مثله وهو الجزاء الواجب على القاتل له أو عدل ذلك صياما تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن لأنه أقرب أو إلى الصيد واختلف في تعديل الصيام بالطعام فقال مالك يكون مكان كل مد يوما وقال أبو حنيفة مكان كل مدين يوم وقيل مكان كل صاع يوما ولا يحب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد لا بأخذه دون قتل لقوله من قتله وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء ليذوق وبال أمره الذوق هنا مستعار لأن حقيقته بحاسة اللسان والوبال سوء العاقبة وهو هنا ما لزمه من ... 189

(1/331)


189 التكفير
عفا الله عما سلف أي عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم ومن عاد فينتقم الله منه أي من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي عن ذلك فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه أو بعذابه الآخرة أحل لكم صيد البحر أحل الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم والصيد هنا المصيد والبحر هو الماء الكثير سواء كان ملحا أو عذبا كالبرك ونحوها وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأن ذلك طعام وليس بصيد قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وقال ابن عباس طعامه ما ملح منه وبقي متاعا لكم وللسيارة الخطاب بلكم للحاضرين في البحر والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحل له أكله بوجه ونشأ الخلاف فيما صاد غيره فإذا اصطاد حلال فقيل يجوز للمحرم أكله وقيل لا يجوز إن اصطاده لمحرم والأقوال الثلاثة مروية عن مالك وإن اصطاد حرام لمن يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع وقيل موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام وقيل أراد العرب خاصة لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة والشهر الحرام يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال والهدى يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب والقلائد كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم ليعلم أنه كان في عبادة فلا يتعرض له أحد بشيء فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر وقيل أراد قلائد الهدى قال سعيد ابن جبير جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدد في الإسلام ذلك لتعلموا الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس والمعنى جعل الله ذلك

(1/332)


لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور لا يستوي الخبيث والطيب لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة من أبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أبوك حذافة وقال آخر أين أبي قال في النار وقيل سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام فسكت فأعادوا قال لا ولو قلت نعم لوجبت فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم وعلى الثاني تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم ويقوي هذا قوله عفا الله عنها أي سكت عن ذكرها ... 190

(1/333)


190 ولم يطالبكم بها كقوله صلى الله عليه وسلم عفا الله عن الزكاة في الخيل وقيل إن معنى عفا الله عنها عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فيه معنى الوعيد على السؤال كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم أبدى لكم ما يسوؤكم والمراد بحين ينزل القرآن زمان الوحي قد سألها قوم من قبلكم الضمير في سألها راجع إلى المسئلة التي دل عليها لا تسألوا وهي مصدر ولذلك لم يتعدى بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده أي لم يشرعه لهم وإنما الكفار جعلوا ذلك فأما البحيرة فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها وتركوها ترعى ولا ينتفع بها وأما السائبة فكان الرجل يقول إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها وأما الوصيلة فكانوا إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرم الله وأكثرهم لا يعقلون الذين يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك الأشياء والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أي يكفينا دين آبائنا أولو كان آباؤهم قال الزمخشري الواو واو الحال دخلت عليها همزة الإنكار كأنه قيل أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون قال ابن عطية ألف

(1/334)


التوقيف دخلت على واو العطف وقول الزمخشري أحسن في المعنى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرموا البحيرة وأخواتها كأنه يقول لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم شهادة بينكم ... 191

(1/335)


191 إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ) قال مكي هذه الآية اشكل آية في القرآن إعرابا ومعنى وحكما ونحن نبين معناها على الجملة ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل وسببها أن رجلين خرجا إلى الشام وخرج معهما رجل آخر بتجارة فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة ودفعا رحله إلى ورثته فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي الأمر مدة ثم عثر على إناء عظيم من فضة فقيل لمن وجد عنده من أين لك هذا فقال اشتريته من فلان وفلان يعني الرجلين فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا فمعنى الآية إذا حضر الموت أحد في السفر فليشهد عدلين بما معه فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدلا فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذ حضر أي قارب الحضور والعامل في إذ المصدر الذي هو شهادة وهذا على أن يكون إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا ويجوز أن تكون شرطية وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإن المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد حين الوصية ظرف العامل فيه حضر ويكون بدلا من إذا ذوا عدل صفة للشاهدين منكم أو آخران من غيركم قيل معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم ومن غيركم من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور منكم أي من المسلمين ومن غيركم من الكفار إذا لم يوجد مسلم ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز

(1/336)


شهادة الكفار أصلا وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر وهو قول ابن عباس إن أنتم ضربتم في الأرض أي سافرتم وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها والمعنى إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فشهادة بينكم شهادة اثنين تحبسونهما قال أبو علي الفارسي هو صفة لآخران واعترض بين الصفة والموصوف بقوله إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض وحلول الموت في السفر وقال الزمخشري تحبسونهما استئناف كلام من بعد الصلاة قال الجمهور هي صلاة العصر فاللام للعهد لأنها وقت اجتماع الناس وبعدها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأيمان وقال من حلف على سلعة بعد صلاة العصر وكان التحليف بعدها معروف عندهم وقال ابن عباس هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر فيقسمان بالله أي يحلفان ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ وقد استحلفهما علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري إن ارتبتم أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان لا نشتري به ثمنا هذا هو المقسوم عليه والضمير في به للقسم وفي كان للمقسم له أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من ... 192

(1/337)


192 الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريبا لنا وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها وإضافتها إلى الله تعظيما لها فإن عثر على أنهما استحقا إثما أي إن اطلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به فآخران يقومان مقامهما أي اثنان من أولياء الميت يقومان مقام الشاهدين في اليمين من الذين استحق عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذين جنا عليهم وهم أولياء الميت الأوليان تثنية أولى بمعنى أحق أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما والأحقان بالمال لقرابتهما وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره هما الأوليان أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان أو بدل من الضمير في يقومان ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان وأجازه ابن عطية وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل فالأوليان فاعل باستحق ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة وقرىء الأولين جمع أول وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم أو منصوبا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما أي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما إنا إذا لمن الظالمين أي إن اعتدينا فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى أقرب وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم أي يخافوا أن

(1/338)


يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا يوم يجمع الله الرسل هو يوم القيامة وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب لأن من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم وهذا بعيد لأن الأنبياء في ذلك اليوم آمنون وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار إذ قال الله يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل ... 193

(1/339)


193 في إذ مضمرا ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران فتنفخ فيها الضمير المؤنث عائد على الكاف لأنها صفة للهيئة وكذلك الضمير في تكون وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على الكاف أيضا لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك وقيل المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير والطين وهو بعيد في المعنى بإذني كرره مع كل معجزة ردا على من نسب الربوبية إلى عيسى وإذ كففت بني إسرائيل عنك يعني اليهود حين هموا بقتله فرفعه الله إليه وإذ أوحيت معطوف على ما قبله فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام واشهد يحتمل أن يكون خطابا لله تعالى أو لعيسى عليه السلام إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم نداؤهم له باسمه دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه وإنما يقولون يا رسول الله يا نبي الله وقولهم ابن مريم دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أم دون والد بخلاف ما اعتقده النصارى هل يستطيع ربك ظاهر هذا اللفظ أنهم شكوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري وقال ما وصفهم الله بالإيمان ولكن حكى دعواهم في قولهم آمنا وقال ابن عطية وغيره ليس كذلك لأنهم شكوا في قدرة الله لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا وهل يقع منه إجابة إليه وهذا أرجح لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه مع أن في اللفظ بشاعة تنكر وقرىء تستطيع بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا وبها قرأت عائشة

(1/340)


رضي الله عنها وقالت كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء ومفعول بالمصدر وهو السؤال المقدر على القراءة بالتاء والمائدة هي التي عليها طعام فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فقوله لهم اتقوا الله يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة واقتراح الآيات ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك وقوله إن كنتم مؤمنين هو على ظاهره على مذهب الزمخشري وأما على مذهب ابن عطية وغيره فهو تقرير لهم ... 194

(1/341)


194 كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا ومعلوم أنه رجل وقيل إن هذه المقالة صدرت منهم في أول الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى قالوا نريد أن نأكل منها أي أكلا نتشرف به بين الناس وليس مرادهم شهوة البطن ( وتطمئن قلوبنا ) أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الإستدلال ونعلم أن قد صدقتنا ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك ونكون عليها من الشاهدين أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويدعو ويبكي تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا قيل نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة ثم لمن بعدهم وقال ابن عباس المعنى تكون مجتمعا لجميعا أولنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور وآية منك أي علامة على صدقي قال الله إني منزلها عليكم أجابهم الله إلى ما طلبوا ونزلت المائدة عليها سمك وخبز وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا عادة الله عز وجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير قال عبد الله بن عمر أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال ابن عباس والجمهور هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤس الخلائق ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه ويعلمون أنهم كانوا على باطل وقال السدي لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك وسأل الله

(1/342)


حينئذ عن ذلك فقال سبحانك الآية فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو في لفظه وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق نفي يعضده دليل العقل لأن المحدث لا يكون إلها إن كنت قلته فقد علمته اعتذار وبراءة من ذلك القول ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته لأن الله علم أنه لم يقل ذلك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي وبقية قوله تعظيما لله وإخبار بما قال الناس في الدنيا أن اعبدوا أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية بدل من الضمير في ... 195

(1/343)


195 به إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه لأن الخلق عباده والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته وفرق بين الجواز والوقوع وأما على قول من قال إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة وكانوا حينئذ أحياء وكل حي معرض للتوبة السؤال الثاني ما مناسبة قوله فإنك أنت العزيز الحكيم لقوله وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب من ثلاثة أوجه الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له كان قوله فإنك أنت العزيز الحكيم أليق فإن الحكمة تقتضي التسليم له والعزة تقتضي التعظيم له فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ولا يغلبه غيره ولا يمتنع عليه شيء أراده فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم لمغفرة لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته الجواب الثاني قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب إذ لا تطلب المغفرة للكفار وهذا قريب من قولنا الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله وإن تغفر لهم ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم عموم في جميع الصادقين وخصوصا في عيسى ابن مريم فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه وقرأ غير نافع هذا يوم

(1/344)


بالرفع على الابتداء أو الخبر وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان أحدهما أن يكون يوم ظرف لقال فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام والآخر أن يكون هذا مبتدأ ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع لأنه أضيف إلى معرب قاله الفارسي والزمخشري تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله سورة الأنعام ... 196
| 2 | الجزء الثاني ... 197

(1/345)


أول الجزء الثانى
سورة الأنعام
قال كعب أول الأنعام هو أول التوراة وجعل الظلمات والنور جعل هنا بمعنى خلق والظلمات الليل والنور النهار والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار وقولهم إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يسوون ويمثلون من قولك عدلت فلانا بفلان إذا جعلته نظيره وقرينه ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض والظلمات والنور وكذلك قوله ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور وبعبدة الأصنام لأنهم المجاورون للنبي صلى الله عليه وسلم وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن خلقكم من طين أي خلق أباكم آدم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده الأجل الأول الموت والثاني يوم القيامة وجعله عنده لأنه استأثر بعلمه وقيل الأول النوم والثاني الموت ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب الوقوع لأن القضاء متقدم على الخلق وهو الله في السموات وفي الأرض يتعلق في السموات بمعنى اسم الله فالمعنى كقوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله كما يقال أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر فيتعلق باسم فاعل محذوف والمعنى على هذا قريب من الأول وقيل المعنى أنه في السموات والأرض بعلمه كقوله وهو معكم أينما كنتم والأول أرجح وأفصح لأن اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة وغير ذلك فقد جمعها مع الإيجاز ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه لقوله بعدها يعلم سركم وجهركم وقيل يتعلق بمحذوف تقديره

(1/346)


المعبود في السموات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله واسم الله على هذا القول وعلى الأول هو خبر المبتدأ وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير وما تأتيهم من ... 198
3 آية من آيات ربهم ) من الأولى زائدة والثانية للتبعيض أو لبيان الجنس بالحق يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فسوف يأتيهم الآية وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم ألم يروا كم أهلكنا حض للكفار على الاعتبار بغيرهم والقرن مائة سنة وقيل سبعون وقيل أربعون مكناهم في الأرض الضمير عائد على القرن لأنه في معنى الجماعة ما لم نمكن لكم الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين وأرسلنا السماء عليهم مدرارا السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة ومدرارا بناء مبالغة وتكثير من قولك در المطر إذا غزر فاهلكناهم بذنوبهم التقدير فكفروا وعصوا فأهلكناهم وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس الآية إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات والمراد بقوله فلمسوه بأيديهم لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك يشبه أن يكون سبب هذه الاية قول بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك وما اراني مع هذا اصدقك وقالوا لولا أنزل عليه ملك حكاية عن طلب بعض العرب وروي أن العاصي بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد لو كان معك ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر قال ابن عباس المعنى لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعجل لهم العذاب ففي الكلام على هذا حذف وقضي الأمر على هذا تعجيل أخذهم وقيل المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته فقضي الأمر على هذا موتهم ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي لو جعلنا الرسول ملكا لكان في

(1/347)


صورة رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته وللبسنا عليهم ما يلبسون أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك ولقد استهزئ برسل من قبلك الآية إخبار قصد به تسلية النبي النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه فحاق أي أحاط بهم وفي هذا الإخبار تهديد للكفار قل سيروا في الأرض الآية حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم ثم انظروا قال الزمخشري إن قلت أي فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا قلت جعل النظر سببا عن السير في قوله فانظروا كأنه قال سيروا لأجل النظر وأما قوله فسيروا ... 199

(1/348)


4 في الأرض ثم انظروا فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في الهالكين رتبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح قل لمن ما في السموات والأرض قل لله القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا لمن ما في السموات والأرض ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه كتب على نفسه الرحمة أي قضاها وتفسير ذلك بقول النبي صلى صلى الله عليه وسلم إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض وفيه إن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية تغلب غضبي ليجمعنكم مقطوع مما قبله وهو جواب لقسم محذوف وقيل هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره أن يجمعكم وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب إلى يوم القيامة قيل هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف والصحيح أنها للغاية على بابها الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر وقيل هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف وقيل منادى وهو باطل وله ما سكن فى الليل والنهار عطف على قوله قل لله ومعنى سكن حل فهو من السكنى وقيل هو من السكون وهو ضعيف لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء قل أغير الله أتخذ وليا إقامة حجة على الكفار ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها أول من أسلم أي من هذه الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته إلى الإسلام ولا

(1/349)


تكونن في الكلام حذف تقديره وقيل لي ولا تكونن من المشركين أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام ونهيت عن الإشراك من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله وقرئ يصرف بفتح الياء وفاعله الله وذلك إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة وإن يمسسك الله بضر معنى يمسسك يصبك والضر مرض وغيره على العموم في جميع المضرات والخير العافية وغيرها على العموم أيضا والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى ... 200

(1/350)


5 بالضر والخير وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين قل أى شىء أكبر شهادة سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء قل الله شهيد بيني وبينكم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله قل الله بمعنى أن الله أكبر شهادة ثم يبتدئ على تقدير هو شهيد بيني وبينكم والأول أرجح لعدم الإضمار والثاني أرجح لمطابقته للسؤال لأن السؤال بمنزلة من يقول من أكبر الناس فيقال في الجواب فلان وتقديره فلان أكبر والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار معجزته الدالة على نبوته ومن بلغ عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل يبلغ ضمير القرآن والمفعول محذوف يعود على من تقديره ومن بلغه والمعنى أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به المخاطبين وهم أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة قال سعيد ابن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد قل أئنكم لتشهدون الآية تقرير للمشركين على شركهم ثم تبرأ من ذلك بقوله لا أشهد ثم شهد الله بالوحدانية وروي انها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ما تعلم مع الله إلها آخر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم تقدم في البقرة الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون وقيل الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد لأن الذين أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا إلا ليقيم الحجة على الكفار ومن أظلم لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم ممن افترى على الله وذلك تنصل من الكذب على الله وإظهار لبراءة رسول الله صلى الله عليه

(1/351)


وسلم مما نسبوه إليه من الكذب ويحتمل أن يريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد أوكذب بآياته أي علاماته وبراهينه أين شركاؤكم يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ تزعمون أي تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه والعامل في يوم نحشرهم محذوف ثم لم تكن فتنتهم الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه وقيل فتنتهم معذرتهم وقيل كلامهم وقرئ فتنتهم بالنصب على خبر كان واسمها أن قالوا وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين جحود لشركهم فإن قيل كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن فيكتم قوم ويقر آخرون ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال إنهم جحدوا طمعا في النجاة فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا ومنهم من ... 201

(1/352)


6 يستمع إليك ) الضمير عائد على الكفار وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه أكنة جمع كنان وهو الغطاء وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن يفقهوه ومعنى الآية أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه وعبر بالأكنة والوقر مبالغة وهي استعارة أساطير الأولين أي قصصهم وأخبارهم وهو جمع أسطار وأسطورة قال السهيلي حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين فإن قائلها هو النضر بن الحارث وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد وهم ينهون عنه وينأون عنه هم عائد على الكفار والضمير في عنه عائد على القرآن والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان وينأون هم عنه أن يبعدون والنأي هو البعد وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن إذايته وهم مع ذلك يبعدون عنه والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه يحمي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسلم وفي قوله ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس ولو ترى إذ وقفوا على النار جواب لو محذوف هنا وفي قوله ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا ومعنى وقفوا حبسوا قاله ابن عطية ويحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار وإذا عاينوها وأشرفوا عليها ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى به ماض يا ليتنا نرد ولا نكذب قرئ برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني ومثله سيبويه بقولك دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين أو عطف على نرد وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم وقيل هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من

(1/353)


أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر وهذان القولان بعيدان فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة ولو ردوا لعادوا إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه وإنهم لكاذبون يعني في قولهم ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ولا يصح أن يرجع إلى قولهم يا ليتنا نرد لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي قال أليس ... 202

(1/354)


7 هذا بالحق ) تقريرا لهم وتوبيخ قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر وقيل الساعة أي فرطنا في شأنها والاستعداد لها والأول أظهر وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم كناية عن تحمل الذنوب وقال على ظهورهم لأن العادة حمل الأثقال على الظهور وقيل إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصور له في أحسن صورة ألا ساء ما يزرون إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن إلى قوله لا يحزنهم الفزع الأكبر وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون قولهم إنه ساحر شاعر كاهن فإنهم لا يكذبونك من قرأ بالتشديد فالمعنى لا يكذبونك معتقدين لكذبك وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به ومن قرأ بالتخفيف فقيل معناه لا يجدونك كاذبا يقال أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا كما يقال أحمدته إذا وجدته محمودا وقيل هو بمعنى التشديد يقال كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به وأنه قال للأخنس بن شريق والله إن محمدا الصادق ولكني أحسده على الشرف ولكن الظالمين أي ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم ولقد كذبت رسل من قبلك الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وحض له على الصبر ووعد له بالنصر ولا مبدل لكلمات الله أي لمواعيده لرسله كقوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وفي هذا تقوية للوعد ولقد جاءك من نبإى المرسلين أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على

(1/355)


الصبر وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف وقيل هو المجرور وإن كان كبر عليك إعراضهم الآية مقصودها حمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر فإنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فقيل له إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها فافعل وأنت لا تقدر على ذلك فاستسلم لأمر الله والنفق في الأرض معناه منفذ تنفذ منه إلى ما تحت الأرض وحذف جواب إن لفهم المعنى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى حجة لأهل السنة على القدرية فلا تكونن من الجاهلين أي من الذين يجهلون أن الله ... 203

(1/356)


8 ولو شاء لجمعهم على الهدى
إنما يستجيب الذين يسمعون المعنى إنما يستجيب لك الذين يسمعون فيفهمون ويعقلون والموتى يبعثهم الله فيها ثلاث تأويلات أحدهما أن الموتى عبارة عن الكفار بموت قلوبهم والبعث يراد به الحشر يوم القيامة فالمعنى أن الكفار في الدنيا كالموت في قلة سمعهم وعدم فهمهم فيبعثهم الله في الآخرة وحينئذ يسمعون والآخر أن الموتى عبارة عن الكفار والبعث عبارة عن هدايتهم للفهم والسمع والثالث أن الموتى على حقيقته والبعث على حقيقته فهو إخبار عن بعث الموتى يوم القيامة وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه الضمير في قالوا للكفار ولولا عرض والمعنى أنهم طلبوا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآية على نبوته فإن قيل فقد أتى بآية ومعجزاته كثيرة فلم طلبوا آية فالجواب من وجهين أحدهما أنهم لم يعتدوا بما أتى به وكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم وجحدهم والآخر أنهم إنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تفكر قل إن الله قادر على أن ينزل آية جواب على قولهم وقد حكى هذا القول عنهم في مواضع من القرآن وأجيب عليه بأجوبة مختلفة منها ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات فإنه قد أتاهم بآيات وتحصيل الحاصل لا ينبغي كقوله قد بينا الآيات وكقوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته ويحتمل أن يكون من هذا قوله إن الله قادر على أن ينزل آية ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان ولكن أكثرهم لا يعلمون حذف مفعول يعلمون وهو يحتمل وجهين أحدهما لا يعلمون أن الله قادر والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب بجناحيه تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال طائر للسعد والنحس أمم أمثالكم

(1/357)


اي في الخلق والرزق والحياة والموت وغير ذلك ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى فكأنه يقول تفكروا في مخلوقاته ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات والآخر تنبيه على البعث كأنه يقول جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم وهو أظهر لقوله بعده ثم إلى ربهم يحشرون ما فرطنا في الكتاب من شىء أي ما غفلنا والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ والكلام على هذا عام وقيل هو القرآن والكلام على هذا خاص أي ما فرطنا فيه من شىء فيه هدايتكم والبيان لكم ثم إلى ربهم يحشرون أي تبعث الدواب والطيور يوم القيامة للجزاء والفصل بينهما والذين كذبوا الآية لما ذكر قدرته على بعث الخلق كلهم أتبعه بأن وصف من كذب بذلك بالصمم والبكم وقوله في الظلمات ... 204

(1/358)


9 يقوم مقام الوصف بالعمى قل أرأيتكم معناه أخبروني والضمير الثاني للخطاب ولا محل له من الإعراب وجواب الشرط محذوف تقديره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ثم وقفهم على أنهم لا يدعون حينئذ إلا الله ولا يدعون آلهتهم والآية احتجاج عليهم وإثبات للتوحيد وإبطال للشرك إن شاء استثناه أي يكشف ما نزل بكم إن أراد ويصيبكم به إن أراد وتنسون ما تشركون يحتمل أن يكون من النسيان أو الترك فأخذناهم بالبأساء والضراء كان ذلك على وجه التخفيف والتأديب فلولا هذا عرض وتحضيض وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد فلما نسوا الآية أي لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من الشدائد فتح عليهم أبواب الرزق والنعم ليشكروا عليها فلم يشكروا فأخذهم الله مبلسون آيسون من الخير دابر القوم آخرهم وذلك عبارة عن استئصالهم بالكلية والحمد لله شكر على هلاك الكفار فإنه نعمة على المؤمنين وقيل إنه إخبار على ما تقدم من الملاطفة في أخذه لهم بالشر ليزدجروا أو بالخير ليشكروا حتى وجب عليهم العذاب بعد الإنذار والإعذار قل أرأيتم الآية احتجاج على الكفار أيضا يأتيكم به الضمير عائد على المأخوذ يصدفون أي يعرضون قل أرأيتكم الآية وعيد وتهديد والبغتة ما لم يتقدم لهم شعور به والجهرة ما بدت لهم مخايله وقيل بغتة بالليل وجهرة بالنهار قل لا أقول لكم عندي خزائن الله الآية أي لا أدعي شيئا منكرا ولا يستبعد إنما أنا نبي رسول كما كان غيري من الرسل الأعمى والبصير مثال للضال والمهتدي وأنذر به الذين يخافون الضمير في به يعود على ما يوحى والإنذار عام لجميع الناس وإنما خصص هنا بالذين يخافون لأنه قد تقدم في الكلام ما يقتضي اليأس من إيمان غيرهم فكأنه يقول أنذر الخائفين لأنه ينفعهم الإنذار وأعرض عمن تقدم ذكره من الذين لا يسمعون ولا يعقلون ... 205

(1/359)


10 ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع في موضع الحال من الضمير في يحشروا واستئناف إخبار لعلهم يتقون يتعلق بأنذر ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية نزلت في ضعفاء المؤمنين كبلال وعمار ابن ياسر وعبد الله بن مسعود وخباب وصهيب وأمثالهم وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك فنزلت هذه الآية بالغداة والعشي قيل هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس وكانت غدوة وعشية وقيل هي عبارة عن دوام الفعل ويدعون هنا من الدعاء وذكر الله أو بمعنى العبادة يريدون وجهه إخبار عن إخلاصهم لله وفيه تزكية لهم ما عليك من حسابهم من شىء الآية قيل الضمير في حسابهم للذين يدعون وقيل للمشركين والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم ولا يحاسبون عنك فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم والأول أرجح لقوله وما أنا بطارد الذين آمنوا وقوله إن حسابهم إلا على ربي والمعنى على هذا أن الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم فتطردهم هذا جواب النفي في قوله ما عليك فتكون من الظالمين هذا جواب النهي في قوله ولا تطرد أو عطف على فتطردهم وكذلك فتنا بعضهم ببعض أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين وذلك أن الكفار كانوا يقولون أهؤلاء العبيد والفقراء من الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا ونحن أشراف أغنياء وكان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد بذلك أليس الله بأعلم بالشاكرين رد على الكفار في قولهم المتقدم وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم هم الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم وأن يؤنسهم بما بعد هذا كتب ربكم على نفسه الرحمة أي حتمها وفي الصحيح إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي أنه من عمل منكم سوءا الآية وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح وهو خطاب للقوم المذكورين قبل

(1/360)


وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في النساء وقيل نزلت بسبب أن عمر بن الخطاب اشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية وقرئ أنه بالفتح على البدل من الرحمة وبالكسر على الاستئناف وكذلك فإنه غفور رحيم بالكسر على الاستئناف وبالفتح خبر ابتداء مضمر تقديره فأمره أنه غفور رحيم وقيل تكرار للأولى لطول الكلام وكذلك نفصل الإشارة إلى ما تقدم من النهي عن الطرد وغير ذلك وتفصيل الآيات شرحها وبيانها ولتستبين سبيل المجرمين بتاء الخطاب ونصب السبيل على أنه مفعول به وقرئ بتاء التأنيث ورفع السبيل على أنه فاعل مؤنث بالياء والرفع على تذكير ... 206

(1/361)


11 السبيل لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث الذين تدعون أي تعبدون قد ضللت إذا أي إن اتبعت أهواءكم ضللت على بينة أي على أمر بين من معرفة ربي والهاء في بينة للمبالغة أو للتأنيث وكذبتم به الضمير عائد على الرب أو على البينة ما عندي ما تستعجلون به أي العذاب الذي طلبوه في قولهم فأمطر علينا حجارة من السماء وقيل الآيات التي اقترحوها والأول أظهر يقص الحق من القصص وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء وهو أرجح لقوله وهو خير الفاصلين أي الحاكمين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر أي لو كان عندي العذاب على التأويل الأول والآيات المقترحة على التأويل الآخر لوقع الانفصال وزال النزاع لنزول العذاب أو لظهور الآيات مفاتح الغيب استعارة وعبارة عن التوصل إلى الغيب كما يتوصل بالمفاتح إلى ما في الخزائن وهو جمع مفتح بكسر الميم بمعنى مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتح بالفتح وهو المخزن ولا حبة في ظلمات الأرض تنبيه بها على غيرها لأنها أشد تغييبا من كل شيء في كتاب مبين اللوح المحفوظ وقيل علم الله يتوفاكم بالليل أي إذا نمتم وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي ما جرحتم أي ما كسبتم من الأعمال يبعثكم فيه أي يوقظكم من النوم والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه وغالب النوم بالليل أجل مسمى أجل الموت حفظة جمع حافظ وهم الملائكة الكاتبون توفته رسلنا أي الملائكة الذين مع ملك الموت ثم ردوا خروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير لجميع الخلق قل من ينجيكم الآية إقامة حجة وظلمات البر والبحر عبارة عن شدائدهما وأهوالهما كما يقال لليوم الشديد مظلم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قيل الذي من فوق إمطار الحجارة ومن تحت الخسف وقيل من فوقكم تسليط أكابركم ومن تحت أرجلكم تسليط سفلاتكم وهذا بعيد أو يلبسكم شيعا ... 207

(1/362)


12 أي يخلطكم فرقا مختلفين ويذيق بعضكم بأس بعض بالقتال واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار أو المؤمنين وروي أنه لما نزلت أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه فلما نزلت من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك فلما نزلت أو يلبسكم شيعا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أهون فقضى الله على هذه الأمة بالفتن والقتال إلى يوم القيامة وكذب به قومك الضمير عائد على القرآن أو على الوعيد المتقدم وقومك هم قريش لست عليهم بوكيل أي بحفيظ ومتسلط وفي ذلك متاركة نسختها آية القتال لكل نبإ مستقر أي في غاية يعرف عندها صدق من كذبه يخوضون في آياتنا في الاستهزاء بها والطعن فيها فأعرض عنهم أي قم ولا تجالسهم وإما ينسينك الشيطان إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة والمعنى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فلا تقعد بعد أن تذكر النهي وما على الذين يتقون من حسابهم من شىء الذين يتقون هم المؤمنون والضمير في حسابهم للكفار والمستهزئين والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإضلالهم وقيل إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطواف بالبيت وغير ذلك ثم نسخت بآية النساء وهي وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله الآية وقيل إنها لا تقتضي إباحة القعود ( ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) فيه وجهان أحدهما أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار ولكن عليهم تذكيرا لهم ووعظ وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر وتقديره يذكرونهم ذكرى أو رفع على المبتدأ تقديره عليهم ذكرى والضمير في لعلهم عائد على الكفار أي يذكرونهم رجاء أن يتقوا أو عائد على المؤمنين أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تقوى الله الوجه الثاني أن المعنى ليس نهى المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أن عليهم من

(1/363)


حسابهم شيء وإنما هو ذكرى للمؤمنين وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضمر تقديره ولكن نهيهم ذكرى أو مفعول من أجله تقديره إنما نهوا ذكرى والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير وذر الذين قيل إنها متاركة منسوخة بالسيف وقيل بل هي تهديد فلا متاركة ولا نسخ فيها اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أي اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا لأنهم سخروا منا واتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبا ولهوا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يلعبون ويلهون وذكر به الضمير عائد على الدين أو على القرآن أن تبسل قيل معناه أن تحبس وقيل تفضح وقيل تهلك وهو في موضع مفعول من أجله أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس وإن تعدل كل عدل أي وإن تعط كل فدية ... 208

(1/364)


13 لا يؤخذ منها قل أندعوا من دون الله الآية إقامة حجة وتوبيخ للكفار ونرد على أعقابنا أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي ثم استعير في المعاني وهذه جملة معطوفة على أندعوا والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ كالذي استهوته الشياطين الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد أي كيف نرجع مشبهين من استهوته الشياطين أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي ومعنى استهوته الشياطين ذهبت به في مهامه الأرض وأخرجته عن الطريق فهو استفعال من هوى يهوي في الأرض إذا ذهب فيها وقال الفارسي استهوى بمعنى أهوى ومثل استذل بمعنى أذل حيران أي ضال عن الطريق وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا أي لهذا المستهوى أصحاب وهم رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوه إلى الطريق يقولون له ائتنا وهو قد تاه وبعد عنهم فلا يجيبهم وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب وقيل نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كان أبوه يدعوه إلى الإسلام ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي وأن أقيموا عطف على لنسلم أو على مفعول أمرنا قوله الحق مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر وهو فاعل كن أي حين يقول لشيء كن فيكون ذلك الشيء يوم ينفخ في الصور ظرف لقوله له الملك كقوله لمن الملك اليوم وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط عالم الغيب والشهادة خبر ابتداء مضمر لأبيه آزر هو اسم أبي إبراهيم فإعرابه عطف بيان أو بدل ومنع من الصرف للعجمة والعلمية لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح وقرئ بالرفع على النداء وقيل إنه اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب

(1/365)


به لملازمته له أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وذلك بعيد ولا يبعد أن يكون له اثنان
نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض قيل إنه فرج الله السموات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل وهذا يحتاج إلى صحة نقل وقيل رأى ما يراه الناس من الملكوت ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه وليكون متعلق بمحذوف تقديره وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك فلما جن عليه الليل أي ستره يقال جن عليه الليل وأجنه ... 209

(1/366)


14 رأى كوكبا قال هذا ربي يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفا من نمروذ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكله على يد صبي ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه وأنه قال ذلك لقومه على وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم وهذا أرجح لقوله بعد ذلك إني برئ مما تشركون ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجة وردا على قومه وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحدا منها إلها لقيام الدليل على حدوثها وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده وقوله هذا ربي قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم ثم أقام عليهم الحجة بقوله لا أحب الآفلين أي لا أحب عبادة المتغيرين لأن التغير دليل على الحدوث والحدوث ليس من صفة الإله ثم استمر على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس فلما أوضح البرهان وأقام عليهم الحجة جاهرهم بالبراءة من باطلهم فقال إني بريء مما تشركون ثم أعلن لعبادته لله وتوحيده له فقال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ووصف الله تعالى بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك فإن قيل لم احتج بالأفول دون الطلوع وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال فالجواب أنه أظهر في الدلالة لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب أتحاجوني في الله أي في الإيمان بالله وفي توحيده والأصل أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام أحدهما في الآخر وبالتخفيف على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية ولا أخاف ما تشركون به ما هنا بمعنى الذي ويريد بها الأصنام وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر فقال لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على

(1/367)


شيء إلا أن يشاء ربي شيئا استثناء منقطع بمعنى لكن أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا وكيف أخاف ما أشركتم أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف وهو إشراككم بالله وأنتم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ثم أوقفهم على ذلك بقوله فأي الفريقين أحق بالأمن يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين ثم أجاب عن السؤال بقوله الذين آمنوا الآية وقيل إن الذين ... 210

(1/368)


15 آمنوا استئناف وليس من كلام إبراهيم ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لما نزلت هذه الآية أشفق منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا وأينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك كما قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم وتلك حجتنا إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه ومن ذريته الضمير لإبراهيم أو لنوح عليهما السلام والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم داود عطف على نوحا أي وهدينا داود وعيسى فيه دليل على أن أولاد البنات يقال فيهم ذرية لأن عيسى ليس له أب فهو ابن ابنة نوح ومن آبائهم في موضع نصب عطف على كلا أي وهدينا بعض آبائهم فإن يكفر بها هؤلاء أي أهل مكة وكلنا بها قوما هم الأنبياء المذكورون وقيل الصحابة وقيل كل مؤمن والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها أولئك الذين هدى الله إشارة إلى الأنبياء المذكورين فبهداهم اقتده استدل به من قال إن شرع من قبلنا شرع لنا فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فاتفقت فيه جميع الأمم والشرائع وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين الشرائع والخلاف هل يقتدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بمن قبله أم لا والهاء في اقتده للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف وما قدروا الله حق قدره أي ما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة لهم إذ أنكروا بعثه للرسل وإنزاله للكتب والقائلون هم اليهود بدليل ما بعده وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الضيف فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى وقيل القائلون قريش ولزموا ذلك لأنهم كانوا مقرين بالتوراة وعلمتم ما لم

(1/369)


تعلموا الخطاب لليهود أو لقريش على وجه إقامة الحجة والرد عليهم في ... 211
16 قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء فإن كان لليهود فالذي علموه التوراة وإن كان لقريش فالذي علموه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قل الله جواب من أنزل واسم الله مرفوع بفعل مضمر تقديره أنزله الله أو مرفوع بالابتداء ولتنذر عطف على صفة الكتاب أم القرى مكة وسميت أم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ولأنه جاء أن الأرض دحيت منها ولأنها يحج إليها أهل القرى من كل فج عميق أو قال أوحى إلي هو مسيلمة وغيره من الكذابين الذين ادعوا النبوة ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو النضر بن الحرث لأنه عارض القرآن واللفظ عام فيه وفي غيره من المستهزئين ولو ترى جوابه محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما والظالمون من تقدم ذكره من اليهود والكذابين والمستهزئين فتكون اللام للعهد وأعم من ذلك فتكون للجنس باسطوا أيديهم أي تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم أخرجوا أنفسكم وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدة في قبض الأرواح اليوم تجزون يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه أو الوقت الممتد من حينئذ إلى الأبد الهون الذلة فرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم أو عن شركائهم والأول يترجح لقوله تركتم ما خولناكم أي ما أعطيناكم من الأموال والأولاد ويترجح الثاني بقوله وما نرى معكم شفعاءكم تقطع بينكم تفرق شملكم ومن قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الظرف واستعمله استعمال الأسماء ويكون البين بمعنى الفرقة أو بمعنى الوصل ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل أو محذوف تقديره تقطع الاتصال بينكم فالق الحب والنوى أي يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها وقيل أراد الشقين الذين في النواة والحنطة والأول أرجح لعمومه في أصناف الحبوب يخرج الحي تقدم في آل عمران ومخرج الميت من الحي معطوف

(1/370)


على فالق فالق الإصباح أي الصبح فهو مصدر سمي به الصبح ومعنى فلقه أخرجه من الظلمات وقيل إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح فالتقدير فالق ظلمة الإصباح سكنا أي يسكن فيه عن الحركات ويستراح حسبانا أي يعلم بهما حساب الأزمان والليل والنهار ذلك تقدير العزيز العليم ما أحسن ذكر هذين الإسمين هنا لأن العزيز يغلب كل شيء ... 212
17 ويقهره وهو قد قهر الشمس والقمر وسخرهما كيف شاء والعليم لما في تقدير الشمس والقمر والليل والنهار من العلوم والحكمة العظيمة وإتقان الصنعة في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات الليل في البر والبحر وأضاف الظلمة إليها لملابستها لهما أو شبه الطرق المشتبهة بالظلمات فمستقر ومستودع من كسر القاف من مستقر فهو اسم فاعل ومستودع اسم مفعول والتقدير فمنكم مستقر ومستودع ومن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر ومستودع مثله والتقدير على هذا لكم مستقر ومستودع والاستقرار في الرحم والاستيداع في الصلب وقيل الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها فأخرجنا به الضمير عائد على الماء فأخرجنا منه الضمير عائد على النبات خضرا أي أخضر غصا وهو يتولد من أصل النبات من الفراخ نخرج منه الضمير عائد على الخضر حبا متراكبا يعني السنبل لأن حبه بعضه على بعض وكذلك الرمان وشبهه قنوان جمع قنو وهو العنقود من التمر وهو مرفوع بالابتداء وخبره من النخل ومن طلعها بدل والطلع أول ما يخرج من التمر في أكمامه دانية أي قريبة سهلة التناول وقيل قريبة بعضها من بعض وجنات من أعناب بالنصب عطف على نبات كل شيء وقرئ في غير السبع بالرفع عطف على قنوان مشتبها وغير متشابه نصب على الحال من الزيتون والرمان أو من كل ما تقدم من النبات والمشتبه والمتشابه بمعنى واحد أي من النبات ما يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم والصورة ومنه ما لا يشبه بعضه بعضا وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير

(1/371)


العليم المريد انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفا لا منفعة فيه ثم ينتقل من حال إلى حال حتى ينيع أي ينضج ويطيب شركاء الجن نصب الجن على أنه مفعول أول لجعلوا وشركاء مفعول ثان وقدم لاستعظام الإشراك أو شركاء مفعول أول والله في موضع المفعول الثاني والجن بدل من شركاء والمراد بهم هنا الملائكة وذلك ردا على من عبدهم وقيل المراد الجن والإشراك بهم طاعتهم وخلقهم الواو للحال والمعنى الرد عليهم أي جعلوا لله شركاء وهو خلقهم والضمير عائد على الجن أو على الجاعلين والحجة قائمة على الوجهين وخرقوا له بنين وبنات أي اختلقوا وزوروا والبنين قول النصارى في المسيح واليهود في عزير والبنات قول العرب في الملائكة بغير علم أي قالوا ذلك بغير دليل ولا حجة بل مجرد افتراء بديع ذكر معناه في البقرة ورفعه على أنه خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره أنى يكون وفاعل تعالى والقصد به الرد على من نسب لله البنين والبنات وذلك من وجهين احدها أن ... 213

(1/372)


18 الولد لا يكون إلا من جنس والده والله تعالى متعال عن الأجناس لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد والآخر أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء فاعبدوه مسبب عن مضمون الجملة أي من كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده لا تدركه الأبصار يعني في الدنيا وأما في الآخرة فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله إلى ربها ناظرة وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل وقال الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلا لأن موسى سألها من الله ولا يسأل موسى ما هو محال وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لا وهو يدرك الأبصار قال بعضهم الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاط بالشيء والوصول إلى غايته فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات اللطيف الخبير أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء وهو يدرك الأبصار قد جاءكم بصائر جمع بصيرة وهو نور القلب والبصر نور العين وهذا الكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وما أنا عليكم بحفيظ وليقولوا متعلق بمحذوف تقديره ليقولوا صرفنا الآيات درست بإسكان السين وفتح التاء درست العلم وقرأته ودارست بالألف أي دارست العلم وتعلمت منه ودرست بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآيات ودبرت ولنبينه الضمير للآيات وجاء مذكرا لأن المراد بها القرآن وأعرض عن المشركين إن كان معناه أعرض عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم وإن كان عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ وكذلك ما أنا عليكم بحفيظ وبوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله أي لا تسبوا آلهتهم فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع قل إنما الآيات عند الله أي هي بيد الله لا

(1/373)


بيدي وما يشعركم أي ما يدريكم وهو من الشعور بالشيء وما نافية أو استفهامية أنها إذا جاءت لا يؤمنون من قرأ بفتح أنها فهو معمول يشعركم أي ما يدريكم أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها نحن نعلم ذلك وأنتم لا تعلمونه وقيل لا زائدة والمعنى ما يشعركم أنهم يؤمنون وقيل أن هنا بمعنى لعل فمن قرأ بالكسر فهي استئناف إخبار وتم الكلام في قوله وما يشعركم أي ما يشعركم ما يكون منهم فعلى القراءة بالكسر يوقف على ما يشعركم وأما على القراءة ... 214

(1/374)


19 بالفتح فإن كانت مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها وإن كانت بمعنى لعل فأجاز بعض الناس الوقف ومنعه شيخنا أبو جعفر بن الزبير لما في لعل من معنى التعليل ونقلب أفئدتهم وأبصارهم أي نطبع عليها ونصدها عن الفهم فلا يفهمون كما لم يؤمنوا الكاف للتعليل أي نطبع على أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على أنهم لا يؤمنون به أول مرة ويحتمل أن تكون للتشبيه أي نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة الآية رد عليهم في قسمهم أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنون بها أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله قبلا بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة فنصبه على الحال وقرئ بضمتين ومعناه مواجهة كقوله قدمن قبل وقيل هو جمع قبيل بمعنى كفيل أي كفلا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي لغيره شياطين الإنس والجن أي المتمردين من الصنفين ونصب شياطين على البدل من عدوا إذ هو بمعنى الجمع أو مفعول أول وعدوا مفعول ثان يوحى بعضهم إلى بعض أي يوسوس ويلقي الشر زخرف القول غرورا ما يزينه من القول ولو شاء ربك ما فعلوه الضمير عائد على وحيهم أو على عداوة الكفار فذرهم وعيد وما يفترون ما في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على الضمير ولتصغى أي تميل وهو متعلق بمحذوف واللام لام الصيرورة إليه الضمير لوحيهم وليقترفوا يكتسبوا أفغير الله معمول لقول محذوف أي قل لهم وتمت كلمة ربك أي صحت والكلمات ما نزل على عباده من كتبه صدقا وعدلا أي صدقا فيما أخبر وعدلا فيما حكم فكلوا مما ذكر اسم الله عليه القصد بهذا الأمر إباحة ما ذكر اسم الله عليه والنهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر ثم صرح به في قوله ولا

(1/375)


تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقد استدل بذلك من أوجب التسمية على الذبيحة وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها ... 215
20 فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك وقال عطاء وهذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب وما لكم ألا تأكلوا المعنى أي غرض لكم في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه وقد بين لكم الحلال من الحرام إلا ما اضطررتم إليه استثناء بما حرم ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) لفظ يعم أنواع المعاصي لأن جميعها إما باطن وإما ظاهر وقيل الظاهر الأعمال والباطن الاعتقاد وإنه لفسق الضمير لمصدر لا تأكلوا وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم سببها أن قوما من الكفار قالوا إنا نأكل ما قتلناه ولا نأكل ما قتل الله يعنون الميتة أو من كان ميتا فأحييناه الموت هنا عبارة عن الكفر والإحياء عبارة عن الإيمان والنور نور الإيمان والظلمات الكفر فهي استعارات وفي قوله ميتا فأحييناه مطابقة وهي من أدوات البيان ونزلت الآية في عمار بن ياسر وقيل في عمر بن الخطاب والذي في الظلمات ابو جهل ولفظها أعم من ذلك كمن مثله مثل هنا بمعني صفة وقيل زائدة والمعنى كمن هو وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر أي كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية وإنما ذكر الأكابر لأن غيرهم تبع لهم والمقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مجرميها إعرابه مضاف إليه عند الفارسي وغيره وقال ابن عطية وغيره إنه مفعول أول بجعلنا وأكابر مفعول ثان مقدم وهذا جيد في المعنى ضعيف في العربية لأن أكابر جمع أكبر وهو من أفعل فلا يستعمل إلا بمن أو بالإضافة وقالوا لن نؤمن الآية قائل هذه المقالة أبو جهل وقيل الوليد بن المغيرة لأنه قال أنا أولى بالنبوة من محمد الله أعلم حيث يجعل رسالته رد عليهم فيما طلبوه

(1/376)


والمعنى أن الله علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أهل للرسالة فخصه بها وعلم أنهم لبسوا بأهل لها فحرمهم إياها وفي الآية من أدوات البيان الترديد لكونه ختم كلامهم باسم الله ثم رده في أول كلامه صغار أي ذلة يشرح صدره للإسلام شرح الصدر وضيقه وحرجه ألفاظ مستعارة ومن قرأ حرجا بفتح الراء فهو مصدر وصف به كأنما يصعد في السماء أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء وذلك غير ممكن فكذلك يصعب عليه الإيمان وأصل يصعد المشدد يتصعد وقرئ بالتخفيف ... 216

(1/377)


21 دار السلام الجنة والسلام هنا يحتمل أن يكون اسم الله فأضافها إليه لأنها ملكه وخلقه أو بمعنى السلامة والتحية ويوم نحشرهم العامل في يوم محذوف تقديره اذكر وتقديره قلنا ويكون على هذا عاملا في يوم وفي يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي أضللتم منهم كثيرا وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجيش استمتع بعضنا ببعض استمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم واستمتاع الإنس بالجن كقوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فإن الرجل كان إذا نزل واديا قال أعوذ بصاحب هذا الوادي يعني كبير الجن وبلغنا أجلنا هو الموت وقيل الحشر إلا ما شاء الله قيل الاستثناء من الكاف والميم في مثواكم فما بمعنى من لأنها وقعت على صنف من الجن والإنس والمستثنى على هذا من آمن منهم وقيل الاستثناء من مدة الخلود وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار وقيل الاستثناء من النار وهو دخولهم الزمهرير وقيل ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج وإنما هو على وجه الأدب مع الله وإسناد الأمور إليه نولى بعض الظالمين بعضا أي نجعل بعضهم وليا لبعض وقيل يتبع بعضهم بعضا في دخول النار وقيل نسلط بعضهم على بعض ألم يأتكم رسل تقرير للجن والإنس فقيل إن الجن بعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية وقيل إنما الرسل من الإنس خاصة وإنما قال رسل منكم لأنه جمع الثقلين في الخطاب وشهدوا على أنفسهم لا تنافي بينه وبين قولهم ما كنا مشركين لما تقدم هناك فإن قيل لم كرر شهادتهم على أنفسهم فالجواب أن قولهم شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم وقوله شهدوا على أنفسهم ذلهم وتقبيح لحالهم ذلك خبر ابتداء مضمر تقديره الأمر ذلك أو مفعول لفعل مضمر تقديره فعلنا ذلك والإشارة إلى بعث الرسل أن لم يكن تعليل لبعث الرسل وهو في موضع مفعول من أجله أو بدل من ذلك بظلم فيه وجهان أحدهما أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم

(1/378)


فيكون إهلاكهم ظلما إذ لم ينذرهم فهو كقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا والآخر أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا دون أن ينذرهم ففاعل الظلم على هذا أهل القرى وغفلتهم عدم إنذارهم حكى الوجهين ابن عطية والزمخشري والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة ولا يصح على مذهب أهل السنة لأن الله لو أهلك عباده بغير ... 217
22 ذنب لم يكن ظالما عندهم ولكل درجات منازل في الجزاء على أعمالهم من الثواب والعقاب من ذرية قوم أي من ذرية أهل سفينة نوح أو من كان قبلهم إلى آدم اعملوا على مكانتكم الأمر هنا للتهديد والمكانة التمكن فسوف تعلمون تهديد من تكون له يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء عاقبة الدار أي الآخرة أو الدنيا والأول أرجح لقوله عقبى الدار جنات عدن وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الضمير في جعلوا لكفار العرب قال السهيلي هم حي من خولان يقال لهم الأديم كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم ومعنى ذرأ خلق وأنشأ ففي ذلك رد عليهم لأن الله الذي خلقها وذرأها هو مالكها لا رب غيره بزعمهم أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع وأكثر ما يقال الزعم في الكذب وقرئ بفتح الزاي وضمها وهما لغتان فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله الآية كانوا إذا هبت لريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه وإذا اصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم قربانا إلى الأصنام وشركاؤهم هنا هم الشياطين أو القائمون على الأصنام وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل ونصب قتل على أنه مفعول وخفض أولادهم بالإضافة ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين

(1/379)


والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل وقرأ ابن عباس بضم الزاي على البناء للمفعول ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله وفصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله أولادهم وذلك ضعيف في العربية وقد سمع في الشعر والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد ليردوهم أي ليهلكوهم وهو من الردى بمعنى الهلاك وقالوا هذه أنعام وحرث حجر أي حرام وهو فعل بمعنى مفعول نحو ذبح فيستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكلها إلا من شاؤوا وهم القائمون على الأصنام والرجال دون النساء وأنعام حرمت ظهورها أي لا تركب وهي السائبة وأخواتها وأنعام ... 218

(1/380)


23 لا يذكرون اسم الله عليها ) قيل معناه لا يحج عليها فلا يذكر اسم الله بالتلبية وقيل لا يذكر اسم الله عليها إذا ذبحت افتراء عليه كانوا قد قسموا أنعامهم على هذه الأقسام ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذبا ونصب على الحال أو مفعول من أجله أو مصدر مؤكد وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية كانوا يقولون في أجنة البحيرة والسائبة ما ولد منها حيا فهو للرجال خاصة ولا يأكل منها النساء وما ولد منها ميتا اشترك فيه الرجال والنساء وأنث خالصة للحمل على المعنى وهي الأجنة وذكر محرم حملا على لفظ ما ويجوز أن تكون التاء للمبالغة وحرموا ما رزقهم الله أي البحيرة والسائبة وشبهها جنات معروشات مرفوعات على دعائم وشبهها وغير معروشات متروكات على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس في العمران وغير معروشات ما أنبته الله في الجبال والبراري مختلفا أكله في اللون والطعم والرائحة والحجم وذلك دليل على أن الخالق مختار مريد وآتوا حقه يوم حصاده قيل حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين أحدهما أن الآية مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة والآخر أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار وقيل حقه ما يصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر وقيل هو ما يسقط من السنبل والأمر على هذا للندب حمولة وفرشا عطف على جنات والحمولة الكبار والفرش الصغار كالعجاجيل والفصلان وقيل الحمولة الإبل لأنها يحمل عليها والفرش الغنم لأنها تفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها ثمانية أزواج بدل من حمولة وفرشا وسماها أزواجا لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر من الضأن اثنين يريد الذكر والأنثى وكذلك فيما بعده قل آلذكرين يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار نبؤنى بعلم

(1/381)


تعجيز وتوبيخ افترى على الله كذبا يعني في تحريم ما لم يحرم الله وذلك إشارة إلى العرب في ... 219
24 تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها قل لا أجد الآية تقتضي حصر المحرمات فيما ذكر وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا كلحوم الحمر فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب فلا تقتضي الحصر وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر إنما نهى عنه على وجه الكراهة لا على وجه التحريم أو فسقا معطوف على المنصوبات قبله وهو ما أهل به لغير الله سماه فسقا لتوغله في الفسق وقد تقدم الكلام على هذه المحرمات في البقرة كل ذي ظفر هو ماله أصبع من دابة وطائر قاله الزمخشري وقال ابن عطية يراد به الإبل والأوز والنعام ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع أو له ظفر وقال الماوردي مثله وحكى النقاش عن ثعلب أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر إلا ما حملت ظهورهما يعني ما في الظهور والجنوب من الشحم أو الحوايا هي المباعر وقيل المصارين والحشوة ونحوهما مما يتحوى في البطن وواحد حوايا حوية على وزن فعلية فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة وصحائف وقيل واحدها حاوية على وزن فاعلة فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وهو معطوف على ما في قوله إلا ما حملت ظهورهما فهو من المستثنى من التحريم وقيل عطف على الظهور فالمعنى إلا ما حملت الظهور أو حملت الحوايا وقيل عطف على الشحوم فهو من المحرم أو ما اختلط بعظم يريد ما في جميع الجسد وإنا لصادقون أي فيما أخبرنا به من التحريم وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة أي إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم وهذا كما تقول عند رؤية معصية ما أحلم الله تريد لإمهاله عن مثل ذلك ثم أعقب وصفه

(1/382)


بالرحمة الواسعة بقوله ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أي لا تغتروا بسعة رحمته فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا أو في الآخرة
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية معناها أنهم يقولون إن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه فاحتجوا على ذلك بإرادة الله له وتلك نزغة جبرية ولا حجة لهم في ذلك لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله ولا يحللوا ما حرم الله ولا يحرموا ما حلل الله والإرادة خلاف التكليف ويحتمل عندي أن يكون قولهم لو شاء الله قولا يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن كقولك إذا ندمت على شيء لو شاء الله ما كان هذا أي يتمنى أن ذلك لم يكن ويؤيد هذا أنه حكى قوله بأداة الاستقبال وهي السين فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل وهي الآخرة قل هل ... 220

(1/383)


25 عندكم من علم ) توقيف لهم وتعجيز قل فلله الحجة البالغة لما أبطل حجتهم أثبت حجة الله ليظهر الحق ويبطل الباطل هلم قيل هي بمعنى هات فهي متعدية وقيل بمعنى أقبل فهي غير متعدية وهي عند بعض العرب فعل يتصل به ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث وعند بعضهم اسم فعل فيخاطب بها الواحد والاثنان والجماعة والمؤنث على حد سواء ومقصود الآية تعجيزهم عن إقامة الشهداء فإن شهدوا فلا تشهد معهم أي إن كذبوا في شهادتهم وزوروا فلا تشهد بمثل شهادتهم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله عليهم وذكر في هذه الآيات المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع ولم تنسخ قط في ملة وقال ابن عباس هي الكلمات العشر التي أنزل الله على موسى ألا تشركوا به شيئا قيل أن هنا حرف عبارة وتفسير فلا موضع لها من الإعراب ولا ناهية جزمت الفعل وقيل أن مصدرية في موضع رفع تقديره الأمر ألا تشركوا فلا على هذا نافية وقيل أن في موضع نصب بدلا من قوله ما حرم ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة وإن لم تكن زائدة فسد المعنى لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل ولا نافية ولا يلزم ما ذكر من فساد المعنى لأن قوله ما حرم ربكم معناه ما وصاكم به ربكم بدليل قوله في آخر الآية ذلكم وصاكم به فضمن التحريم معنى الوصية والوصية في المعنى أعم من التحريم لأن الوصية تكون بتحريم وبتحليل وبوجوب وندب ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص وتريد به العموم كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص إذ تقرر هذا فتقدير الكلام قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم ثم أبدل منه على وجه التفسير له والبيان فقال أن لا تشركوا به شيئا أي وصاكم ألا تشركوا به شيئا ووصاكم بالإحسان بالوالدين ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم فجمعت

(1/384)


الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين وما بعد ذلك ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا أن الآيات اشتملت على أوامر كالإحسان بالوالدين وقول العدل والوفاء في الوزن وعلى نواهي كالإشراك وقتل النفس وأكل مال اليتيم فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظا يجمع الأوامر والنواهي لأنها أجملت فيه ثم فسرت بعد ذلك ويصلح لذلك لفظ الوصية لأنه جامع للأمر والنهي فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك وإن لم يتأول على ما ذكرناه لزم في الآية إشكال وهو عطف الأوامر النواهي وعطف على النواهي على الأوامر فإن الأوامر طلب فعلها والنواهي طلب تركها وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل والترك وتحتمل الآية عندي تأويلا آخر وهو أن يكون لفظ التحريم على ظاهره ويعم فعل المحرمات وترك ... 221

(1/385)


26 الواجبات لأن ترك الواجبات حرام ولا تقتلوا أولادكم من إملاق الإملاق الفاقة ومن هنا للتعليل تقديره من إجل إملاق وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة لأن العرب كانوا يفعلون ذلك فخرج مخرج الغالب فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه ما ظهر منها وما بطن قيل ما ظهر الزنا وما بطن اتخاذ الأخدان والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل نفس بغير نفس ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن النهي عن القرب يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال فالنهي عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله حتى يبلغ أشده هو البلوغ مع الرشد وليس المقصود هنا السن وحده وإنما المقصود معرفته بمصالحه لا نكلف نفسا إلا وسعها لما أمر بالقسط في الكيل والوزن وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه ولو كان ذا قربى أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل وأن هذا صراطي مستقيما الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة وأن بفتح الهمزة والتشديد عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما وقرئ بالكسر على الاستئناف وبالفتح والتخفيف على العطف وهي على هذا مخففة من الثقيلة ولا تتبعوا السبل الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه كلها سبل

(1/386)


على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فتفرق بكم عن سبيله أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده البزي ثم آتينا معطوف على وصاكم به فإن قيل فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية فكيف عطفه عليها بثم فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها فصح الترتيب وقيل إنها هنا لترتيب الاخبار والقول لا لترتيب الزمان تماما على الذي أحسن فيه ثلاث تأويلات أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي والذي أحسن يراد به جنس المحسنين والآخر أن المعنى تماما أي تفضلا أو جزاء على ما أحسن موسى عليه السلام من طاعة ربه ... 222

(1/387)


27 وتبليغ رسالته فالفاعل على هذا ضمير موسى عليه السلام والذي صفة لعمل موسى والثالث تماما أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده فالعامل على هذا ضمير الله تعالى أن تقولوا في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تقولوا على طائفتين أهل التوراة والإنجيل وإن كنا عن دراستهم لغافلين أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا وأن هنا مخففة من الثقيلة فقد جاءكم بينة إقامة حجة عليهم صدف أي أعرض هل ينظرون الآية تقدمت نظيرتها في البقرة بعض آيات ربك أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص فقوله لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله أو كسبت في إيمانها خيرا يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات ثم تاب إذا ظهرت لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ قل انتظروا وعيد إن الذين فرقوا دينهم هم اليهود والنصارى وقيل أهل الأهواء والبدع وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يارسول الله ومن تلك الواحدة قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه وقرئ فارقوا أي تركوا وكانوا شيعا جمع شيعة أي متفرقين كل فرقة تتشيع لمذهبها لست منهم فى شىء أي أنت بريء منهم عشر أمثالها فضل عظيم على العموم في الحسنات وفي العاملين وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد دينا قيما بدل من موضع إلى صراط مستقيم لأن أصله هداني صراطا بدليل اهدنا الصراط والقيم فيعل من القيام وهو أبلغ من قائم وقرئ قيما بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها وهو على هذا مصدر وصف به ملة إبراهيم بدل من دينا أو عطف بيان ونسكي أي عبادتي وقيل ذبحي للبهائم

(1/388)


وقيل حجي والأول أعم وأرجح ... 223
28 ومحياي ومماتي أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي لله أي خالصا لوجهه وطلب رضاه ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له أي لا أريد بأعمالي غير الله فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر وبذلك أمرت إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك وأنا أول المسلمين لأنه صلى الله عليه وسلم سابق أمته قل أغير الله أبغى ربا تقرير وتوبيخ للكفار وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم وهو رب كل شىء برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله ولا تكسب كل نفس إلا عليها رد على الكفار لأنهم قالوا له اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك فنزلت هذه الآية أي ليس كما قلتم وإنما كسب كل نفس عليها خاصة ولا تزر وازرة وزر أخرى أي لا يحمل أحد ذنوب أحد وأصل الوزر الثقل ثم استعمل في الذنوب خلائف جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه والخطاب على هذا لجميع الناس وقيل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة ورفع بعضكم عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد ليبلوكم فيما آتاكم . . . ليختبر شكركم على ما أعطاكم وأعمالكم فيما مكنكم فيه إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم جمع بين التخويف والترجية وسرعة عقابه تعالى إما في الدنيا بمن عجل أخذه أو في الآخرة لأن كل آت قريب ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته
سورة الأعراف
المص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة حرج منه أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك وقيل الحرج هنا الشك فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين لتنذر متعلق بأنزل وذكرى منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى لأن الذكر بمعنى التذكير أو مرفوع على

(1/389)


أنه خبر ابتداء مضمر أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى قليلا ما تذكرون انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا ... 224
29 قليلا وما زائدة للتوكيد هلكناها فجاءها بأسنا قيل إنه من المقلوب تقديره جاءها بأسنا فأهلكناها وقيل المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا لأن مجىء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك فلا يحتاج إلى تكلف والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون بيانا أو هم قائلون بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى بائتين أي بالليل وقائلون من القائلة أي بالنهار وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل وبعضهم بالنهار وأو هنا للتنويع دعواهم أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون وقيل المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك أرسل إليهم أسند الفعل إلى الجار والمجرور ومعنى الآية أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم ويسأل الرسل عما أجيبوا به فلنقصن عليهم أي على الرسل والأمم والوزن يعني وزن الأعمال يومئذ أي يوم يسئل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة بآياتنا يظلمون أي يكذبون بهاظلما خلقناكم ثم صورناكم قيل المعنى أردنا خلقكم وتصويركم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وقيل خلقنا أباكم آدم ثم صورناه وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف ألا تسجد لا زائدة للتوكيد إذ أمرتك استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود قال أنا خير منه تعليل علل به إبليس امتناعه من السجود وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود فاهبط منها أي من السماء قال فبما أغويتني

(1/390)


الفاء للتعليل وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم وما مصدرية وقيل استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر صراطك يريد طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية ثم لآتينهم من بين أيديهم الآية أي من الجهات الأربع وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه وقال ابن عباس من بين أيديهم الدنيا ومن خلفهم الآخرة وعن أيمانهم ... 225
30 الحسنات وعن شمائلهم السيئات مذءوما من ذأمه بالهمز إذا ذمه مدحورا أي مطرودا حيث وقع فوسوس إذا تكلم كلاما خفيا يكرره فمعنى وسوس لهما ألقى لهما هذا الكلام ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه الشجرة ذكرت في البقرة إلا أن تكونا ملكين أي كراهة أن تكونا ملكين واستدل به من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء وقرئ ملكين بكسر اللام ويقوي هذه القراءة قوله وملك لا يبلى وقاسمهما أي حلف لهما إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه اجتهد فيه أو لأنه أقسم لهما وأقسما له أن يقبلا نصيحته فدلاهما أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغرور أي غرهما بحلفه لهما لأنهما ظنا أنه لا يحلف كاذبا بدت لهما سوآتهما أي زال عنهما اللباس وظهرت عوراتهما وكان لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وقيل كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر يخصفان عليهما من ورق الجنة أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به وناداهما ربهما يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك أو بغير واسطة ربنا ظلمنا أنفسنا اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها اهبطوا وما بعده مذكور في البقرة فيها تحيون أي في الأرض لباسا أي الثياب

(1/391)


التي تستر ومعنى أنزلنا خلقنا وقيل المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة ريشا أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر ولباس التقوى استعار للتقوى لباسا كقولهم ألبسك الله قميص تقواه وقيل لباس التقوى ما يتقي به في الحرب من الدروع وشبهها وقرئ بالرفع على الابتداء أو خبره الجملة وهي ذلك خير ذلك من آيات الله الإشارة إلى ما أنزل من اللباس وهذه الآية واردة على ... 226

(1/392)


31 وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس ينزع عنهما لباسهما أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما من حيث لا ترونهم يعني في غالب الأمر وقد استدل به من قال إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث وإذا فعلوا فاحشة قيل هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء ويحتمل العموم في الفواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما تقليد آبائهم والآخر افتراؤهم على الله وأقيموا وجوهكم قيل المراد إحضار النية والإخلاص لله وقيل فعل الصلاة والتوجه فيها عند كل مسجد أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود والأول أظهر والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا كما بدأكم تعودون احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى فريقا الأول منصوب بهدى والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده خذوا زينتكم قيل المراد به الثياب الساترة واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة وقيل المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب وكلوا واشربوا الأمر فيهما للإباحة لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل ولا تسرفوا أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة وقال الأطباء إن الطب كله مجموع في هذه الآية وقيل لا تسرفوا بأكل الحرام قل من حرم زينة الله إنكار لتحريمها وهو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل وكان بعض العرب إذا حجوا يجردون الثياب ويطوفون عراة ويحرمون الشحم واللبن فنزل ذلك ردا عليهم خالصة يوم القيامة أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم وقرئ خالصة بالنصب على الحال والرفع على أنه خبر بعد خبر أو خبر ابتداء مضمر

(1/393)


والإثم عام في كل ذنب وأن تقولوا على الله ... 227
32 أي تفتروا عليه في التحريم وغيره فإما يأتينكم هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد ولزمتها النون الشديدة المؤكدة وجواب الشرط فمن اتقى الآية فمن أظلم ذكر في الأنعام ينالهم نصيبهم من الكتاب أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها ضلوا عنا أي غابوا ادخلوا في أمم أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم اداركوا تلاحقوا واجتمعوا قالت أخراهم لأولاهم المراد بأولاهم الرؤساء والقادة وأخراهم الأتباع والسفلة والمعنى أن أخراهم طلبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى يوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم بل نحن وأنتم سواء فذوقوا العذاب من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم لا تفتح لهم أبواب السماء فيه ثلاثة أقوال أحدهما لا يصعد عملهم إلى السماء والثاني لا يدخلون الجنة فإن الجنة في السماء والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين حتى يلج الجمل في سم الخياط أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا فلا يدخلونهما أبدا مهاد فراش غواش أغطية لا نكلف نفسا إلا وسعها جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة ونزعنا ما في صدورهم من غل أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه ... 228

(1/394)


33 في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا وإنما قال نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله نادى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف ونادى أصحاب النار وغير ذلك هدانا لهذا إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى أن تلكم الجنة وأن قد وجدنا وأن لعنة وأن سلام يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير المعنى القول ما وعدنا ربنا حقا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب أذن مؤذن أي أعلم معلم وهو ملك وبينهما حجاب أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله فضرب بينهم بسور الأعراف قال ابن عباس هو تل بين الجنة والنار وقيل سور الجنة رجال هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يدخلوا الجنة ولا النار وقيل هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم ونجوا من النار للشهادة يعرفون كلا بسيماهم أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم أو غير ذلك من العلامات ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد وإذا صرفت أبصارهم الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعني من الكفار الذين في النار قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ جمعكم يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم وما كنتم تستكبرون أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق فما

(1/395)


ها هنا مصدرية وما في قوله ما أغنى استفهامية أو نافية
أهؤلاء الذين أقسمتم من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا وقيل هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب ... 229
34 الأعراف ادخلوا الجنة خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره قد قيل لهم ادخلوا الجنة أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة أن أفيضوا علينا من الماء دليل على أن الجنة فوق النار أو مما رزقكم الله من سائر الأطعمة والأشربة فاليوم ننساهم أي نتركهم كما نسوا الكاف للتعليل وما كانوا عطف على كما نسوا أي لنسيانهم وجحودهم جئناهم بكتاب يعني القرآن فصلناه على علم أي علمنا كيف نفصله إلا تأويله أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد قد جاءت رسل ربنا بالحق أي قد تبين وظهر الآن أن الرسل جاؤا بالحق استوى على العرش حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره وتأوله قوم بمعنى قصد كقوله ثم استوى إلى السماء ولو كان كذلك لقال ثم استوى إلى العرش وتأولها الأشعرية أن معنى استوى استولى بالملك والقدرة والحق الإيمان به من غير تكييف فإن السلامة في التسليم ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة وجعفر الصادق والحسن البصري ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة يغشى الليل النهار أي يلحق الليل بالنهار ويحتمل الوجهين هكذا قال الزمخشري وأصل اللفظة من الغشاء أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار يطلبه حثيثا أي

(1/396)


سريعا والجملة في موضع الحال من الليل أي يطلب الليل النهار فيدركه ألا له الخلق والأمر قيل الخلق المخلوقات والأمر مصدر أمر يأمر وقيل الخلق مصدر خلق والأمر واحد الأمور كقوله إلى الله تصير الأمور والكل صحيح تبارك من البزكة وهو فعل غير منصرف ولم تنطق له العرب بمضارع تضرعا وخفية مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطعما وخفية من الإخفاء وقرئ خيفة من الخوف المعتدين المجاوزين للحد وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط ... 230

(1/397)


35 فيه وادعوه خوفا وطمعا جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا كما قال الله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدة عقابه وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه قال تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ومن عرف فضل الله رجاه ومن عرف عذابه خافه ولذلك جاء في الحديث ولو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى الله عليه وسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى واعلم أن الخوف على ثلاث درجات الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز وخير الأمور أوسطها والناس في الخوف على ثلاث مقامات فخوف العامة من الذنوب وخوف الخاصة من الخاتمة وخوف خاصة الخاصة من السابقة فإن الخاتمة مبنية عليها والرجاء على ثلاث درجات الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور والثالثة أن يقوي الرجاء حتى يبلغ الأمن فهذا حرام والناس في الرجاء على ثلاث مقامات فمقام العامة رجاء ثواب الله ومقام الخاصة رجاء رضوان الله ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه إن رحمت الله قريب من المحسنين حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم أو العفو أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب أو على تقدير النسب أي ذات قرب وقيل قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها الرياح بشرا قرئ الرياح

(1/398)


بالجمع لأنها رياح المطر وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة وإفرادها إذا كانت للعذاب ومنه ورد في الحديث اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقرئ بالإفراد والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين وهو على هذا مصدر في موضع الحال وقرئ بضمها وهو جمع نشر وقيل جمع منشور وقرئ بضم النون وإسكان الشين وهو تخفيف من الضم كرسل ورسل وقرئ بالباء في موضع النون وهو من البشارة بين يدي رحمته أي قبل المطر أقلت حملت سحابا ثقالا لأنها تحمل الماء فتثقل به سقناه الضمير للسحاب لبلد ميت يعني لا نبات فيه من شدة القحط وكذلك معناه حيث وقع فأنزلنا به الماء الضمير للسحاب أو البلد على أن تكون الباء ظرفية كذلك نخرج الموتى تمثيل لإخراج الموتى من القبور وبإخراج الزرع من الأرض وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها كذلك النشور وكذلك الخروج والبلد الطيب هو الكريم من الأرض الجيد التراب والذي خبث بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها بإذن ربه عبارة عن السهولة والطيب والنكد ... 231

(1/399)


36 بخلاف ذلك فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر أو تكون تمثيلا للقلوب فقيل على هذا الطيب قلب المؤمن والخبيث قلب الكافر وقيل هما للفهيم والبليد من إله غيره قرأ الكسائي بالخفض حيث وقع على اللفظ وقرأ غيره بالرفع على الموضع عذاب يوم عظيم يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم الملأ أشراف الناس ليس بي ضلالة إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال لأن الضلالة أخص من الضلال كما إذا قيل لك عندك تمر فنقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي أبلغكم قرئ بالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو في موضع رفع صفة لرسول أو استئناف أعلم من الله ما لا تعلمون أي من صفاته ورحمته وعذابه أو عجبتم الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قال أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم أي على لسان رجل منكم في الفلك متعلق بمعه والتقدير استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه عمين جمع أعمى وهو من عمى القلب أخاهم أي واحد من قبيلتهم وهو عطف على نوحا وهودا بدل منه أو عطف بيان وكذلك أخاهم صالحا وما بعده وما هو مثله حيث وقع الملأ الذين كفروا قيد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد بخلاف قوم نوح فإنهم لم يكن فيهم مؤمن فأطلق لفظ الملأ ( أمين ) يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق خلفاء من بعد قوم نوح أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا وزادكم في الخلق بسطة كانوا عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا وأطولهم مائة ذراع ءآلاء الله نعمه حيث وقع قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده استبعدوا توحيد ... 232

(1/400)


37 الله مع اعترافهم بربوبيته ولذلك قال لهم هود
قد وقع عليكم أي حق عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها يعني الأصنام أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء ففي الكلام حذف وأراد بقوله سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء فدل ذلك على أنها محدثة فلا يصح أن تكون آلهة أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها ىلهة فقولكم باطل فالجدال على القول الأول في عبادتها وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة والمراد بالأسماء على القول الأول المسمى وعلى القول الثاني التسمية دابر ذكر في الأنعام بينة من ربكم أي آية ظاهرة وهي الناقة وأضيفت إلى الله تشريفا لها أو لأنه خلقها من غير فحل وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه السلام أن يخرجها لهم من صخرة وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون لكم آية أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح والمجرور في موضع الحال من آية لأنه لو تأخر لكان صفة ولا تمسوها بسوء أي لا تضربوها ولا تطردوها وبوأكم في الأرض كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال لهم عليه الصلاة والسلام لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم تتخذون من سهولها قصورا أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة وتنحتون الجبال بيوتا أي تتخذون بيوتا في الجبال وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك خطت هذا الثوب قميصا لمن آمن منهم بدل من الذين استضعفوا إنا بالذي آمنتم به كافرون إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته فعقروا الناقة نسب العقر إلى جميعهم لأنهم رضوا به وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر الرجفة الصيحة حيث وقعت وذلك

(1/401)


أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض ... 233
38 فماتوا منها جاثمين حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون فتولى عنهم الآية يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا وهو ظاهر الآية وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم وقوله لا تحبون الناصحين حكاية حال ماضية إذ قال لقومه العامل في إذ أرسلنا المضمر أو يكون بدلا من لوط ما سبقكم بها من أحد من العالمين أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم ومن الأولى زائدة والثانية للتبعيض أو للجنس فما كان جواب قومه الآية أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله أناس يتطهرون أي يتنزهون عن الفاحشة من الغابرين أي من الهالكين وقيل من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا أو من الباقين من أترابها يقال غير بمعنى مضى وبمعنى بقي وإنما قال من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم وقلبت البلاد بمن كان فيها بينة من ربكم أي آية ظاهرة ولم تعين في القرآن آية شعيب فأوفوا الكيل والميزان كانوا ينقصون في الكيل والوزن فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان كما جاء في هود المكيال والميزان ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون قيل هي هو نهي عن السلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيب ويوعدونهم إن اتبعوه وتصدون أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان والضمير في به للصراط أو لله تبغونها عوجا ذكر في آل عمران أو لتعودن في ملتنا أي ... 234

(1/402)


39 ليكونن أحد الأمرين إما إخراجهم أو عودهم إلى ملة الكفر فإن قيل إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا اليها وذلك محال فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار اليه والثاني قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد وبمثل ذلك يجاب عن قوله إن عدنا في ملتكم وما يكون لنا أن نعود فيها قال أولو كنا كارهين الهمزة للاستفهام والإنكار والواو للحال تقديره أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم أي إن عدنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله وذلك تبرأ من العود فيها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء فإن قلت إن ذلك يصح في حق قومه وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر فالجواب أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى واستسلاما لأمره كقول نبينا صلى الله عليه وسلم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك مع أنه قد علم أنه يثبته ربنا افتح بيننا أي احكم كأن لم يغنوا فيها أي كأن لم يقيموا في ديارهم فكيف آسى على قوم كافرين أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم بالبأساء والضراء قد تقدم بدلنا مكان السيئة الحسنة أي أبدلنا

(1/403)


البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين حتى عفوا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم قالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار بركات من السماء والأرض أي بالمطر والزرع أوأمن من ... 235
40 قرأ بإسكان الواو فهي أو العاطفة ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر أولم يهد أي أولم يتبين للذين يرثون الأرض أي يسكنوها أن لو نشاء هو فاعل أولم يهد ومقصود الآية الوعيد ونطبع على قلوبهم عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أولم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم وما وجدنا لأكثرهم من عهد الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق من قرأ علي بالتشديد على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق وموضع أن لا أقول على هذا رفع على أنه خبر حقيق وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ علي بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر وحقيق صفة لرسول وفي المعنى على هذا وجهان أحدهما أن علي بمعنى الباء فمعنى الكلام رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدى بعلى قد جئتكم ببينة من ربكم أي بمعجزة تدل على صدقي وهي العصا أو جنس المعجزات فأرسل معى بني إسرائيل أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم وذلك أنه لما توفي يوسف عليه السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستبعدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عاما ونزع يده فإذا

(1/404)


هي بيضاء وكان موسى عليه السلام شديد الأدمة فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشد بياضا وقيل إنها كانت منيرة شفافة كالشمس وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه للناظرين مبالغة في وصف يده بالبياض وكان الناس يجتمعون للنظر إليها والتعجب منها قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر ... 236
41 عليم ) حكي هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون كأنه قاله هو وهم أو قاله هو ووافقوه عليه كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك يريد أن يخرجكم من أرضكم أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل وقيل المراد إخراج بني إسرائيل وكانوا خداما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها فماذا تأمرون من قول الملأ أو من قول فرعون وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة أو من الأمر وهو ضد النهي أرجه من قرأه بالهمزة فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما وقيل المراد بالإرجاء هنا السجن ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة أو يكون بمعنى الرجاء أي أطمعه وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان وإما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف حاشرين يعني الشرطة أي جامعين للسحرة وجاء السحرة فرعون قيل هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة إن لنا لأجرا من قرأه بهمزتين فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة والأجر هنا الأجرة طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى فأنعم لهم فرعون بها وزادهم التقريب منه والجاه عنده وإنكم لمن المقربين عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم واختلف في عدد السحرة إختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين خيروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدؤا هم بإلقاء

(1/405)


سحرهم فأمرهم أن يلقوا وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الإسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه واسترهبوهم أي خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر أن ألق عصاك لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل إنه طال حتى جاوز الفيل تلقف أي تبتلع ما يأفكون أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم وروي أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومد موسى يده إليه فصار عصا كما كان فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر وليس في قدرة البشر فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام لأقطعن أيديكم الآية ... 237

(1/406)


42 وعيد من فرعون للسحرة وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك لكن روي أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره وقد ذكر معنى من خلاف في العقود
قالوا إنا إلى ربنا منقلبون أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا وما تنتقم منا إلا أن آمنا أي ما تعيب منا إلا إيماننا ليفسدوا في الأرض أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه ويذرك معطوف على ليفسدوا أو منصوب بإضمار أن بعد الواو وآلهتك قيل إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال أنا ربكم الأعلى فآلهتك على هذا هي تلك الصنام وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك أي عبادتك والتذلل لك إن الأرض لله تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله ويستخلفكم في الأرض وقيل يعني أرض فرعون فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله يورثها من يشاء من عباده ثم صرح في قوله عسى ربكم الآية فينظر كيف تعملون حض على الاستقامة والطاعة بالسنين أي الجدب والقحط فإذا جاءتهم الحسنة الآية إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى أي قالوا هذه بشؤمه فإن قيل لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة فالجواب أن وقوع الحسنة كثير والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل ألا إنما طائرهم عند الله أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله وهو مأخوذ من زجر الطير ثم سمى به ما يصيب الإنسان ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما ثم قلبت الألف هاء وقيل هي اسم بسيط غير مركب والضمير في به يعود على مهما وإنما قالوا من ىية على تسمية موسى لها آية أو

(1/407)


على وجه التهكم فأرسلنا عليهم الطوفان روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون والجراد هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم ... 238
43 وأبوابهم وسقف بيوتهم والقمل قيل هي صغار الجراد وقيل البراغيث وقيل السوس وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف فهي على هذا القمل المعروف وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم والضفادع هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه والدم صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي ماء ولما وقع عليهم الرجز أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم بما عهد عندك بدعائك إليه ووسائلك والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عهد عندك في اليم البحر حيث وقع القوم الذين كانوا يستضعفون هم بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها الشام ومصر باركنا فيها أي بالخصب وكثرة الأرزاق وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل أي تمت لهم واستقرت والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل وقيل هي قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وما كانوا يعرشون أي يبنون وقيل هي الكروم وشبهها فهو على الأول من العرش وعلى الثاني من العريش قالوا يا موسى اجعل لنا إلها أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل متبر من التبار وهو الهلاك وهو فضلكم على العالمين وما بعده مذكور في البقرة وواعدنا موسى ثلاثين ليلة روي أن الثلاثين هي شهر ذي

(1/408)


القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة ميقات ربه أي ما وقت له من الوقت لمناجاته ... 239
44 في الطور اخلفني أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي قال رب أرني لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته فسألها كما قال الشاعر ( وأفرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الديار من الديار ) واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل وتأول الزمخشري طلب موسى المروية بوجهين أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا والآخر أن معنى أرني أنظر إليك عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد والثاني أبعد وأضعف فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية قال لن تراني قال مجاهد وغيره إن الله قال لموسى لن تراني لأنك لا تطيق ذلك ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالا لموسى وقال قوم المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا فقوله تعالى لن تراني نفي الرؤية وليس فيه دليل على أنها محال فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لاستحالتها ولو كانت الرؤية مستحيلة لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك وأما في الآخرة فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينكرها إلا مبتدع وبين أهل السنة والمعتزلة في مسئلة

(1/409)


الرؤية تنازع طويل وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها ولما فيه من الأقوال الفاسدة جعله دكا أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك ضربت الأمير والدك والدق أخوان وهو التفتت وقرئ دكاء بالمد والهمز أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره وقيل تفتت حتى صار غبارا وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه تبت إليك معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها وأنا أول المؤمنين أي أول قومه أو أهل زمانه أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي هو عموم يراد به الخصوص فإن جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا والصحيح أنه كلم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فخذ ما آتيتك تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك وكتبنا له في الألواح أي ألواح التوراة وكانت سبعة وقيل عشرة ... 240

(1/410)


45 وقيل اثنان وقيل كانت من زمردة وقيل من ياقوت وقيل من خشب من كل شىء عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم وكذلك تفصيلا لكل شيء وموضع كل شيء نصب على أنه مفعول كتبنا وموعظة بدل منه فخذها بقوة أي بجد وعزم والضمير للتوراة يأخذوا بأحسنها أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو وكذلك سائر المباحات مع المندوبات سأريكم دار الفاسقين أي دار فرعون وقومه وهو مصر ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا وقيل منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدمة ليعتبروا بها وقيل جهنم وقرأ ابن عباس سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة وهي على هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض الآيات يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين والصرف يراد به حدهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم وقيل الصرف منعهم من إبطالها ولقاء الآخرة يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقاؤهم الاخرة أو من إضافة المصدر إلى الظرف واتخذ قوم موسى هم بنو إسرائيل من بعده أي من بعد غيبته في الطور من حليهم بضم الحاء والتشديد جمع حلي نحو ثدى وثدى وقرئ بكسر الحاء للإتباع وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة جسدا أي جسما دون روح وانتصابه على البدل له خوار الخوار هو صوت البقر وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر فقذفه في العجل فصار له خوار وقيل كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم رد عليهم وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته اتخذوه أي اتخذوه إلها فحذف المفعول الثاني للعلم به وكذلك حذف من قوله واتخذ قوم موسى سقط في أيديهم أي ندموا يقال سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره أسفا شديد

(1/411)


الحزن على ما فعلوه وقيل شديد الغضب كقوله فلما آسفونا بئسما خلفتموني أي قمتم مقامي وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام حيث لم يكفوا الذين ... 241
46 عبدوا العجل أعجلتم أمر ربكم معناه أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور فإنهم لما رأوا أن الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل وألقى الألواح طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل وأخذ براس أخيه أي شعر رأسه يجره إليه لأنه ظن أنه فرط في كف الذين عبدوا العجل ابن أم كان هارون شقيق موسى وإنما دعاه بأمه لأنه أدعى إلى العطف والحنو وقرئ ابن أم بالكسر على الإضافة إلى ياء المتكلم وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى ولا تجعلني مع القوم الظالمين أي لا تظن أني منهم أو لا تجد علي في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل غضب من ربهم وذلة أي غضب في الآخرة وذلة في الدنيا ولما سكت عن موسى الغضب أي سكن وكذلك قرأ بعضهم وقال الزمخشري قوله سكت مثل كأن الغضب كان يقول له ألق الألواح وجر برأس أخيك ثم سكت عن ذلك وفي نسختها أي فيما ينسخ منها والنسخة فعلة بمعنى مفعول لربهم يرهبون أي يخافون ودخلت اللام لتقدم المفعول كقوله للرؤيا تعبرون وقال المبرد تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم واختار موسى قومه أي من قومه سبعين رجلا حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم وقيل إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته والأول أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء والأول أظهر لقوله ثم

(1/412)


بعثناكم من بعد موتكم لو شئت أهلكتهم من قبل وأياي يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين ... 242

(1/413)


47 طلبوا الرؤية والذين عبدوا العجل فمعنى هذا إدلاء بحجته وتبرؤ من فعل السفهاء ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة إن هي إلا فتنتك أي الأمور كلها بيدك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ومعنى هذا اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته إنا هدنا إليك أي تبنا وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء
قال عذابي أصيب به من أشاء قيل الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم وقرئ من أساء بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال إنها تصحيف ورحمتي وسعت كل شيء يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة وعموما في كل شيء لأن المؤمن والكافر والمطيع والعاصي تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق فيكون عموما في الرحمة وفي كل شيء فسأكتبها للذين يتقون إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كانت رحمة الدنيا فهي أيضا مختصة بهم لأن الله نصرهم على جميع الأمم وأعلا دينهم على جميع الأديان ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم وإن كانت على الإطلاق فقوله سأكتبها تخصيص للإطلاق والذين هم بآياتنا يؤمنون أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء وليس ذلك لغير هذه الأمة الذين يتبعون الرسول هذا الوصف خصص أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لما قال الله ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس فلما قال فسأكتبها للذين يتقون فيئس

(1/414)


إبليس لعنه الله وبقيت اليهود والنصارى النبي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم كأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة ولذلك قال تعالى وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون قال بعضهم الأمي منسوب إلى الأم وقيل إلى الأمة الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل وكذلك الضمير في عندهم ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أن في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم يا ايها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تعفو وتصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به عيونا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ... 243

(1/415)


48 ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب وهو باق بأيديهم إلى الآن إن الملك نزل على إبراهيم فقال له في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ وتفسير هذه الحروف محمد ومن ذلك في التوراة إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام وساعد موضع عيسى وفاران هي مكة موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومعنى ما ذكر من مجىء الله وطلوعه وظهوره هو ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكة قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك فقد تخلل الأرض الظلام وعلا على الأمم المصاب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامة عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وامتلأت الأرض من حمده لأنه ظهر بخلاص أمته ومن ذلك في التوارة أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراء لها ملك فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن اين أقبلت فقالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو كلمته ولم يكن ذلك لاسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أيضا في التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من

(1/416)


إخوتهم وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلى الله عليه وسلم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم ومن ذلك في التوراة إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفار قليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له وبهذا وصف الله سبحانه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وتفسير الفار قليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محمد وأحمد وقيل معنى الفار قليط الشافع المشفع ومن ذلك في التوراة مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون وبيان ذلك أن أمته يقرؤن الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم قال كعب وكان من أعلم الناس بما ... 244

(1/417)


49 أنزل الله على موسى من التوراة وبكتب الأنبياء ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم فلما حضرته الوفاة دعاني فقال يا بني قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث وقد أظل زمانه فكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما فإن الله يزيدك بهذا خيرا فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبييي لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال وتتذلل بالتكبير ألسنتهم وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤدرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم فلما قرأت هذا قلت في نفسي والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة فقلت هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي إني لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلى

(1/418)


الله عليه وسلم فقلت في نفسي لعله لم يكن الذي كنت أظن ثم بلغني أن خليفة قام مقامه ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم فلم أزل أدفع ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب فلما رايت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام فوالله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي فما كان شيء أحب إلي من الصباح فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين سره مثل علانيته وعلانيته مثل سره وقوله لا يخالف فعله والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار متراحمون متواصلون متبادلون فقال له عمر ثكلتك أمك أحق ما تقول قال إي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما تقول إنه لحق فقال عمر الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم برحمته التي وسعت كل شيء ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من ملوك العرب ... 245

(1/419)


50 بالشام فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقر بالإسلام مصدق أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف إنه النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم فلما أخبر بها علم أنه رسول الله وقال إنه يملك موضع قدمي ولو خلصت إليه لغسلت قدميه ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي فذهبت أنازعه فقيل لي لا تفعل فإنه لا نصيف لك منه فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي أنقل ما ههنا فجعلت أنظر كيف أصنع فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه فقال أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت واثكل أمك يا عمر أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير فسرت بقية يومي وليلتي من العد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إلي رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا فقلت أضللت أصحابي فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف فادخل فأصب من الطعام واسترح فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني ثم صعد في النظر وصوبه فقال قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير وتغلبنا عليه فقلت يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب فقال لي

(1/420)


ما اسمك فقلت عمر ابن الخطاب فقال أنت والله صاحبنا فاكتب لي على ديري هذا وما فيه فقلت يا هذا إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكررها فقال إنما هو كتاب في رق فإن كنت صاحبنا فذلك وإلا لم يضرك شيء فكتب له على ديره وما فيه فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إلي ثم أو كف أتانا فقال لي أتراها فقلت نعم قال سر عليها فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فانهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي قال فركبتها فكان كما قال حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز فضربتها مدبرة وانطلقت معهم فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه فقال قد جاء مالا مذهب لعمر عنه ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه اقبل على الراهب فقال هل عندكم من نفع للمسلمين قال نعم يا أمير المؤمنين قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك قال نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال السلام عليك يا فاروق أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء ومن ذلك أن عمرو بن العاص قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله إلى عمان واليا عليها فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له أنشدك بالله من أرسلك إلينا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي والله إنك لتعلم أنه ... 246

(1/421)


51 رسول الله قال عمرو اللهم نعم فقال اليهودي لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهودي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات فيه ثم خرج فأخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وكرم ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيهم ابو بكر الصديق فقال لهم من أنتم قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود ثم ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر وقال إنه ليطوف بالأسواق ويمشي وحده ولا شرطة معه ويرغب من يراه منه فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا ابو بكر بن أبي قحافة فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال ابو بكر الأمر إلى الله فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال وأن الخبائث هي الحرام ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات إلا ما حرمه الشرع منها كالخمر والخنزير وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب وغيرها ويضع عنهم إصرهم وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك وعزروه أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو واتبعوا

(1/422)


النور الذي أنزل معه هو القرآن أو الشرع كله ومعنى معه مع بعثه ورسالته إني رسول الله إليكم جميعا تفسيره قوله صلى الله عليه وسلم وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم الذي له ملك السموات والأرض نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر يؤمن بالله وكلماته هي الكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء ومن قوم موسى أمة هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في عصره وقطعناهم أي فرقناهم أسباطا السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز فإن تمييز اثنتي عشرة ... 247

(1/423)


52 لا يكون إلا مفردا وقال الزمخشري على التمييز لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط فانبجست أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس أول الانفجار وظللنا عليهم الغمام وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في البقرة تنبيه وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله وإذ قلنا ادخلوا وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء فقال الزمخشري لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها واسئلهم أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ عن القرية قيل هي إيلياء وقيل هي طبرية وقيل مدين حاضرة البحر قريبة منه أو على شاطئه إذ يعدون في السبت أي يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت وتغيب عنهم في سائر الأيام وسبتهم مصدر من قولك سبت اليهودي يسبت إذا عظم يوم السبت ومعنى شرعا ظاهرة قريبة منهم يقال شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون أو بدل من إذ يعدون وإذ قالت أمة منهم لم تعدون قوما للآية افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق فرقة عصت يوم السبت بالصيد وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم فقالت الناهية ننهام معذرة إلى الله ولعلهم يتقون فهلكت الفرقة العاصية ونجت الناهية

(1/424)


واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان بعذاب بئيس أي شديد وقرئ بالهمز وتركه وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس فلما عتوا عما نهوا عنه أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة ... 248
53 خاسئين ) ذكر في البقرة والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة وقيل فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا والعذاب البئيس هو المسخ تأذن ربك عزم وهو من الإيذان بمعنى الإعلام ليبعثن عليهم الآية أي يسلط عليهم ومن ذلك أخذ الجزية وهو أنهم في جميع البلاد وقطعناهم في الأرض أي فرقناهم في البلاد ففي كل بلدة فرقة منهم فليس لهم إقليم يملكونه منهم الصالحون هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدمين منهم بالحسنات والسيئات أي بالنعم والنقم فخلف من بعدهم خلف أي حدث بعدهم قوم سوء والخلف بسكون اللام ذم وبفتحها مدح والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين وقيل المراد النصارى يأخذون عرض هذا الأدنى أي عرض الدنيا ويقولون سيغفر لنا ذلك اغترار منهم وكذب وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق إشارة إلى كذبهم في قولهم سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له أو تكون أن حرف عبارة وتفسير والذين يمسكون بالكتاب قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد وإعراب الذين عطف على الذين يتقون أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب وإذ نتقنا الجبل فوقهم أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم خذوا التوراة حين أبوا من أخذها وقد تقدم في البقرة تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم

(1/425)


ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم الآية في معناها قولان أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم فأقروا بذلك والتزموه روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم والثاني أن ذلك من باب التمثيل وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقال لهم ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال بلى أنت ربنا والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أحد الذرية إنما كان من صلب آدم ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم والجمع ... 249

(1/426)


54 بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم الآية وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم من صورته وقال الزمخشري إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه قالوا بلى شهدنا قولهم بلى إقرار منهم بأن الله ربهم فإن تقديره انت ربنا فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية لو قالوا نعم لكفروا وأما قولهم شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله وقيل إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم أن تقولوا يوم القيامة في موضع مفعول من أجله أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا فهو من قول الله لا من قولهم وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم وبالياء على الإخبار عنهم واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قل ابن مسعود هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة وقيل كان عنده من صحف إبراهيم وقال عبد الله بن عمرو بن العاص هو أمية بن أبي الصلت وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر ثم رجع عن ذلك ومات كافرا وفيه قال النبي صلى الله

(1/427)


عليه وسلم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم فالآية على هذا ما كان عنده من العلم والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد ولو شئنا لرفعناه بها أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده ولكنه أخلد إلى الأرض عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله فمثله كمثل الكلب أي صفته كصفة الكلب وذلك غاية في الخسة والرداءة إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب وهي حالة دائمة للكلب ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه فهو يلهث على كل حال ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال فضلالته على كل حال ... 250

(1/428)


55 كما أن لهث الكلب على كل حال وقيل إن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه وكصفة الرجل المشبه به لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم الآية قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر كثيرا من الجن والإنس هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي لا يبصرون بها ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين ولله الأسماء الحسنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة وسبب نزول الآية أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة والرحمن أخرى فقال يزعم محمد أن الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة فنزلت الآية مبينة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد فادعوه بها أي سموه بأسمائه وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث وقد ورد في كتاب الترمذي عدتها أعني تعيين التسعة والتسعين واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوفة على أبي هريرة وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين وذروا الذين يلحدون في أسمائه

(1/429)


قيل معنى ذروا اتركوهم لا تحاجوهم ولا تتعرضوا لهم فالآية على هذا منسوخة بالقتال وقيل معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله وذرني والمكذبين وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه وقيل تسميته بما لا يليق وقيل تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز وممن خلقنا أمة الآية روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية لكم وقد تقدم مثلها لقوم موسى سنستدرجهم الاستدراج استفعال من الدرجة أي نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون ... 251

(1/430)


56 والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة إن كيدي متين سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة يعني بصاحبهم النبي صلى الله عليه وسلم فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون ويحتمل أن يكون قوله ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به والمعنى أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبهم من جنة ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبار استئنافا لقوله ما بصاحبهم من جنة والأول أحسن أو لم ينظروا يعني نظر استدلال ما خلق الله عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء جميع المخلوقات إذ جميعها دليل على وحدانية خالقها وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم أن الأولى مخففة من الثقيلة وهي عطف على الملكوت وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى وأجلهم يعني موتهم والمعنى لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل فبأي حديث بعده الضمير للقرآن يسألونك عن الساعة السائلون اليهود أو قريش وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب أيان مرساها معنى أيان متى ومرساها وقوعها وحدوثها وهي من الإرساء بمعنى الثبوت قل إنما علمها عند ربي أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد لا يجليها لوقتها إلا هو معنى يجلبها يظهرها فهو من الجلاء ضد الخفاء واللام في لوقتها ظرفية أي عند وقتها والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله ثقلت في السموات والأرض في معناه ثلاثة أقوال الأول ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض والثالث معنى ثقلت أي ثقل علمها أي خفي يسألونك كأنك حفي عنها الحفي بالشيء هو المهتبل به المعتني به والمعنى

(1/431)


يسألونك عنها كأنك حفي بعلمها وقيل المعنى يسألونك عنها كأنك حفي بهم لقرابتك منهم فعنها على هذين القولين يتعلق بيسئلونك وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير براءة من علم الغيب واستدلال على عدم علمه وما مسني السوء عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصبني ما قدر لي من الخير والشر وقيل إن قوله وما مسني السوء استئناف إخبار والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن لقوم يؤمنون يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين ... 252

(1/432)


57 وأنذرهم وخص بهم البشارة والنذارة لأنهم هم الذين ينتفعون بها ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين والأول أحسن من نفس واحدة يعني آدم زوجها يعني حواء ليسكن إليها يميل إليها ويستأنس بها تغشاها كناية عن الجماع حملت حملا خفيفا أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهن من الأذى والكرب وقيل الحمل الخفيف المني في فرجها فمرت به قيل معناه استمرت به إلى حين ميلاده وقيل معناه قامت وقعدت فلما أثقلت أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لئن آتيتنا صالحا أي ولدا صالحا سالما في بدنه فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيما آتاهما أي فيما آتى أولادهما وذريتهما وقيل إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث فسأخلصه لك وكان اسم إبليس الحارث وإن عصيتيني في ذلك قتلته فأخبرت بذلك آدم فقال لها إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته فقوله جعلا له شركاء فيما آتاهما أي في التسمية لا غير لا في عبادة غير الله والقول الأول أصح لثلاثة أوجه أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى فتعالى الله عما يشركون بضمير الجمع والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح وهو غير موجود في تلك القصة وقيل من نفس واحدة وهو قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وهذا القول

(1/433)


بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم والآخر أن قوله وجعل منها زوجها فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم ولا يصح في زوجة قصي أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون هذه الآية رد على المشركين من بني آدم والمراد بقوله ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله والمعنى أنها مخلوقة غير خالقة والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة فكيف يكونون آلهة وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم يعني أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدي أو إلى أن تهدى لأنها جمادات سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون تأكيد وبيان لما قبلها فإن قيل لم قال أم أنتم صامتون فوضع الجملة الإسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة فعبر هنا ... 253

(1/434)


58 بجملة إسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم رد على المشركين بأن آلهتهم عباد فكيف يعبد العبد مع ربه فادعوهم فليستجيبوا أمر على جهة التعجيز أم لهم أرجل يمشون بها وما بعده معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة ومن كان كذلك لا يكون إلها فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش ولا تبصر ولا تسمع فلزمته الحجة والهمزة في قوله ألهم للاستفهام مع التوبيخ وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل وليست عاطفة قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون المعنى استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد علي ولا تؤخروني فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي ومقصد الآية الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله إن وليي الله الآية أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي ثم وصف الله بأنه الذي أنزل الكتاب وبأنه يتولى الصالحين وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الكتاب عليه وبأن الله تولى حفظه ومن تولى حفظه فهو من الصالحين والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم الآية رد على المشركين وقد تقدم معناه وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم وردا على من عبدها فإنها جمادات لا تسمع شيئا فيكون المعنى كالذي تقدم أو يريد الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به لإفراط نفورهم أو لأن الله طبع على قلوبهم وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون إن كان هذا من وصف الصنام فقوله ينظرون

(1/435)


مجاز وقوله لا يبصرون حقيقة لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون خذ العفو فيه قولان أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر ( خذي العفو مني تستديمي مودتي والآخر أن المعنى خذ من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم وذلك قبل فرض الزكاة فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة وأمر بالعرف أي بالمعروف وهو فعل الخير وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد وأعرض عن الجاهلين أي لا تكافئ السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 254

(1/436)


59 جبريل عنها فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وعن جعفر الصادق أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بمكارم الأخلاق وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح وقيل كانت مداراة للكفار ثم نسخت بالقتال وإما ينزغنك من الشيطان نزغ نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به نعوذ بالله من الشيطان الرجيم طائف من الشيطان معناه لمة منه كما جاء إن للشيطان لمة وللملك لمة ومن قرأ طائف بالألف فهم اسم فاعل ومن قرأ طيف بياء ساكنة فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدد كميت وميت تذكروا حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك فإذا هم مبصرون هو من بصيرة القلب وإخوانهم يمدونهم في الغي الضمير في إخوانهم للشياطين وأريد بقوله طائف من الشيطان الجنس ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار ومعنى يمدونهم يكونون مددا لهم يعضدونهم وضمير المفعول في يمدونهم للكفار وضمير الفاعل للشيطان ويحتمل أن يريد بالإخوان الشياطين ويكون الضمير في إخوانهم للكفار والمعنى على الوجهين أن الكفار يمدهم الشيطان وقرئ يمدونهم بضم الياء وفتحها والمعنى واحد وفي الغي يتعلق بيمدونهم وقيل يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله أو في الشيطان ثم لا يقصرون أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار أو لا يقصر الكفار عن غيهم وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها الضمير في لم تأتهم للكفار ولولا هنا

(1/437)


عوض وفي معنى اجتبيتها قولان أحدهما اخترعتها من قبل نفسك فالآية على هذا من القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأخر عنه الوحي أحيانا فيقول الكفار هلا جئت بقرآن من قولك والآخر معناه طلبتها من الله وتخيرتها عليه فالآية على هذا معجزة أي يقولون اطلب المعجزة من الله قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي معناه لا أخترع القرآن على القول الأول ولا أطلب آية من الله على القول الثاني هذا بصائر أي علامات هدى والاشارة إلى القرآن وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة والثاني أنه الإنصات للخطبة والثالث أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه والثاني أن الآية مكية والخطبة إنما ... 255

(1/438)


60 شرعت بالمدينة لعلكم ترحمون قال بعضهم الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية واذكر ربك في نفسك يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان أو الذكر باللسان سرا فعلى الأول يكون قوله ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول بالغدو والآصال أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل المراد صلاة الصبح والعصر وقيل فرض الخمس والأظهر الإطلاق إن الذين عند ربك هم الملائكة عليهم السلام وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار وله يسجدون قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله والله أعلم
سورة الأنفال
نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها يسالونك عن الأنفال الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والسائلون هم الصحابة والأنفال هي الغنائم وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها واختلفوا فيما بينهم فنزلت الآية ومعناها يسئلونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه وقد أختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك أو من الأربعة الأخماس أو من رأس النغمة قبل إخراج الخمس قل الأنفال لله والرسول أي الحكم فيهما لله والرسول لا لكم وأصلحوا ذات بينكم أي اتفقوا وائتلفوا ولا تنازعوا وذات هنا بمعنى الأحوال قاله الزمخشري وقال ابن عطية يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته وقال الزبيري إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب وأطيعوا الله ورسوله يريد في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا

(1/439)


فنزع الله الأنفال من ايدينا وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين إنما المؤمنون الآية أي الكاملون الإيمان فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر وجلت قلوبهم أي خافت وقرأ أبي بن كعب فزعت زادتهم إيمانا أي قوي تصديقهم ويقينهم ... 256
61 خلافا لمن قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإن زيادته إنما هي بالعمل لهم درجات يعني في الجنة كما أخرجك ربك فيه ثلاث تأويلات أحدها أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله الأنفال لله والرسول أي استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك من بيتك يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر وإن فريقا من المؤمنين لكارهون أي كرهوا قتال العدو وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة ومعها أربعون راكبا فأخبر بذلك جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقالوا العير أحب إلينا من لقاء العدو فقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقال له سعد بن عبادة امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله يجادلونك في الحق بعد ما تبين كان جدالهم في لقاء قريش بإيثارهم لقاء العير إذ كانت أكثر أموالا وأقل رجالا وتبين الحق هو إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون

(1/440)


كأنما يساقون إلى الموت تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين يعني قريش أو عيرهم والعامل في إذ محذوف تقديره اذكروا أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم الشوكة عبارة عن السلاح سميت بذلك لحدتها والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير أن يحق الحق يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر ليحق الحق متعلق بمحذوف تقديره ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك وليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد وهذا تعليل لفعل الله تعالى ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة وبالحق الثاني الإسلام فيكون المعنى أن نصرهم ليظهر الإسلام ويؤيد هذا قوله ويبطل الباطل أي يبطل الكفر إذ تستغيثون ربكم إذ بدل من إذ يعدكم وقيل يتعلق بقوله ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر ممدكم أي مكثركم مردفين من قولك ردفه إذا تبعه وأردفته إياه إذا أتبعته إياه والمعنى يتبع بعضهم بعضا فمن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعول ومن قرأه بالكسر فهو ... 257

(1/441)


62 اسم فاعل وصح معنى القراءتين لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا فمنهم تابعون ومتبوعون وما جعله الله الضمير عائد على الوعد أو على الإمداد بالملائكة إذ يغشيكم النعاس إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر أو بما عند الله من معنى النصر أو بإضمار فعل تقديره اذكر ومن قرأ يغشاكم بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشي المشدد وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني والمعنى يغطيكم به فهو استعارة من الغشاء ومن قرأ بفتح الياء والشين فهو من غشى المتعدي إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس أمنة منه أي أمنا والضمير المجرور يعود على الله تعالى وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله قال ابن مسعود النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو
وينزل عليكم من السماء ماء تعديد لنعمة أخرى وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر وقيل بعد وصولهم فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية ليطهركم به كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر وتوضأ به سائرهم وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء ويذهب عنكم رجز الشيطان كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء فقالوا نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء فأنزل الله المطر وأزال عنهم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها ويثبت به الأقدام الضمير في به عائد على الماء وذلك أنهم كانوا في رملة دهمة لا يثبت فيها قدم فلما نزل المطر تلبدت وتدقت الطريق وسهل المشي عليها والوقوف وروى أن ذلك المطر بعينه صعب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله إذ يوحى يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها أو يكون العامل فيه يثبت فثبتوا الذين آمنوا يحتمل أن يكون التثبيت بقتال

(1/442)


الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل فاضربوا فوق الأعناق يحتمل أيضا أن يكون خطابا بالملائكة أو للمؤمنين ومعنى فوق الأعناق أي على الأعناق حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح والضرب فيها يطير الرأس وقيل المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق وقيل المراد الأعناق وفوق زائدة كل بنان قيل هي المفاصل وقيل الأصابع وهو الأشهر في اللغة وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله الإشارة إلى ما أصاب ... 258

(1/443)


63 الكفار يوم بدر والباء للتعليل وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة ذلكم فذوقوه الخطاب هنا للكفار وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله فذوقوه كقولك زيدا فاضربه وأن للكافرين عطف على ذلكم على تقدير رفعه أو نصبه أو مفعول معه والواو بمعنى مع زحفا حال من الذين كفروا أو من الفاعل في لقيتم ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص وأصل الزحف الإندفاع فلا تولوهم الأدبار نهى عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه ومن يولهم يومئذ أي يوم اللقاء في أي عصر كان إلا متحرفا لقتال هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وذلك من الخداع في الحرب أو متحيزا إلى فئة أي منحازا إلى جماعة من المسلمين فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب فالتحيز إليها جائز باتفاق واختلف في التحيز إلى المدينة والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال أنا فئة لكل مسلم وهذا إباحة لذلك والفرار من الذنوب الكبائر وانتصب قوله متحرفا على الإستثناء من قوله ومن يولهم وقال الزمخشري انتصب على الحال وإلا لغو ووزن متحيز متفيعلا ولو كان على متفعل لقال متحوز لأنه من حاز يحوز فلم تقتلوهم أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى ولكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة وما رميت إذ رميت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة بلاء حسنا يغني الأجر والنصر والغنيمة موهن من الوهن وهو الضعف وقريء بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد إن تستفتحوا الآية خطاب لكفار قريش وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين وفتح لهم ومعنى إن

(1/444)


تستفتحوا تطلبوا الفتح ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم وقيل إن الخطاب للمؤمنين فقد جاءكم الفتح أن كان الخطاب للكفار فالفتح هنا بمعنى النصر أو بمعنى الحكم أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم لأن الله حكم لهم أو بمعنى النصر وإن تنتهوا أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار وإن تعودوا نعد أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم ولا تولوا عنه الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للأمر ... 259

(1/445)


64 بالطاعة وأنتم تسمعون أي تسمعون القرآن والمواعظ كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع إن شر الدواب أي كل من يدب والمقصود أن الكفار شر الخلق قال ابن قتيبة نزلت هذه الآية في بني عبد الدار فإنهم جدوا في القتال مع المشركين لما يحييكم أي للطاعة وقيل للجهاد لأنه يحيا بالنصر يحول بين المرء وقلبه قيل يميته وقيل يصرف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة أي لا تصيب الظالمين وحدهم بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم وإن كان لم يظلم وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي إذ أنتم قليل الآية أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة وأيدكم بنصره في بدر وغيرها لا تخونوا الله نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح وقيل المعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام وتخونوا أماناتكم عطف على لا تخونوا أو منصوب يجعل لكم فرقانا أي تفرقة بين الحق والباطل وذلك دليل على أن التقوى تنور القلب وتشرح الصدر وتزيد في العلم والمعرفة وإذ يمكر بك الذين كفروا عطف على إذ أنتم قليل أو استئناف وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله ليثبتوك أي ليسجنونك قالوا قد سمعنا قيل نزلت في النضر بن الحارث كان قد تعلم من أخبار فارس والروم فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال لو شئت لقلت مثل هذا وقيل هي في سائر قريش أساطير الأولين أي أخبارهم المسطورة وإذ قالوا اللهم الآية قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعوا

(1/446)


على أنفسهم إن كان أمره ... 260
65 هو الحق والصحيح أن الذي دعا بذلك أو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما وانتصب الحق لأنه خبر كان وقال الزمخشري معنى كلامهم جحود أي إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب قال بعض السلف كان لنا أمانان من العذاب وهما وجود النبي صلى الله عليه وسلم والإستغفار فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر وقيل الضمير في يعذبهم للكفار وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم وما لهم ألا يعذبهم الله المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون أي يمنعون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال وذلك من الموجب لعذابهم وما كانوا أولياءه الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية المكاء التصفير بالفم والتصدية التصفيق باليد وكانوا يفعلونهما إذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم ينفقون أموالهم الآية نزلت في اتفاق قريش في غزوة أحد وقيل إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد تكون عليهم حسرة أي يتأسفون على انفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة ثم يغلبون إخبار بالغيب ليميز الله الخبيث من الطيب معنى يميز يفرق بين الخبيث والطيب والخبيث هنا الكفار والطيب المؤمنون وقيل الخبيث ما أنفقه الكفار والطيب ما أنفقه المؤمنون واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون وعلى الأول بيحشرون فيركمه أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعض إن ينتهوا يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجب

(1/447)


ما قبله ولا تصح المغفرة إلا به وإن يعودوا يعني إلى القتال فقد مضت سنة الأولين تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة حتى لا تكون فتنة الفتنة هنا الكفر فالمعنى قاتلوهم حتى لا يبقى كافر وهو كقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله واعلموا ... 261
66 أنما غنمتم من شىء ) لفظه عام يراد به الخصوص لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال ومنها ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف وما طرحه العدو خوف الغرق ومنها ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فإن لله خمسه الآية اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم في مصالح المسلمين وقيل للوالي بعده وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وقال الشافعي على خمسة أسهم ولا يجعل لله سهما مختصا وإنما بدأ عنده بالله لأن الكل ملكه وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح إن كنتم آمنتم بالله راجع إلى ما تقدم والمعنى إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه وما أنزلنا على عبدنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم والذي أنزل عليه القرآن والنصر يوم الفرقان أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر التقى الجمعان يعني المسلمين والكفار إذ أنتم بالعدوة الدنيا العامل في إذ التقى والعدوة شفير الوادي وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان والدنيا القريبة من المدينة والقصوى البعيدة والركب أسفل

(1/448)


منكم يعني العير التي كان فيها أبو سفيان وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير
ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه ليهلك من هلك عن بينة أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه ويعيش من عاش بعد البيان له وقيل ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن وقرئ من حيى بالإظهار والإدغام وهما لغتان إذ يريكهم الله الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم لفشلتم أي جبنتم عن اللقاء وإذ يريكموهم الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال ريحكم ... 262

(1/449)


67 أي قوتكم ونشاطكم وذلك استعارة ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر بطرا أي عتوا وتكبرا وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم الآية لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه ووعدهم بالنصر نكص أي رجع إلى وراء إني أرى ما لا ترون رأى الملائكة تقاتل يقول المنافقون الذين كانوا بالمدينة وقيل الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس ابن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة غر هؤلاء دينهم أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ذلك فيمن قتل يوم بدر وأدبارهم أي إستاههم وقيل ظهورهم وذوقوا هذا من قول الملائكة لهم تقديره ويقولون لهم ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا ذلك بأن الله تقديره عند سيبويه الأمر ذلك والباء سببية والمعنى أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي كدأب ذكر في آل عمران الذين عاهدت منهم يريد بني قريظة فشرد بهم من خلفهم أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم وإما تخافن من قوم خيانة أي نقضا للعهد فانبذ إليهم أي رد العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم على سواء ... 263

(1/450)


68 أي على معادلة وقيل معناه إن تستوي معهم في العلم بنقض العهد ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم أنهم لا يعجزون أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة وأعدوا لهم الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون وحكمه عام في جميع الكفار من قوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن القوة الرمي ومن رباط الخيل قال الزمخشري الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله وقال ابن عطية رباط الخيل جمع ربط أو مصدر عدو الله وعدوكم يعني الكفار وآخرين يعني المنافقين وقيل بني قريظة وقيل الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل وقيل فارس والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق لا تعلمونهم الله يعلمهم قال السهيلي لا ينبغي أن يقال فيهم شيء لأن الله تعالى قال لا تعلمونهم فكيف يعلمهم أحد وهذا لا يلزم لأن معنى قوله لا تعلمونهم لا تعرفونهم أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين وإن جنحوا للسلم فاجنح لها السلم هنا المهادنة والآية منسوخة بآية القتال في براءة لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز وألف بين قلوبهم قيل المراد بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام واللفظ عام ومن اتبعك من المؤمنين عطف على اسم الله وقال الزمخشري مفعول معه والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله إن يكن منكم عشرون صابرون الآية إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين ذلك بأنهم قوم لا يفقهون أي يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون ما كان لنبي أن يكون له أسرى لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم وأشار عمر بقتلهم فنزلت الآية عتابا على استبقائهم حتى يثخن في الأرض أي يبايع في القتال تريدون عرض الدنيا عتاب لمن رغب في فداء الأسرى لولا كتاب

(1/451)


من الله سبق الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم وقيل ما قضاه الله ... 264
69 من تحليل الغنائم لهم فيما أخذتم يريد به الأسرى وفداؤهم ولما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر
فكلوا مما غنمتم إباحة للغنائم ولفداء الأسارى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية قال العباس في نزلت وكان قد افتدى يوم بدر ثم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال ما لا يقدر أن يحمله فقال قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي وإن يريدوا خيانتك الآية تهديدا لهم إن الذين آمنوا إلى آخر السورة مقصدها بيان منازل المهاجرين والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا والذين هاجروا بعد الحديبية فبدأ أولا بالمهاجرين ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا وأثبت الولاية بينهم وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وإن استنصروكم لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر وقيل هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق أو النصر الذي في قوله فعليكم النصر والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة والذين آمنوا وهاجروا الآية ثناء على المهاجرين والأنصار ووعد لهم والرزق الكريم في الجنة والذين آمنوا من بعد يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قيل هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار قال مالك ليست في الميراث وقال أبو حنيفة هي في

(1/452)


الميراث وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام في كتاب الله أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ ... 265
70 سورة براءة وتسمى سورة التوبة وتسمى أيضا الفاضحة لأنها كشفت أسرار المنافقين واتفقت المصاحف والقراء على إسقاط البسملة من أولها واختلف في سبب ذلك فقال عثمان بن عفان اشتبهت معانيها بمعاني الأنفال وكانت تدعى القرينتين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك قرنت بينهما فوضعتهما في السبع الطوال وكان الصحابة قد اختلفوا هل هما سورتان أو سورة واحدة فتركت البسملة بينهما لذلك وقال علي بن أبي طالب البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف فلذلك لم تبدأ بالأمان براءة من الله ورسوله المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين وارتفاع براءة على أنه خبر ابتداء أو مبتدأ إلى الذين عاهدتم من المشركين تقدير الكلام براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فمن وإلى يتعلقان بمحذوف لا ببراءة وإنما أسند العهد إلى المسلمين في قوله عاهدتم لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة فمنهم من وفى فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ومنهم من نقض أو قارب النقض فجعل له أجل أربعة أشهر وبعدها لا يكون له عهد فسيحوا في الأرض أي سيروا آمنين أربعة أشهر وهي الأجل الذي جعل لهم واختلف في وقتها فقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن السورة نزلت حينئذ وذلك عام تسعة وقيل هي من عيد الأضحى إلى تمام العشر الأول من ربيع الآخر لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تلك السنة أبا بكر الصديق يحج بالناس ثم بعث بعده علي بن أبي طالب فقرأ على الناس سورة براءة يوم عرفة وقيل يوم النحر غير معجزي الله أي لا تفوتونه وأذان أي إعلام بتبرئ الله تعالى ورسوله من

(1/453)


المشركين إلى الناس جعل البراءة مختصة بالمعاهدين من المشركين وجعل الإعلام بالبراءة عاما لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد والمشركين وغيرهم الحج الأكبر هو يوم عرفة أو يوم النحر وقيل أيام الموسم كلها وعبر عنها بيوم كقولك يوم صفين والجمل وكانت أياما كثيرة أن الله بريء من المشركين تقديره أذان بأن الله بريء وحذفت الباء تخفيفا وقرئ إن الله بالكسر لأن الأذان في معنى القول ورسوله ارتفع بالعطف على الضمير في برىء أو بالعطف على موضع اسم إن أو بالإبتداء وخبره محذوف وقرء بالنصب عطف على اسم إن وأما الخفض فلا يجوز فيه العطف على المشركين لأنه معنى فاسد ويجوز على الجوار أو القسم وهو مع ذلك بعيد والقراءة به شاذة فإن تبتم يعني التوبة من الكفر إلا الذين ... 266

(1/454)


71 عاهدتم ) يريد الذين لم ينقضوا العهد فإذا انسلخ الأشهر الحرم يعني الأشهر الأربعة التي جعلت لهم فمن قال إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهي الحرم المعروفة زاد فيها شوال ونقص رجب وسميت حرما تغليبا للأكثر ومن قال إنها إلى ربيع الثاني فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخة لكل موادعة في القرآن وقيل إنها نسخت أيضا فإما منا بعد وإما فداء وقيل بل نسختها هي فيجوز المن والفداء وخذوهم معناه الأسر والأخيذ هو الأسير كل مرصد كل طريق ونصبه على الظرفية فإن تابوا يريد من الكفر ثم قرن بالإيمان الصلاة والزكاة فذلك دليل على قتال تارك الصلاة والزكاة كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه والآية في معنى قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فخلوا سبيلهم تأمين لهم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره هو من الجوار أي استأمنك فأمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا ثم أبلغه مأمنه أي إن لم يسلم فرده إلى موضعه وهذا الحكم ثابت عند قوم وقال قوم نسخ بالقتال كيف يكون للمشركين عهد لفظ استفهام ومعناه استنكار واستبعاد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام قيل المراد قريش وقيل قبائل بني بكر فما استقاموا ما ظرفية كيف تأكيد للأولى وحذف الفعل بعدها للعلم به تقديره كيف يكون لهم عهد لا يرقبوا أي لا يراعوا إلا ولا ذمة الإل القرابة وقيل الحلف والذمة العهد وأكثرهم فاسقون استثنى من قضى له بالإيمان أئمة الكفر أي رؤساء أهله قيل إنهم أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وحكى ذلك الطبري وهو ضعيف لأن أكثر هؤلاء كان قد مات قبل نزول هذه السورة والأحسن أنها على العموم لا أيمان ... 267

(1/455)


72 لهم ) أي لا أيمان لهم يوفون بها وقرئ لا إيمان بكسر الهمزة لعلهم ينتهون يتعلق بقاتلوا وهموا بإخراج الرسول قيل يعني إخراجه من المدينة حين قاتلوه بالخندق وأحد وقيل يعني إخراجه من مكة إذا تشاوروا فيه بدار الندوة ثم خرج هو بنفسه وهم بدءوكم أول مرة يعني إذايتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمكة يعذبهم الله بأيديكم يريد بالقتل والأسر وفي ذلك وعد للمسلمين بالظفر قوم مؤمنين قيل إنهم خزاعة والإطلاق أحسن ويتوب الله استئناف إخبار فإن الله يتوب على بعض هؤلاء الكفار فيسلم أم حسبتم الآية معناها أن الله لا يتركهم دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث وأم هنا بمعنى بل والهمزة يعلم الله أي يعلم ذلك موجبا لتقوم به الحجة وليجة أي بطانة ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله أي ليس لهم ذلك بالحق والواجب وإن كانوا قد عمروها تغليبا وظلما ومن قرأ مساجد بالجمع أراد جميع المساجد ومن قرأ بالتوحيد أراد المسجد الحرام شاهدين على أنفسهم بالكفر أي أن أحوالهم وأقوالهم تقتضي الإقرار بالكفر وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية لا شريك لك إلا شريك هو لك أجعلتم سقاية الحاج الآية سببها أن قوما من قريش افتخروا بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام فبين الله أن الجهاد أفضل من ذلك ونزلت الآية في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن منبه افتخروا فقال أنا صاحب البيت وعندي مفاتحه وقال العباس أنا صاحب السقاية وقال علي لقد أسلمت قبل الناس وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا آباءكم الآية قيل نزلت فيمن ثبط عن الهجرة ... 268

(1/456)


73 ولفظها عام وكذلك حكمها فتربصوا وعيد لمن آثر أهله أو ماله أو مسكنه على الهجرة والجهاد بأمره قيل يعني فتح مكة وقيل هو إشارة إلى عذاب أو عقاب ويوم حنين عطف على مواطن أو منصوب بفعل مضمر وهذا أحسن لوجهين أحدهما أن قوله إذ أعجبتكم كثرتكم مختص بحنين ولا يصح في غيره من المواطن فيضعف عطف يوم حنين على المواطن للاختلاف الذي بينهما في ذلك والآخر أن المواطن ظرف مكان ويوم حنين ظرف زمان فيضعف عطف أحدهما على الآخر إلا أن يريد بالمواطن الأوقات وحنين اسم علم لموضع عرف برجل اسمه حنين وانصرف لأنه مذكر إذ أعجبتكم كثرتكم كانوا يومئذ اثنا عشر ألفا فقال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة فأراد الله إظهار عجزهم فقر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بقي على بغلته في نفر قليل ثم استنصر بالله وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه ونادى بأصحابه فرجعوا إليه وهزم الله الكفار وقصة حنين مذكورة في السير بما رحبت أي ضاقت على كثرة اتساعها وما هنا مصدرية وأنزل جنودا لم تروها يعني الملائكة ثم يتوب الله إشارة إلى إسلام هوازن الذين قاتلوا المسلمين بحنين إنما المشركون نجس قيل إن نجاستهم بكفرهم وقيل بالجنابة فلا يقربوا المسجد الحرام نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام فأجمع العلماء على ذلك وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد فمنع جميع الكفار من جميع المساجد وجعلها الشافعي عامة في الكفار خاصة بالمسجد الحرام فمنع جميع الكفار دخول المسجد الحرام خاصة وأباح لهم دخول غيره وقصرها أبو حنيفة على موضع النص فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام خاصة وأباح لهم دخول سائر المساجد وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره بعد عامهم هذا يريد عام تسعة من الهجرة حين حج أبو بكر بالناس وقرأ

(1/457)


عليهم على سورة براءة
وإن خفتم عيلة أي فقرا كان المشركون يجلبون الأطعمة إلى مكة فخاف الناس قلة القوت بها إذ منع المشركون منها فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله فأسلمت العرب كلها وتمادى جلب الأطعمة إلى مكة ثم فتح الله سائر الأمصار قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أمر بقتال أهل الكتاب ونفى عنهم الإيمان بالله لقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى ... 269
74 المسيح ابن الله ونفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأن اعتقادهم فيه فاسد فإنهم لا يقولون بالمعاد والحساب ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله لأنهم يستحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك ولا يدينون دين الحق أي لا يدخلون في الإسلام من الذين أوتوا الكتاب بيان للذين أمر بقتالهم وحين نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك لقتال النصارى حتى يعطوا الجزية اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ويلحق بهم المجوس لقوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين وقدرها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ويؤخذ ذلك من كل رأس عن يد فيه تأويلان أحدهما دفع الذمي لها بيده لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك يدا بيد الثاني عن استسلام وانقياد كقولك ألقى فلان بيده وهم صاغرون أذلاء وقالت اليهود عزير ابن الله قال ابن عباس إن هذه المقالة قالها أربعة من اليهود وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقيل لم يقلها إلا فنحاص ونسب ذلك إلى جميعهم لأنهم متبعون لمن قالها والظاهر أن جماعتهم قالوها إذ لم ينكروها حين نسبت إليهم وكان سبب قولهم ذلك أنهم فقدوا التوراة فحفظها عزيرا وحده فعلمها لهم فقالوا ما علم الله عزيرا التوراة إلا أنه ابنه وعزير مبتدأ

(1/458)


وابن الله خبره ومنع عزير التنوين لأنه أعجمي لا ينصرف وقيل بل هو منصرف وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف وأما من نونه فجعله عربيا وقالت النصارى المسيح ابن الله قال أبو المعالي أطبقت النصارى على أن المسيح إله وابن إله وذلك كفر شنيع بأفواههم يتضمن معنيين أحدهما إلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك وإنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه هذا قول بلسانك يضاهئون قول الذين كفروا من قبل معنى يضاهئون يشابهون فإن كان الضمير لليهود والنصارى فالإشارة بقوله الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر أو للصابئين أو لأمم متقدمة وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون قاتلهم الله دعاء عليهم وقيل معناه لعنهم الله أنى يؤفكون تعجب كيف يصرفون عن الحق والصواب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي أطاعوهم كما يطاع الرب وإن كانوا لم يعبدوهم والمسيح معطوف على الأحبار والرهبان وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا أي أمرهم بذلك عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم يريدون أن يطفؤا نور الله أي يريدون أن يطفئوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عبادة الله وتوحيده بأفواههم إشارة ... 270

(1/459)


75 إلى أقوالهم كقولهم ساحر وشاعر وفيه أيضا إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا ليظهره على الدين الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أو للدين وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب وقيل ذلك عند نزول عيسى ابن مريم حتى لا يبقى إلا دين الإسلام ليأكلون أموال الناس بالباطل هو الرشا على الأحكام وغير ذلك والذين يكنزون الذهب والفضة ورد في الحديث أن كل من أديت زكاته فليس بكنز وما لم تؤد زكاته فهو كنز وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد كلما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز ولا ينفقونها الضمير للأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى وقيل هي الفضة واكتفى في ذلك عن الذهب إذ الحكم فيهما واحد يوم يحمى العامل في الظرف أليم أو محذوف عليها الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير ينفقونها اثنا عشر شهرا هي الأشهر المعروفة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة وكان الذي جعل المحرم أول شهر من العام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب الله أي في اللوح المحفوظ وقيل في القرآن والأول أرجح لقوله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ذلك الدين القيم يعني أن تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل وكانت العرب قد تمسكت به حتى غيره بعضهم فلا تظلموا فيهن أنفسكم الضمير في قوله فيهن للأشهر الحرم تعظيما لأمرها وتغليظا للذنوب فيها وإن كان الظلم ممنوعا في غيرها وقيل الضمير للإثنى عشر شهرا أو الزمان كله والأول أظهر وقاتلوا المشركين كافة أي قاتلوهم في الأشهر الحرم فهذا نسخ لتحريم القتال فيها وكافة حال من الفاعل أو المفعول إنما النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى الشهر الآخر وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم فيشق عليهم تركها فيجعلونها في شهر حرام ويحرمون شهرا آخر بدلا منه وربما أحلوا

(1/460)


المحرم وحرموا صفر حتى تكمل في العام أربعة أشهر محرمة يحلونه عاما ويحرمونه عاما أي تارة يحلون وتارة يحرمون ولم يرد العام حقيقة ليواطئوا عدة ما حرم الله أي ليوافقوا عدد الأشهر الحرم وهي أربعة فيحلوا ما حرم الله يعني إحلالهم القتال في الأشهر الحرم ما لكم إذا قيل لكم ... 271
76 انفروا ) عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك اثاقلتم إلى الأرض عبارة عن تخلفهم وأصل اثاقلتم تثاقلتم إلا تنفروا يعذبكم شرط وجزاء وهو العذاب في الدنيا والآخرة إلا تنصروه فقد نصره الله شرط وجواب والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل كيف ارتبط هذا الشرط مع جوابه فالجواب أن المعنى إن لم تنصروه أنتم فسننصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين فدل بقوله نصره الله على نصره في المستقبل إذ أخرجه الذين كفروا يعني خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة وأسند إخراجه إلى الكفار لأنهم فعلوا معه من الأذى ما اقتضى خروجه ثاني اثنين هو أبو بكر الصديق إذ يقول لصاحبه لا تحزن يعني أبا بكر إن الله معنا يعني بالنصر واللطف فأنزل الله سكينته عليه الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل لأبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل معه السكينة ويضعف ذلك بأن الضمائر بعدها للرسول عليه السلام وأيده بجنود لم تروها يعني الملائكة يوم بدر وغيره وجعل كلمة الذين كفروا السفلى يريد إذلالها ودحضها وكلمة الله هي العليا قيل هي لا إله إلا الله وقيل الدين كله انفروا خفافا وثقالا أمر بالتنفير إلى الغزو والخفة استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة والثقل من يمكنه بصعوبة وقال بعض العلماء الخفيف الغني والثقيل الفقير وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكسلان وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفة وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية لو كان عرضا قريبا

(1/461)


الآية نزلت هي وكثير مما بعدها في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة وكانت في شدة الحر وطيب الثمار والظلال فثقلت عليهم فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض من الدنيا او إلى مسافة قريبة لفعلوه بعدت عليهم الشقة أي الطريق والمسافة وسيحلفون بالله إخبار بغيب وهو أنهم يعتذرون بأعذار كاذبة يحلفون يهلكون أنفسهم أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذبة أو تخلفهم عن الغزو عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية كان بعض المنافقين قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم فعاتبه الله تعالى على إذنه له وقدم العفو على العتاب إكراما له صلى الله عليه وسلم وقيل إن قوله عفا الله عنك ليس لذنب ولا عتاب ولكنه استفتاح كلام كما يقول أصلحك الله حتي يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين كانوا قد قالوا استأذنوه في العقود فإن أذن لنا قعدنا وإن لم يأذن لنا قعدنا وإنما كان يظهر الصدق من الكذب لو لم يأذن لهم فحينئذ كان يقعد ... 272

(1/462)


77 العاصي والمنافق ويسافر المطيع لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله الآية لا يستأذنك في التخلف عن الغزو لغير عذر من يؤمن بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم أي شكت ونزلت الآية في عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ولو أرادوا الخروج الآية أي لو كانت لهم نية في الغزو والاستعداد له قبل أوانه انبعاثهم أي خروجهم فثبطهم أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل وقيل اقعدوا يحتمل أن يكون القائل لهم اقعدوا هو الله تعالى وذلك عبارة عن قضائه عليهم بالقعود ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض مع القاعدين أي مع النساء والصبيان وأهل الأعذار وفي ذلك ذم لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي شرا وفسادا ولأوضعوا أي أسرعوا السير والإيضاع سرعة السير والمعنى أنهم يسرعون للفساد والنميمة خلالكم أي بينكم يبغونكم الفتنة أي يحاولون أن يفتنوكم سماعون لهم وقيل يسمعون أخبارهم وينقلونها إليهم لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي طلبوا الفساد وروي أنها نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين وقلبوا لك الأمور أي دبروها من كل وجه فأبطل الله سعيهم ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك قال الجد بن قيس وكان من المنافقين ائذن لي في القعود ولا تفتني برؤية بني الأصفر فإني لا أصبر عن النساء ألا في الفتنة سقطوا أي وقعوا في الفتنة التي فروا منها إن تصبك حسنة تسؤهم الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل أي قد حذرنا وتأهبنا من قبل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي ما قدر وقضى وهذا رد على المنافقين قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي هل تنظرون بنا إلا إحدى أمرين إما الظفر والنصر وإما الموت في سبيل الله وكل واحد من الخصلتين حسن بعذاب من

(1/463)


عنده المصائب وما ينزل من السماء أو عذاب الآخرة أو بأيدينا يعني القتل فتربصوا تهديد قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم تضمن الأمر هنا معنى الشرط ... 273
78 فاحتاج إلى جواب والمعنى لن يتقبل منكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها والطوع والكره عموم في الإنفاق أي لن يتقبل على كل حال وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا تعليل لعدم قبول نفقاتهم بكفرهم ويحتمل أن يكون إنهم كفروا فاعل ما منعهم أو في موضع مفعول من أجله والفاعل الله إنما يريد الله ليعذبهم بها قيل العذاب في الدنيا بالمصائب وقيل ما ألزموا من أداء الزكاة وتزهق أنفسهم وهم كافرون إخبار بأنهم يموتون على الكفر ويحلفون بالله إنهم لمنكم أي من المؤمنين يفرقون يخافون لو يجدون ملجأ أي ما يلجأ إليه من المواضع أو مغارات هي الغيران في الجبال أو مدخلا وزنه مفتعل من الدخول ومعناه نفق أو سرب في الأرض يجمحون أي يسارعون ومنهم من يلمزك في الصدقات أي يعيبك على قسمتها والآية في المنافقين كالتي قبلها وبعدها وقيل في ذي الخويصرة الذي قال اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك إن لم أعدل فمن يعدل الحديث ولو أنهم رضوا الآية ترغيب لهم فيما هو خير لهم وجواب لو محذوف تقديره لكان ذلك خيرا لهم إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية إنما هنا نقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم ومذهب مالك أن تفريقها في هؤلاء الأصناف إلى اجتهاد الإمام فله أن يجعلها في بعض دون بعض ومذهب الشافعي أنه يجب أن تقسم على جميع هذه الأصناف بالسواء واختلف العلماء هل الفقير أشد حاجة من المسكين أو بالعكس فقيل هما سواء وقيل الفقير الذي يسأل الناس ويعلم حاله والمسكين ليس كذلك والعاملين عليها أي الذين يقبضونها ويفرقونها والمؤلفة قلوبهم كفار

(1/464)


يعطون ترغيبا في الإسلام وقيل هم مسلمون يعطون ليتمكن إيمانهم واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم وفي الرقاب يعني العبيد يشترون ويعتقون والغارمين يعني من عليه دين ويشترط أن يكون استدان في غير فساد ولا سرف وفي سبيل الله يعني الجهاد فيعطى منها المجاهدون ويشترى منها آلات الحرب واختلف هل تصرف في بناء الأسوار وإنشاء الأساطيل وابن السبيل هو الغريب المحتاج فريضة أي ... 274
79 حقا محدودا ونصبه على المصدرف فإن قيل لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين فالجواب أنه حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية ومنهم الذين يؤذون النبي يعني من المنافقين وإذايتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالأقوال والأفعال ويقولون هو أذن أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه ويقال إن قائل هذه المقالة هو نبيل بن الحارث وكان من مردة المنافقين وقيل عتاب بن قيس قل أذن خير لكم أي يسمع الخير والحق ويؤمن للمؤمنين أي يصدقهم يقال آمنت لك إذا صدقتك ولذلك تعدى هذا الفعل بإلى وتعدى يؤمن بالله بالباء ورحمة بالرفع عطف على أذن وبالخفض على خير يحلفون يعني المنافقين والله ورسوله أحق أن يرضوه تقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فهما جملتان حذف الضمير من الثانية لدلالة الأولى عليها وقيل إنما وحد الضمير لأن رضا الله ورسوله واحد . من يحادد الله يعني من يعادي ويخالف فإن له إن هنا مكررة تأكيدا للأولى وقيل بدل منها وقيل التقدير فواجب أن له فهي في موضع خبر مبتدأ محذوف يحذر المنافقون أن تنزل عليهم يعني في شأنهم سورة على النبي صلى الله عليه وسلم والضمائر في عليهم وتنبئهم وقلوبهم تعود على المنافقين وقال الزمخشري إن الضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين وفي قلوبهم للمنافقين والأول أظهر قل استهزؤا

(1/465)


تهديد إن الله مخرج ما تحذرون صنع ذلك بهم في هذه السورة لأنها فضحتهم إنما كنا نخوض ونلعب نزلت في وديعة بن ثابت بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا يريد أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات فسأله عن ذلك فقال إنما كنا نخوض ونلعب إن نعف عن طائفة منكم كان رجل منهم اسمه مخشن تاب ومات شهيدا بعضهم من بعض نفي لأن يكونوا من المؤمنين ويقبضون أيديهم كناية عن البخل نسوا الله أي غفلوا عن ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله وعد الله المنافقين الأصل في الشر أن يقال أوعد وإنما يقال فيه وعد إذا صرح بالشر والكفار يعني المجاهرين بالكفر كالذين من قبلكم خطاب للمنافقين والكاف في موضع نصب والتقدير فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم أو في موضع خبر مبتدأ تقديره أنتم كالذين ... 275

(1/466)


80 من قبلكم وخضتم أي خلطتم وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يقال إلا في الباطل من الكلام كالذي خاضوا تقديره كالخوض الذي خاضوا أو قيل كالذين خاضوا فالذي هنا على هذا بمعنى الجميع ألم يأتهم الاية تهديد لهم بما اصاب الأمم المتقدمة والمؤتفكات يعني مدائن قوم لوط بالبينات أي بالمعجزات بعضهم أولياء بعض في مقابلة قوله المنافقون بعضهم من بعض ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية جنات عدن قيل عدن هي مدينة الجنة وأعظمها وقال الزمخشري هو اسم علم ورضوان من الله أكبر أي رضوان من الله أكبر من كل ما ذكر وذلك معنى ما ذكر في الحديث إن الله تعالى يقول لأهل الجنة أتريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا ربنا أي شيء تزيدنا فيقول رضواني فلا أسخط عليكم أبدا جاهد الكفار والمنافقين جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان ما لم يظهر ما يدل على كفرهم فإن ظهر منهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق وقد اختلف هل يقتل أم لا واغلظ عليهم الغلظة ضد الرحمة والرأفة وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك يحلفون بالله ما قالوا نزلت في الجلاس بن سويد فإنه قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه فحلف أنه ما قاله ولقد قالوا كلمة الكفر يعني ما تقدم من قول الجلاس لأن ذلك يقتضي التكذيب وكفروا بعد إسلامهم لم يقل بعد إيمانهم لأنهم كانوا يقولون بألسنتهم آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم وهموا بما لم ينالوا هم الجلاس بقتل من بلغ تلك الكلمة عنه وقيل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول وكلمة الكفر التي قالها قوله سمن كلبك يأكلك وهمه بما لم يناله قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وما نقموا إلا أن أغناهم الله أي ما عابوا إلا الغنى الذي كان حقه أن يشكروا عليه وذلك في الجلاس أو في عبد

(1/467)


الله بن أبي فإن يتوبوا فتح الله لهم باب التوبة فتاب ... 276
81 الجلاس وحسن حاله ومنهم من عاهد الله الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب وذلك أنه قال يا رسول الله ادع الله أن يكثر مالي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه فأعاد عليه حتى دعا له فكثر ماله فتشاغل به حتى ترك الصلوات ثم امتنع من أداء الزكاة فنزلت فيه الآية فجاء بزكاته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ولم يأخذها منه وقال إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك ثم لم يأخذها منه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان بخلوا به إشارة إلى منعه الزكاة فأعقبهم نفاقا عقوبة على العصيان بما هو أشد منه إلى يوم يلقونه حكم بوفاته على النفاق الذين يلمزون المطوعين نزلت في المنافقين حين تصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقالوا ما هذا إلا رياء وأصل المطوعين المتطوعين والمراد به هنا من تصدق بكثير والذين لا يجدون إلا جهدهم هم الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به نزلت في أبي عقيل تصدق بصاع من تمر فقال المنافقون إن الله غني عن صدقة هذا فيسخرون منهم أي يستخفون بهم سخر الله منهم تسمية للعقوبة بإسم الذنب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم يحتمل معنيين أحدهما أن يكون لفظه أمر ومعناه الشرط ومعناه إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) كما جاء في سورة المنافقين والآخر أن يكون تخيير كأنه قال إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم ثم أعلمه الله أنه لا يغفر لهم وهذا أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله خيرني فاخترت وذلك حين قال عمر أتصلي على عبد الله بن أبي وقد نهاك الله عن الصلاة عليه سبعين مرة ذكرها على وجه التمثيل للعدد الكثير فرح المخلفون أي الذين خلفهم الله عن بدر وأقعدهم عنه وفي هذا تحقير وذم لهم ولذلك لم يقل المتخلفون بمقعدهم أي بقعودهم خلاف

(1/468)


رسول الله أي بعده حين خرج إلى تبوك فخلاف على هذا ظرف وقيل هو مصدر من خلف فهو على هذا مفعول من أجله وقالوا لا تنفروا في الحر قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا أمر بمعنى الخبر فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها وبكاؤهم الكثير في الآخرة وقيل هو بمعنى الأمر أي يجب أن يكونوا يضحكون قليلا ويبكون كثيرا ... 277
82 في الدنيا لما وقعوا فيه إلى طائفة منهم إنما لم يقل إليهم لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف لن تخرجوا معي أبدا عقوبة لهم فيها خزي وتوبيخ أول مرة يعني في غزوة تبوك فاقعدوا مع الخالفين أي مع القاعدين وهم النساء والصبيان ولا تصل على أحد منهم مات أبدا نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حين مات وروي أنه صلى عليه فنزلت الآية وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه وإذا أنزلت سورة قيل يعني براءة والأرجح أنه على الإطلاق أن آمنوا أن هنا مفسرة استأذنك أولو الطول منهم أي أولوا الغنى والمال الكثير لكن الرسول الآية أي إن تخلف هؤلاء فقد جاهد الرسول ومن معه الخيرات تعم منافع الدارين وقيل هي الحور العين لقوله خيرات حسان وجاء المعذرون هم المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين وقيل هم المقصرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه ولم يجد فوزنه على هذا المفعلون وروي أنها نزلت في قوم من غفار وقعد الذين كذبوا الله ورسوله هم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم فكذبوا في دعواهم الإيمان سيصيب الذين كفروا منهم أي من المعذرين ليس على

(1/469)


الضعفاء ولا على المرضى هذا رفع للحرج عن أهل الأعذار الصحيحة من ضعف البدن والفقر إذا تركوا الغزو وقيل إن الضعفاء هنا هم النساء والصبيان وهذا بعيد ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون قيل نزلت في بني مقرن وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في عبد الله بن مغفل المزني إذا نصحوا لله يعني بنياتهم واقوالهم وإن لم يخرجوا ... 278
83 للغزو ما على المحسنين من سبيل وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قيل هم بنو مقرن وقيل ابن مغفل وقيل سبعة نفر من بطون شتى وهم البكاؤن ومعنى لتحملهم على الإبل وجواب إذا يحتمل أن يكون قلت لا أجد ما أحملكم أو تولوا إذا رجعتم يعني من غزوة تبوك لن نؤمن لكم لن نصدقكم من أخباركم نعت لمحذوف وهو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جملة من أخباركم الأعراب أشد كفرا ونفاقا هم أهل البوادي من العرب وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله يعني أنهم أحق أن لا يعلموا الشرائع لبعدهم عن الحاضرة ومجالس العلم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقل المغرم الذي ليس بحق عليه ويتربص بكم الدوائر أي ينتظر بكم مصائب الدنيا عليهم دائرة السوء خبر أو دعاء وصلوات الرسول أي دعواته لهم وهو عطف على قربات أي يقصدون بنفقاتهم التقرب إلى الله واغتنام دعاء الرسول لهم وقيل نزلت في بني مقرن والسابقون الأولون قيل هم من صلى للقبلتين وقيل من شهد بدرا وقيل من حضر بيعة الرضوان والذين اتبعوه سائر الصحابة ويدخل في ذلك التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة بشرط الإحسان مردوا على النفاق أي اجترؤا عليه وقيل أقاموا عليه سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم العذاب العظيم هو عذاب النار وأما المرتان قبله فالثانية منهما عذاب

(1/470)


القبر والأولى عذابهم بإقامة الحدود عليهم وقيل بفضيحتهم بالنفاق وآخرون ... 279
84 اعترفوا بذنوبهم ) الاية قيل إنها نزلت في أبي لبابة فعمله الصالح الجهاد وعمله السيء نصيحته لبني قريظة وقيل هو لمن تخلف عن تبوك من المؤمنين فعملهم الصالح ما سبق لهم وعملهم السيء تخلفهم عن تبوك وروي أنهم ربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد وقالوا لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هي عامة في الأمة إلى يوم القيامة قال بعضهم ما في القرآن آية ارجى لهذه امة من هذه الآية خذ من أموالهم صدقة قيل نزلت في المتخلفين الذين ربطوا أنفسهم لما تاب الله عليهم قالوا يا رسول الله إنا نريد أن نتصدق بأموالنا فنزلت هذه الآية وأخذ ثلث أموالهم وقيل هي الزكاة المفروضة فالضمير على العموم لجميع المسلمين تطهرهم وتزكيهم بها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في موضع صفة لصدقة أو حال من الضمير في خذ وصل عليهم أي ادع لم سكن لهم أي تسكن به نفوسهم فهو عبارة عن صحة الاعتقاد او عن طمأنينة نفوسهم إذا علموا ان الله تاب عليهم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده الضمير في يعلموا للتائبين من التخلف وقيل للذين تخلفوا ولم يتوبوا وقيل عام وفائدة الضمير المؤكد تخصيص الله تعالى بقبول التوبة دون غيره ويأخذ الصدقات قيل معناه يأمر بها وقيل يقبلها من عباده وآخرون مرجون لأمر الله قيل هم الثلاثة الذين خلفوا قبل أن يتوب الله عليهم وقيل هم الذين بنوا مسجدا الضرار وقرئ مرجئون بالهمز وتركه وهما لغتان ومعناه التأخير والذين اتخذوا مسجدا قرئ الذين بغير واو صفة لقوله وآخرون مرجون أو على تقديرهم الذين وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجون لأمر الله هم أهل مسجد الضرار وقرئ والذين بالواو عطف على آخرون مرجون وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجئين أنهم الثلاثة الذين خلفوا ضرارا وكفرا

(1/471)


كانوا بنو عمرو بن عوف من الأنصار وقد بنوا مسجد قباء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه فحسدهم على ذلك قومهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف فبنوا مسجدا آخر مجاورا له ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قباء وذلك هو الضرار الذي قصدوا وسألوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي لهم فيه فنزلت عليه فيه هذه الاية وتفريقا بين المؤمنين أرادوا أن يتفرق المؤمنون عن مسجد قباء وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل أي انتظارا لمن حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وكان من أهل المدينة فلما قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهد بالكفر والنفاق ثم خرج إلى مكة ... 280

(1/472)


85 فحزب الأحزاب من المشركين فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف فلما اسلم أهل الطائف خرج إلى الشام ليستنصر بقيصر فهلك هناك وكان أهل مسجد الضرار يقولون إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد والإشارة بقوله من قبل إلى ما فعل معه الأحزاب وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى أي الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله فأكذبهم الله في ذلك لا تقم فيه أبدا نهي عن إتيانه والصلاة فيه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بطريقه لمسجد أسس على التقوى قيل هو مسجد قباء وقيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه رجال يحبون أن يتطهروا كانوا يستنجون بالماء ونزلت في الأنصار على قول من قال إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد المدينة ونزلت في بني عمرو بن عوف خاصة على قول من قال إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار الآية استفهام بمعنى التقرير والذي أسس على التقوى والرضوان مسجد المدينة أو مسجد قباء والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار وتأسيس البناء على التقوى والرضوان هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله وإظهار شرعه والتأسيس على شفار جرف هار هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع ومعنى شفا جرف طرفه ومعنى هار ساقط أو واهي بحيث أشفى على السقوط واصل هار هائر فهو من المقلوب لأن لامه جعلت في موضع العين فانهار به في نار جهنم أي طاح في جهنم وهذا ترشيح للمجاز فإنه لما شبه بالجرف وصف بالانهيار الذي هو من شأن الجرف وقيل إن ذلك حقيقة وأنه سقط في نار جهنم وخرج الدخان من موضعه والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهدمه فهدم لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار ريبة

(1/473)


من بنيانه أي شك في الإسلام بسبب بنيانه لاعتقادهم صواب فعلهم أو غيظ بسبب هدمه إلا أن تقطع قلوبهم أي إلا أن يموتوا إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم قيل إنها نزلت في بيعة العقبة وحكمها عام في كل مؤمن مجاهد في سبيل الله إلى يوم القيامة قال بعضهم ما اكرم الله فإن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقها ثم وهبها لنا ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي فإنها لصفقة رابحة يقاتلون في سبيل الله جملة في موضع الحال بيان للشراء فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به قال بعضهم ناهيك عن بيع البائع فيه ... 281

(1/474)


86 رب العلا والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم التائبون وما بعده اوصاف للمؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم تقديره التائبون السائحون قيل معناه الصائمون ويقال ساح في الأرض أي ذهب ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين نزلت في شأن أبي طالب فإنه لما امتنع أن يقول لا إله إلا الله عند موته قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية وقيل إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة المعنى لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم وهو قوله سأستغفر لك ربي فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قيل تبين له ذلك بموت أبيه على الكفر وقيل لأنه نهى عن الاستغفار له لأواه قيل كثير الدعاء وقيل موقن وقيل فقيه وقيل كثير الذكر لله وقيل كثير التأوه من خوف الله وما كان الله ليضل قوما الاية نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيسا لهم أي ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكم المنع من ذلك في ساعة العسرة يعني حين محاولة غزوة تبوك والساعة هنا بمعنى الحين والوقت وإن كان مدة والعسرة الشدة وضيق الحال من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم يعني تزيغ عن الثبات على الإيمان أو عن الخروج في تلك الغزوة لما رأوا من الضيق والمشقة وفي كاد ضمير الأمر والشأن أو ترتفع بها القلوب ثم تاب عليهم يعني على هذا الفريق أي رجع بهم عما كادوا يقعون فيه وعلى الثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ومن غير نفاق

(1/475)


ولا قصد للمخالفة فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم وأمر أن لا يكلمهم أحد وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم فبقوا على ذلك مدة إلى أن أنزل الله توبتهم وقد روي حديثهم في البخاري ومسلم والسير ومعنى خلفوا هنا أي عن الغزوة وقال كعب بن مالك معناه ... 282
87 خلفوا عن قبول الضر وليس بالتخلف عن الغزو يقوي ذلك كونه جعل إذا ضاقت غاية للتخلف ضاقت عليهم الأرض عبارة عما أصابهم من الغم والخوف من الله ثم تاب عليهم ليتوبوا أي رجع بهم ليستقيموا على التوبة وكونوا مع الصادقين يحتمل أن يريد صدق اللسان إذا كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب فنفعهم الله بذلك ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم والمراد بالصادقين المهاجرون لقول الله في الحشر للفقراء المهاجرين إلى قوله هم الصادقون وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة فقال نحن الصادقون وقد أمركم الله أن تكونوا معنا أي تابعين لنا ما كان لأهل المدينة الآية عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك من أهل يثرب ومن جاورها من قبائل العرب ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي لا يمتنعوا من اقتحام المشقات التي تحملها هو صلى الله عليه وسلم ذلك بأنهم لا يصيبهم تعليل لما يجب من عدم التخلف ظمأ أي عطش ولا نصب أي تعب ولا مخمصة أي جوع ولا يطؤون أي بأرجلهم أو بدوابهم ولا ينالون من عدو نيلا عموم في كل ما يصيب الكفار وما كان المؤمنون لينفروا كافة قال ابن عباس هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم وهذه في السرايا التي كان يبعثها وقيل هي ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج

(1/476)


الجميع فهو دليل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين وقيل هي في طلب العلم ومعناها أنه لا تجب الرحلة في طلب العلم على الجميع بل على البعض لأنه فرض كفاية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة تحضيض على نفر بعض المؤمنين للجهاد أو لطلب العلم ليتفقهوا في الدين إن قلنا إن الآية في الخروج إلى طلب العلم فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تنفر أي ترحل وكذلك الضمير في ينذروا وفي رجعوا أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرحلة وإن قلنا إن الآية في السرايا فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تقعد في المدينة ولا تخرج مع السرايا وأما الضمير في رجعوا فهو للفرقة التي خرجت مع السرايا لعلهم يحذرون الضمير للقوم قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أمر بقتال الأقرب فالأقرب على تدريج وقيل إنها إشارة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا أقرب الكفار إلى أرض العرب وكانت أرض العرب قد ... 283

(1/477)


88 عمها الإسلام وكانت العراق حينئذ بعيدة وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا أي من المنافقين من يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه إيمانا على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون أي عجب في هذا وأي دليل في هذا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم المرض عبارة عن الشك والنفاق والمعنى زادتهم رجسا إلى رجسهم أو زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم يفتنون في كل عام قيل يفتنون أي يختبرون بالأمراض والجوع وقيل بالأمر بالجهاد واختار ابن عطية أن يكون المعنى يفضحون بما يكشف من سرائرهم نظر بعضهم إلى بعض أي تغامزوا وأشار بعضهم إلى بعض على وجه الاستخفاف بالقرآن ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد كأن سبب خوفهم أن ينقل عنهم ذلك وقيل معنى نظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجب مما ينزل في القرآن من كشف أسرارهم ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد أي هل رأى أحوالكم فنقلها عنكم أو علمت من غير نقل فهذا أيضا على وجه التعجب ثم انصرفوا يحتمل أن يراد الانصراف بالأبدان أو الانصراف بالقلوب عن الهدى صرف الله قلوبهم دعاء أو خبر بأنهم قوم لا يفقهون تعليل لصرف قلوبهم لقد جاءكم رسول من انفسكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب للعرب أو لقريش خاصة أي من قبيلتكم حيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته أو لبني آدم كلهم أي من جنسكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم عزيز عليه ما عنتم أي يشق عليه عنتكم والعنت هو ما يضرهم في دينهم أو دنياهم وعزيز صفة للرسول وما عنتم فاعل بعزيز وما مصدرية أو ما عنتم مصدر وعزيز خبر مقدم والجملة في موضع الصفة حريص عليكم أي حريص على إيمانكم وسعادتكم بالمؤمنين رؤف رحيم سماه الله هنا باسمين من أسمائيه فإن تولوا فقل حسبي الله

(1/478)


أي إن أعرضوا عن الإيمان فاستعن بالله وتوكل عليه وقيل إن هاتين الآيتين نزلتا بمكة ... 284
89 سورة يونس عليه السلام الر تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء التي في أوائل السور تلك آيات الكتاب إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب هنا القرآن الحكيم من الحكمة أو من الحكم أو من الأحكام للأمر أي أحكمه الله أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس الهمزة للإنكار وعجبا خبر كان وأن أوحينا اسمها وأن أنذر تفسير للوحي والمراد بالناس هنا كفار قريش وغيرهم وإلى رجل هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية الرد على من استبعد النبوة أو تعجب من أن يبعث الله رجلا قدم صدق أي عمل صالح فرموه وقال ابن عباس السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ قال الكافرون إن هذا لسحر مبين يعنون ما جاء به من القرآن وقرئ لساحر يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسير لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوة ويكون خبرا مستأنفا إن ربكم الله تعريف بالله وصفاته ليعبدوه ولا يشركوا به وفيه رد على من أنكر النبوة كأنه يقول إنما أدعوكم إلى عبادة ربكم الذي خلق السموات والأرض فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين ما من شفيع إلا من بعد إذنه أي ما يشفع إليه أحد إلا بعد أن يأذن هو له في الشفاعة وفي هذا رد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وعد الله حقا نصب وعد على المصدر المذكور المؤكد للرجوع إلى الله ونصب حقا على المصدر المؤكد لوعد الله إنه يبدأ الخلق ثم يعيده أي يبدؤه في الدنيا ويعيده بعد الموت في الآخرة والبداءة دليل على العودة ليجزي تعليل للعودة وهي البعثة بالقسط أي بعدله في جزائهم او بقسطهم في أعمالهم الصالحة هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وصف أفعال الله وقدرته وحكمته والضياء أعظم من النور وقدره منازل الضمير

(1/479)


للقمر والمعنى قدر سيره في منازل والحساب يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي ما خلق الله ذلك إلا بالحق أي ... 285
90 ما خلقه عبثا والإشارة بذلك إلى ما تقدم من المخلوقات إن الذين لا يرجون لقاءنا قيل معنى يرجون هنا يخافون وقيل لا يرجون حسن لقاءنا فالرجاء على أصله وقيل لا يرجون لا يتوقعون أصلا ولا يخطر ببالهم ورضوا بالحياة الدنيا أي قنعوا أن تكون حظهم ونصيبهم واطمأنوا بها أي سكنت أنفسهم عن ذكر الانتقال عنها والذين هم عن آياتنا غافلون يحتمل أن تكون هي الفرقة الأولى فيكون من عطف الصفات أو تكون غيرها يهديهم ربهم بإيمانهم أي يسددهم بسبب إيمانهم إلى الاستقامة أو يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة وهو أرجح لما بعده دعواهم فيها أي دعاؤهم
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم أي لو يعجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ونزلت الآية عند قوم في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده وقيل نزلت في الذين قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء وإذا مس الإنسان الضر دعانا عتاب في ضمنه نهي لمن يدعو الله عند الضر ويغفل عنه عند العافية لجنبه أي مضطجعاوروي انها نزلت في ابي حذيفة بن المغيرة لمرض كان به ولقد أهلكنا القرون إخبار ضمنه وعيد للكفار لننظر معناه ليظهر في الوجود فتقوم عليكم الحجة به وإذا تتلى عليهم يعني على قريش قل لو شاء الله ما تلوته عليكم أي ما تلوته إلا بمشيئة الله لأنه من عنده وما هو من عندي ولا أدراكم به أي ولا اعلمكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أي بقيت بينكم اربعين سنة قبل البعث ما تكلمت في هذا حتى جاءني من عند الله فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ... 286

(1/480)


91 تنصل من الافتراء على الله وبيان لبراءته صلى الله عليه وسلم مما نسبوه إليه من الكذب وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له أو كذب بآياته بيان لظلمهم في تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم الضمير في يعبدون لكفار العرب وما لا يضرهم ولا ينفعهم هي الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم قل أتنبؤن الله بما لا يعلم رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام والمعنى أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السموات والأرض وكل ما ليس بمعلوم لله فهو عدم محض ليس بشيء فقوله أتنبئون الله تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم أي كيف تعلمون الله بما لا يعلم وما كان الناس إلا أمة واحدة تقدم في البقرة في قوله كان الناس أمة واحدة ولولا كلمة سبقت يعني القضاء ويقولون لولا أنزل عليه آية كانوا يطلبون آية من الآيات التي اقترحوها ولقد نزل عليه آيات عظام فما اعتدوا بها لعنادهم وشدة ضلالهم قل إنما الغيب لله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على ذلك أحد فانتظروا أي انتظروا نزول ما اقترحتموه
إني معكم من المنتظرين أي منتظر لعقابكم على كفركم وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء هذه الآية في الكفار وتضمنت النهي لمن كان كذلك من غيرهم والمكر هنا الطعن في آيات الله وترك شكره ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكرا مشاكلة لفعلهم وتسمية للعقوبة باسم الذنب وجرين بهم الضمير المؤنث في جرين للفلك والضمير في بهم للناس وفيه الخروج من الخطاب إلى الغيبة وهو يسمى الالتفات وجواب إذا كنتم قوله جاءتها ريح عاصف وقوله دعوا الله قال الزمخشري هو بدل من ظنوا ومعناه دعوا الله وحده وكفروا بمن دونه متاع الحياة الدنيا رفع على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره وذلك ... 287

(1/481)


92 متاع أو يكون خبر إنما بغيكم ويختلف الوقف باختلاف الإعراب إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء معنى الآية تحقير الدنيا وبيان سرعة فنائها وشبهها بالمطر الذي يخرج به النبات ثم تصيب ذلك النبات آفة عند حسنه وكماله مما يأكل الناس كالزرع والفواكه والأنعام يعني المرعى التي ترعاها من العشب وغيره أخذت الأرض زخرفها تمثيل بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب قادرون عليها أي متمكنون من الانتفاع بها أتاها أمرنا أي بعض الجوائح كالريح والصر وغير ذلك فجعلناه حصيدا ) أي جعلنا زرعها كالذي حصد وإن كان لم يحصد كأن لم تغن كأن لم تنعم والله يدعوا إلى دار السلام إلى الجنة وسميت دار السلام أي دار السلامة من العناء والتعب وقيل السلام هنا اسم الله أي يدعو إلى داره ويهدي من يشاء ذكر الدعوة إلى الجنة عامة مطلقة والهدايا خاصة بمن يشاء للذين أحسنوا الحسنى وزيادة الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله وقيل الحسنى جزاء الحسنة بعشر أمثالها والزيادة التضعيف فوق ذلك إلى سبعمائة والأول أصح لوروده في الحديث وكثرة القائلين به قتر أي غبار يغير الوجه والذين كسبوا السيئات مبتدأ على حذف مضاف تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو على تقدير لهم جزاء سيئة بمثلها أو معطوفا على الذين أحسنوا ويكون جزاء سيئة مبتدأ وخبره بمثلها ما لهم من الله من عاصم أي لا يعصمهم أحد من عذاب الله قطعا من الليل مظلما من قرأ بفتح الطاء فهو جمع قطعة وإعراب مظلما على هذه القراءة حال من الليل ومن قرأ قطعا بإسكان الطاء فمظلما صفة له أو حال من الليل مكانكم تقديره الزموا مكانكم أي لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم فزيلنا بينهم أي فرقنا تبلو كل نفس ما أسلفت أي تختبر بما قدمت من الأعمال وقرئ تتلو بتاءين بمعنى تتبع أو تقرأه في المصاحف قل من يرزقكم

(1/482)


الآية احتجاج على الكفار بحجج كثيرة واضحة ... 288
93 لا محيص لهم عن الإقرار بها يخرج الحي من الميت مذكور في آل عمران ربكم الحق أي الثابت الربوبية بخلاف ما تعبدون من دونه فماذا بعد الحق إلا الضلال أي عبادة غير الله ضلال بعد وضوح الحق وتدل الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات إذ الحق فيها في طرف واحد بخلاف مسائل الفروع كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا المعنى كما حق الحق في الاعتقادات كذلك حقت كلمة ربك على الذين عتوا وتمردوا في كفرهم أنهم لا يؤمنون والكلمات يراد بها القدر والقضاء قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده الآية احتجاج على الكفار فإن قيل كيف يحتج عليهم بإعادة الخلق وهم لا يعترفون بها فالجواب أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة وفي ذلك إبطال لربوبيتهم وأيضا فوضعت الإعادة موضع المتفق عليه لظهور برهانها أمن لا يهدي بتشديد الدال معناه لا يهتدي في نفسه فكيف يهدي غيره وقرئ بالتخفيف بمعني يهدي غيره والقراءة الأولى أبلغ في الاحتجاج فما لكم ما استفهامية معناها تقرير وتوبيخ ولكم خبرها ويوقف عليه كيف تحكمون أي تحكمون بالباطل في عبادتكم لغير الله
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا أي غير تحقيق لأنه لا يستند إلى برهان إن الظن لا يغني من الحق شيئا ذلك في الاعتقادات إذ المطلوب فيها اليقين بخلاف الفروع تصديق الذي بين يديه مذكور في البقرة أم يقولون أم هنا بمعنى بل والهمزة فأتوا بسورة تعجيز لهم وإقامة حجة عليهم من استطعتم يعني من شركائكم وغيرهم من الجن والإنس من دون الله أي غير الله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه أي سارعوا إلى التكذيب بما لم يفهموه ولم يعلموا تفسيره ولما يأتهم تأويله أي علم تأويله ويعني بتأويله الوعيد الذي لهم فيه ومنهم من يؤمن به الآية فيها قولان

(1/483)


أحدهما إخبار بما يكون منهم في المستقبل وأن بعضهم يؤمن وبعضهم يتمادى على الكفر والآخر أنها إخبار عن حالهم أن منهم من هو مؤمن به ويكتم إيمانه ومنهم من هو مكذب فقل لي عملي الآية موادعة منسوخة بالقتال من يستمعون إليك ... 289
94 أي يستمعون القرآن وجمع الضمير بالحمل على معنى من أفأنت تسمع الصم المعنى أتريد أن تسمع الصم وذلك لا يكون لا سيما إذا انضاف إلى الصمم عدم العقل أفأنت تهدي العمى المعنى أتريد ان تهدي العمي وذلك لا يكون لا سيما إذا انضاف إلى عدم البصر عمى البصرة والصمم والعمي عبارة عن قلة فهمهم لم يلبثوا إلا ساعة تقليل لمدة بقائهم في الدنيا أو في القبور ويتعارفون بينهم يعني يوم الحشر فهو على هذا حال من الضمير في يلبثوا وإما نرينك شرط جوابه وإلينا مرجعهم والمعنى إن أريناك بعض عذابهم في الدنيا فذلك وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد ذكرت ثم لترتب الأخبار لا لترتيب الأمر قاله ابن عطية وقال الزمخشري ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب فالترتيب على هذا صحيح فإذا جاء رسولهم قيل مجيئه في الآخرة للفصل وقيل مجيئه في الدنيا وهو بعثه ويقولون متى هذا الوعد كلام فيه استبعاد واستخفاف بياتا أي بالليل ماذا يستعجل منه المجرمون المعنى أي شيء يستعجلون من العذاب وهو ما لا طاقة لكم به وقوله ماذا جواب إن أتاكم والجملة متعلقة بأرأيتم أثم إذا ما وقع آمنتم به دخلت همزة التقرير على ثم العاطفة والمعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به الآن وذلك لا ينفعكم لأنكم كنتم تستعجلونه ومكذبين به ويستنبئونك أحق هو أي يسألونك هل الوعيد حق أو هل الشرع والدين حق والأول أرجح لقوله وما أنتم بمعجزين أي لا تفوتون من الوعيد قل إي أي نعم ظلمت صفة لنفس أي لو ملك الظالم الدنيا لاافتدى بها من عذاب الآخرة وأسروا الندامة أي أخفوها ... 290

(1/484)


95 في نفوسهم وقيل اظهروها موعظة من ربكم يعني القرآن وشفاء لما في الصدور أي يشفي ما فيها من الجهل والشك قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا يتعلق بفضل بقوله فليفرحوا وكرر الباء في قوله فبذلك تأكيدا والمعنى الأمر أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته لا بغيرهما والفضل والرحمة عموم وقد قيل الفضل الإسلام والرحمة القرآن هو خير مما يجمعون أي فضل الله ورحمته خير ممايجمعون من حطام الدنيا
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية مخاطبة لكفار العرب الذين حرموا البحيرة والسائبة وغير ذلك قل آلله أذن لكم متعلق بأرأيتم وكرر قل للتأكيد ولما قسم الأمر إلى إذن الله لهم وافترائهم ثبت افتراؤهم لأنهم معترفون أن الله لم يأذن لهم في ذلك وما ظن وعيد للذين يفترون يوم القيامة ظرف منصوب بالظن والمعنى أي شيء يظنون أن يفعل بهم في ذلك اليوم وما تكون في شأن الشأن الأمر والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق ولذلك قال في آخرها وما تعلمون من عمل بمخاطبة الجماعة ومعنى الآية إحاطة علم الله بكل شيء وما تتلوا منه من قرآن الضمير عائد على القرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه كأنه قال ما تتلوا شيئا من القرآن وقيل يعود على الشأن والأول أرجح لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء إذ تفيضون فيه يقال أفاض الرجل في الأمر إذا أخذ فيه بجد وما يعزب ما يغيب مثقال ذرة وزنها والذرة صغار النمل قال الزمخشري إن قلت لم قدمت الأرض على السماء بخلاف سورة سبأ فالجواب أن السماء تقدمت في سبأ لأن حقها التقديم وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر من قرأهما بالفتح فهو عطف على لفظ مثقال ومن قرأهما بالرفع فهو عطف على موضعه أو رفع بالابتداء أولياء الله اختلف الناس في معنى الولي اختلافا كثيرا والحق فيه ما فسره الله بعد هذا بقوله الذين

(1/485)


آمنوا وكانوا يتقون فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو الولي وإعراب الذين آمنوا صفة للأولياء أو منصوب على التخصيص أو مرفوع بإضمارهم الذين ولا يكون ابتداء مستأنفا لئلا ينقطع مما قبله لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة أما بشرى الآخرة فهي الجنة اتفاقا وأما بشرى الدنيا فهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل محبة الناس للرجل الصالح وقيل ما بشر به في القرآن من الثواب لا تبديل لكلمات الله ... 291

(1/486)


96 أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده وقد استدل ابن عمر على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدله ولا يحزنك قولهم يعني ما يقوله الكفار من التكذيب إن العزة لله إخبار في ضمنه وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر وتسلية له وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن فيها وجهان أحدهما أن تكون ما نافية وأوجبت بقوله إلا الظن وكرر إن يتبعون توكيدا والمعنى ما يتبع الكفار إلا الظن والوجه الثاني أن تكون ما استفهامية ويتم الكلام عند قوله شركاء والمعنى أي شيء يتبعون على وجه التحقير لما يتبعونه ثم ابتدأ الإخبار بقوله إن يتبعون إلا الظن والعامل في شركاء على الوجهين يدعون لتسكنوا فيه من السكون وهو ضد الحركة والنهار مبصرا أي مضيئا تبصرون فيه الأشياء قالوا اتخذ الله ولدا الضمير للنصارى ولمن قال إن الملائكة بنات الله هو الغني وصف يقتضي نفي الولد والرد على من نسبه إليه لأن الغني المطلق لا يفتقر إلى اتخاذ ولد له ما في السموات وما في الأرض بيان وتأكيد للغني وباقي الآية توبيخ للكفار ووعيد لهم متاع في الدنيا تقديره لهم متاع في الدنيا نوح روي أن اسمه عبد الغفار وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه من خوف الله كبر عليكم أي صعب وشق مقامي أي قيامي لوعظكم والكلام معكم وقيل معناه مكاني يعني نفسه كقولك فعلت ذلك لمكان فلان فأجمعوا بقطع الهمزة من أجمع الأمر إذا عزم عليه وقرئ بألف وصل من الجمع وشركاؤكم أي ما تعبدون من دون الله وإعرابه مفعول معه أو مفعول بفعل مضمر تقديره ادعوا شركاءكم وهذا على القراءة بقطع الهمزة وأما على الوصل فهو معطوف ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي لا يكون قصدكم إلى هلاكي مستورا ولكن مكشوفا تجاهرونني به وهو من قولك غم الهلال إذا لم يظهر والمراد بقوله أمركم في الموضعين إهلاككم لنوح عليه السلام أي لا تقصروا في إهلاكي إن

(1/487)


قدرتم على ذلك ثم اقضوا إلى أي انفذوا فيما تريدون ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه إن صعب عليكم دعائي لكم إلى الله فاصنعوا بي غاية ما تريدون وإني لا أبالي بكم لتوكلي ... 292
97 على الله وثقتي به سبحانه وجعلناهم خلائف أي يتخلفون من هلك بالغرق ثم بعثنا من بعده رسلا يعني هودا وصالحا وإبراهيم وغيرهم أسحر هذا قيل إنه معمول أتقولون فهو من كلام قوم فرعون وهذا ضعيف لأنهم كانوا يصممون على أنه سحر لقولهم إن هذا لسحر مبين فكيف يستفهمون عنه وقيل إنه من كلام موسى تقريرا وتوبيخا لهم فيوقف على قوله أتقولون للحق لما جاءكم ويكون معمول أتقولون محذوف تقديره أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر ويدل على هذا المحذوف ما حكى عنهم من قولهم إن هذا لسحر مبين فلما تم الكلام ابتدأ موسى توبيخهم بقوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون وهذا هو اختيار شيخنا الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير رحمه الله لتلفتنا أي لتصرفنا وتردنا عن دين آبائنا وتكون لكما الكبرياء أي الملك والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام ما جئتم به السحر ما موصولة مرفوعة بالابتداء والسحر الخبر وقرئ آلسحر بالاستفهام فما على هذا استفهامية والسحر خبر ابتداء مضمر ويحق الله الحق يحتمل أن يكون من كلام موسى أو إخبار من الله تعالى فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه الضمير عائد على موسى ومعنى الذرية شبان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوف من فرعون وقيل إن الضمير عائد على فرعون فالذرية على هذا من قوم فرعون وروي في هذا أنها امرأة فرعون وخازنته وامرأة خازنة وهذا بعيد لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور على خوف من فرعون وملئهم الضمير يعود على الذرية أي آمنت الذرية من بني إسرائيل على خوف من فرعون وملإ من بني إسرائيل لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفا من فرعون

(1/488)


وقيل يعود على فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له أن يفتنهم بدل من فرعون لعال في الأرض أي ... 293
98 متكبر قاهر ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي لا تمكنهم من عذابنا فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما عذبناهم فيفتنون بذلك أن تبؤآ لقومكما بمصر بيوتا أي اتخذ لهم بيوتا للصلاة والعبادة وقيل إنه أراد الإسكندرية واجعلوا بيوتكم قبلة أي مساجد وقيل موجهة إلى جهة القبلة فإن قيل لم خص موسى وهارون بالخطاب في قوله أن تبؤآ ثم خاطب معهما بنو إسرائيل في قوله واجعلوا فالجواب أن قوله تبؤآ من الأمور التي يختص بها الأنبياء وأولوا الأمر وبشر المؤمنين أمر لموسى عليه السلام وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ربنا ليضلوا عن سبيلك دعاء بلفظ الأمر وقيل اللام لام كي وتتعلق بقوله آتيت اطمس على أموالهم أي أهلكها واشدد على قلوبهم أي اجعلها شديدة القسوة فلا يؤمنوا جواب للدعاء الذي هو اشدد ودعاء بلفظ النفي قال قد أجيبت دعوتكما الخطاب لموسى وهارون على أنه لم يذكر الدعاء إلا عن موسى وحده لكن كان موسى يدعو وهارون يؤمن على دعائه فاستقيما أي اثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الله فأتبعهم فرعون أي لحقهم يقال تبعه حتى أتبعه هكذا قال الزمخشري وقال ابن عطية أتبع بمعنى تبع وأما اتبع بالتشديد فهو طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل يعني الله عز وجل وفي لفظ فرعون مجهلة وتعنت لأنه لم يصرح باسم الله آلآن وقد عصيت قبل أي قيل له أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار وذلك لا يقبل منك ننجيك أي نبعدك مما جرى لقومك من الوصول إلى قعر البحر وقيل نلقيك على نجوة من الأرض أي على موضع مرتفع ببدنك أي بجسدك جسدا بدون روح وقيل بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها والمحذوف في موضع الحال والباء للمصاحبة

(1/489)


لتكون لمن خلفك آية أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل مبوأ صدق منزلا حسنا وهو مصر والشام فما اختلفوا حتى جاءهم العلم قيل يريد اختلافهم في دينهم وقيل اختلافهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ... 294
99 فإن كنت في شك قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقيل ذلك كقول القائل لابنه إن كنت ابني فبرني مع أنه لا يشك أنه ابنه ولكن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم فأمره بسؤالهم قال ابن عباس لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل وقال الزمخشري إن ذلك على وجه الفرض والتقدير أي إن فرضت أن تقع في شك فاسأل مما أنزلنا إليك قيل يعني القرآن أو الشرع بحملته وهذا أظهر وقيل يعني ما تقدم من أن بني إسرائيل ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم الحق فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك يعني الذين يقرؤن التوراة والإنجيل قال السهيلي هم عبد الله بن سلام ومخيرق ومن أسلم من الأحبار وهذا بعيد لأن الآية مكية وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة فحمل الآية على الإطلاق أولى فلا تكونن خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره حقت كلمة ربك أي قضى أنهم لا يؤمنون فلولا كانت قرية آمنت لولا هنا للتحضيض بمعنى هلا وقرئ في الشاذ هلا والمعنى هلا كانت قرية من القرى المتقدمة آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها إذ لا ينفع الإيمان بعد معاينة العذاب كما جرى لفرعون إلا قوم يونس استثناء من القرى لأن المراد أهلها وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي كأنه قال ما آمنت قرية إلا قوم يونس وروى في قصصهم أن يونس عليه السلام أنذرهم بالعذاب فلما رأوه قد خرج من بين أظهرهم علموا أن العذاب ينزل بهم فتابوا وتضرعوا إلى الله تعالى فرفعه عنهم ومتعناهم إلى حين يريد إلى آجالهم المكتوبة في الأزل أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

(1/490)


الهمزة للإنكار أي أتريد أنت أن تكره الناس في إدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك وليس ذلك إليك إنما هو بيد الله وقيل المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يؤمنوا أو كان هذا في صدر الإسلام قبل الأمر بالجهاد ثم نسخت بالسيف انظروا أمر بالاعتبار والنظر في آيات الله وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون يعني من قضى الله عليه انه لا يؤمن وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي فهل ينتظرون الآية تهديد حقا علينا اعتراض بين العامل ... 295
100 ومعموله له وهما كذلك وننج المؤمنين وأن أقم وجهك الوجه هنا بمعنى القصد والدين وما أنا عليكم بوكيل منسوخ بالقتال وكذلك قوله واصبر حتى يحكم الله وعد بالنصر والظهور على الكفار
سورة هود عليه السلام الر كتاب يعني القرآن وهو خبر ابتداء مضمر أحكمت أي أتقنت فهو من الإحكام للشيء ثم فصلت قيل معناه بينت وقيل قطعت سورة سورة وثم هنا ليست للترتيب في الزمان وإنما هي لترتيب الأحوال كقولك فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل ألا تعبدوا إلا الله أن مفسرة وقيل مصدرية في موضع مفعول من أجله أو بدل من الآيات أو يكون كلاما مستأنفا منقطعا عما قبله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك قوله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه أي أستغفروا مما تقدم من الشرك والمعاصي ثم ارجعوا إليه بالطاعة والإستقامة عليها يمتعكم متاعا حسنا أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق والنعم والخيرات وقيل هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائه لأن الكافر قد يتمتع في الدنيا بالأرزاق إلى أجل مسمى يعني إلى الموت ويؤت كل ذي فضل فضله أي يعطي في الآخرة كل ذي عمل جزاء عمله والضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذي فضل وإن تولوا خطاب ... 296

(1/491)


101 للناس وهو فعل مستقبل حذفت منه إحدى التاءين عذاب يوم كبير يعني يوم القيامة أو غيره كيوم بدر ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه قيل كان الكفار إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يردون إليه ظهورهم لئلا يرونه من شدة البغض والعداوة والضمير في منه على هذا يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إن ذلك عبارة عما تنطوي عليه صدورهم من البغض والغل وقيل هو عبارة عن إعراضهم لأن من أعرض عن شيء انثنى عنه وانحرف والضمير في منه على هذا يعود على الله تعالى أي يريدون أن يستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله ولا المؤمنون على ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم أي يجعلونها أغشية وأغطية كراهية لاستماع القرآن والعامل في حين يعلم ما يسرون وقيل المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابهم فيوقف عليه على هذا ويكون يعلم استئنافا وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وعد وضمان صادق فإن قيل كيف قال على الله بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل لأن الله لا يجب عليه شيء فالجواب أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان لأنه لما وعد به صار واقعا لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد ويعلم مستقرها ومستودعها المستودع صلب الأب والمستقر بطن المرأة وقيل المستقر المكان في الدنيا والمستودع القبر وكان عرشه على الماء دليل على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض ليبلوكم أي ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم لأنه كان عالما بأعمالكم قبل خلقكم ويتعلق ليبلوكم بخلق سحر مبين يحتمل أن يشيروا إلى القرآن أو إلى القول بالبعث يعنون أنه باطل كبطلان السحر ولئن أخرنا عنهم العذاب يحتمل أن يريد عذاب الدنيا أو الآخرة إلى أمة معدودة أي إلى وقت محدود ليقولن ما يحبسه أي أي شيء يمنع هذا العذاب الموعود به وقولهم ذلك على وجه التكذيب والاستخفاف ولئن أذقنا الآية ذم لمن يقنط عند الشدائد

(1/492)


ولمن يفتخر ويتكبر عند النعم والرحمة هنا والنعماء يراد بهما الخيرات الدنيوية والإنسان عام يراد به الجنس والاستثناء على هذا متصل وقيل المراد بالإنسان الكافر فالاستثناء منقطع
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ... 297
102 الآية كان الكفار يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك وكانوا يستهزؤن بالقرآن فقال الله تعالى له فلعلك تارك أن تلقى إليهم بعض ما أنزل إليك ويثقل عليك تبليغهم من أجل استهزائهم أو لعلك يضيق صدرك من أجل أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك والمقصود بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن قولهم حتى يبلغ الرسالة ولا يبالي بهم وإنما قال ضائق ولم يقل ضيق ليدل على اتساع صدره عليه السلام وقلة ضيقه إنما أنت نذير أي ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ والله هو الوكيل الذي يقضى بما شاء من إيمانهم أو كفرهم أم يقولون افتراه أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة والضمير في افتراه لما يوحى إليه قل فأتوا بعشر سور مثله تحداهم أولا بعشر سور فلما بان عجزهم تحداهم بسورة واحدة فقال فأتوا بسورة من مثله والمماثلة المطلوبة في فصاحته وعلومه مفتريات صفة لعشر سور وذلك مقابلة لقولهم افتراه وليست المماثلة في الافتراء وادعوا من استطعتم أي استعينوا بمن شئتم فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله فيها وجهان أحدهما أن تكون مخاطبة من الله للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أي إن لم يستجب الكفار إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن فاعلموا أنه من عند الله وهذا على معنى دوموا على علمكم بذلك أو زيدوا يقينا به والثاني أن يكون خطابا من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار أي إن لم يستجب من تدعونه من دون الله إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليه فاعلموا أنه من عند الله وهذا أقوى من الأول لقوله فهل أنتم مسلمون ومعنى بعلم الله بإذنه أو بما

(1/493)


لا يعلمه إلا الله من الغيوب وقوله فهل أنتم مسلمون لفظه استفهام ومعناه استدعاء إلى الإسلام وإلزام للكفار أن يسلموا لما قام الدليل على صحة الإسلام لعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآية نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة إذ هم لا يصدقون بها وقيل نزلت في أهل الربا من المؤمنين الذين يريدون بأعمالهم الدنيا حسبما ورد في الحديث في القارئ والمنفق والمجاهد الذين أرادوا أن يقال لهم ذلك إنهم أول من تسعر بهم النار والأول أرجح لتقدم ذكر الكفار المناقضين للقرآن فإنما قصد بهذه الآية أولئك نوف إليهم أعمالهم فيها نوف إليهم أجور أعمالهم بما يغبطهم فيها من الصحة والرزق والضمير في فيها يعود على الدنيا والمجرور متعلق بقوله نوف أو بأعمالهم وحبط ما صنعوا فيها الضمير في فيها هنا يعود على الآخرة إن تعلق المجرور بحبط ويعود على الدنيا إن تعلق بصنعوا أفمن كان على بينة من ربه الآية معادلة لما تقدم والمعنى أفمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه والمراد بمن كان على بينة من ربه للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لقوله بعد ذلك أولئك يؤمنون به ومعنى البينة البرهان العقلي والأمر ... 298

(1/494)


103 الجلي ويتلوه شاهد منه الضمير في يتلوه للبرهان وهو البينة ولمن كان على بينة من ربه والضمير في منه للرب تعالى ويتلوه هنا بمعنى يتبعه والشاهد يريد به القرآن فالمعنى يتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظم دلالته وقيل إن الشاهد المذكور هنا هو علي بن أبي طالب ومن قبله كتاب موسى أي ومن قبل ذلك الكتاب الشاهد كتاب موسى وهو أيضا دليل آخر متقدم وقد قيل أقوال كثيرة في معنى هذه الآية وأرجحها ما ذكرنا ومن الأحزاب أي من أهل مكة ويقول الأشهاد جمع شاهد كأصحاب ويحتمل أن يكون من الشهادة فيراد به الملائكة والأنبياء أو من الشهود بمعنى الحضور فيراد به كل من حضر الموقف ويبغونها عوجا أي يطلبون اعوجاجها أو يصفونها بالإعوجاج لم يكونوا معجزين أي لا يفلتون يضاعف لهم العذاب إخبار عن تشديد عذابهم وليس بصفة لأولياء ما كانوا يستطيعون السمع الآية ما نافية والضمير للكفار والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون كقوله ختم الله على قلوبهم الآية وقيل غير ذلك وهو بعيد لا جرم أي لا بد ولا شك أخبتوا أي خشعوا وقيل أنابوا مثل الفريقين يعني المؤمنين والكافرين كالأعمى والأصم والبصير والسميع شبه الكفار بالأعمى والأصم وشبه المؤمنين بالبصير والسميع فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثالين وتمثيل للكافرين بمثالين وقيل التقدير كالأعمى والأصم والبصير والسميع قالوا ولعطف الصفات فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثال واحد وهو من جمع بين السمع والبصر وتمثيل للكفار بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصم عذاب يوم أليم وصف اليوم بالأليم على وجه المجاز لوقوع الألم فيه أراذلنا جمع أرذل وهم سفلة الناس وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلا منهم واعتقاد أن الشرف هو بالمال ... 299

(1/495)


104 والجاه وليس الأمر كما اعتقدوا بل المؤمنون كانوا أشرف منهم على حال فقرهم وخمولهم في الدنيا وقيل إنهم كانوا حاكة وحجامين واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم أراذل في أفعالهم لقول نوح وما علمي بما كانوا يعملون بادي الرأي أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبير وبادي منصوب على الظرفية أصله وقت حدوث أول رأيهم والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال والمعنى اتبعك الأراذل من غير نظر ولا تشبث وقيل هو صفة لبشرا مثلنا أي غير مثبت في الرأي وما نرى لكم علينا من فضل أي من مزية وشرف والخطاب لنوح عليه السلام ومن معه على بينة من ربي أي على برهان وأمر جلي وكذلك في قصة صالح وشعيب وآتاني رحمة من عنده يعني النبوة فعميت عليكم أي خفيت عليكم والفاعل على هذا البينة أو الرحمة أنلزمكموها أي أنكرهكم على قبولها قهرا وهذا هو جواب أرأيتم ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم له كارهون لا أسألكم عليه مالا الضمير في عليه عائد على التبليغ وما أنا بطارد الذين آمنوا يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء إنهم ملاقوا ربهم المعنى أنه يجازيهم على إيمانهم من ينصرني من الله إن طردتهم أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد ولا أقول لكم عندي خزائن الله الآية أي لا أدعي ما ليس لي فتنكرون قولي تزدري أي تحتقر من قولك زريت الرجل إذا قصرت به والمراد بالذين تزدري أعينهم ضعفاء المؤمنين إني إذا لمن الظالمين أي إن قلت للمؤمنين لن يؤتيهم الله خيرا والخير هنا يحتمل أن يريد به خير الدنيا والآخرة جادلتنا الجدال هو المخاصمة والمراجعة في الحجة فأتنا بما تعدنا أي بالعذاب ولا ينفعكم نصحي الآية جزاء قوله إن أردت أن أنصح لكم هو ما دل عليه قوله نصحي وجزاء قوله إن كان الله يريد أن يغويكم هو ما دل عليه قوله لا ينفعكم نصحي

(1/496)


فتقديرها إن أراد الله أن يغويكم لن ينفعكم نصحي إن نصحت لكم ثم استأنف قوله هو ربكم ولا يجوز أن يكون ربكم هو جواب الشرط أم يقولون افتراه الآية الضمير في يقولون لكفار قريش وفي افتراه لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا قول جميع المفسرين واختار ... 300
105 ابن عطية أن تكون في شأن نوح عليه السلام فيكون الضمير في يقولون لقوم نوح وفي افتراه لنوح لئلا يعترض ما بين قصة نوح بغيرها وهو بعيد إجرامي أي ذنبي فلا تبتئس أي فلا تحزن واصنع الفلك بأعيننا أي تحت نظرنا وحفظنا ووحينا أي وتعليمنا لك كيف تصنع الفلك
ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تشفع لي فيهم فإني قد قضيت عليهم بالغرق كلما يحتمل أن يكون جوابها سخروا منه أو قال إن تسخروا فسوف تعلمون تهديد ومن يأتيه منصوب بتعلمون عذاب يخزيه هو الغرق والعذاب المقيم عذاب النار حتى إذا جاء أمرنا غاية لقوله ويصنع الفلك وفار التنور أي فار بالماء وجعل الله تلك العلامة لنوح ليركب حينئذ في السفينة والمراد بالتنور الذي يوقد فيه عند ابن عباس وغيره وروى أنه كان تنور آدم خلص إلى نوح وقيل التنور وجه الأرض قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين المراد بالزوجين الذكر والأنثى من الحيوان وقرئ من كل بغير تنوين فعمل احمل في اثنين ومن قرأ بالتنوين عمل احمل في زوجين وجعل اثنين نعت له على جهة التأكيد وأهلك أي قرابتك وهو معطوف على ما عمل فيه احمل إلا من سبق عليه القول أي من قضى عليه بالعذاب فهو مستثنى من أهله والمراد بذلك ابنه الكافر وامرأته ومن آمن معطوف على أهلك أي احمل أهلك ومن آمن من غيرهم وما آمن معه إلا قليل قيل كانوا ثمانين وقيل عشرة وقيل ثمانية وقال اركبوا فيها الضمير في قال لنوح والخطاب لمن كان معه والضمير في فيها للسفينة وروى أنهم ركبوا فيها أول يوم من رجب واستقرت على الجودي يوم عاشوراء بسم الله

(1/497)


مجراها ومرساها اشتقاق مجراها من الجري واشتقاق مرساها من الإرساء وهو الثبوت أو من وقوف السفينة ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان أو مصدرين ويحتمل الإعراب من وجهين أحدهما أن يكون اسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا والتقدير اركبوا متبركين باسم الله أو قائلين بسم الله فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان بمعنى وقت إجرائها وإرسائها أو ظرفين للمكان ويكون العامل فيه ما في قوله بسم الله من معنى الفعل في موضع خبر ويكون قوله بسم الله متصلا مع ما قبله والجملة كلام واحد والوجه الثاني أن يكون كلامين فيوقف على اركبوا فيها ويكون بسم الله في موضع خبر ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر أي إجراؤها وإرساؤها ويكون بسم الله على هذا مستأنفا غير متصل بما قبله ولكنه من كلام نوح حسبما روى أن نوحا كان إذا أراد أن يجري بالسفينة قال بسم الله فتجري وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف وهي تجري بهم في موج كالجبال روى أن الماء طبق ما بين السماء والأرض فصار الكل ... 301

(1/498)


106 كالبحر قال ابن عطية وهذا ضعيف واين كان الموج كالجبال على هذا وصوبه الزمخشري وقال كانت تجري في موج كالجبال قبل التطبيق وقبل أن يغمر الماء الجبال ونادى نوح ابنه كان اسمه كنعان وقيل يام وكان له ثلاث بنون سواه وهم سام وحام ويافث ومنهم تناسل الخلق في معزل أي في ناحية لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم يحتمل أربعة أوجه أحدها أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم كذلك بمعنى الراحم فالمعنى لا عاصم إلا الراحم وهو الله تعالى والثاني أن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة أي معصوم ومن رحم بمعنى مفعول أي من رحم الله فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله والاستثناء على هذين الوجهين متصل والثالث أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم بمعنى المفعول والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم والرابع عكسه والاستثناء على هذين منقطع ابلعي ماءك عبارة عن جفوف الأرض من الماء أقلعي أي أمسكي عن المطر وروى أنها أمطرت من كل موضع منها وغيض الماء أي نقص وقضى الأمر أي تم وكمل واستوت على الجودي أي استقرت السفينة على الجودي وهو جبل بالموصل وقيل بعدا أي هلاكا وانتصب على المصدر ونادى نوح ربه يحتمل أن يكون هذا النداء قبل الغرق فيكون العطف من غير ترتيب أو يكون بعده قال رب إن ابني من أهلي أي وقد وعدتني أن تنجي أهلي قال يا نوح إنه ليس من أهلك أي ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر وقال الزمخشري لم يكن ابنه ولكنه خانته أمه وكان لغير رشده وهذا ضعيف لأن الأنبياء عليهم السلام قد عصمهم الله من أن تزني نساؤهم ولقوله ونادى نوح ابنه إنه عمل غير صالح فيه ثلاث تأويلات على قراءة الجمهور أحدها أن يكون الضمير في إنه لسؤال نوح نجاة ابنه والثاني أن يكون الضمير لابن نوح وحذف المضاف من الكلام تقديره إنه ذو عمل غير صالح والثالث أن يكون الضمير لابن نوح وعمل مصدر وصف به مبالغة

(1/499)


كقولك رجل صوم وقرأ الكسائي عمل بفعل ماض غير صالح بالنصب والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال فلا تسألن ما ليس لك به علم أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه فإن قيل لم سمي نداءه سؤالا ولا سؤال فيه فالجواب أنه تضمن السؤال وإن لم يصرح به إني أعظك أن تكون من الجاهلين أن في موضع مفعول من أجله تقديره أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين وليس في ذلك وصف له بالجهل بل فيه ... 302

(1/500)


107 ملاطفة وإكرام اهبط بسلام منا أي اهبط من السفينة بسلامة وعلى أمم ممن معك أي ممن معك في السفينة واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية من معك ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة فمن على هذا لابتداء الغاية والتقدير على أمم ناشئة ممن معك وعلى الأول تكون من لبيان الجنس وأمم سنمتعهم يعني نمتعهم متاع الدنيا وهم الكفار إلى يوم القيامة تلك من أنباء الغيب إشارة إلى القصة وفي الآية دليل على أن القرآن من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي إن أنتم إلا مفترون يعني في عبادتهم لغير الله يرسل السماء عليكم مدرارا السماء هنا المطر ومدرارا بناء تكثير من الدر يقال در المطر واللبن وغيره وفي الآية دليل على أن الاستغفار والتوبة سبب لنزول الأمطار وروى أن عادا كان حبس عنهم المطر ثلاث سنين فأمرهم بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بالمطر والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الكفر ثم عن الذنوب لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بمعجزة وذلك كذب منهم وجحود أو يكون معناه بآية تضطرنا إلى الإيمان بك وإن كان قد أتاهم بآية نظرية عن قولك أي بسبب قولك إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء معناه ما نقول إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون هذا أمر بمعنى التعجيز أي لا تقدرون أنتم ولا آلهتكم على شيء ثم ذكر سبب قوته في نفسه وعدم مبالاته بهم فقال إني توكلت على الله الآية ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي هي في قبضته وتحت قهره والأخذ بالناصية تمثيل لذلك وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق إن ربي على صراط مستقيم يريد أن أفعال الله جميلة وقوله صدق ووعده حق فالاستقامة تامة فإن تولوا فقد أبلغتكم أصل تولوا هنا تتولوا لأنه فعل مستقبل

(2/1)


حذفت منه تاء المضارعة فإن قيل كيف وقع الإبلاغ جوابا للشرط وقد كان الإبلاغ قبل التولي فالجواب أن المعنى إن تتولوا فلا عتب علي لأني قد أبلغتكم رسالة ربي ولا تضرونه شيئا أي لا تنقصونه شيئا أي إذا أهلككم واستخلف غيركم ولما جاء أمرنا إن قيل ... 303
108 لم قال هنا وفي قصة شعيب ولما بالواو وقال في قصة صالح ولوط فلما بالفاء فالجواب على ما قال الزمخشري أنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد الوعيد فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب كما تقول وعدته فلما جاء الميعاد بخلاف قصة هود وشعيب فإنه لم يتقدم ذلك فيهما فعطف بالواو ونجيناهم من عذاب غليظ يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ وتعديدا للنعمة في نجاتهم وعصوا رسله في جميع الرسل هنا وجهان أحدهما أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان جميعهم فإنهم متفقون على الإيمان بالله وعلى توحيده والثاني أن يراد الجنس كقولك فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا ألا إن عادا كفروا ربهم هذا تشنيع لكفرهم وتهويل بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد ألا بعدا أي هلاكا وهذا دعاء عليهم وانتصابه بفعل مضمر فإن قيل كيف دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا فالجواب أن المراد أنهم أهل لذلك لعاد قوم هود بيان لأن عادا اثنان إحداهما قوم هود والأخرى إرم هو أنشأكم من الأرض لأن آدم خلق من تراب واستعمركم فيها أي جعلكم تعمرونها فهو من العمران للأرض وقيل هو من العمر نحو استبقاكم من البقاء قد كنت فينا مرجوا أي كنا نرجو أن ننتفع بك حتى قلت ما قلت وقيل المعنى كنا نرجو أن تدخل في ديننا في داركم أي بلدكم ثلاثة أيام قيل إنها الخميس والجمعة والسبت لأنهم عقروا الناقة يوم الأربعاء وأخذهم العذاب يوم الأحد ومن خزي يؤمئذ معطوف على نجينا أي

(2/2)


نجيناهم من خزي يومئذ جاثمين ذكر في الأعراف كأن لم يغنوا فيها أي كأن لم يقيموا فيها والضمير للدار وكذلك في قصة شعيب ولقد جاءت رسلنا الرسل هنا الملائكة إبراهيم بالبشرى ... 304
109 بشروه بالولد قالوا سلاما نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر تقديره سلمنا عليكم سلاما قال سلام تقديره عليكم سلام وسلام عليكم وهذا على أن يكون بمعنى التحية وإنما رفع جوابه ليدل على إثبات السلام فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة ونصب الأول لأنه بمعنى الطلب ورفع الثاني لأنه في معنى الخبر فما لبث أن جاء أي ما لبث مجيئه بل عجل وما نافية وأن جاء فاعل لبث بعجل حنيذ أي مشوي وفعيل هنا بمعنى مفعول نكرهم أي أنكرهم ولم يعرفهم يقال نكر وأنكر بمعنى واحد وأوجس منهم خيفة قيل إنه لم يعرفهم فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه وقيل عرف أنهم ملائكة ولكن خاف أن يكونوا أرسلوا بما يخاف فأمنوه بقولهم لا تخف وامرأته قائمة قيل قائمة خلف الستر وقيل قائمة في الصلاة وقيل قائمة تخدم القوم واسمها سارة فضحكت قيل معناه حاضت وهو ضعيف وقال الجمهور هو الضحك المعروف واختلفوا من أي شيء ضحكت فقيل سرورا بالولد الذي بشرت به ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير وقيل سرورا بالأمن بعد الخوف وقيل سرورا بهلاك قوم لوط فبشرناها بإسحاق أسند البشارة إلى ضمير الله تعالى لأنها كانت بأمره ومن وراء إسحاق يعقوب أي من بعده وهو ولده وقيل الوراء ولد الولد ويعقوب بالرفع مبتدأ وبالفتح معطوف على إسحاق قالت يا ويلتا الألف فيه مبدلة من ياء المتكلم وكذلك في يا لهفي ويا أسفي ويا عجبا ومعناه التعجب من الولادة وروى أنها كانت حينئذ بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم ابن مائة سنة رحمة الله وبركاته عليكم يحتمل الدعاء والخبر أهل البيت أي أهل بيت إبراهيم وهو منصوب بفعل مضمر على

(2/3)


الاختصاص أو منادى حميد أي محمود مجيد من المجد وهو العلو والشرف أيجادلنا هو جواب لما على أن يكون المضارع في موضع الماضي أو على تقدير ظل أو أخذ يجادلنا ويكون يجادلنا مستأنفا والجواب محذوف ومعنى جداله كلامه مع الملائكة في رفع العذاب عن قوم لوط وقد ذكر في اللغات حليم وفي براءة أواه يا إبراهيم أعرض عن هذا أي قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا يعني عن المجادلة فيهم فقد نفذ القضاء بعذابهم ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم الرسل هم الملائكة ومعنى سيء بهم أصابه سوء وضجر لما ظن أنه من بني آدم وخاف عليهم من قومه يوم عصيب أي شديد وجاء قومه يهرعون إليه أي يسرعون وكانت امرأة لوط قد أخبرتهم بنزول الأضياف عنده فأسرعوا ليعملوا بهم عملهم الخبيث من قبل كانوا يعملون السيئات أي كانت عادتهم إتيان الفواحش في الرجال قال يا قوم هؤلاء بناتي المعنى فتزوجوهن ... 305

(2/4)


110 وإنما قال ذلك ليقي أضيافه ببناته وقيل اسم بناته الواحدة رئيا والأخرى غوثا وأن اسم امرأته الهالكة والهة واسم امرأة نوح والقة قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي مالنا فيهم أرب وإنك لتعلم ما نريد يعنون نكاح الذكور قال لو أن لي بكم قوة جواب لو محذوف تقديره لو كانت لي قدرة على دفعكم لفعلت ويحتمل أن تكون لو للتمني أو آوى إلى ركن شديد معنى آوى ألجأ والمراد بالركن الشديد ما يلجأ إليه من عشيرة وأنصار يحمونه من قومه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد يعني إلى الله والملائكة قالوا يا لوط إنا رسل ربك الضمير في قالوا للملائكة والضمير في لن يصلوا لقوم لوط وذلك أن الله طمس على أعينهم حينئذ فأسر بأهلك أي اخرج بهم بالليل فإن العذاب ينزل بأهل هذه المدائن وقرئ فاسر بوصل الألف وقطعها وهما لغتان يقال سرى وأسرى بقطع من الليل أي قطعة منه ولا يلتفت منكم أحد نهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم وقيل يلتفت معناه يلتوي
إلا امرأتك قريء بالنصب والرفع فالنصب استثناء من قوله فأسر بأهلك فيقتضي هذا أنه لم يخرجها مع أهله والرفع بدل من ولا يلتفت منكم أحد وروى على هذا أنه أخرجها معه وأنها التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فقتلها إن موعدهم الصبح أي وقت عذابهم الصبح أليس الصبح بقريب ذكر أنهم لما قالوا إن موعدهم الصبح قال لهم لوط هلا عذبوا الآن فقالوا له أليس الصبح بقريب جعلنا عاليها سافلها الضمير للمدائن روى أن جبريل أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم أرسلها مقلوبة وأمطرنا عليها حجارة أي على المدائن والمراد أهلها روى أنه من كان منهم خارج المدائن أصابته حجارة من السماء وأما من كان في المدائن فهلك لما قلبت من سجيل قبل معناه من ماء

(2/5)


وطين وإنما كان من الآجر المطبوخ وقيل من سجله إذا أرسله وقيل هو لفظ أعجمي منضود أي مضموم بعضه فوق بعض مسومة عند ربك معناه معلمة بعلامة روى أنه كان فيها بياض وحمرة وقيل كان في كل حجر اسم صاحبه وما هي من الظالمين ببعيد الضمير للحجارة والمراد بالظالمين كفار قريش فهذا تهديد لهم أي ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم وقيل الضمير للمدائن فالمعنى ليست ببعيدة منهم أفلا يعتبرون بها كقوله ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء وقيل إن الظالمين على العموم إني أراكم بخير يعني رخص الأسعار وكثرة الأرزاق عذاب ... 306

(2/6)


111 يوم محيط ) يوم القيامة أو يوم عذابهم في الدنيا بقيت الله خير لكم أي ما أبقاه الله لكم من رزقه ونعمته أصلاتك تأمرك الصلاة هي المعروفة ونسب الأمر إليها مجاز كقوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والمعنى أصلاتك تأمرك أن ترك عبادة الأوثان وإنما قال الكفار هذا على وجه الإستهزاء أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء يعنون ما كانوا عليه من بخس المكيال والميزان وأن نفعل عطف على أن نترك إنك لأنت الحليم الرشيد قيل إنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء وقيل معناه الحليم الرشيد عند نفسك ورزقني منه رزقا حسنا أي سالما من الفساد الذي أدخلتم أنتم في أموالكم وجواب أرأيتم محذوف يدل عليه المعنى وتقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أيصلح لي ترك تبليغ رسالته وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أي لا يكسبنكم عداوتي أن يصيبكم مثل عذاب الأمم المتقدمة وشقاقي فاعل وأن يصيبكم مفعول وما قوم لوط منكم ببعيد يعني في الزمان لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكين إليهم ويحتمل أن يراد ببعيد في البلاد ما نفقه أي ما نفهم وإنا لنراك فينا ضعيفا أي ضعيف الانتصار والقدرة وقيل نحيل البدن وقيل أعمى ولولا رهطك لرجمناك الرهط القرابة والرجم بالحجارة أو بالسب أرهطي أعز عليكم من الله هذا توبيخ لهم فإن قيل إنما وقع كلامهم فيه وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه فكيف طابق جوابه كلامهم فالجواب أن تهاونهم به وهو رسول الله تهاون بالله فلذلك قال أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا الضمير في اتخذتموه لله تعالى أو لدينه وأمره والظهري ما يطرح وراء الظهر ولا يعبأ به وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب اعملوا على مكانتكم تهديد ومعنى

(2/7)


مكانتكم تمكنكم في الدنيا وعزتكم فيها من يأتيه عذاب يخزيه عذاب الدنيا والآخرة وارتقبوا تهديد ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي ... 307
112 بالمعجزات وسلطان مبين أي برهان بين يقدم قومه أي يتقدم قدامهم في النار كما كانوا في الدنيا يتبعونه على الضلال والكفر فأوردهم النار الورود هنا بمعنى الدخول وذكره بلفظ الماضي لتحقق وقوعه ويوم القيامة عطف على في هذه فإن المراد به في الدنيا بئس الرفد المرفود أي العطية المعطاة قائم وحصيد باق وداثر فما أغنت عنهم آلهتهم حجة على التوحيد ونفي الشريك تتبيب أي تخسير يوم مجموع له الناس أي يجمعون فيه للحساب والثواب والعقاب وإنما عبر باسم المفعول دون الفعل ليدل على ثبوت الجمع لذلك اليوم لأن لفظ مجموع أبلغ من لفظ يجمع يوم مشهود أي يحضره الأولون والآخرون يوم يأت العامل في الظرف لاتكلم أو فعل مضمر وفاعل يأت ضمير يعود على يوم مشهود وقال الزمخشري يعود على الله تعالى كقوله أو يأتي ربك ويعضده عود الضمير عليه في قوله بإذنه فمنهم شقي وسعيد الضمير يعود على أهل الموقف الذين دل عليهم قوله لا تكلم نفس زفير وشهيق الزفير إخراج النفس والشهيق رده وقيل الزفير صوت المحزون والشهيق صوت الباكي وقيل الزفير من الحلق والشهيق من الصدر
خالدين فيها ما دامت السموات والأرض فيه وجهان أحدهما أن يراد به سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة أبدا والآخر أن يكون عبارة عن التأبيد كقول العرب ما لاح كوكب وما ناح الحمام وشبه ذلك مما يقصد به الدوام إلا ما شاء ربك في هذا الاستثناء ثلاثة أقوال قيل إنه على طريق التأدب مع الله كقولك إن شاء الله وإن كان الأمر واجبا وقيل المراد به زمان خروج المذنبين من النار ويكون الذين شقوا على هذا يعم الكفار والمذنبين وقيل استثنى مدة كونهم في الدنيا وفي البرزخ وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه

(2/8)


القول الأول والثالث دون الثاني غير مجذوذ أي غير مقطوع فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء المرية الشك والإشارة إلى عبدة ... 308
113 الأصنام أي لا تشك في فساد دين هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم أي هم متبعون لآبائهم تقليدا من غير برهان وإنا لموفوهم نصيبهم يعني من العذاب كلمة سبقت يعني القدر وذلك أن الله قضى أن يفصل بينهم يوم القيامة فلا يفصل في الدنيا وإن كلا قرئ بتشديد إن وبتخفيفها وإعمالها عمل الثقيلة والتنوين في كل عوضا من المضاف إليه يعني كلهم واللام في لما موطئة للقسم وما زائدة وليوفينهم خبر إن وقرئ لما بالتشديد على أن تكون إن نافية ولما بمعنى إلا ليوفينهم ربك أعمالهم أي جزاء أعمالهم ولا تركنوا إلى الذين ظلموا يعني الكفار وقيل إنهم الظلمة من الولاة وغيرهم ثم لا تنصرون مستأنف غير معطوف وإنما قال ثم لبعد النصرة وأقم الصلاة الآية يراد بها الصلوات المفروضة فالطرف الأول الصبح والطرف الثاني الظهر والعصر والزلف من الليل المغرب والعشاء إن الحسنات يذهبن السيئات لفظه عام وخصصه أهل التأويل بأن الحسنات الصلوات الخمس ويمكن أن يكون ذلك على وجه التمثيل روى أن رجلا قبل امرأة ثم ندم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه الصلاة فنزلت الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين السائل فقال ها أنذا فقال قد غفر لك فقال الرجل ألي خاصة أو للمسلمين عامة فقال بل للمسلمين عامة والآية على هذا مدنية وقيل إن الآية كانت قبل ذلك ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلا بها فالآية على هذا مكية كسائر السورة وإنما تذهب الحسنات عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ذلك إشارة إلى الصلوات أو إلى كل ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد فلولا تحضيض بمعنى هلا أولو بقية أي أولو خير ودين بقي لهم دون غيرهم إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع معناه ولكن

(2/9)


قليلا ممن أنجينا من القرون ينهون عن الفساد في الأرض وقيل هو متصل فإن الكلام الذي قبله في حكم النفي كأنه قال ما كان فيهم من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلا على أن الوجه في مثل هذا البدل ويجوز فيه النصب الذين ظلموا يعني الذين لم ينهوا عن الفساد بظلم هذا المجرور في موضع الحال من ربك والمعنى أنه لا يهلك أهل القرى ظالما لهم تعالى الله عن ذلك
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة يعني مؤمنة لا خلاف ... 309

(2/10)


114 بينهم في الإيمان ولا يزالون مختلفين يعني في الأديان والملل والمذاهب ولذلك خلقهم قيل الإشارة إلى الاختلاف وقيل إلى الرحمة وقيل إليهما وكلا نقص انتصب كلا بنقص وما بدل من كلا وجاءك في هذه الحق الإشارة إلى السورة اعملوا وانتظروا تهديد لهم وإقامة حجة عليهم
سورة يوسف عليه السلام
الكتاب المبين يعني القرآن والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البين فيكون غير متعد أو يكون متعديا بمعنى أنه أبان الحق أي أظهره لعلكم يتعلق بأنزلناه أو بعربيا أحسن القصص يعني قصة يوسف أو قصص الأنبياء على الإطلاق والقصص يكون مصدرا أو اسم مفعول بمعنى المقصوص فإن أريد به هنا المصدر فمفعول نقص محذوف لأن ذكر القرآن يدل عليه وإن كنت من قبله لمن الغافلين الضمير في قبله للقصص أي من الغافلين عن معرفته وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله لكونه جاء به من غير تعليم إذ قال العامل فيه اذكر المضمر أو القصص يا أبت أي يا أبي والتاء للمبالغة وقيل للتأنيث وكسرت دلالة على ياء المتكلم والتاء عوض من ياء المتكلم رأيتهم لي ساجدين كرر الفعل لطول الكلام وأجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لما وصفها بفعل من يعقل وهو السجود وتأويل الكواكب في المنام إخوته والشمس والقمر أبواه وسجودهم له تواضعهم له ودخولهم تحت كنفه وهو ملك لا تقصص رؤياك على إخوتك إنما قال ذلك لأنه علم أن تأويلها ارتفاع منزلته فخاف عليه من الحسد يجتبيك يختارك ويعلمك من تأويل الأحاديث قيل هي عبارة الرؤيا واللفظ أعم من ذلك آل يعقوب ... 310

(2/11)


115 يعني ذريته آيات للسائلين أي لمن سأل عنها روى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف أو أمروا قريشا أن يسألوه عنها فهم السائلون على هذا واللفظ أعم من ذلك ليوسف وأخوه هو بنيامين وهو أصغر من يوسف ويقال إنه شقيق يوسف وكان أصغر أولاد يعقوب ونحن عصبة أي جماعة نقدر على النفع والضر بخلاف الصغيرين والعصبة العشرة فما فوقها إلى الأربعين إن أبانا لفي ضلال مبين أي خطأ وخروج عن الصواب بإفراط حبه ليوسف وأخيه يخل لكم وجه أبيكم أي لا يشارككم غيره في محبته لكم وإقباله عليكم قوما صالحين أي بالتوبة والاستقامة وقيل هو صلاح حالهم مع أبيهم قال قائل منهم هو يهوذا وقيل روبيل غيابت الجب غوره وما غاب منه السيارة جمع سيار وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة وغيرها إن كنتم فاعلين أي هذا هو الرأي إن فعلتموه مالك لا تأمنا على يوسف أي لم تخاف عليه منا وقرأ السبع تأمنا بالإدغام والإشمام لأن أصله بضم النون الأولى يرتع من قرأه بكسر العين فهو من الرعي أي من رعى الإبل أو من رعى بعضهم لبعض وحراسته ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع وهو الإقامة في الخصب والتنعم والتاء على هذا أصلية ووزن الفعل يفعل ووزنه على الأول نفتعل ومن قرأ يرتع ويلعب بالياء فالضمير ليوسف ومن قرأ بالنون فالضمير للمتكلمين وهم إخوته وإنما قالوا نلعب لأنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء وكان اللعب من المباح للتعلم كالمسابقة بالخيل وأجمعوا أي عزموا وجواب لما محذوف وقيل إنه أجمعوا أو وأوحينا على زيادة الواو وأوحينا يحتمل أن يكون هذا الوحي بواسطة ملك أو بإلهام والضمير في إليه ليوسف وقيل ليعقوب والأول هو الصحيح وهم لا يشعرون في موضع الحال من لتنبئنهم أي لا يشعرون حين تنبئهم فيكون خطابا ليوسف عليه السلام أو من أوحينا أي لا يشعرون حين أوحينا إليه فيكون خطابا للنبي صلى الله

(2/12)


عليه وسلم نستبق أي نجري على أقدامنا لننظر أينا يسبق وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق لمقالتنا ولو كنا صادقين أي لا تصدقنا ولو كنا عندك من أهل الصدق فكيف وأنت تتهمنا وقيل معناه لا تصدقنا وإن ... 311
116 كنا صادقين في هذه المقالة فذلك على وجه المغالطة منهم والأول أظهر وجاؤا على قميصه بدم كذب أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة وروي أنهم لطخوا قميصه بدم جدي وقالوا ليعقوب هذا دمه في قميصه فقال لهم مال الذئب أكله ولم يخرق قميصه فاستدل بذلك على كذبهم سولت أي زينت فصبر جميل وعد من نفسه بالصبر وارتفاعه على أنه مبتدأ تقديره صبر جميل أمثل أو خبر مبتدأ تقديره شأني صبر جميل وجاءت سيارة روي أن هؤلاء السيارة من مدين وقيل هم أعراب واردهم الوارد هو الذي يستقي الماء لجماعة ونقل السهيلي أن اسم هذا الوارد مالك بن دعر من العرب العاربة ولم يكن له ولد فسأل يوسف أن يدعو له بالولد فدعا له فرزقه الله اثني عشر ولدا أعقب كل واحد منهم قبيلة قال يا بشراي أي نادى بالبشرى كقولك يا حسرة وأضافها إلى نفسه وقرئ يا بشرى بحذف ياء المتكلم والمعنى كذلك وقيل على هذه القراءة نادى رجلا منهم اسمه بشرى وهذا بعيد ولما أدلى الوارد الحبل في الجب تعلق به يوسف فحينئذ قال يا بشراي هذا غلام وأسروه بضاعة الضمير الفاعل للسيارة والضمير المفعول ليوسف أي أخفوه من الرفقة أو قالوا لهم دفعه لنا قوم لنبيعه لهم بمصر وشروه أي باعوه والضمير أيضا للذين أخذوه وقيل الضمير لإخوة يوسف وأنهم رجعوا إليه فقالوا للسيارة هذا عبدنا بثمن بخس أي ناقص عن قيمته وقيل البخس هنا الظلم دراهم معدودة عبارة عن قلتها وكانوا الضمير للذين أخذوه أو لإخوته وقال الذي اشتراه يعني العزيز وكان حاجب الملك وخازنه وقال السهيلي اسمه قطفير من مصر هو البلد المعروف ولذلك لم ينصرف وكان يوسف قد سبق إلى مصر فنودي عليه

(2/13)


في السوق حتى بلغ ثمنه ووزنه ذهبا وقيل فضة فاشتراه العزيز تأويل الأحاديث قد تقدم والله غالب على أمره في عود الضمير وجهان أحدهما أن يعود على الله فالمعنى أنه يفعل ما يشاء لا راد لأمره والثاني أنه يعود على يوسف أي يدبر الله أمره بالحفظ له والكرامة بلغ أشده قيل الأشد البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل ثلاث وثلاثون وقيل أربعون حكما هي الحكمة والنبوة وراودته التي هو في بيتها عن نفسه أي طلبت منه ما يكون من الرجل إلى المرأة وهي زليخا امرأة العزيز وغلقت الأبواب روي أنها كانت سبعة ابواب هيت لك اسم فعل معناه تعال وأقبل وقرئ بفتح الهاء وكسرها وبفتح التاء وضمها والمعنى في ذلك كله واحد وحركة التاء للبناء وأما من قرأ بالهمز فهو فعل من تهيأت كقولك جئت ... 312

(2/14)


117 معاذ الله منصوب على المصدرية والمعنى أعوذ بالله إنه ربي يحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أو للذي اشتراه لأن السيد يقال له رب فالمعنى لا ينبغي لي أن أخونه إنه لا يفلح الظالمون الضمير للأمر والشأن ويحتمل ذلك في الأول أي الضمير ولقد همت به وهم بها أكثر الناس الكلام في هذه الآية حتى ألفوا فيها التآليف فمنهم مفرط ومفرط وذلك أن منهم من جعل هم المرأة وهم يوسف من حيث الفعل الذي أرادته وذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها وحله التكة وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله ومنهم من جعل أنها همت به لتضربه على امتناعه وهم بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها وهو بعيد يرده قوله لولا أن رأى برهان ربه ومنهم من جعل همها به من حيث مرادها وهمه به ليدفعها وهذا أيضا بعيد لاختلاف سياق الكلام والصواب إن شاء الله أنها همت به من حيث مرادها وهم بها كذلك لكنه لم يعزم على ذلك ولم يبلغ إلى ما ذكر من حل التكة وغيرها بل كان همه خطرة خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء لأن الهم بالذنب ليس بذنب ولا نقص عليه في ذلك فإنه من هم بذنب ثم تركه كتبت له حسنة لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها وإنما حذف لأن قوله هم بها يدل عليه وقد قيل إن هم بها هو الجواب وهذا ضعيف لأن جواب لولا لا يتقدم عليها واختلف في البرهان الذي رآه فقيل ناداه جبريل يا يوسف أتكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء وقيل رأى يعقوب ينهاه وقيل تفكر فاستبصر وقيل رأى زليخا غطت وجه صنم لها حياء منه فقال أنا أولى أن أستحي من الله كذلك لنصرف الكاف في موضع نصب متعلقة بفعل مضمر التقدير ثبتناه مثل ذلك التثبيت أو في موضع تقديره الأمر مثل ذلك السوء

(2/15)


والفحشاء خيانة سيده والوقوع في الزنا المخلصين قرئ بفتح اللام حيث وقع أي الذين أخلصهم الله لطاعته وبالكسر أي الذين أخلصوا دينهم لله واستبقا الباب معناه سبق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب فقصد هو الخروج والهروب عنها وقصدت هي أن ترده فإن قيل كيف قال هنا الباب بالإفراد وقد قال بالجمع وغلقت الأبواب فالجواب أن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار وقدت قميصه من دبر أي قطعته من وراء وذلك أنها قبضت قميصه من خلفه لترده فتمزق القميص والقد القطع بالطول والقطع بالعرض وألفيا سيدها أي وجدا زوجها عند الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن لما رأت الفضيحة عكست القضية وادعت أن يوسف راودها عن نفسها فذكرت جزاء كل من فعل ذلك على العموم ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم وبناء على أن الذنب ثابت عليه بدعواها وما جزاء يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية قال هي راودتني عن نفسي برأ نفسه من دعواها وشهد ... 313

(2/16)


118 شاهد ) قيل هو ابن عمها وقيل كان طفلا في المهد فتكلم وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف وكونه لم يتكلم قط ثم تكلم بذلك كرامة ليوسف عليه السلام والتقدير شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القول إن كان قميصه قد من قبل فصدقت لأنها كانت تدافعه فتقد قميصه من قبل وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت لأنها جذبته إلى نفسها حين فر منها فقدت قميصه من دبر فلما رأى قميصه قد من دبر فاعل رأى زوجها أو الشاهد إنه من كيدكن الضمير للأمر أو لقولها ما جزاء
يوسف أعرض عن هذا أي اكتمه ولا تحدث به ويوسف منادى حذف منه حرف النداء لأنه قريب وفي حذف الحرف إشارة إلى تقريبه وملاطفته واستغفري لذنبك خطاب لها وذلك من كلام زوجها أو من كلام الشاهد من الخاطئين جاء بلفظ التذكير ولم يقل من الخاطئات تغليبا للذكور وقال نسوة في المدينة أي في مصر روي أنهن خمس نسوة امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب فتاها أي خادمها والفتى يقال بمعنى الشاب وبمعنى الخادم شغفها بلغ شغاف قلبها وهو غلافه وقيل السويداء منه وقيل الشغاف داء يصل إلى القلب سمعت بمكرهن أي بقولهن وسماء مكرا لأنه كان في خفية وقيل كانت قد استكتمتهن سرها فأفشينه عليها وأعتدت لهن متكأ أي أعتدت لهن ما يتكأ عليه من الفرش ونحوها وقيل المتكأ طعام وقرئ في الشاذ متكا بسكون التاء وتنوين الكاف وهو الأترج وإعطاؤها السكاكين لهن يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج وقيل كان لحما وقالت اخرج عليهن أمر ليوسف وإنما أطاعها لأنه كان مملوك زوجها أكبرنه أي عظمن شأنه وجماله وقيل معنى أكبرن حضن والهاء للسكت وهذا بعيد جدا وقطعن أيديهن أي اشتغلن بالنظر إليه وبهتن من جماله حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن كما يقطع الطعام حاش لله معناه براءة وتنزيه أي تنزيه لله

(2/17)


وتعجب من قدرته على خلقه مثله وحاش في باب الاستثناء تخفض على أنها حرف وأجاز المبرد النصب بها على أن تكون فعلا وأما هنا قال ابو علي الفارسي إنها فعل والدليل على ذلك من وجهين أحدهما أنها دخلت على لام الخبر وهو اللام في قوله لله ولا يدخل الحرف على حرف والآخر أنها حذفت منها الألف على قراءة الجماعة والحروف لا يحذف منها شيء وقرأها ابو عمر بالألف على الأصل وإنما تحذف من الأفعال كقولك لم يك ولا أدري والفاعل بحاش ضمير يعود على يوسف تقديره بعد يوسف عن الفاحشة لخوف الله وقال الزمخشري إن حاش وضع موضع المصدر كأنه قال تنزيها ثم قال الله ليبين من ينزه قال وإنما حذف منه ... 314

(2/18)


119 التنوين مراعاة لأصله من الحرفية ما هذا بشرا أخرجنه من البشر وجعلنه من الملائكة مبالغة في وصف الحسن إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه توبيخ لهن على اللوم فاستعصم أي طلب العصمة وامتنع مما أرادت منه أصب إليهن أي أميل وكلامه هذا تضرع إلى الله ثم بدا لهم أي ظهر والفاعل محذوف تقديره رأي والضمير في لهم لزوجها وأهلها أو من تشاور معه في ذلك رأوا الآيات أي الأدلة على براءته ودخل معه السجن فتيان أي شابان وقيل هنا محذوف لا بد منه وهو فسجنوه وكان يوسف قد قال لأهل السجن إني أعبر الرؤيا وكذلك سأله الفتيان عن منامهما وقيل إنهما استعملاها ليجرباه وقيل رأيا ذلك حقا أعصر خمرا قيل فيه سمى العنب خمرا بما يؤول إليه وقيل هي لغة إنا نراك من المحسنين قيل معناه في تأويل الرؤيا وقيل إحسانه إلى أهل السجن قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الآية تقتضي أنه وصف لهما نفسه بكثرة العلم ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله وفيه وجهان أحدهما أنه قال يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا من طعام قبل أن يأتيهما وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء والآخر أنه قال لا يأتيكما طعام في المنام إلا أخبرتكما بتأويله قبل أن يظهر تأويله في الدنيا ذلكما مما علمني ربي روي أنهما قالا له من أين لك هذا العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فقال ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله يحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلا لما قبله من قوله علمني ربي أو يكون استئنافا يا صاحبي السجن نسبهما إلى السجن إما لأنهما سكناه أو لأنهما صاحباه فيه كأنه قال يا صاحبي في السجن ءأرباب متفرقون الآية دعاهما إلى توحيد الله وأقام عليهما الحجة رغبة في إيمانهما ما تعبدون من دونه إلا أسماء أوقع الأسماء هنا موقع المسميات والمعنى سميتم ما لا يستحق الألوهية آلهة ثم عبدتموها

(2/19)


... 315
120 من سلطان أي حجة وبرهان فيسقي ربه خمرا يعني الملك وقال للذي ظن أنه ناج منهما الظن هنا يحتمل أن يكون بمعنى اليقين لأن قوله قضي الأمر يقتضي ذلك أو يكون على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن اذكرني عند ربك يعني الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه قيل الضمير ليوسف أي نسي في ذلك الوقت أن يذكر الله ورجا غيره فعاقبه الله على ذلك بأن لبث في السجن وقيل الضمير للذي نجا منهما وهو الساقي أي نسي ذكر يوسف عند ربه فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده والرب على هذا التأويل الملك بضع سنين البضع من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة وروي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولا ثم سجن بعد قوله ذلك سبع سنين وقال الملك هو ملك مصر الذي كان العزيز خادما له واسمه ريان بن الوليد وقيل مصعب بن الريان وكان من الفراعنة وقيل إنه فرعون موسى عمر أربعمائة سنة حتى أدركه موسى وهذا بعيد إني أرى سبع بقرات سمان يعني في المنام عجاف أي ضعاف في غاية الهزال يا أيها الملأ خطاب لجلسائه وأهل دولته للرؤيا تعبرون أي تعرفون تأويلها يقال عبرت الرؤيا بتخفيف الباء وأنكر بعضهم التشديد وهو مسموع من العرب وأدخلت اللام على المفعول به لما تقدم عن الفعل قالوا أضغاث أحلام أي تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس ووسوسة شيطان بحيث لا يعبر وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات واحده ضغث فإن قيل لم قال أضغاث أحلام بالجمع وإنما كانت الرؤيا واحدة فالجواب أن هذا كقولك فلان يركب الخيل وإن ركب فرسا واحدا وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين إما أن يريدوا تأويل الأحلام الباطلة أو تأويل الأحلام على الإطلاق وهو الأظهر وقال الذي نجا منهما هو ساقي الملك وادكر بعد أمة أي بعد حين يوسف أيها الصديق يقدر قبله محذوف لا بد منه وهو فأرسلوه فقال يا يوسف وسماه صديقا لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير

(2/20)


الرؤيا وغيرها والصديق مبالغة في الصدق أفتنا في سبع بقرات أي فيمن رأى سبع بقرات وكان الملك قد رأى سبع بقرات سمان أكلتهن سبع عجاف فعجب كيف علتهن وكيف وسعت في بطونهن ورأى سبع سنبلات خضر وقد التفت بها سبع يابسات حتى غطت خضرتها تزرعون سبع سنين هذا تعبير للرؤيا ... 316
121 وذلك أنه عبر البقرات السمان بسبع سنين مخصبة وعبر البقرات العجاف بسبع سنين مجدبة فكذلك السنبلات الخضر واليابسة دأبا بسكون الهمزة وفتحها مصدر دأب على العمل إذا داوم عليه وهو مصدر في موضع الحال فما حصدتم فذروه في سنبله هذا رأي أرشدهم يوسف إليه وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين فعلمهم حيلة يبقى بها من السنين المخصبة إلى السنين المجدبة وهي أن يتركوه في سنبله غير مدروس فإن الحبة إذا بقيت في غشائها انحفظت إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج إلى الأكل خاصة سبع شداد يعني سبع سنين ذات شدة وجوع يأكلن ما قدمتم لهن أي تأكلون فيهن ما اخترتم من الطعام في سنبله وأسند الأكل إلى السنين مجازا مما تحصنون أي تخزنون وتخبئون ثم يأتى من بعد ذلك عام هذا زيادة على ما تقتضيه الرؤيا وهو الإخبار بالعام الثامن يغاث الناس يحتمل أن يكون من الغيث أي يمطرون أو من الغوث أي يفرج الله عنهم وفيه يعصرون أي يعصرون الزيتون والعنب والسمسم وغير ذلك مما يعصر وقال الملك ائتونى به قيل هنا محذوف وهو فرجع الرسول إلى الملك فقص عليه مقالة يوسف فرأى علمه وعقله فقال ائتوني به قال ارجع إلى ربك فاسأله لما أمر الملك بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبرئ نفسه مما نسب إليه من مراودة امرأة العزيز عن نفسها وأن يعلم الملك وغيره أنه سجن ظلما فذكر طرفا من قصته لينظر الملك فيها فيتبين له الأمر وكان هذا الفعل من يوسف صبرا وحلما إذ لم يجب إلى الخروج من السجن ساعة دعى إلى ذلك بعد طول

(2/21)


المدة ومع ذلك فإنه لم يذكر امرأة العزيز رعيا لذمام زوجها وسترا لها بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن قال ما خطبكن الآية جمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن فسألهن عن قصة يوسف وأسند المراودة إلى جميعهن لأنه لم يكن عنده علم بأن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها قلن حاش لله تبرئة ليوسف أو تبرئة لأنفسهن من مراودته وتكون تبرئة ليوسف بقولهن ما علمنا عليه من سوء الآن حصحص الحق أي تبين وظهر ثم اعترفت على نفسها بالحق ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب قيل إنه من كلام امرأة العزيز متصلا بما قبله والضمير في يعلم وأخنه على هذا ليوسف عليه السلام أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال غيبته والإشارة بذلك إلى توبتها وإقرارها وقيل إنه من كلام يوسف عليه السلام فالضمير للعزيز أي لم أخنه في زوجته في غيبته بل تعففت عنها والإشارة بذلك إلى توقفه عن الخروج من السجن حتى تظهر براءته وما أبرئ نفسى اختلفت أيضا هل هو من كلام امرأة العزيز أو من كلام يوسف فإن كان من كلامها فهو اعتراف ... 317

(2/22)


122 بعد الاعتراف وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما هم به على وجه خطوره على قلبه لا على وجه العزم والقصد وقاله في عموم الأحوال على وجه التواضع إن النفس لأمارة بالسوء النفس هنا للجنس والنفوس ثلاثة أنواع أمارة بالسوء ولوامة وهي التي تلوم صاحبها ومطمئنة إلا ما رحم ربي استثناء من النفس إذ هي بمعنى النفوس أي الأنفس المرحومة وهي المطمئنة فما على هذا بمعنى الذي ويحتمل أن تكون ظرفية أي إلا حين رحمة الله أستخلصه لنفسي أي أجعله خاصتي وخلاصتي قال أو لا ائتوني به فلما تبين له حاله قال أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين أي فلما رأى حسن كلامه وعرف وفور عقله وعلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين والمكين من التمكين والأمين من الأمانة قال اجعلني على خزائن الأرض لما فهم يوسف من الملك أنه يريد تصريفه والاستعانة به قال له ذلك وإنما طلب منه الولاية رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان وكان هذا الملك كافرا ويستدل بذلك على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال وقيل إن الملك أسلم وأراد بقوله خزائن الأرض أرض مصر إذ لم يكن للملك غيرها والخزائن كل ما يخزن من طعام ومال وغير ذلك إني حفيظ عليم صفتان تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن وقيل حفيظ للحساب عليم بالألسن واللفظ أعم من ذلك ويستدل بذلك أنه يجوز للرجل أن يعرف بنفسه ويمدح نفسه بالحق إذا جهل أمره وإذا كان في ذلك فائدة وكذلك مكنا ليوسف في الأرض الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به وروي أن الملك ولاه في موضع العزيز وأسند إليه جميع الأمور حتى تغلب على أمره وأن امرأة العزيز شاخت وافترقت فتزوجها يوسف ودعا الله فرد عليها جمالها وشبابها وأنه باع من أهل مصر في أعوام القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق لهم شيء منها ثم بالحلي ثم بالدواب ثم بالضياع

(2/23)


والعقار ثم برقابهم حتى تملكهم جميعا ثم أعتقهم ورد عليهم أملاكهم نصيب برحمتنا من نشاء الرحمة هنا يراد بها الدنيا وكذلك الأجر في قوله ولا نضيع أجر المحسنين بدليل قوله بعد ذلك ولأجر الآخرة خير فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ومطيع وعاص وأن المحسن لا بد له من أجره في الدنيا فالأول في المشيئة والثاني واقع لا محالة ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله للذين آمنوا وكانوا يتقون وفي الآية إشارة إلى ان يوسف عليه السلام جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة
وجاء إخوة يوسف كان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم فخرجوا إلى مصر ليشتروا بها من الطعام الذي ادخره يوسف فعرفهم وهم له منكرون إنما أنكروه لبعد العهد به وتغيير سنه أو لأنه كان متلثما روي أنهم دخلوا عليه وهو على هيئة عظيمة من الملك وأنه سألهم ... 318

(2/24)


123 عن أحوالهم وأخبروه أنهم تركوا أخا لهم فحينئذ قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم وهو بنيامين شقيق يوسف ولما جهزهم بجهازهم الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد وغيره والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم خير المنزلين أي المضيفين وإنا لفاعلون أي نفعل ذلك لا محالة وقال لفتيانه جمع فتى وهو الخادم سواء كان حرا أو عبدا اجعلوا بضاعتهم في رحالهم أمر أن يجعلوا البضاعة التي اشتروا منه بها الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها أي لعلهم يعرفون اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم وليس الضمير للبضاعة لعلهم يرجعون أي لعل معرفتهم بها تدعوهم إلى الرجوع وقصد برد البضاعة إليهم مع الطعام استئلافهم بالإحسان إليهم منع منا الكيل إشارة إلى قولهم وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي فهو خوف من المنع في المستقبل نكتل وزنه نفتعل من الكيل ما نبغي ما استفهامية ونبغي بمعنى نطلب والمعنى أي شيء نطلبه بعد هذه الكرامة وهي رد البضاعة مع الطعام ويحتمل أن تكون ما نافية ونبغي من البغي أي لا نتعدى على أخينا ولا نكذب على الملك ونمير أهلنا أي نسوق لهم الطعام ونزداد كيل بعير يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف لا يعطي إلا كيل بعير من الطعام لإنسان فأعطاهم عشرة ابعرة ومنعهم الحادي عشر لغيبة صاحبه حتى يأتي والبعير الجمل ذلك كيل يسير إن كانت الإشارة إلى الأحمال فالمعنى أنها قليلة لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير فالمعنى أنه يسير على يوسف أي قليل عنده أو سهل عليه فلا يمنعهم منه حتى تؤتون موثقا من الله أراد أن يحلفوا له ولتأتنني به جواب اليمين إلا أن يحاط بكم أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقون الإتيان به يا بني لا تدخلوا من باب واحد خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمال وهيبة ما كان يغني عنهم جواب لما والمعنى أن ذلك ... 319

(2/25)


124 لا يدفع ما قضاه الله إلا حاجة استثناء منقطع والحاجة هنا هي شفقته عليهم ووصيته لهم آوى إليه أخاه أي ضمه قال إني أنا أخوك أخبره بأنه أخوه واستكتمه ذلك فلا تبتئس أي لا تحزن فهو من البؤس بما كانوا يعملون الضمير لإخوة يوسف ويعني ما فعلوا بيوسف وأخيه ويحتمل أن يكون لفتيانه أي لا تبالي بما تراه من تحيلي في أخذك جعل السقاية في رحل أخيه السقاية هي الصواع وهي إناء يشرب فيه الملك ويأكل فيه الطعام وكان من فضة وقيل من ذهب وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق له ثم أذن مؤذن أي نادى مناد أيتها العير أي أيتها الرفقة إنكم لسارقون خطاب لإخوة يوسف وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه وقيل إن حافظ السقاية نادى إنكم لسارقون بغير أمر يوسف وهذا بعيد لتفتيش الأوعية ولمن جاء به حمل بعير أي لمن جبره ورده حمل بعير من طعام على وجه الجعل وأنا به زعيم أي ضامن لحمل البعير لمن رد الصواع وهذا من كلام المنادي قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض أي استشهدوا بعلمهم لما ظهر لهم من ديانتهم في دخولهم أرضهم حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي قال فتيان يوسف ما جزاء آخذ الصواع إن كنتم كاذبين في قولكم وما كنا سارقين فالضمير في قوله جزاؤه يعود على الأخذ المفهوم من الكلام قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه المعنى أن إخوة يوسف أفتوا فيما سئلوا عنه فقالوا جزاء السارق أن يستعبد ويؤخذ في السرقة وأما الإعراب فيحتمل وجهين الأول أن يكون جزاؤه الأول مبتدأ ومن مبتدأ ثان وهي شرطية أو موصولة وخبرها فهو جزاؤه والجملة خبر جزاؤه الأول والوجه الثاني أن يكون من خبر المبتدأ الأول على حذف مضاف وتقديره جزاؤه أخذ من وجد في

(2/26)


رحله وتم الكلام ثم قال فهو جزاؤه أي هذا الحكم جزاؤه وكذلك نجزي الظالمين من كلام إخوة يوسف أي هذا حكمنا في السراق وقد كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ بقطع الأيدي فبدأ بأوعيتهم هذا تمكين للحيلة ورفع للتهمة ثم استخرجها من وعاء أخيه ليصح له بذلك إمساكه معه وإنما أنث الصواع في هذا الموضع لأنه سقاية أو لأن الصواع يذكر ويؤنث كذلك كدنا ليوسف أي صنعنا له هذا الصنع ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي في شرعه أو عادته لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم ولكن حكم في هذه القضية آل يعقوب نرفع درجات من نشاء يعني الرفعة بالعلم بدليل ما بعده وفوق كل ذي علم عليم أي ... 320

(2/27)


125 فوق كل عالم من هو أعلم منه من البشر أو الله عز وجل
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل الضمير في قالوا لإخوة يوسف وأشاروا إلى يوسف ومعنى كلامهم إن يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل فهذا الأمر إنما صدر من ابني راحيل لامنا وقصدوا بذلك رفع المعرة عن أنفسهم ورموا بها يوسف وشقيقه واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال الأول أن عمته ربته فأراد والده أن يأخذه منها وكانت تحبه ولا تصبر عنه فجعلت عليه منطقة لها ثم قالت إنه أخذها فاستبعدته بذلك وبقي عندها إلى أن ماتت والثاني أنه أخذ صنما لجده والد أمه فكسره والثالث أنه كان يأخذ الطعام من دار أبيه ويعطيه المساكين فأسرها يوسف في نفسه قال الزمخشري الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله أنتم شر مكانا والمعنى قال في قوله انتم شر مكانا وقال ابن عطية الضمير للحرارة التي وجد في نفسه من قولهم فقد سرق أخ له من قبل وأسر كراهية مقالتهم ثم جاهرهم بقوله أنتم شر مكانا أي لسوء أفعالكم والله أعلم بما تصفون إشارة إلى كذبهم فيما وصفوه به من السرقة إن له أبا شيخا كبيرا استعطافا وكانوا قد أعلموه بشدة محبة أبيه فيه فخذ أحدنا مكانه على وجه الضمان والاسترهان والانقياد وهذا هو الأظهر لقوله معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده من المحسنين أي أحسنت إلينا فيما فعلت معنا من قبل أو على الإطلاق واستيئسوا أي يئسوا خلصوا نجيا أي انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا والنجي يكون بمعنى المناجي أو مصدرا قال كبيرهم قيل كبيرهم في السن وهو روبيل وقيل كبيرهم في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا ومن قبل ما فرطتم في يوسف تحتمل ما وجوها الأول أن تكون زائدة والثاني أن تكون مصدرية ومحلها الرفع بالابتداء تقديره وقع من قبل تفريطكم في يوسف والثالث أن تكون موصولة ومحلها أيضا الرفع كذلك والأول أظهر فلن أبرح الأرض يريد

(2/28)


الموضع الذي وقعت فيه القصة ارجعوا إلى أبيكم من قول كبيرهم وقيل من قول يوسف وهو بعيد إن ابنك سرق قرأ الجمهور بفتح الراء والسين وروي عن الكسائي سرق بضم السين وكسر وتشديد الراء أي نسبت له السرقة وما شهدنا إلا بما علمنا أي قولنا لك إن ابنك إنما هو شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى وما كنا للغيب حافظين أي لا نعلم الغيب هل ذلك حق في نفس الأمر أم لا إذ يمكن أن يدس الصواع في رحله من غير علمه وقال الزمخشري المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقناه لأن الصواع استخرج من وعائه وما كنا للغيب حافظين ... 321

(2/29)


126 أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري والقراءة بالضم تعضد القول الأول
واسأل القرية تقديره واسأل أهل القرية وكذلك أهل العير يعنون الرفقة هذا هو قول الجمهور وقيل المراد سؤال القرية بنفسها والعير بنفسها ولا يبعد أن تخبره الجمادات لأنه نبي والأول أظهر وأشهر على أنه مجاز والقرية هنا هي مصر قال بل سولت لكم قبله محذوف تقديره فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له هذا الكلام فقال بل سولت الآية بهم جميعا يعني يوسف وأخاه بنيامين وأخاهم الكبير الذي قال لن أبرح الأرض وتولى عنهم لما لم يصدقهم أعرض عنهم ورجع إلى التأسف وقال يا أسفي على يوسف تأسف على يوسف دون أخيه الثاني والثالث الذاهبين لأن حزنه عليه كان أشد لإفراط محبته ولأن مصيبته كانت السابقة وابيضت عيناه من الحزن أي من البكاء الذي هو ثمرة الحزن فقيل إنه عمي وقيل إنه كان يدرك إدراكا ضعيفا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حزن حزن سبعين ثكلى وأعطى أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط فهو كظيم قيل إنه فعيل بمعنى فاعل أي كاظم لحزنه لا يظهره لأحد ولا يشكو إلا لله وقيل بمعنى مفعول كقوله إذ نادى وهو مكظوم أي مملوء القلب بالحزن أو بالغيظ على أولاده وقيل الكظيم الشديد الحزن تالله تفتؤ أي لا تفتؤ والمعنى لا تزال وحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتا لكان مؤكدا باللام والنون حرضا أي مشرفا على الهلاك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله رد عليهم في تفنيدهم له أي إنما أشكو إلى الله لا إليكم ولا إلى غيركم والبث أشد الحزن وأعلم من الله ما لا تعلمون أي أعلم من لطفه ورأفته ورحمته ما يوجب حسن ظني به وقوة رجائي فيه يا بني اذهبوا يعني إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا خبرهما والتحسس طلب الشيء بالحواس السمع والبصر

(2/30)


وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختيارا منه ولأن يوسف وأخاه كانا أحب إليه
ولا تيئسوا من روح الله أي من رحمة الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون إنما جعل اليأس من صفة الكافر لأن سببه تكذيب الربوبية أو جهلا بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته فلما دخلوا عليه أي على يوسف وقيل هذا محذوف تقديره فرجعوا إلى مصر الضر يريدون به المجاعة أو الهم على إخوتهم ببضاعة مزجاة يعنون الدراهم التي جاؤا بها لشراء الطعام والمزجاة القليلة وقيل الرديئة وقيل الناقصة وقيل إن بضاعتهم كانت عروضا ... 322

(2/31)


127 فلذلك قالوا هذا وتصدق علينا قيل يعنون بما بين الدراهم الجياد ودراهمهم وقيل أوف لنا الكيل الذي هو حقنا وزدنا على حقنا وسموا الزيادة صدقة ويقتضي هذا أن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل تصدق علينا برد أخينا إلينا إن الله يجزي المتصدقين قال النقاش هو من المعاريض ذلك أنهم كانوا يعتقدون أنه كافر لأنهم لم يعرفوه فظنوا أنه على دين أهل مصر فلو قالوا إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا فقالوا لفظا يوهم أنهم أرادوه وهم لم يريدوه قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه لما شكوا إليه رق لهم وعرفهم بنفسه وروي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لثام ثم أزال اللثام ليعرفوه وأراد بقوله ما فعلتم بيوسف وأخيه التفريق بينهما في الصغر ومضرتهم ليوسف وإذايتهم أخيه من بعده فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه إذ أنتم جاهلون اعتذار عنهم فيحتمل أن يريد الجهل بقبح ما فعلوه أو جهل الشباب قالوا أئنك لأنت يوسف قرئ بالاستفهام والخبر فالخبر على أنهم عرفوه والاستفهام على أنهم توهموا انه هو ولم يحققوه ومن يتق ويصبر قيل إنه أراد من يتق في ترك المعصية ويصبر على السجن واللفظ أعم من ذلك آثرك الله علينا أي فضلك لخاطئين أي عاصين وفي كلامهم استعطاف واعتراف لا تثريب عليكم عفو جميل والتثريب التعنيف والعقوبة وقوله اليوم راجع إلى ما قبله فيوقف عليه وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار قيل إنه يتعلق بيغفر وهذا بعيد لأنه تحكم على الله وإنما يغفر دعاء فكأنه أسقط حق نفسه بقوله لا تثريب عليكم اليوم ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقه اذهبوا بقميصي روي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله له حين أخرج من النار وكان من ثياب الجنة ثم صار لإسحاق ثم ليعقوب ثم دفعه يعقوب ليوسف وهذا يحتاج إلى سند يوثق به والظاهر أنه كان قميص يوسف الذي بمنزلة قميص كل أحد يأت بصيرا الظاهر

(2/32)


أنه علم ذلك بوحي من الله فصلت العير أي خرجت من مصر متوجهة إلى يعقوب قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف كان يعقوب ببيت المقدس ووجد ريح القميص وبينهما مسافة بعيدة لولا أن تفندون أي تلومونني أو تردون على قولي وقيل معناه تقولون ذهب عقلك لأن الفند هو الخرف في ضلالك القديم أي ذهابك عن الصواب بإفراط محبتك في يوسف قديما فلما أن جاء البشير روي أن البشير يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم فقال لإخوته إني ذهبت إليه بقميص القرحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة قال سوف أستغفر لكم ربي وعدهم بالاستغفار لهم فقيل سوفهم إلى السحر لأن ... 323

(2/33)


128 الدعاء يستجاب فيه وقيل إلى ليلة الجمعة فلما دخلوا على يوسف هنا محذوفات يدل عليها الكلام وهي فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا يوسف آوى إليه أبويه أي ضمهما وأراد بالأبوين أباه وأمه وقيل أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت وسمى الخالة على هذا أما إن شاء الله راجع إلى الأمن الذي في قوله آمنين رفع أبويه على العرش أي على سرير الملك وخروا له سجدا كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل يعني حين رأى أخد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له وكان بين رؤياه وبين ظهور تأويلها ثمانون عاما وقيل أربعون أحسن بي يقال أحسن إليه وبه أخرجني من السجن إنما لم يقل أخرجني من الجب لوجهين أحدهما أن في ذكر الجب خزي لإخوته وتعريفهم بما فعلوه فترك ذكره توقيرا لهم والآخر أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك فالنعمة به أكثر وجاء بكم من البدو أي من البادية وكانوا أصحاب إبل وغنم فعد من النعم مجيئهم للحاضرة نزغ الشيطان أي أفسد وأغوى لطيف لما يشاء أي لطيف التدبير لما يشاء من الأمور من الملك من للتبعيض لأنه لم يعطه إلا بعض ملك الدنيا بل بعض ملك مصر توفني مسلما لما عدد النعم التي أنعم الله بها عليه اشتاق إلى لقاء ربه ولقاء الصالحين من سلفه وغيرهم فدعا بالموت وقيل ليس ذلك دعاء بالموت وإنما دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله ذلك من أنباء الغيب احتجاج على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره بالغيوب وما كنت لديهم الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تأكيدا لحجته والضمير لإخوة يوسف إذ أجمعوا أي عزموا وهم يمكرون يعني فعلهم بيوسف وما أكثر الناس عموم لأن الكفار أكثر من المؤمنين وقيل أراد أهل مكة ولو حرصت بمؤمنين اعتراض أي لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم وما تسئلهم عليه من أجر أي

(2/34)


لست تسألهم أجرا على الإيمان فيثقل عليهم بسبب ذلك وهكذا معناه حيث وقع وكأي من آية يعني المخلوقات والحوادث الدالة على الله سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون نزلت في كفار العرب الذين يقرون بالله ويعبدون معه غيره وقيل في أهل الكتاب لقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله غاشية هي ما يغشى ويعم قل هذه ... 324
129 سبيلي ) إشارة إلى شريعة الإسلام أدعو إلى الله على بصيرة أي أدعو الناس إلى عبادة الله وأنا على بصيرة من أمري وحجة واضحة أنا ومن اتبعني أنا تأكيد للضمير في أدعو ومن اتبعني معطوف عليه وعلى بصيرة في موضع الحال وقيل أنا مبتدأ وعلى بصيرة خبره فعلى هذا يوقف على قوله أدعو إلى الله وهذا ضعيف وسبحان الله تقديره وأقول سبحان الله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا رد على من أنكر أن يكون النبي من البشر وقيل فيه إشارة إلى أنه لم يبعث رسولا من النساء من أهل القرى أي من أهل المدن لا من أهل البوادي فإن الله لم يبعث رسولا من أهل البادية لجفائهم حتى إذا استيأس الرسل متصل بالمعنى بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إلى قوله عاقبة الذين من قبلهم ويأسهم يحتمل أن يكون من إيمان قومهم أو من النصر والأول أحسن وظنوا أنهم قد كذبوا قرئ بتشديد الذال وتخفيفها فأما التشديد فالضمير في ظنوا وكذبوا للرسل والظن يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين أي علم الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيئسوا من إيمانهم وأما التخفيف فالضميران فيه للقوم المرسل إليهم أي ظنوا أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من الرسالة أو من النصرة عليهم في قصصهم الضمير للرسل على الإطلاق أو ليوسف وإخوته ما كان حديثا يفترى يعني القرآن ولكن تصديق الذي بين يديه تقدم معناه في البقرة
سورة الرعد
تلك آيات الكتاب أي آيات هذه السورة ويحتمل أن يريد آيات الكتب على الإطلاق ويحتمل أن يريد

(2/35)


القرآن على الإطلاق وهذا بعيد لتكرار القرآن بعد ذلك والذي أنزل إليك يعني القرآن وإعرابه مبتدأ وخبره الحق بغير عمد أي بغير شيء تقف عليه إلا قدرة الله ترونها قيل الضمير للسموات وترونها على هذا في موضع الحال أو استئنافا ... 325
130 وقيل الضمير للعمد أي ليس لها عمد مرئية فيقتضي المفهوم من أن لها عمدا لا ترى وقيل إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا وقال الجمهور لا عمد لها البتة فالمراد نفي العمد ونفي رؤيتها ثم استوى على العرش ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب وقوع الأمر فإن العرش كان قبل خلق السموات وتقدم الكلام على الاستواء في الأعراف يدبر الأمر يعني أمر الملكوت يفصل الآيات يعني آيات كتبه مد الأرض يقتضي أنها بسيطة لا مكورة وهو ظاهر الشريعة وقد يترتب لفظ البسط والمد مع التكوير لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها وإنما التكوير لجملة الأرض رواسي يعني الجبال الثابتة زوجين اثنين يعني صنفين من الثمر كالأسود والأبيض والحلو والحامض فإن قيل تقتضي الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين وقد خلق من كثير من الثمرات أصناف كثيرة والجواب أن ذلك زيادة في الاعتبار وأعظم في الدلالة على القدرة فذكر الاثنين لأن دلالة غيرهما من باب أولي وقيل إن الكلام تم في قوله من كل الثمرات ثم ابتدأ بقوله جعل فيها زوجين يعني الذكر والأنثى والأول أحسن يغشي الليل النهار أي يلبسه إياه فيصير له كالغشاء وذلك تشبيه قطع متجاورات يعني قطع متلاصقة ومع تلاصقها فإن أرضها تتنوع إلى طيب وردئ وصلب ورخو وغير ذلك وكل ذلك دليل على الصانع المختار المريد القادر صنوان وغير صنوان الصنوان هي النخلات الكثيرة ويكون أصلها واحد وغير الصنوان المفترق فردا فردا وواحد الصنوان صنو يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل حجة وبرهان على أنه تعالى قدير ومريد لأن اختلاف مذاقها وأشكالها وألوانها

(2/36)


مع اتفاق الماء الذي تسقى به دليل على القدرة والإرادة وفي ذلك رد على القائلين بالطبيعة وإن تعجب فعجب قولهم أي إن تعجب يا محمد فإن إنكارهم للبعث حقيق أن يتعجب منه فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السموات والأرض والثمار قادر على إنشاء الخلق بعد موتهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد هذا هو قول الكفار المنكرين للبعث واختلف القراء في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي فيها استفهامان وهي أحد عشر موضعا أولها هذا وفي الإسراء موضعان وفي المؤمنين موضع وفي النمل موضع وفي العنكبوت موضع وفي الم السجدة موضع وفي الصافات موضعان وفي الواقعة موضع وفي النازعات موضع فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول والثاني ومنهم من قرأ بالاستفهام في الأول فقط وهو نافع ومنهم من قرأ بالاستفهام في الثاني فقط وأصل الاستفهام في المعنى وإنما هو عن الثاني في مثل هذا الموضع فإن همزة الاستفهام معناها الإنكار وإنما أنكروا أن يكونوا خلقا جديدا ولم ينكروا أن يكونوا ترابا فمن قرأ بالاستفهام في الثاني فقط فهو على الأصل ومن قرأ بالاستفهام في ... 326

(2/37)


131 الأول فالقصد بالاستفهام الثاني ومن قرأ بالاستفهام فيهما فذلك للتأكيد وأولئك الأغلال في أعناقهم يحتمل أن يريد الأغلال في الآخرة فيكون حقيقة أو يريد أنهم ممنوعون من الإيمان كقولك إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فيكون مجازا يجري مجرى الطبع والختم على القلوب ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة أي بالنقمة قبل العافية والمعنى أنهم طلبوا العذاب على وجه الاستخفاف وقد خلت من قبلهم المثلات جمع مثلة على وزن تمرة وهي العقوبة العظيمة التي تجعل الإنسان مثلا والمعنى كيف يطلبون العذاب وقد أصابت العقوبات الأمم الذين كانوا قبلهم أفلا يخافون مثل ذلك وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم يريد ستره وإمهاله في الدنيا للكفار والعصاة وقيل يريد مغفرته لمن تاب والأول أظهر هنا ويقول الذين كفروا الآية اقترحوا نزول آية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نزول ملك معه أو شبه ذلك ولم يعتبروا بالقرآن ولا بغيره من الآيات العظام التي جاء بها وذلك منهم معاندة إنما أنت منذر أي إنما عليك إنذارهم وليس عليك أن تأتيهم بآية إنما ذلك إلى الله ولكل قوم هاد فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يراد بالهادي الله تعالى فالمعنى إنما عليك الإنذار والله هو الهادي لمن يشاء إذا شاء والوجه الثاني أن يريد بالهادي النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى إنما أنت نبي منذر ولك قوم هاد من الأنبياء ينذرهم فليس أمرك ببدع ولا مستنكر الثالث روي أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا المنذر وأنت يا علي الهادي الله يعلم ما تحمل كل أنثى كقوله يعلم ما في الأرحام وهي من الخمس التي لا يعلمها إلا الله ويعني يعلم هل هو ذكر أو أنثى تام أو خداج أو حسن أو قبيح أو غير ذلك وما تغيض الأرحام وما تزداد معنى تغيض تنقص ومعنى تزداد من الزيادة وقيل إن الإشارة بدم الحيض فإنه يقل ويكبر وقيل للولد فالغيض السقط أو الولادة لأقل من

(2/38)


تسعة أشهر والزيادة إبقاؤه أكثر من تسعة اشهر ويحتمل أن تكون ما في قوله ما تحمل وما تغيض وما تزداد موصولة أو مصدرية سواء منكم من أسر القول ومن جهر المعنى إن الله يسمع كل شيء فالجهر والإسرار عنده سواء وفي هذا وما بعده تقسيم وهو من أدوات البيان فإنه ذكر أربعة أقسام وفيه أيضا مطابقة ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار المعنى سواء عند الله المستخفي بالليل وهو في غاية الاختفاء مع السارب بالنهار وهو في غاية الظهور ومعنى السارب المتصرف في سربه بالفتح أي في طريقه ووجهه والسارب والمستخفي اثنان قصد التسوية بينهما في اطلاع الله عليهما مع تباين حالهما وقيل إن المستخفي بالليل والسارب بالنهار صفتان لموصوف ... 327

(2/39)


132 واحد يستخفي بالليل ويظهر بالنهار ويعضد هذا كونه قال وسارب فعطفه عطف الصفات ولم يقل ومن هو سارب بتكرار من كما قال من أسر القول ومن جهر به إلا أن جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به فيكمل التقسيم إلى أربعة على هذا ويكون قوله وسارب عطف على الجملة وهو قوله ومن هو مستخف لا على مستخف وحده له معقبات المعقبات هنا جماعة الملائكة وسميت معقبات لأن بعضهم يعقب بعضا والضمير في له يعود على من المتقدمة كأنه قال لمن أسر ومن جهر ولمن استخفى ومن ظهر له معقبات وقيل يعود على الله وهو قول ضعيف لأن الضمائر التي بعده تعود على العبد باتفاق يحفظونه صفة للمعقبات وهذا الحفظ يحتمل أن يراد به حفظ أعماله أو حفظه وحراسته من الآفات من أمر الله صفة للمعقبات أي معقبات من أجل أمر الله أي أمرهم بحفظه وقرئ بأمر الله وهذه القراءة تعضد ذلك ولا يتعلق من أمر الله على هذا ليحفظونه وقيل يتعلق به على أنهم يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم له واستغفارهم إن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعم حتى يغيروا ما بأنفسهم بالمعاصي فيقتضي ذلك أن الله لا يسلب النعم ولا يترك النقم إلا بالذنوب يريكم البرق خوفا وطمعا الخوف يكون مع البرق من الصواعق والأمور الهائلة والطمع في المطر الذي يكون معه السحاب الثقال وصفها بالثقل لأنها تحمل الماء ويسبح الرعد بحمده الرعد اسم ملك وصوته المسموع تسبيح وقد جاء في الأثر أن صوته زجر للسحاب فعلى هذا يكون تسبيحه غير ذلك ويرسل الصواعق قيل إنه إشارة إلى الصاعقة التي نزلت على أربد الكافر وقتله حين هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأخوه عامر بن الطفيل واللفظ أعم من ذلك وهم يجادلون في الله يعني الكفار والوار للاستئناف أو للحال شديد المحال أي شديد القوة والمحال مشتق من الحيلة فالميم زائدة ووزنه مفعل وقيل معناه شديد المكر من قولك محل

(2/40)


بالرجل إذا مكر به فالميم على هذا أصلية ووزنه فعال وتأويل المكر على هذا القول كتأويله في المواضع التي وردت في القرآن له دعوة الحق قيل هي لا إله إلا الله والمعنى أن دعوة العباد بالحق لله ودعوتهم بالباطل لغيره والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء يعني بالذين ما عبدوا من دون الله من الأصنام وغيرها والضمير في يدعون للكفار والمعنى أن المعبودين لا يستجيبون لمن عبدهم إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه شبه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفيه وأشار إليه بالإقبال إلى فيه ولا يبلغ فمه على هذا أبدا لأن الماء جماد لا يعقل المراد فكذلك ... 328

(2/41)


133 الأصنام والضمير في قوله وما هو للماء وفي ببالغه للفم ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها من لا تقع إلا على من يعقل فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن فإذا جعلنا السجود بمعنى الانقياد لأمر الله وقضائه فهو عام في الجميع من شاء منهم ومن أبى ويكون طوعا لمن أسلم وكرها لمن كره وسخط وإن جعلنا السجود هو المعروف بالجسد فيكون لسجود الملائكة والمؤمنين من الإنس والجن طوعا وأما الكره فهو سجود المنافق وسجود ظل االكافر وظلالهم معطوف على من والمعنى أن الظلال تسجد غدوة وعشية وسجودها انقيادها للتصرف بمشيئة الله سبحانه وتعالى قل لله جواب عن السؤال المتقدم وهو من رب السموات والأرض وإنما جاء الجواب والسؤال من جهة واحدة لأنه أمر واضح لا يمكن جحده ولا المخالفة فيه ولذلك اقام به الحجة على المشركين بقوله أفاتخذتم من دونه أولياء قل هل يستوي الأعمى والبصير الأعمى تمثيل للكافر والبصير تمثيل للمؤمن الظلمات الكفر والنور الإيمان وذلك كله على وجه التشبيه والتمثيل أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم أم هنا بمعنى بل والهمزة وخلقوا صفة لشركاء والمعنى أن الله وقفهم هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله ثم أبطل ذلك بقوله قل الله خالق كل شيء فحصل الرد عليهم أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية وينتفع به أهل الأرض وبالذهب والفضة والحديد والصفر وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله وزواله بالزبد الذي يرى به السيل ويريد تلك المعادن التي يطفو فوقها إذا أذيبت وليس في الزبد منفعة وليس له دوام بقدرها يحتمل أن يريد ما قدر لها من الماء ويحتمل أن يريد بقدر ما

(2/42)


تحتمله على قدر صغرها وكبرها
زبدا رابيا الزبد ما يحمله السيل من غثاء ونحوه والرابي المنتفخ الذي ربى ومنه الربوة ومما يوقدون المجرور في موضع خبر المقدم والمبتدأ زبد مثله أي ينشأ من الأشياء التي يوقد عليها زبد مثل زبد السيل ابتغاء حلية أو متاع الذي يوقد عليه ابتغاء الحلي هو الذهب والفضة والذي يوقد عليه ابتغاء متاع هو الحديد والرصاص والنحاس والصفر وشبه ذلك والمتاع ما يستمتع به في مرافقهم وحوائجهم يضرب الله الحق والباطل أي يضرب أمثال الحق والباطل جفاء يجفاه السيل أي يرمي به وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار للذين استجابوا لربهم الحسنى الذين استجابوا هم المؤمنون وهذا ... 329

(2/43)


134 استئناف كلام والحسنى الجنة وإعرابها مبتدأ وخبرها للذين استجابوا وللذين استجابوا مبتدأ وخبره لو أن لهم ما في الأرض الآية فيوقف على الأمثال وعلى الحسنى وقيل للذين استجابوا يتعلق بيضرب والحسنى مصدرمن معنى استجابوا أي استجابوا الاستجابة الحسنى والذين لم يستجيبوا معطوف على الذين استجابوا والمعنى يضرب الله الأمثال للطائفتين وعلى هذا إنما يوقف على والذين لم يستجيبوا له سوء الحساب أي المناقشة والاستقصاء أفمن يعلم تقرير والمعنى أسواء من آمن ومن لم يؤمن والأعمى هنا من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأبي جهل لعنه الله يصلون ما أمر الله به أن يوصل القرابات وغيرها ويدرءون بالحسنة السيئة قيل يدفعون الشرك بقول لا إله إلا الله وقيل يدفعون من أساء إليهم بالتي هي أحسن والأظهر يفعلون الحسنات فيدرؤن بها السيئات كقوله إن الحسنات يذهبن السيئات وقيل إن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة في كل مؤمن اتصف بهذه الصفات عقبى الدار يعني الجنة ويحتمل أن يريد بالدار الآخرة وأضاف العقبى إليها لأنها فيها ويحتمل أن يريد بالدار الدنيا وأضاف العقبى إليها لأنها عاقبتها جنات عدن بدل من عقبى الدار أو خبر ابتداء مضمر تفسير العقبى الدار ومن صلح أي من كان صالحا سلام عليكم أي يقولون لهم سلام عليكم بما صبرتم يتعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم ويجوز أن يتعلق بسلام أي ليسلم عليكم بما صبرتم والذين ينقضون عهد الله إلى آخر الآية أوصاف مضافة كما تقدم وقيل إنها في الخوارج والأظهر أنها في الكفار سوء الدار يحتمل أن يراد بها الدنيا والآخرة الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وهذا تفسيره حيث وقع وفرحوا بالحياة الدنيا إخبار في ضمنه ذم وتسفيه لمن فرح بالدنيا لذلك حقرها بقوله وما الحياة

(2/44)


الدنيا في الآخرة إلا متاع أي قليل بالنظر إلى الآخرة قل إن الله يضل من يشاء خرج به مخرج التعجب منهم لما طلبوا آية أي قد جاءكم محمد ... 330
135 صلى الله عليه وسلم بالقرآن وآيات كثيرة فعميتم عنها وطلبتم غيرها وتماديتم على الكفر لأن الله يضل من يشاء مع ظهور الآيات وقد يهدي من يشاء دون ذلك
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله بدل من من أناب أو خبر ابتداء مضمر والذين آمنوا وعملوا الصالحات بدل ثان أو مبتدأ طوبى مصدر من طاب كبشرى ومعناها أصابت خيرا وطيبا وقيل هي شجرة في الجنة وإعرابها مبتدأ كذلك أرسلناك الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهم يكفرون بالرحمن قيل إنها نزلت في أبي جهل وقيل نزلت في قريش حين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فكتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال قائلهم نحن لا نعرف الرحمن وهذا ضعيف لأن الآية نزلت قبل ذلك ولأن تلك القصة إنما أنكروا فيها التسمية فقط ومعنى الآية أنهم يكفرون بالله مع تلاوة القرآن عليهم متاب مفعل من التوبة وهو اسم مصدر ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية جواب لو محذوف تقديره لو أن قرآنا على هذه الصفة من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى لم يؤمنوا به فالمعنى كقوله لا يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية وقيل تقديره ولو أن قرآنا على هذه الصفة لكان هذا القرآن الذي هو غاية في التذكير ونهاية في الإنذار كقوله لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا وقيل هو متعلق بما قبله والمعنى وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أفلم ييأس معناه أفلم يعلم وهي لغة هوازن ولا يزال الذين كفروا يعني كفار قريش قارعة يعني مصيبة في أنفسهم وأولادهم وأموالهم أو غزوات المسلمين إليهم أو تحل الفاعل ضمير القارعة والمعنى إما أن تصيبهم وإما أن تقرب منهم وقيل التاء للخطاب والفاعل

(2/45)


ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم والأول أظهر حتى يأتي وعد الله هو فتح مكة وقيل قيام الساعة ولقد استهزئ الآية مقصدها تأنيس وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا حيث وقع فأمليت أي أمهلتهم أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت هو الله تعالى أي حفيظ رقيب على عمل كل أحد والخبر محذوف تقديره أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق أن يعبد أم غيره ويدل على ذلك قوله أم جعلوا لله شركاء قل سموهم أي اذكروا أسماءهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض المعنى أن الله لا يعلم ... 331

(2/46)


136 لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم هو فليسوا بشيء فكيف تفترون الكذب في عبادتهم وتعبدون الباطل وذلك كقولك قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف فهو كالعدم أم بظاهر من القول المعنى أتسمونهم شركاء بظاهر اللفظ من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم لهم عذاب في الحياة الدنيا يعني بالقتل والأسر والخوف وغير ذلك مثل الجنة هنا وفي القتال صفتها وليس بضرب مثل لها والخبر عند سيبويه محذوف مقدم تقديره فيما يتلى عليكم صفة الجنة وقال الفراء الخبر مؤخر وهو تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم يعني ما يؤكل فيها من الثمرات وغيرها والأكل بضم الهمزة المأكول ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها والأكل بفتح الهمزة المصدر والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك يعني من أسلم من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه وقيل يعني المؤمنين والكتاب على هذا القرآن ومن الأحزاب قيل هم بنو أمية وبنو المغيرة من قريش والأظهر أنها في سائر كفار العرب وقيل هم اليهود والنصارى لأنهم لا ينكروا القصاص والأشياء التي في كتبهم وإنما ينكرون البعض مما لا يعرفونه أو حرفوه قل إنما أمرت أن أعبد الله وجه اتصاله بما قبله أنه جواب المنكرين ورد عليهم كأنه قال إنما أمرت بعبادة الله وتوحيده فكيف تنكرون هذا مآب مفعل من الأوب وهو الرجوع أي مرجعي في الآخرة أو مرجعي بالتوبة وجعلنا لهم أزواجا وذرية رد على من أنكر أن يكون الرسول من البشر أو يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من النساء والذرية فالمعنى لست ببدع في ذلك بل أنت كمن تقدم من الرسل وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله رد على الذين اقترحوا الآيات لكل أجل كتاب قال الفراء لكل كتاب أجل بالعكس وهذا لا يلزم بل المعنى صحيح من غير عكس أي لكل اجل كتاب كتبه الله في اللوح المحفوظ يمحو الله ما يشاء ويثبت قيل يعني

(2/47)


ينسخ ما يشاء من القرآن والأحكام ويثبت منها ما يشاء وقيل هي في آجال بني آدم وذلك أن الله تعالى قدر في ليلة القدر وقيل في ليلة النصف من شعبان بكتب أجل من يموت في ذلك العام فيمحوه من ديوان الأحياء ويثبت من لا يموت في ذلك العام وقيل إن المحو والإثبات على العموم في جميع الأشياء وهذا ترده القاعدة المتقررة أن القضاء لا يبدل وأن علم الله لا يتغير فقال بعضهم المحو والإثبات ... 332
137 في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة الأخروية والآجال وعنده أم الكتاب أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الأشياء كلها وإن ما نرينك إن شرط دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فإنما أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها الاتيان هنا بالقدرة والأمر والأرض أرض الكفار ونقصها هو بما يفتح الله على المسلمين منها والمعنى أولم يروا ذلك فيخافوا أن نمكنك منهم وقيل الأرض جنس ونقصها بموت الناس وهلاك الثمرات وخراب البلاد وشبه ذلك لا معقب لحكمه المعقب الذي يكر على الشيء فيبطله فلله المكر جميعا تسمية للعقوبة باسم الذنب وسيعلم الكافر تهديد والمراد بالكافر الجنس بدليل قراءة الكفار بالجمع وعقبى الدار الدنيا والآخرة قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم أمره الله أن يستشهد الله على صحة نبوته وشهادة الله له هي علمه بذلك وإظهاره الآيات الدالة على ذلك ومن عنده علم الكتاب معطوف على اسم الله على وجه الاستشهاد به وقيل المراد عبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين يعلمون صفته صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل وقيل المراد المؤمنون الذين يعلمون علم القرآن ودلالته على النبوة وقيل المراد الله تعالى فهو الذي عنده علم الكتاب ويضعف هذا لأنه عطف صفة على موصوف ويقويه قراءة ومن عنده بمن الجارة وخفض عنده
سورة إبراهيم عليه السلام
لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الخطاب

(2/48)


للنبي صلى الله عليه وسلم والظلمات الكفر والجهل والنور الإيمان والعلم بإذن ربهم أي بأمره وهو إرساله إلى صراط العزيز الحميد بدل من إلى النور الله قرئ بالرفع وهو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر وبالخفض بدل يستحبون أي يؤثرون ويبغونها قد ذكر بلسان قومه أي بلغتهم وكلامهم أن ... 333
138 أخرج ) أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن وذكرهم بأيام الله أي عقوباته للأمم المتقدمة وقيل إنعامه على بني إسرائيل واللفظ يعم النعم والنقم وعبر عنها بالأيام لأنها كانت في أيام وفي ذلك تعظيم لها كقولهم يوم كذا ويوم كذا ويذبحون أبناءكم ذكر هنا بالواو ليدل على أن سوء العذاب غير الذبح أو أعم من ذلك ثم جر الذبح كقوله وملائكته وجبريل وميكال ذكر في البقرة بغير واو تفسير للعذاب وإذ تأذن ربكم من كلام موسى وتأذن بمعنى أذن أي أعلم كقولك توعد وأوعد وإعلام الله مقترن بإنفاذ ما أعلم به لئن شكرتم لأزيدنكم هذا معمول تأذن لأنه يتضمن معنى قال ويحتمل أن تكون الزيادة من خير الدنيا أو من الثواب في الآخرة أو منهما ولئن كفرتم يحتمل أن يريد كفر النعم أو الكفر بالإيمان والأول أرجح لمقابلته بالشكر لا يعلمهم إلا الله عبارة عن كثرتهم كقوله وقرونا بين ذلك كثيرا فردوا أيديهم في افواههم فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الضمائر لقوم الرسل والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم غيظا من الرسل كقوله عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو استهزاء وضحكا كمن غلبه الضحك فوضع يده على فمه والثاني أن الضمائر لهم والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت والثالث أنهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء تسكيتا لهم وردا لقولهم أفى الله شك المعنى أفي وجود الله شك أو أفي إلهيته شك وقيل في وحدانيته والهمزة للتقرير والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولذلك وصفه بعد بقوله فاطر السموات

(2/49)


والأرض من ذنوبكم قيل إن من زائدة ومنع سيبويه زيادتها في الواجب وهي عنده للتبعيض ومعناه أن يغفر للكافر إذا أسلم ما تقدم من ذنبه قبل الإسلام ويبقى ما يذنب بعده في المشيئة فوقعت المغفرة في البعض ولم يأت في القرآن غفران بعض الذنوب إلا للكافر كهذا الموضع والذي في الأحقاف وسورة نوح وجاء للمؤمنين بغير من كالذي في الصف ويؤخركم إلى أجل مسمى قال الزمخشري وأهل مذهبه من المعتزلة معناه يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت وهذا بناء على قولهم بالأجلين وأهل السنة يأبون هذا فإن الأجل عندهم واحد محتوم ... 334

(2/50)


139 قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا يحتمل أن يكون قولهم استبعادا لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة أو يكون إحالة لنبوة البشر والأول أظهر لطلبهم البرهان في قولهم فأتونا بسلطان مبين ولقول الرسل ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي بالتفضيل بالنبوة وما لنا ألا نتوكل على الله والمعنى أي شيء يمنعنا من التوكل على الله وعلى الله فليتوكل المتوكلون إن قيل لم كرر الأمر فالجواب عندي أن قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار بسلطان مبين أي حجة ظاهرة فتوكل الرسل في ورودها على الله وأما قوله فليتوكل المتوكلون فهو راجع إلى قولهم ولنصبرن على ما آذيتمونا أي نتوكل على الله في دفع أذاكم وقال الزمخشري إن هذا الثاني في معنى الثبوت على التوكل أو لتعودن في ملتنا أو هنا بمعنى إلا أن أو على أصلها لوقوع أحد الشيئين والعود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب ولا يقتضي أن الرسل كانوا في ملة الكفار قبل ذلك خاف مقامي فيه ثلاثة أوجه هنا وفي ولمن خاف مقام ربه في الرحمن فالأول أن معناه مقام الحساب في القيامة والثاني أن معناه قيام الله على عباده بأعمالهم والثالث أن معناه خافني وخاف ربه على إقحام المقام أو على التعبير به عن الذات واستفتحوا الضمير للرسل أي استنصروا بالله وأصله طلب الفتح وهو الحكم جبار أي قاهر أو متكبر عنيد مخالف للانقياد من ورائه في الموضعين والوراء هنا بمعنى ما يستقبل من الزمان وقيل معناه هنا أمامه وهو بعيد ويسقى معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى وإنما ذكر هذا السقي تجريدا بعد ذكر جهنم لأنه من أشد عذابها يتجرعه ولا يكاد يسيغه أي يتكلف جرعه وتصعب عليه إساغته ونفي كاد يقتضي وقوع الإساغة بعد جهد ومعنى يسيغه يبتلعه ويأتيه الموت من كل مكان أي يجد الماء مثل ألم الموت وكربته من جميع الجهات وما هو

(2/51)


بميت أي لا يراح بالموت مثل الذين كفروا مذهب سيبويه والفراء فيه كقولهما في مثل الجنة التي في الرعد والقتال والخبر عند سيبويه محذوف تقديره فيما يتلى عليكم والخبر عند الفراء الجملة التي بعده والمثل هنا بمعنى الشبيه أعمالهم كرماد تشبيها بالرماد في ذهابها وتلاشيها في يوم عاصف أي شديد الريح والعصوف في الحقيقة من صفة الريح لا يقدرون مما كسبوا على شيء ... 335
140 أي لا يرون له منفعة وبرزوا لله أي ظهروا ومعنى الظهور هنا خروجهم من القبور وقيل معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة تبعا جمع تابع أو مصدر وصف به مبالغة أو على حذف مضاف من عذاب الله من شيء من الأولى للبيان والثانية للتبعيض ويجوز أن يكونا للتبعيض معا قاله الزمخشري والأظهر أن الأولى للبيان والثانية زائدة والمعنى هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئا من عذاب الله محيص أي مهرب حيث وقع ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسم مكان وقال الشيطان يعني إبليس الأقدم روي أنه يقوم خطيبا بهذا الكلام يوم القيامة أو في النار يقوله لأهلها لما قضي الأمر إن كان كلام إبليس في القيامة بمعنى قضي الأمر تعين قوم للنار وقوم للجنة وإن كان في النار فمعنى قضي الأمر حصل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة إلا أن دعوتكم استثناء منقطع ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما أنا بمغيثكم وما أنتم فمغيثين لي بما أشركتمون ما مصدرية أي بإشراككم لي مع الله في الطاعة من قبل يتعلق بأشركتمون ويحتمل أن يتعلق بكفرتم والأول أظهر وأرجح إن الظالمين استئناف من كلام الله تعالى ويحتمل أن يكون حكاية عن إبليس بإذن ربهم يتعلق بأدخل أو بخالدين والأول أحسن كلمة طيبة ابن عباس وغيره هي لا إله إلا الله وقيل كل حسنة كشجرة طيبة هي النخلة في قول الجمهور واختار ابن عطية أنها شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بتلك

(2/52)


الصفات وفرعها في السماء أي في الهواء وذلك عبارة عن طولها تؤتي أكلها كل حين الحين في اللغة وقت غير محدود وقد تقترن به قرينة تحده وقيل في كل حين كل سنة لأن النخلة تطعم في كل سنة وقيل غير ذلك ومثل كلمة خبيثة هي كلمة الكفر وقيل كل كلمة قبيحة كشجرة خبيثة هي الحنظلة عند الجمهور واختار ابن عطية أنها غير معينة اجتثت أي اقتلعت وحقيقة ... 336
141 الاجتثاث أخذ الجثة وهذا في مقابلة قوله أصلها ثابت بالقول الثابت هو لا إله إلا الله والإقرار بالنبوة في الحياة الدنيا أي إذا فتنوا لم يزلوا وفي الآخرة هو عند السؤال في القبر عند الجمهور بدلوا نعمة الله كفرا نعمة الله هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ودينه أنعم الله به على قريش فكفروا النعمة ولم يقبلوها والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم أي من أطاعهم واتبعهم دار البوار فسرها بقوله جهنم يقيموا الصلاة وينفقوا هي جواب شرط فقد يتضمنه قوله قل تقديره إن تقل لهم أقيموا يقيموا ومعمول القول على هذا محذوف وقيل جزم بإضمار لام الأمر تقديره ليقيموا ولا خلال من الخلة وهي المودة إن الإنسان يريد الجنس البلد آمنا ذكر في البقرة واجنبني أي امنعني والماضي منه جنب يقال جنب وجنب بالتشديد وأجنب بمعنى واحد وبني يعني بني من صلبي وفيهم أجيبت دعوته وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام ومن عصاني يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق أسكنت من ذريتي يعني ابنه إسماعيل عليه السلام لما ولدته أمه هاجر غارت منها سارة زوجة إبراهيم فحمله مع أمه من الشام إلى مكة بواد يعني مكة والوادي ما بين جبلين وإن لم يكن فيه ماء عند بيتك المحرم يعني الكعبة فإما أن يكون البيت أقدم من إبراهيم على

(2/53)


ما جاء في بعض الروايات وإما أن يكون إبراهيم قد علم أنه سيبنى هناك بيتا ليقيموا الصلاة اللام يحتمل أن تكون لام الأمر بمعنى الدعاء أو لام كي وتتعلق بأسكنت وجمع الضمير يدل على أنه قد كان علم أن ابنه يعقوب هناك نسلا تهوي إليهم أي تسير بجد وإسراع ولهذه الدعوة حبب الله حج البيت إلى الناس على أنه قال من الناس بالتبعيض قال بعضهم لو قال أفئدة الناس لحجته فارس والروم وارزقهم من الثمرات أي ارزقهم في ذلك الوادي مع أنه غير ذي زرع وأجاب الله دعوته ... 337

(2/54)


142 فجعل مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء وما يخفى على الله الآية يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى أو حكاية عن إبراهيم وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق روي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبع عشرة عاما وروي أقل من هذا وإسماعيل أسن من إسحق ربنا وتقبل دعاء إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول الاستجابة وإن أراد بالدعاء العبادة فالقبول على حقيقته ربنا اغفر لي ولوالدي قيل إنما دعا بالمغفرة لأبويه الكافرين بشرط إسلامهما والصحيح أنه دعا لهما قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله حسبما ورد في براءة ولا تحسبن الله غافلا هذا وعيد للظالمين وهم الكفار على الأظهر فإن قيل لمن هذا الخطاب هنا وفي قوله ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله فالجواب أنه يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره فإن كان لغيره فلا إشكال وإن كان له فهو مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب أن الله غافلا وتأويل ذلك بوجهين أحدهما أن لمراد الثبوت على علمه بأن الله غير غافل وغير مخلف وعده والآخر أن المراد إعلامه بعقوبة الظالمين فمقصد الكلام الوعيد لهم تشخص فيه الأبصار أي تحد النظر من الخوف مهطعين قيل الإهطاع الإسراع وقيل شدة النظر من غير أن يطرف مقنعي رءوسهم قيل الإقناع هو رفع الرأس وقيل خفضه من الذلة لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يطرفون بعيونهم من الحذر والجزع وأفئدتهم هواء أي منحرفة لا تعي شيئا من شدة الجزع فشبهها بالهواء في تعريفه من الأشياء ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم يوم يأتيهم العذاب يعني يوم القيامة وانتصاب يوم على أنه مفعول ثان لأنذر ولا يجوز أن يكون ظرفا أولم تكونوا تقديره يقال لهم أولم تكونوا الآية مالكم من زوال هم المقسم عليه ومعنى من زوال أي من الأرض بعد الموت أي حلفتم أنكم لا تبعثون وعند الله مكرهم أي جزاء مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه

(2/55)


الجبال إن هنا نافية واللام لام الجحود والجبال يراد بها الشرائع والنبوات شبهت بالجبال في ثبوتها والمعنى تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام ورفع تزول وإن على هذه القراءة مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد والمعنى تعظيم مكرهم أي أن مكرهم من شدته تزول منه الجبال ولكن ... 338
143 الله عصم ووقى منه فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله يعني وعد النصر على الكفار فإن قيل هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق ثم قال رسله ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه فقدم الوعد أولا بقصد الإطلاق ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص يوم تبدل الأرض غير الأرض العامل في الظرف ذوا انتقام أو محذوف وتبديل الأرض بأن تكون يوم القيامة بيضاء عفراء كقرصة النقي هكذا ورد في الحديث الصحيح والسموات تبديلها بانشقاقها وانتشار كواكبها وخسوف شمسها وقمرها وقيل تبدل أرضا من فضة وسماء من ذهب وهذا ضعيف وترى المجرمين يعني الكفار مقرنين في الأصفاد أي مربوطين في الأغلال سرابيلهم أي قمصهم والسربال القميص من قطران متعلق بمحذوف أي جعل الله فيه ذلك وهو الذي تهيأ به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه ليجزي يتعلق بمحذوف أي فعل الله ذلك ليجزي هذا بلاغ إشارة إلى القرآن أو إلى ما تضمنته هذه السورة ولينذروا معطوف على محذوف تقديره لينصحوا به ولينذروا وليذكرأولو الألباب أي هذا الذكر لأولي العقول وهم أهل العلم رضي الله عنهم
سورة الحجر
تلك آيات الكتاب وقرآن مبين يحتمل أن يريد بالكتاب الكتب المتقدمة وعطف القرآن عليها والظاهر أنه القرآن وعطفه عطف الصفات ربما قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان وما حرف كافة

(2/56)


لرب ومعنى رب التقليل وقد تكون للتكثير وقيل إن هذه منه وقيل إنما عبر عن التكثير بأداة التقليل على وجه التهكم كقوله قد نرى تقلب وجهك في السماء وقد يعلم ما أنتم عليه وقيل إن معنى التقليل في هذه أنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه مرارا كثيرة ولا تدخل إلا على الماضي يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قيل إن ذلك عند الموت وقيل ... 339
144 في القيامة وقيل إذا خرج عصاة المسلمين من النار وهذا هو الأرجح لحديث روي في ذلك ذرهم وما بعده تهديد كتاب معلوم أي وقت محدود وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون الضمير في قالوا لكفار قريش وقولهم نزل عليه الذكر يعنون على وجه الاستخفاف أي بزعمك ودعواك لو ما تأتينا بالملائكة لو ما عرض وتحضيض والمعنى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة معه ما ننزل الملائكة إلا بالحق رد عليهم فيما اقترحوا والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح التي يريدها الله لا باقتراح مقترح واختيار كافر وقيل الحق هنا العذاب وما كانوا إذا منظرين إذا حرف جواب وجزاء والمعنى لو أنزل الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم لأن من عادة الله أن من اقترح آية فرآها ولم يؤمن أنه يعجل له العذاب وقد علم الله أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم فلم يفعل بهم ذلك إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الذكر هنا هو القرآن وفي قوله إنا نحن نزلنا الذكر ردا لإنكارهم واستخفافهم في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك أكده بنحن واحتج عليه بحفظه ومعنى حفظه حراسته عن التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فتولى الله حفظ القرآن فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان منه ولا تبديله بخلاف غيره من الكتب فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله بما استحفظوا من كتاب

(2/57)


الله في شيع الأولين الشيع جمع شيعة وهي الطائفة التي تتشيع لمذهب أو رجل كذلك نسلكه في قلوب المجرمين معنى نسلكه ندخله والضمير في نسلكه يحتمل أن يكون للاستهزاء الذي دل عليه قوله به يستهزؤن أو يكون للقرآن أي نسلكه في قلوبهم فيستهزؤا به ويكون قوله كذلك تشبيها للاستهزاء المتقدم ولا يؤمنون به تفسيرا لوجه إدخاله في قلوبهم والضمير في به للقرآن وقد خلت سنة الأولين أي تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء حتى هلكوا بذلك ففي الكلام تهديد لقريش ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا الضمائر لكفار قريش المعاندين المحتوم عليهم بالكفر وقيل الضمير في ظلوا وفي يعرجون للملائكة وفي قالوا للكفار ومعنى يعرجون يصعدون والمعنى أن هؤلاء الكفار لو رأوا أعظم آية لقالوا إنها تخييل أو سحر وقرئ سكرت بالتشديد والتخفيف ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر فيكون معناه أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته أو من السكر وهو السد فيكون معناه منعت أبصارنا ... 340

(2/58)


145 من النظر بروجا يعني المنازل الاثني عشر إلا من استرق السمع استثناء من حفظ السموات فهو في موضع نصب من كل شيء موزون أي مقدر بقدر فالوزن على هذا استعارة وقيل المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والأطعمة والأول أعم وأحسن ومن لستم له برازقين يعني البهائم والحيوانات ومن معطوف على معايش وقيل على الضمير في لكم وهذا ضعيف في النحو لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض وهو قوي في المعنى أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات وإن من شيء إلا عندنا خزائنه قيل يعني المطر واللفظ أعم من ذلك والخزائن المواضع الخازنة وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت وقيل ذلك تمثيل والمعنى وإن من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بقدر معلوم أي بمقدار محدود وأرسلنا الرياح لواقح يقال لقحت الناقة والشجرة إذا حملت فهي لافحة وألقحت الريح الشجر فهي ملقحة ولواقح جمع لاقحة لأنها تحمل الماء أو جمع ملحقة على حذف الميم الزائدة ولقد علمنا المستقدمين الآية يعني الأولين والآخرين من الناس وذكر ذلك على وجه الاستدلال على الحشر الذي ذكر بعد ذلك في قوله وإن ربك هو يحشرهم لأنه إذا أحاط بهم علما لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم وقيل يعني من استقدم ولادة وموتا ومن تأخر وقيل من تقدم إلى الإسلام ومن تأخر عنه ولقد خلقنا الإنسان من صلصال الإنسان هنا هو آدم عليه السلام والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار من حمأ مسنون الحمأ الطين الأسود والمسنون المتغير المنتن وقيل إنه من أسن الماء إذا تغير والتصريف يرد هذا القول وموضع من حمأ صفة لصلصال أي صلصال كائن من حمأ والجان خلقناه يراد به جنس الشياطين وقيل إبليس الأول وهذا أرجح لقوله من قبل وتناسلت الجن من إبليس وهو للجن كآدم للناس السموم شدة الحر خالق بشرا يعني آدم عليه السلام ونفخت فيه من روحي

(2/59)


يعني الروح التي في الجسد وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك أي من الروح ... 341
146 الذي هو لي وخلق من خلقي وتقدم الكلام على سجود الملائكة في البقرة فاخرج منها أي من الجنة أو من السماء قال رب يقتضي إقراره بالربوبية وأن كفره كان بوجه غير الجحود وهو اعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم إلى يوم الوقت المعلوم اليوم الذي طلب إبليس أن ينظر إليه هو يوم القيامة وقيل الوقت المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النفخ في الصور النفخة الأولى حين يموت من في السموات ومن في الأرض وكان سؤال إبليس الانتظار إلى يوم القيامة جهلا منه ومغالطة إذ سأل ما لا سبيل إليه لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبدا لأنه لا يموت أحد بعد البعث فلما سأل ما لا سبيل إليه أعرض الله عنه وأعطاه الانتظار إلى النفخة الأولى فبما أغويتني الباء للسببية أي لأغوينهم بسبب إغوائك لي وقيل للقسم كأنه قال بقدرتك على إغوائي لأغوينهم والضمير لذرية آدم قال هذا صراط علي مستقيم القائل لهذا هو الله تعالى والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس وأنه لا يقدر عليهم أو إلى تقسيم الناس إلى غوي ومخلص إلا عبادك يحتمل أن يريد بالعباد جميع الناس فيكون قوله إلا من اتبعك استثناء متصل أو يريد بالعباد المخلصين فيكون الاستثناء منقطعا وإن جهنم لموعدهم الضمير للغاوين لها سبعة أبواب روي أنها سبعة أطباق في كل طبقة باب فأعلاها للمذنبين من المسلمين والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين ادخلوها تقديره يقال لهم ادخلوها والسلام يحتمل أن يكون التحية أو السلامة إخوانا يعني أخوة المودة والإيمان متقابلين أي يقابل بعضهم بعضا على الأسرة نصب أي تعب نبىء عبادي الآية أعلمهم والآية آية ترجية وتخويف ونبئهم عن ضيف إبراهيم ضيف هنا واقع على

(2/60)


جماعة وهم الملائكة الذين جاؤا إلى إبراهيم بالبشرى وجلون أي خائفون والوجل الخوف لا توجل أي لا تخف إنا نبشرك بغلام عليم هو إسحاق قال أبشرتموني على أن مسني الكبر المعنى ابشرتموني بالولد مع أنني قد كبر سني ... 342
147 وكان حينئذ ابن مائة سنة وقيل أكثر فبم تبشرون قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كبره أو على وجه الاستبعاد ولذلك قرئ تبشرون بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وبالكسر والتخفيف على حذف إحدى النونين وبالفتح وهي نون الجمع قالوا بشرناك بالحق أي باليقين الثابت فلا تستبعده ولا تشك فيه ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون دليل على تحريم القنوط وقرئ يقنط بفتح النون وكسرها وهما لغتان قال فما خطبكم أي ما شأنكم وبأي شيء جئتم إلى قوم مجرمين يعنون قوم لوط إلا آل لوط يحتمل أن يكون استثناء من قوم لوط فيكون منقطعا لوصف القوم بالإجرام ولم يكن آل لوط مجرمين ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في المجرمين فيكون متصلا كأنه قال إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا إلا امرأته استثناء من آل لوط فهو استثناء من استثناء وقال الزمخشري إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وذلك هو الذي يقتضيه المعنى قدرنا إنها لمن الغابرين الغابر يقال بمعنى الباقي وبمعنى الذاهب وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم وهو لله وحده لما لهم من القرب والاختصاص بالله لا سيما في هذه القضية كما تقول خاصة الملك للملك دبرنا كذا ويحتمل أن يكون حكاية عن الله قوم منكرون أي لا نعرفهم قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي جئناك بالعذاب لقومك ومعنى يمترون يشكون فيه واتبع أدبارهم أي كن خلفهم أي في ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد وليكونوا قدامه فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا وراءه لخوفه عليهم ولا يلتفت منكم أحد تقدم في هود

(2/61)


وامضوا حيث تؤمرون قيل هي مصر وقيل حيث هنا للزمان إذ لم يذكر مكان وقضينا إليه ذلك الأمر هو من القضاء والقدر وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا وقيل معناه أعلمناه بذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع هذا تفسير لذلك الأمر ودابر القوم أصلهم والإشارة إلى قوم لوط مصبحين في الموضعين أي إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح وجاء أهل المدينة يستبشرون المدينة هي سدوم واستبشار أهلها بالأضياف طمعا أن ينالوا منهم الفاحشة قالوا أولم ننهك عن العالمين كانوا قد نهوه أن يضيف أحدا قال هؤلاء بناتي دعاهم إلى تزويج بناته ليقي بذلك أضيافه لعمرك قسم والعمر الحياة ففي ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم لأن الله أقسم بحياته أو قيل هو من قول الملائكة للوط وارتفاعه بالابتداء وخبره محذوف تقديره لعمرك قسمي واللام للتوطئة إنهم لفي ... 343

(2/62)


148 سكرتهم يعمهون ) الضمير لقوم لوط وسكرتهم ضلالهم وجهلهم ويعمهون أي يتحيرون فأخذتهم الصيحة أي صيحة جبريل وهي أخذه لهم مشرقين أي داخلين في الشروق وهو وقت بزوغ الشمس وقد تقدم تفسير ما بعد هذا من قصتهم في هود للمتوسمين أي للمتفرسين ومنه فراسة المؤمن وقيل للمعتبرين وحقيقة التوسم النظر إلى السيمة وإنها لبسبيل مقيم أي بطريق ثابت يراه الناس والضمير للمدينة المهلكة وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين أصحاب الأيكة قوم شعيب والأيكة الغيضة من الشجر لما كفروا أضرمها الله عليهم نارا وإنهما لبإمام مبين الضمير في إنهما قيل إنه لمدينة قوم لوط وقوم شعيب فالإمام على هذا الطريق أي إنهما بطريق واضح يراه الناس وقيل الضمير للوط وشعيب أي إنهما على طريق من الشرع واضح والأول أظهر أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام المرسلين ذكره بالجمع وإنما كذبوا واحدا منهم وفي ذلك تأويلان أحدهما أن من كذب واحدا من الأنبياء لزمه تكذيب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق من التوحيد والثاني أنه أراد الجنس كقولك فلانا يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا وآتيناهم آياتنا يعني الناقة وما كان فيها من العجائب
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا النحت النقر بالمعاويل وشبهها في الحجر والعود وشبه ذلك وكانوا ينقرون بيوتهم في الجبال آمنين يعني آمنين من تهدم بيوتهم لوثاقتها وقيل آمنين من عذاب الله إلا بالحق يعني أنها لم تخلق عبثا فاصفح الصفح الجميل قيل إن الصفح الجميل هو الذي ليس معه عقاب ولا عتاب وفي الآية مهادنة للكفار منسوخة بالسيف ولقد آتيناك سبعا من المثاني يعني أم القرآن لأنها سبع آيات وقيل يعني السور السبع الطوال وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع براءة والأول أرجح لوروده في الحديث والمثاني مشتق من التثنية وهي

(2/63)


التكرير لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة ولأن غيرها من السور تكرر فيها القصص وغيرها وقيل هي مشتقة من الثناء لأن فيها ثناء على الله ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو لبيان الجنس وعطف القرآن على السبع المثاني لأنه يعني ما سواها من القرآن فهو عموم بعد الخصوص لا تمدن عينيك أي لا تنظر إلى ما متعناهم به في الدنيا كأنه يقول قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم فلا تنظر إلى الدنيا فإن الذي أعطيناك أعظم منها أزواجا منهم يعني أصنافا من الكفار ... 344

(2/64)


149 ولا تحزن عليهم أي لا تتاسف لكفرهم واخفض جناحك أي تواضع ولن للمؤمنين والجناح هنا استعارة كما أنزلنا على المقتسمين الكاف من كما متعلقة بقوله أنا النذير أي أنذر قريشا عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين وقيل متعلق بقوله ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك كتابا كما أنزلنا على المقتسمين واختلف في المقتسمين فقيل هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه فاقتسموا إلى قسمين وقيل هم قريش اقتسموا ابواب مكة في الموسم فوقف كل واحد منهم على باب يقول أحدهم هو شاعر ويقول الآخر هو ساحر وغير ذلك الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء وقالوا فيه أقوالا مختلفة وواحد عضين عضة وقيل هو من العضه وهو السحر والعاضه الساحر والمعنى على هذا أنه سحر والكلمة محذوفة اللام ولامها على القول الأول واو وعلى الثاني هاء فوربك لنسئلنهم أجمعين إن قيل كيف يجمع بين هذا وبين قوله فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان فالجواب أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ وأن السؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن الله يعلم الأعمال فلا يحتاج إلى السؤال عنها فاصدع بما تؤمر أي صرح به وأنفذه إنا كفيناك المستهزئين يعني قوما من أهل مكة أهلكهم الله بأنواع الهلاك من غير سعي النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس وقصة هلاكهم مذكورة في السير وقيل الذين قتلوا ببدر كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وعقبة بن معيط أي وغيرهم والأول أرجح لأن الله كفاه إياهم بمكة قبل الهجرة ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتأنيس حتى يأتيك اليقين أي الموت
سورة النحل
أتى أمر الله قيل يعني القيامة وقيل النصر على الكفار وقيل عذاب الكفار في الدنيا ووضع الماضي

(2/65)


موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فلما قال ... 345
150 فلا تستعجلوه سكن ينزل الملائكة بالروح أي بالنبوة وقيل بالوحي خلق الإنسان من نطفة أي من نطفة المني والمراد جنس الإنسان فإذا هو خصيم مبين فيه وجهان أحدهما أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه والثاني يخاصم في ربه ودينه وهذا في الكفار والأول أعم لكم فيها دفء أي ما يتدفأ به يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ويحتمل أن يكون قوله لكم متعلقا بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك ومنافع يعني شرب ألبانها والحرث بها وغير ذلك ومنها تأكلون يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمرا زائدا عليها أو يريد بالمنافع الأكل وغيره ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون الجمال حسن المنظر وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي وإنما قدم تريحون على تسرحون لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة وتحمل أثقالكم يعني الأمتعة وغيرها وقيل أجساد بني آدم إلى بلد أي إلى أي بلد توجهتم وقيل يعني مكة بشق الأنفس أي بمشقة لتركبوها وزينة استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير لكونه علل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل ونصب زينة على أنه مفعول من أجله وهو معطوف على موضع لتركبوها ويخلق ما لا تعلمون عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها وكل ما ذكر في هذه الآية شيئا مخصوصا فهو على وجه المثال وعلى الله قصد السبيل أي على الله تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا الجنس ومعنى القصد القاصد الموصل وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف ومنها جائر

(2/66)


الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به الجنس ومعنى الجائر الخارج عن الصواب أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم ماء لكم يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب أو صفة لسماء ومنه شجر يعني ما ينبت بالمطر من الشجر فيه تسيمون أي ترعون أنعامكم وما ذرأ لكم في الأرض يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك مختلفا ألوانه أي ... 346
151 أصنافه وأشكاله لحما طريا يعني الحوت حلية تلبسونها يعني الجواهر والمرجان مواخر فيها جمع ماخرة يقال مخرت السفينة والمخر شق الماء وقيل صوت جرى الفلك بالرياح لتبتغوا من فضله يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم الرواسي الجبال واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت وأن تميد في موضع مفعول من أجله والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة لا يستقر على ظهر هذه أحد فأصبحت وقد أرسيت بالجبال وأنهارا قال ابن عطية أنهارا منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو خلق أنهارا قال وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار وسبلا يعني الطرق وعلامات يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك وهو معطوف على أنهارا وسبلا قال ابن عطية هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون وعلامات أي عبرة وأعلاما وبالنجم هم يهتدون يعني الاهتداء بالليل في الطرق والنجم هنا جنس وقيل المراد الثريا والفرقدان فإن قيل قوله وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب وقدم فيه النجم كأنه يقول وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد بهم فالجواب أنه أراد قريشا لأنهم كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لمن يكن لغيرهم وكان الاعتبار ألزم لهم فخصصوا قال ذلك الزمخشري أفمن

(2/67)


يخلق كم لا يخلق تقرير يقتضي الرد على من عبد غير الله وإنما عبر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل أو مشاكلة لقوله أفمن يخلق وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعا من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته ولذلك أعقبها بقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق وفيها أيضا تعداد لنعمه على خلقه ولذلك أعقبها بقوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم أعقب ذلك بقوله إن الله لغفور رحيم أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون نفي عن الأصنام صفات الربوبية وأثبت لهم أضدادها وهي أنهم مخلوقون غير خالقين وغير أحياء وغير عالمين بوقت البعث فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال إلهكم إله واحد أموات غير أحياء أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة ثم مات ثم يعقب موته حياة وما يشعرون أيان يبعثون الضمير في يشعرون للأصنام وفي يبعثون للكفار الذين عبدوهم وقيل إن الضميرين للكفار قلوبهم منكرة أي تنكر وحدانية الله عز وجل لا جرم أي لا بد ولا شك ... 347

(2/68)


152 وقيل إن لا نفي لما تقدم وجرم معناه وجب أو حق وأن فاعلة بجرم أساطير الأولين أي ما سطره الأولون وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ وكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا من ما وذا ويكون منصوبا بأنزل أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا بمعنى الذي وفي أنزل ضمير محذوف ليحملوا أوزارهم اللام لام العاقبة والصيرورة أي قالوا أساطير الأولين فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ويحتمل أن تكون للأمر بغير علم حال من المفعول في يضلونهم أو من الفاعل فأتى الله بنيانهم من القواعد الآية قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ فإنه بنى صرحا ليصعد فيه إلى السماء بزعمه فما علا فيه فرسخين هدمه الله وخر سقفه عليه وقيل المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل ويقول أين شركائي توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم وفيه تهكم بهم الذين كنتم تشاقون فيهم أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم قال الذين أوتوا العلم هم الأنبياء والعلماء من كل أمة وقيل يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك ظالمي أنفسهم حال من الضمير المفعول في تتوفاهم فألقوا السلم أي استسلموا للموت ما كنا نعمل من سوء أي قالوا ذلك ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصاما به كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم فلم يقصدوا الكذب ولكنه كذب في نفس الأمر بلى من قول الملائكة للكفار أي قد كنتم تعلمون السوء وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير

(2/69)


الأولين قابل ذلك بمقالة المؤمنين فإن قيل لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم خيرا ورفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين فالجواب أن قولهم خيرا منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيرا ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه ولو كان منصوبا لكان الكلام متناقضا لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله لأن تقديره أنزل فإن قيل يلزم مثل هذا في الرفع لأن تقديره هو أساطير الأولين فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم فالجواب أنهم عدلوا بالجواب ... 348

(2/70)


153 عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين ولم ينزله الله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره والجملة بدل من خيرا وتفسيرا للخير الذي قالوا وقيل هي استئناف كلام الله تعالى لا من كلام الذين قالوا خيرا جنات عدن يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر ابتداء مضمر ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره لهم جنات عدن هل ينظرون أي ينتظرون والضمير للكفار وإلا أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم أو يأتي أمر ربك يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا فأصابهم سيئات ما عملوا أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا به يستهزؤن وهذا تفسيره حيث وقع وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والاحتجاج على صحة فعلهم أي أن فعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه والرد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضى على من يشاء من عباده ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن لو تكون للتمني والمعنى على هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها فإن الله لا يهدي من يضل قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله وقرئ يهدي بفتح الياء وكسر الدال والمعنى على هذا لا يهدي الله من قضى بإضلاله وما لهم من ناصرين الضمير عائد على من يضل لأنه في معنى الجمع بلى رد على الذين أقسموا لا يبعث الله من يموت أي أنه يبعثه ليبين لهم الذي يختلفون فيه اللام تتعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين لهم وهذا برهان أيضا على ... 349

(2/71)


154 البعث فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه إنما قولنا لشيء الآية برهان أيضا على البعث لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى والذين هاجروا في الله يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة لأن الهجرة إلى المدينة كانت بعدها وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك
لنبوئنهم في الدنيا حسنة وعد أن ينزلهم بقعة حسنة وهي المدينة التي استقروا بها وقيل إن حسنة صفة لمصدر أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ لنثوبنهم بالثاء من الثواب الذين صبروا وصف للذين هاجروا ويحتمل إعرابه أن يكون نعتا أو على تقدير هم الذين أو مدح الذين إلا رجالا رد على من استبعد أن يكون الرسول من البشر فاسألوا أهل الذكر يعني أحبار اليهود والنصارى أي لأن جميعهم يشهدون أن الرسول من البشر بالبينات والزبر يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام أو بأرسلنا مضمرا وبيوحى أو بتعلمون وأنزلنا إليك الذكر يعني القرآن لتبين للناس ما نزل إليهم يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس أو لتبين معانيه بتفسير مشكله فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة أفأمن الذين مكروا السيئات يعني كفار قريش عند جمهور المفسرين والسيئات تحتمل وجهين أحدهما أن يريد به الأعمال السيئات أي المعاصي فيكون مكروا يتضمن معنى عملوا والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فيكون المكر على بابه أو يأخذهم في تقلبهم يعني في أسفارهم فما هم بمعجزين أي بمفلتين حيث وقع أو يأخذهم على تخوف فيه وجهان أحدهما أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئا بعد شيء حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة ولهذا أشار بقوله فإن ربكم لرؤوف رحيم لأن الأخذ هكذا أخف من غيره وقد

(2/72)


كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذيل التخوف التنقص في لغتنا والوجه الثاني أنه من الخوف أي يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا هم ذلك فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه ذلك خلاف قوله وهم لا يشعرون أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله معنى الآية اعتبار بانتقال الظل ويعني بقوله ما خلق الله من شيء الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان ... 350
155 وغير ذلك وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلىطلوع الشمس وقوله يتفيؤ من الفيء وهو الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة وقال رؤبة بن العجاج يقال بعد الزوال ظل وفيء ولا يقال قبله إلا ظل ففي لفظة يتفيؤ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم لأن المقصود الاعتبار من أول النهار إلى آخره فوضع يتفيؤ موضع ينتقل أو يميل والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء عن اليمين والشمائل يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب واليمين بمعنى الأيمان واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان سجدا لله حال من الظلال وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله من شيء فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد وقيل هو سجود حقيقة وهم داخرون أي صاغرون وجمع بالواو لأن الدخور من أوصاف العقلاء ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السموات وما في الأرض معا لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض خاصة وإنما قال ما في السموات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم ولو قال من في السموات لم يدخل في

(2/73)


ذلك غير العقلاء قاله الزمخشري والملائكة إن كان قوله من دابة بيانا لما في السموات والأرض فقد دخل الملائكة في ذلك وكرر ذكرهم تخصيصا لهم بالذكر وتشريفا وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم يخافون ربهم من فوقهم هذا إخبار عن الملائكة وهو بيان نفي الاستكبارويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها وقيل معناه يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم لا تتخذوا إلهين اثنين وصف الإلهين باثنين تأكيدا وبيانا للمعنى وقيل إن اثنين مفعول أول وإلهين مفعول ثان فلا يكون في الكلام تأكيد فإياي فارهبون خرج من الغيبة إلى التكلم لأن الغائب هو المتكلم وإياي مفعول بفعل مضمر ولا يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله وله الدين واصبا أي واجبا وثابتا وقيل دائما وانتصابه على الحال من الدين وما بكم من نعمة فمن الله يحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو للحال فيكون الكلام متصلا بما قبله أي كيف تتقون غير الله وما بكم من نعمة فمنه وحده فإليه تجأرون أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والتضرع ليكفروا بما آتيناهم اللام لام الأمر على وجه التهديد لقوله بعده فتمتعوا فسوف تعلمون فعلى هذا يبتدئ بها وقيل هي لام العاقبة فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها في الأصل لام كي وذلك بعيد في المعنى والكفر هنا يحتمل أن يريد به كفر النعم لقوله بما ... 351

(2/74)


156 آتيناهم أو كفر الجحود والشرك لقوله بربهم يشركون فتمتعوا يريد التمتع في الدنيا وذلك أمر على وجه التهديد ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم الضمير في يجعلون لكفار العرب فإنهم كانوا يجعلون للأصنام نصيبا من ذبائحهم وغيرها والمراد بقوله لما لا يعلمون للأصنام والضمير في لا يعلمون للكفار أي لا يعلمون ربوبيتهم ببرهان ولا بحجة وقيل الضمير في لا يعلمون للأصنام أي الأشياء غير عالمة وهذا بعيد ويجعلون لله البنات إشارة إلى قول الكفار إن الملائكة بنات الله ثم نزه تعالى نفسه عن ذلك بقوله سبحانه ولهم ما يشتهون المعنى أنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني بذلك الذكور من الأولاد وأما الإعراب فيجوز أن يكون ما يشتهون مبتدأ وخبره المجرور قبله وأن يكون مفعولا بفعل مضمر تقديره ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن يكون معطوفا على البنات على أن هذا يمنعه البصريون لأنه من باب ضربتني وكان يلزم عندهم أن يقال لأنفسهم
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم إخبار عن حال العرب في كراهتهم البنات وظل هنا يحتمل أن تكون على بابها أو بمعنى صار والسواد عبارة عن العبوس والغم وقد يكون معه سواد حقيقة وكظيم قد ذكر في يوسف يتوارى من القوم أي يستخفي من أجل سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب المعنى يدبر وينظر هل يمسك الأنثى التي بشر بها على هوان وذل لها أو يدفنها في التراب حية وهي الموءودة وهذا معنى يدسه في التراب مثل السوء أي صفة السوء من الحاجة إلى الأولاد وغير ذلك من صفة الافتقار والنقص ولله المثل الأعلى أي الوصف الأعلى من الغنى عن كل شيء والنزاهة عن صفات المخلوقين ولو يؤاخذ يعني لو يعاقبهم في الدنيا بظلمهم أي بكفرهم ومعاصيهم ما ترك عليها الضمير للأرض من دابة يعم بني آدم وغيرهم وهذا يقتضي أن تهلك الحيوانات بذنوب بني آدم وقد ورد ذلك في الأثر

(2/75)


وقيل يعني بني آدم خاصة ويجعلون لله ما يكرهون يعني البنات أن لهم الحسنى أن بدل من الكذب والحسنى هنا قيل هي الجنة وقيل ذكور الأولاد وأنهم مفرطون بكسر الراء والتخفيف من الإفراط أي متجاوزون الحد في المعاصي أو بفتح الراء والتخفيف من الفرط أي معجلون إلى النار وبكسر الراء والتشديد من التفريط فهو وليهم اليوم يحتمل أن يريد باليوم وقت نزول الآية أو يوم القيامة وهدى ورحمة معطوفان على ... 352

(2/76)


157 موضع لنبين وانتصبا على أنهما مفعول من أجله أي لأجل البيان والهدى والرحمة نسقيكم بفتح النون وضمها لغتان يقال سقى وأسقى مما في بطونه الضمير للأنعام وإنما ذكر لأنه مفرد بمعنى الجمع كقولهم ثوب أخلاق لأنه اسم جنس وإذا أنث فهو جمع نعم من بين فرث ودم الفرث هي ما في الكرش من الغدد والمعنى أن الله يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه ومع ذلك فلا يغيران له لونا ولا طعما ولا رائحة ومن في قوله مما في بطونه للتبعيض قوله من بين فرث لإبتداء الغاية سائغا للشاربين يعني سهلا للشرب حتى قيل لم يغص أحد قط باللبن ومن ثمرات النخيل والأعناب المجرور يتعلق بفعل محذوف تقديره نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها ويدل عليه نسقيكم الأول أو يكون من ثمرات معطوف على مما في بطونها أو يتعلق من ثمرات بتتخذون وكرر منه توكيدا أو يكون تتخذون صفة لمحذوف تقديره شيئا تتخذون سكرا يعني الخمر ونزل ذلك قبل تحريمها فهي منسوخة بالتحريم وقيل إن هذا على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر ولا تعرض فيها لتحليل ولا تحريم فلا نسخ وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب والرزق الحسن العنب والتمر والزبيب وأوحى ربك إلى النحل الوحي هنا بمعنى الإلهام فإن الوحي على ثلاثة أنواع وحي كلام ووحي منام ووحي إلهام أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون أن مفسرة للوحي الذي أوحى إلى النحل وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع إما في الجبال وكواها وإما في متجوف الأشجار وإما فيما يعرش بني آدم من الأجباح والحيطان ونحوها ومن في المواضع الثلاثة للتبعيض لأن النحل إنما تتخذ بيوتا في بعض الجبال وبعض الشجر وبعض الأماكن وعرش معناه هيأ أو بنى وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الأغصان والخشب ثم كلي من كل الثمرات عطف كلي على اتخذي ومن للتبعيض وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار

(2/77)


وقيل المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها فاسلكي سبل ربك يعني الطرق في الطيران وأضافها إلى الرب لأنها ملكه وخلقه ذللا أي مطيعة منقادة ويحتمل أن يكون حالا من السبل قال مجاهد لم يتعرض قط على النحل طريق أو حالا من النحل أي منقادة لما أمرها الله به يخرج من بطونها شراب يعني العسل مختلفا ألوانه أي منه أبيض وأصفر وأحمر فيه شفاء للناس الضمير للعسل لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل كالمعاجين والأشربة النافعة من الأمراض وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء فكأنه أخذه على العموم وعلى ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ... 353

(2/78)


158 أن رجلا جاء إليه فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع قال فاذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فشفاه الله عز وجل إلى أرذل العمر أي إلى أخسه وأحقره وهو الهرم وقيل حده خمسة وسبعين عاما وقيل ثمانون والصحيح أنه لا يحصر إلى مدة معينة وأنه يختلف بحسب الناس لكيلا يعلم بعد علم شيئا اللام لام الصيرورة أي يصير إذا هرم لا يعلم شيئا بعد أن كان يعلم قبل الهرم وليس المراد نفي العلم بالكلية بل ذلك عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان وقيل المعنى لئلا يعلم زيادة على علمه شيئا والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية في معناها قولان أحدهما أنها احتجاج على الوحدانية كأنه يقول أنتم لا تسؤون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق ولا تجعلونهم شركاء لكم فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي والآخر أنها عتاب وذم لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه كما جاء في الحديث أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون والأول أرجح أبنعمت الله يجحدون الجحد هنا على المعنى الأول إشارة إلى الإشراك بالله وعبادة غيره وعلى المعنى الثاني إشارة إلى جنس المماليك فيما يجب لهم من الإنفاق والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يعني الزوجات ومن أنفسكم يحتمل أن يريد من نوعكم وعلى خلقتكم أو يريد أن حواء خلقت من ضلع آدم وأسند ذلك إلى بني آدم لأنهم من ذريته وحفدة جمع حافد قال ابن عباس هم أولاد البنين وقيل الأصهار وقيل الخدم وقيل البنات إلا أن لفظ الذكور لا يدل عليهم والحفدة في اللغة الخدمة ويعبدون من دون الله الآية توبيخ للكفار ورد عليهم في عبادتهم للأصنام وهي لا تملك لهم رزقا وانتصب رزقا لأنه مفعول بيملك ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسما لما يرزق فإن كان مصدر فإعراب شيئا مفعول به لأن المصدر نصيب المفعول وإن كان اسما فإعراب شيئا بدل منه ولا يستطيعون الضمير عائد

(2/79)


على ما لأن المراد به الإلهية ونفي الاستطاعة بعد نفي الملك لأن نفيها أبلغ في الذم ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية مثل لله تعالى وللأصنام فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والله تعالى له الملك وبيده الرزق ويتصرف فيه كيف يشاء فكيف يسوى بينه وبين الأصنام وإنما قال لا يقدر على شيء لأن بعض العبيد يقدرون على بعض الأمور كالمكاتب والمأذون له ومن رزقناه من هنا نكرة موصوفة والمراد بها هو من حر قادر كأنه قال وحرا رزقناه ليطلق عبدا ويحتمل أن تكون موصولة هل ... 354

(2/80)


159 يستوون ) أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضرب لهم المثل الحمد لله شكرا لله على بيان هذا المثال ووضوح الحق بل أكثرهم لا يعلمون يعني الكفار وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم الآية مثل لله تعالى وللأصنام كالذي قبله والمقصود منهما إبطال مذاهب المشركين وإثبات الوحدانية لله تعالى وقيل إن الرجل الأبكم أبو جهل والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر والأظهر عدم التعيين وهو كل على مولاه الكل الثقيل يعني أنه عيال على وليه أو سيده وهو مثل للأصنام والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب بان لقدرة الله على إقامتها وأن ذلك يسير عليه كقوله ما خلقتكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وقيل المراد سرعة إتيانها والله أخرجكم من بطون أمهاتكم الأمهات جمع أم زيدت فيه الهاء فرقا بين من يعقل ومن لا يعقل وقرئ بضم الهمزة وبكسرها إتباعا للكسرة قبلها في جو السماء أي في الهواء البعيد من الأرض والله جعل لكم من بيوتكم سكنا السكن مصدر يوصف به وقيل هو فعل بمعنى مفعول ومعناه ما يسكن فيه كالبيوت أو يسكن إليه وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا يعني الأدم من القباب وغيرها تستخفونها أي تجدونها خفيفة يوم ظعنكم ويوم إقامتكم يعني في السفر والحضر واليوم هنا بمعنى الوقت ويقال ظعن الرجل إذا رحل وقرئ ظعنكم بفتح العين وإسكانها تخفيفا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها الأصواف للغنم والأوبار للإبل والأشعار للمعز والبقر أثاثا الأثاث متاع البيت من البسط وغيرها وانتصابه على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره جعل ومتاعا إلى حين أي إلى وقت غير معين ويحتمل أن يريد إلى أن تبلى وتفنى أو إلى أن تموت والله جعل لكم مما خلق ظلالا أي نعمة عددها الله عليهم بالظل لأن الظل مطلوب في بلادهم محبوب لشدة حرها ويعني بما خلق من الشجر وغيرها وجعل لكم من الجبال أكنانا الأكنان

(2/81)


جمع كن وهو ما بقي من المطر والريح وغير ذلك ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر السرابيل هي الثياب من القمص وغيرها وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد لأن وقاية الحر أهم عندهم لحرارة بلادهم وقيل لأن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر وسرابيل تقيكم بأسكم يعني دروع الحديد يعرفون نعمت الله ... 355
160 إشارة إلى ما ذكر من النعم من أول السورة إلى هنا والضمير في يعرفون للكفار وإنكارهم لنعم الله إشراكهم به وعبادة غيره وقيل نعمة الله هنا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا أي يشهد عليهم بإيمانهم وكفرهم ثم لا يؤذن للذين كفروا أي لا يؤذن لهم في الاعتذار ولا هم يستعتبون أي لا يسترضون وهو من العتبى بمعنى الرضى ولا هم ينظرون يحتمل أن يكون بمعنى التأخير أو بمعنى النظر أي لا ينظر الله إليهم فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون الضمير في القول للمعبودين والمعنى أنهم كذبوهم في قولهم أنهم كانوا يعبدونهم كقولهم ما كنتم إيانا تعبدون فإن قيل كيف كذبوهم وهم قد كانوا يعبدونهم فالجواب أنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة ويحتمل أن يكون تكذيبهم لهم في تسميتهم شركاء لله لا في العبادة وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم أي استسلموا له وانقادوا زدناهم عذابا فوق العذاب روى أن الزيادة في العذاب هي حيات وعقارب كالبغال تلسعهم إن الله يأمر بالعدل والإحسان يعني بالعدل فعل الواجبات وبالإحسان المندوبات وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين قال ابن مسعود هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى وإيتاء ذي القربى الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى وقد دخل ذلك في العدل والإحسان ولكنه جرده بالذكر اهتماما به وينهى عن الفحشاء قيل يعني الزنا واللفظ أعم من ذلك والمنكر هو أعم من الفحشاء لأنه يعم جميع المعاصي

(2/82)


والبغي يعني الظلم ولا تنقضوا الأيمان هذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير وأما ما كان تركه أولى فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه كما جاء في الحديث أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره أو معاهدة لغيره وقد جعلتم الله عليكم كفيلا أي رقيبا ومتكفلا بوفائكم بالعهد وقيل إن هذه الآية نزلت ... 356
161 في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها شبه الله من يحلف ولم يف بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلا قويا ثم تنقضه وروى أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ربطة بنت سعد كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث أي ينقض وانتصابه على الحال تتخذون أيمانكم دخلا بينكم الدخل الدغل وهو قصد الخديعة أن تكون أمة هي أربى من أمة أن في موضع المفعول من أجله أي بسبب أن تكون أمة ومعنى أربى أكثر عددا أو أقوى ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى فإذا جاءها قبيلة أقوى منها غدرت بالأولى وحالفت الثانية وقيل الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين إنما يبلوكم الله به الضمير للأمر بالوفاء أو لكون أمة هي أربى من أمة فإن بذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولا فتزل قدم بعد ثبوتها استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر وإنما أفرد القدم ونكرها لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة وتذوقوا السوء يعني في الدنيا بما صددتم عن سبيل الله يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم ولكم عذاب عظيم يعني في الآخرة ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الثمن القليل عرض الدنيا وهذا نهي لمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكث لأجل ضعف الإسلام حينئذ وقوة الكفار ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة

(2/83)


ما عندكم ينفد أي يفنى فلنحيينه حياة طيبة يعني في الدنيا قال ابن عباس هي الرزق الحلال وقيل هي القناعة وقيل هي حياة الآخرة فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ظاهر اللفظ أن يستعاذ بعد القراءة لأن الفاء تقتضي الترتيب وقد شذ قوم فأخذوا بذلك وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة وتأويل الآية إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم إنما سلطانه على الذين يتولونه أي يتخذونه وليا والذين هم به مشركون الضمير لإبليس والباء سببية وإذا ... 357

(2/84)


162 بدلنا آية مكان آية ) التبديل هنا النسخ كان الكفار إذا نسخت آية يقولون هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل والله أعلم بما ينزل جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قل نزله روح القدس يعني جبريل بالحق أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا أو بمعنى أنه واجب النزول أنهم يقولون إنما يعلمه بشر كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش وقيل كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام فقالت قريش هذان يعلمان محمدا لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ويلحدون من ألحد إذا مال وقرئ بفتح الياء من لحد وهما بمعنى واحد وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه أعجمي اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون فاللفظ عام يراد به الخصوص كقوله إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم الآية وقال ابن عطية المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر تهكما بتقبيح أفعالهم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد على قولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه فأولئك هم الكاذبون الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر من كفر بالله الآية من شرطية في موضع رفع بالابتداء وكذلك من في قوله من شرح لأنه تخصيص من الأول وقوله فعليهم غضب

(2/85)


جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحدا أو يكون جوابا للثانية وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية وقيل من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون أو من الخبر إلا من أكره استثنى من قوله من كفر وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام فنزلت فيهم الآية وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال فعذرهم الله روى أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا فأجازه الجمهور ومنعه قوم وكذلك قال مالك لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله ويلزمه ما كان من ... 358

(2/86)


بدلنا آية مكان آية ) التبديل هنا النسخ كان الكفار إذا نسخت آية يقولون هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل والله أعلم بما ينزل جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قل نزله روح القدس يعني جبريل بالحق أي مع الحق في أوامره ونواهيهوأخباره ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا أو بمعنى أنه واجب النزول أنهم يقولون إنما يعلمه بشر كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش وقيل كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس غليهما ويدعوهما إلى الإسلام فقالت قريش هذان يعلمان محمدا لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ويلحدون من الحد إذا مال وقرىء بفتح الياء من لحد وهما بمعنى واحد وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه اعجمي اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي إن الذين ل يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون فاللفظ عام يراد به الخصوص كقوله إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم الآية وقال ابن عطية المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر تهكما بتقبيح أفعالهم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد على قولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه فأولئك هم الكاذبون الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر من كفر بالله الآية من شرطية في موضع رفع بالابتداء وكذلك من في قوله من شرح لأنه تخصيص من الأول وقوله فعليهم غضب جواب عن

(2/87)


الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحدا أو يكون جوابا للثانية وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية وقيل من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون أو من الخبر إلا من أكره استثنى من قوله من كفر وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام فنزلت فيهم الآية وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال فعذرهم الله روى أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا فأجازه الجمهور ومنعه قوم وكذلك قال مالك لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله ويلزمه ما كان من بدلنا آية مكان آية ) التبديل هنا النسخ كان الكفار إذا نسخت آية يقولون هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل والله أعلم بما ينزل جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قل نزله روح القدس يعني جبريل بالحق أي مع الحق في أوامره ونواهيهوأخباره ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا أو بمعنى أنه واجب النزول أنهم يقولون إنما يعلمه بشر كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش وقيل كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس غليهما ويدعوهما إلى الإسلام فقالت قريش هذان يعلمان محمدا لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ويلحدون من الحد إذا مال وقرىء بفتح الياء من لحد وهما بمعنى واحد وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه اعجمي اللسان وهذا القرآن

(2/88)


عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي إن الذين ل يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون فاللفظ عام يراد به الخصوص كقوله إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم الآية وقال ابن عطية المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر تهكما بتقبيح أفعالهم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد على قولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه فأولئك هم الكاذبون الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر من كفر بالله الآية من شرطية في موضع رفع بالابتداء وكذلك من في قوله من شرح لأنه تخصيص من الأول وقوله فعليهم غضب جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحدا أو يكون جوابا للثانية وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية وقيل من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون أو من الخبر إلا من أكره استثنى من قوله من كفر وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام فنزلت فيهم الآية وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال فعذرهم الله روى أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا فأجازه الجمهور ومنعه قوم وكذلك قال مالك لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء

(2/89)


فيما بينه وبين الله ويلزمه ما كان من بدلنا آية مكان آية ) التبديل هنا النسخ كان الكفار إذا نسخت آية يقولون هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل والله أعلم بما ينزل جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قل نزله روح القدس يعني جبريل بالحق أي مع الحق في أوامره ونواهيهوأخباره ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا أو بمعنى أنه واجب النزول أنهم يقولون إنما يعلمه بشر كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش وقيل كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس غليهما ويدعوهما إلى الإسلام فقالت قريش هذان يعلمان محمدا لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ويلحدون من الحد إذا مال وقرىء بفتح الياء من لحد وهما بمعنى واحد وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه اعجمي اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي إن الذين ل يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون فاللفظ عام يراد به الخصوص كقوله إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم الآية وقال ابن عطية المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر تهكما بتقبيح أفعالهم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد على قولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه فأولئك هم الكاذبون الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر من كفر بالله الآية من شرطية في موضع رفع بالابتداء وكذلك من في قوله من شرح لأنه تخصيص

(2/90)


من الأول وقوله فعليهم غضب جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحدا أو يكون جوابا للثانية وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية وقيل من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون أو من الخبر إلا من أكره استثنى من قوله من كفر وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام فنزلت فيهم الآية وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال فعذرهم الله روى أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا فأجازه الجمهور ومنعه قوم وكذلك قال مالك لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله ويلزمه ما كان من ... 359

(2/91)


163 حقوق الناس ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا الإشارة إلى العذاب والباء للتعليل فعلل عذابهم بعلتين أحدهما إيثارهم الحياة الدنيا والأخرى أن الله لا يهديهم ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا قرأه الجمهور فتنوا بضم الفاء أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام وقرأ ابن عامر بفتح الفاء أي عذاب المسلمين فالآية على هذا فيمن عذب المسلمين ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه إن ربك من بعدها لغفور رحيم كرر إن ربك توكيدا والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الهجرة والجهاد والصبر يوم تأتي يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو بمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر كل نفس النفس هنا بمعنى الجملة كقولك إنسان والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك جاء زيد نفسه وعينه تجادل عن نفسها أي تحتج وتعتذر فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية قيل إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله فكفرت بأنعم الله يعني بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلا لمكة وهذا أظهر لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم والضمير في قوله فكفرت وأذاقها يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون فأذاقها الله لباس الجوع والخوف الإذاقة هنا واللباس مستعاران أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب ولقد جاءهم رسول

(2/92)


منهم إن كان المراد بالقرية مكة فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره وإن كانت القرية غير معينة فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما والعذاب ما أصابهم من الهلاك فكلوا وما بعده مذكور في البقرة ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام هذه ... 360
164 الآية مخاطبة للعرب الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والأنعام ثم يدخل فيها كل من قال هذا حلال أو حرام بغير علم وانتصب الكذب بلا تقولوا أو يكون قوله هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجوز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا متاع قليل يعني عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل يعني قوله في الأنعام حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة إن إبراهيم كان أمة فيه وجهان أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر فليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد والآخر أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله إني جاعلك للناس إماما قال ابن مسعود والأمة معلم الناس الخير وقد ذكر معنى القانت والحنيف وآتيناه في الدنيا حسنة يعني لسان الصدق وأن جميع الأمم متفقون عليه وقيل يعني المال والأولاد لمن الصالحين أي من أهل الجنة ولم يكن من المشركين نفي عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصا

(2/93)


للعبادة فرضى بعضهم بذلك وقال أكثرهم بل يكون يوم السبت فألزمهم الله يوم السبت فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم وقيل اختلافهم فيه هو أن منهم من حرم الصيد فيه ومنهم من أحله فعاقبهم الله بالمسخ قردة فالمعنى إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت قاله الزمخشري وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة المراد بالسبيل هنا الإسلام والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه والموعظة هي الترغيب والترهيب والجدال هو الرد على المخالف وهذه الأشياء الثلاثة يسميها ... 361

(2/94)


165 أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال وهذه الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف وقيل إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس وقال الجمهور إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم فنزلت الآية فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام وقد وردت الأحاديث بذلك ويقتضي ذلك أنها مدنية ويحتمل أن تكون الآية عامة ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال وتكون على هذا مكية كسائر السورة واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية ومنعه مالك لقوله صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ولئن صبرتم لهو خير للصابرين هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل والضمير راجع للصبر ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم أو يراد به المخاطبون كأنه قال خير لكم واصبر وما صبرك إلا بالله هذا عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في خاصته على الصبر ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله وقد قيل إن ما في هذه الآية من ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ ولا تحزن

(2/95)


عليهم أي لا تتأسف لكفرهم ولا تك في ضيق مما يمكرون أي لا يضيق صدرك بمكرهم والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت وقرئ بالكسر وهو مصدر ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران إن الله مع الذين اتقوا يريد أنه معهم بمعونته ونصره والذين هم محسنون الإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات والمعنى الذي أشار له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وهذا هو الأظهر لأنه رتبة فوق التقوى ... 362

(2/96)


166 سورة الإسراء
سبحان الذي أسرى بعبده معنى سبحان تنزه وهو مصدر غير منصرف وأسرى وسرى لغتان وهو فعل غير متعد واختار ابن عطية أن يكون أسرى هنا متعديا أي أسرى الملائكة بعبده وهو بعيد والعبد هنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وصفه بالعبودية تشريفا له وتقريبا ليلا إن قيل ما فائدة قوله ليلا مع أن السرى هو السير بالليل فالجواب أنه أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة وذلك أبلغ في الأعجوبة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا يعني بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة وقد روى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيته فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء وسمي الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة واختلف العلماء في كيفية الإسراء فقال الجمهور كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه وقال قوم كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حق فحجة الجمهور أنه لو كان مناما لم تنكره قريش ولم يكن في ذلك ما يكذب به الكفار ألا ترى قول أم هانىء له لا تخبر بذلك فيكذبك قومك وحجة من قال إن الإسراء كان مناما قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك وإنما يقال الرؤيا في المنام ويقال فيما يرى بالعين رؤية وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا بين النائم واليقظان وذكر الإسراء وقال في آخر الحديث فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال الإسراء كان مرتين أحدهما بالجسد والآخر بالروح وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس وهو الذي أنكرته قريش وأن الإسراء بالروح كان

(2/97)


إلى السموات السبع ليلة فرضت الصلوات الخمس ولقي الأنبياء في السموات الذي باركنا حوله صفة للمسجد الأقصى والبركة حوله بوجهين أحدهما ما كان فيه وفي نواحيه من الأنبياء والآخر كثرة ما فيه من الزروع والأشجار التي خص الله بها الشام لنريه من آياتنا أي لنري محمدا صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من العجائب فإنه رأى السموات والجنة والنار وسدرة المنتهى والملائكة والأنبياء وكلمه الله تعالى حسبما ورد في أحاديث الإسراء وهي في مصنفات الحديث فأغنى ذلك عن ذكرها هنا وجعلناه هدى يحتمل أن يعود الضمير على الكتاب أو على موسى ألا تتخذوا من دوني وكيلا أي ... 363

(2/98)


167 ربا تكلون إليه أمركم وأن يحتمل أن تكون مصدرية أو مفسرة ذرية من حملنا مع نوح نداء وفي ندائهم بذلك تلطف وتذكير بنعمة الله وقيل هي مفعول تتخذوا ويتعين معنى ذلك على قراءة من قرأ يتخذ بالياء ويعني بمن حملنا مع نوح أولاده الثلاثة هم سام وحام ويافث ونساؤهم ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان إنه كان عبدا شكورا أي كثير الشكر كان يحمد الله على كل حال وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوح وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب قيل إن قضينا هنا بمعنى علمنا وأخبرنا كما قيل في وقضينا إليه ذلك الأمر والكتاب على هذا التوراة وقيل قضينا إليه من القضاء والقدر والكتاب على هذا اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه مقادير الأشياء وإلى بمعنى على لتفسدن في الأرض مرتين هذه الجملة بيان للمقضي وهي في موضع جواب قضينا إذا كان من القضاء والقدر لأنه جرى مجرى القسم وإن كان بمعنى أعلمنا فهو جواب قسم محذوف تقديره والله لتفسدن والجملة في موضع معمول قضينا والمرتان المشار إليهما إحداهما قتل زكريا والأخرى قتل يحيى عليهما السلام ولتعلن علوا كبيرا من العلو وهو الكبر والتخيل فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا معناه أنهم إذا أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم عبادا له لينتقم منهم على أيديهم واختلف في هؤلاء العبيد فقيل جالوت وجنوده وقيل بختنصر ملك بابل فجاسوا خلال الديار أي ترددوا بينهما بالفساد وروي أنهم قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفا ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل واستنقاذ أسراهم وقتل بختنصر وقيل قتل داود لجالوت أكثر نفيرا أي أكثر عددا وهو مصدر من قولك نفر الرجل إذا خرج مسرعا أو جمع نفر إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم أحسنتم الأول بمعنى الحسنات والثاني بمعنى الإحسان

(2/99)


كقولك أحسنت إلى فلان ففيه تجنيس واللام فيه بمعنى إلى وكذلك اللام في قوله وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم يعني إذا أفسدوا في المرة الأخيرة بعث الله عليهم أولئك العباد للانتقام منهم فالآخرة صفة للمرة ومعنى يسوؤا يجعلونها تظهر فيها آثار الشر والسوء كقوله سيئت وجوه الذين كفروا واللام لام كي وهي تتعلق ببعثنا المحذوف لدلالة الأول عليه وقيل هي لام الأمر وليدخلوا المسجد يعني بيت المقدس وليتبروا من التبار وهو الإهلاك وشدة الفساد ما علوا ما مفعول ليتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد وقيل إن ما ظرفية أي يفسدوا مدة علوهم عسى ربكم أن يرحمكم خطاب لبني إسرائيل ومعناه ترجية لهم بالرحمة إن تابوا بعد الرحمة الثانية وإن عدتم عدنا خطاب لبني إسرائيل أي إن عدتم إلى الفساد عدنا إلى ... 364

(2/100)


168 عقابكم وقد عادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة حصيرا أي سجنا وهو من الحصر وقيل أراد به ما يفرش ويبسط كالحصير المعروف يهدي للتي هي أقوم أي الطريقة والحالة التي هي أقوم وقيل يعني لا إله إلا الله واللفظ أعم من ذلك ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير المعنى ذم وعتاب لما يفعله الناس عند الغضب من الدعاء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير في وقت التثبت وقيل إن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وقد تقدم أن الصحيح في قائلها إنه أبو جهل وكان الإنسان عجولا الإنسان هنا وفي الذي قبله اسم جنس وقيل يعني هنا آدم وهو بعيد فمحونا آية الليل فيه وجهان أحدهما أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك مسجد الجامع أي الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار ومحو آية الليل على هذا كونه مظلما والوجه الثاني أن يراد بآية الليل القمر وآية النهار الشمس ومحو آية الليل على هذا كون القمر لم يجعل له ضوء كضوء الشمس وجعلنا آية النهار مبصرة يحتمل أن يريد النهار بنفسه أو الشمس ومعنى مبصرة تبصر فيها الأشياء لتبتغوا فضلا من ربكم أي لتتوصلوا بضوء النهار إلى التصرف في معايشكم ولتعلموا باختلاف الليل والنهار أو بمسير الشمس والقمر عدد السنين والحساب الأشهر والأيام وكل شيء فصلناه تفصيلا انتصب كل بفعل مضمر والتفصيل البيان وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه انتصب كل بفعل مضمر والطائر هنا العمل والمعنى أن عمله لازم له وقيل إن طائره ما قدر عليه وله من خير وشر والمعنى على هذا أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء وإنما عبر عن ذلك بالطائر لأن العرب كانت عادتها التيمن والتشاؤم بالطير وقوله في عنقه أي

(2/101)


هو كالقلادة أو الغل لا ينفك عنه كتابا يلقاه منشورا يعني صحيفة أعماله بالحسنات والسيئات اقرأ كتابك تقديره يقال له اقرأ حسيبا أي محاسبا أو من الحساب بمعنى العدد ولا تزر وازرة وزر أخرى معناه حيث وقع لا يؤاخذ أحد بذنب أحد والوزر في اللغة الثقل والحمل ويراد به هنا الذنوب ومعنى تزر تحمل وزر أخرى أي وزر نفس أخرى وما كنا معذبين حتى ... 365
169 نبعث رسولا ) قيل إن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم وقيل هو عام في الدنيا والآخرة وأن الله لا يعذب قوما في الآخرة إلا وقد أرسل إليهم رسولا فكفروا به وعصوه ويدل على هذا قوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع لا من مجرد العقل وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها في تأويل أمرنا هنا ثلاثة أوجه أحدها أن يكون في الكلام حذف تقديره أمرنا مترفيها بالخير والطاعة فعصموا وفسقوا والثاني أن يكون أمرنا عبارة عن القضاء عليهم بالفسق أي قضينا عليهم بالفسق ففسقوا والثالث أن يكون أمرنا بمعنى كثرنا واختاره أبو علي الفارسي وأما على قراءة آمرنا بمد الهمزة فهو بمعنى كثرنا وأما على قراءة أمرنا بتشديد الميم فهو من الإمارة أي جعلناهم أمراء ففسقوا والمترف الغني المنعم في الدنيا فحق عليها القول أي القضاء الذي قضاه الله وكم أهلكنا من القرون القرن مائة سنة وقيل أربعون من كان يريد العاجلة الآية في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يؤمنون بالآخرة على أن لفظها أعم من ذلك والمعنى أنهم يعجل الله لهم حظا من الدنيا بقيدين أحدهما تقييد المقدار المعجل بمشيئة الله والآخر تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله ولمن نريد بدل من له وهو بدل بعض من كل مدحورا أي مبعدا

(2/102)


أو مهانا وسعى لها سعيها أي عمل لها عملها كلا نمد انتصب كلا بنمد وهو من المدد ومعناه نزيدهم من عطائنا هؤلاء وهؤلاء بدل من كلا والإشارة إلى الفريقين المتقدمين من عطاء ربك يعني رزق الدنيا وقيل من الطاعات لمن أراد الآخرة ومن المعاصي لمن أراد الدنيا والأول أظهر محظورا أي ممنوعا فضلنا بعضهم على بعض يعني في رزق الدنيا لا تجعل خطاب لواحد والمراد به جميع الخلق لأن المخاطب غير معين مذموما أي يذمه الله وخيار عباده مخذولا أي غير منصور وقضى ربك أي حكم وألزم وأوجب أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود ووصى ربك ألا تعبدوا أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا إما يبلغن عندك هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حالة الكبر لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى عندك أي في بيتك وتحت كنفك أف حيث وقعت اسم فعل معناها قول مكروه يقال عند الضجر ونحوه ... 366

(2/103)


170 وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك ويجوز في أف الكسر والفتح والضم وهي حركات بناء وأما تنوينها فهو للتنكير ولا تنهرهما من الانتهار وهو الإغلاظ في القول واخفض لهما جناح الذل من الرحمة استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما فهو كقوله اخفض جناحك للمؤمنين وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال الجناح الذليل ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما للأوابين قيل معناه الصالحين وقيل المسبحين وهو مشتق من الأوبة بمعنى الرجوع فحقيقته الراجعين إلى الله وآت ذا القربى حقه خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم وقيل هو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتي قرابته حقهم من بيت المال والأول أرجح وإما تعرضن الآية معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم كلاما حسنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه حياء منه فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك والميسور مشتق من اليسر ابتغاء رحمة من ربك ترجوها مفعول من أجله يحتمل أن يتعلق بقوله وإما تعرضن عنهم والمعنى على هذا أنه يعرض عنهم انتظارا لرزق يأتيه فيعطيه إياهم فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله فقل لهم قولا ميسورا أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور والرحمة على هذا هي الأجر والثواب ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك استعارة في معنى غاية البخل كأن البخيل حبست يده عن الإعطاء وشدت إلى عنقه ولا تبسطها كل البسط استعارة في معنى غاية الجود فنهى الله عن الطرفين وأمر بالتوسط بينهما كقوله إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ملوما أي يلومك صديقك عن كثرة عطائك وإضرارك

(2/104)


بنفسك أو يلومك من يستحق العطاء لأنك لم تترك ما تعطيه أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء محسورا أي منقطعا بك لا شيء عندك وهو من قولهم حسر السفر البعير إذا أتعبه حتى لم تبق له قوة إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء فلا تهتم بما تراه من ذلك فإن الله أعلم بمصالح عباده ولا تقتلوا أولادكم ذكر في الأنعام ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الحق الموجب لقتل النفس هو ما ورد في الحديث من ... 367

(2/105)


171 قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس أخرى وتتصل بهذه الأشياء أشياء أخر لأنها في معناها كالحرابة وترك الصلاة ومنع الزكاة ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا المظلوم هنا من قتل بغير حق والولي هو ولي المقتول وسائر العصبة وليس النساء من الأولياء عند مالك والسلطان الذي جعل الله له هو القصاص أو تخييره بين العفو والقصاص فلا يسرف في القتل نهى عن أن يسرف ولي المقتول بأن يقتل غير قاتل وليه أو يقتل اثنين بواحد وغير ذلك من وجوه التعدي وقرئ فلا تسرف بالتاء خطابا للقاتل أو لولي المقتول إنه كان منصورا الضمير للمقتول أو لوليه ونصره هو القصاص ولا تقربوا مال اليتيم ذكر في الأنعام قال بعضهم لا تقربوا ولا تقتلوا معطوفان على ألا تعبدوا والظاهر أنهما مجزومان بالنهي بدليل قوله بعدها ولا تقف ولا تمش وبصح أن تكون معطوفات إذا جعلنا ألا تعبدوا مجزوما على النهي وأن مفسرة وأوفوا بالعهد عام في العهود مع الله ومع الناس إن العهد كان مسئولا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون في معنى الطلب أي يطلب الوفاء به والثاني أن يكون المعنى يسأل عنه يوم القيامة هل وفى به أم لا وزنوا بالقسطاس قيل القسطاس الميزان وقيل العدل وقرئ بكسر القاف وهي لغة وأحسن تأويلا أي أحسن عاقبة ومآلا وهو من آل إذا رجع ولا تقف ما ليس به علم المعنى لا تقل ما لا تعلم من ذم الناس وشبه ذلك واللفظ مشتق من قفوته إذا اتبعته إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك والضمير في عنه يعود على كل ويتعلق عنه بمسئولا والمعنى أن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده وقيل الضمير يعود على ما ليس لك به علم والمعنى على هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي

(2/106)


التي تسأل عما ليس لها به علم وهذا بعيد ولا تمش في الأرض مرحا المرح الخيلاء والكبر في المشية وقيل هو إفراط السرور بالدنيا وإعرابه مصدر في موضع الحال إنك لن تخرق الأرض أي لن تجعل فيها خرقا بمشيك عليها والخرق هو القطع وقيل معناه لا تقدر أن تستوفي جميعها بالمشي والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيلاء أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خرق الأرض ولا على مطاولة الجبال فكيف تتكبر وتختال في مشيك وإنما الواجب عليك التواضع كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات والمكروه هنا بمعنى الحرام لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام وإعراب مكروها نعت ... 368

(2/107)


172 لسيئة أو بدل منها أو خبر ثان لكان أفأصفاكم ربكم بالبنين خطاب على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى كيف يجعل لكم الأعلى من النسل وهو الذكور ويتخذ لنفسه الأدنى وهو البنات ومعنى أصفاكم خصكم قولا عظيما أي عظيم النكر والشناعة قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا هذا احتجاج على الوحدانية وفي معناه قولان أحدهما أن المعنى لو كان مع الله آلهة لابتغوا سبيلا إلى التقرب إليه بعبادته وطاعته فيكون من جملة عباده والآخر لابتغوا سبيلا إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته ومعلوم أن ذلك لم يكن فلا إله إلا هو تسبح له السموات السبع والأرض الآية اختلف في كيفية هذا التسبيح فقيل هو تسبيح بلسان الحال أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة وقيل إنه تسبيح حقيقة وهذا أرجح لقوله لا تفقهون تسبيحهم جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا في معناه قولان أحدهما أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستره من الكفار إذا أرادوا به شرا ويحجبه منهم والآخر أنه يحجب الكفار عن فهم القرآن وهذا أرجح لما بعده والمستور هنا قيل معناه مستور عن أعين الخلق لأنه من لطف الله وكفايته فهو من المغيبات وقيل معناه ساتر أكنة أن يفقهوه جمع كنان وهو الغطاء وأن يفقهوه مفعول من أجله تقديره كراهة أن يفقهوه وهذه استعارات في إضلالهم وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده معناه إذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى فر المشركون من ذلك لما فيه من رفض آلهتهم وذمها ونفورا مصدر في موضع الحال نحن أعلم بما يستمعون به كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء والضمير في به عائد على ما أي نعلم ما يستمعون به من الاستهزاء وإذ هم نجوى جماعة يتناجون أو ذو نجوى والنجوى كلام السر رجلا مسحورا قيل معناه جن فسحر وقيل معناه ساحر وقيل هو من السحر بفتح السين وهي

(2/108)


الرئة أي بشر إذا سحر مثلكم وهذا بعيد أنظر كيف ضربوا لك الأمثال أي مثلوك بالساحر والشاعر والمجنون فضلوا عن الحق فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا الآية معناها إنكار للبعث واستبعادهم ... 369
173 أن يخلقهم الله خلقا جديدا بعد فنائهم والرفات الذي بلي حتى صار غبارا أو رفاتا وقد ذكر في الرعد اختلاف القراء في الاستفهامين قل كونوا حجارة أو حديدا المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لقدرنا على بعثكم وإحيائكم مع أن الحجارة والحديد أصلب الأشياء وأبعدها عن الرطوبة التي في الحياة فأولى وأحرى أن يبعث أجسادكم ويحيي عظامكم البالية فذكر الحجارة والحديد تنبيها بهما على ما هو أسهل في الحياة منهما ومعنى قوله كونوا أي كونوا في الوهم والتقدير وليس المراد به التعجيز كما قال بعضهم في ذلك أو خلقا مما يكبر في صدوركم قيل يعني السموات والأرض والجبال وقيل بل أحال على فكرتهم عموما في كل ما هو كبير عندهم أي لو كنتم حجارة أو حديدا أو شيئا أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقدرنا على بعثكم فسينغضون إليك رؤسهم أي يحركونها تحريك المستبعد للشيء والمستهزئ ويقولون متى هو أي متى يكون البعث يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده الدعاء هنا عبارة عن البعث بالنفخ في الصور والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين وبحمده في موضع الحال أي حامدين له وقيل معنى بحمده بأمره وتظنون إن لبثتم إلا قليلا يعني لبثتم في الدنيا أو في القبور وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن العباد هنا المؤمنون أمرهم أن يقول بعضهم لبعض كلاما لينا عجيبا وقيل أن يقولوه للمشركين ثم نسخ بالسيف وإعراب يقولوا كقوله يقيموا الصلاة في إبراهيم وقد ذكر ذلك قل ادعوا الذين زعمتم من دونه قيل يعني الملائكة وقيل عيسى وأمه وعزير وقيل نفر من الجن كان

(2/109)


العرب يعبدونهم والمعنى أنهم لا يقدرون على كشف الضر عنكم فكيف تعبدونهم أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة المعنى أن أولئك الآلهة الذين تدعون من دون الله يبتغون القربة إلى الله ويرجونه ويخافونه فكيف تعبدونهم معه وإعراب أولئك مبتدأ والذين تدعون صفة له ويبتغون خبره والفاعل في يدعون ضمير للكفار وفي يبتغون للآلهة المعبودين وقيل إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين قيل في قوله ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض والوسيلة هي ما يتوسل به ويتقرب أيهم أقرب بدل من الضمير في يبتغون أي يبتغي الوسيلة من هو أقرب منهم فكيف بغيره أو ضمن يبتغون معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ... 370

(2/110)


174 بالاجتهاد في طاعته ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله محذورا من الحذر وهو الخوف وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة يحتمل هذا الهلاك وجهين أحدهما أن يكون بالموت والفناء الذي لا بد منه والآخر أن يكون بأمر من الله يأخذ المدينة دفعة فيهلكها وهذا أظهر لأن الأول معلوم لا يفتقر إلى الإخبار بة والهلاك والتعذيب المذكوران في الآية هما في الحقيقة لأهل القرى أي مهلكو أهلها أم معذبوهم وروي أن هلاك مكة بالحبشة والمدينة بالجوع والكوفة بالترك والأندلس بالخيل وسئل الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن غرناطة فقال أصابها العذاب يوم قتل الموحدين بها في ثورة ابن هود وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطيطلة وغيرها بأخذ الروم لها في الكتاب مسطورا يعني اللوح المحفوظ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار فإذا رأوها ولم يؤمنون أهلكهم الله وسبب الآية أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا وعبر بالمنع عن ترك ذلك وأن نرسل في موضع نصب وأن كذب في موضع رفع ثم ذكر ناقة ثمود تنبيها على ذلك لأنهم اقترحوها وكانت سبب هلاكهم ومعنى مبصرة بينة واضحة الدلالة وما نرسل بالآيات إلا تخويفا إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من العذاب العاجل وهو الإهلاك وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من عذاب الآخرة ليراها الكافر فيؤمن وقيل المراد بالآيات هنا الرعد والزلازل والكسوف وغير ذلك من المخاوف وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس المعنى اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بقتلهم يوم بدر وذلك قوله سيهزم الجمع ويولون الدبر وإنما قال أحاط بلفظ الماضي وهو لم يقع لتحقيقه وصحة وقوعه بعد وقيل المعنى أحاط

(2/111)


بالناس في منعك وحمايتك منهم كقوله والله يعصمك من الناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس اختلف في هذه الرؤيا فقيل إنها الإسراء فمن قال إنه كان في اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعين ومن قال إنه كان في المنام فالرؤيا منامية والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك وارتداد بعض المسلمين حينئذ وقيل إنها رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في منامه هزيمة الكفار وقتلهم ببدر والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وقيل إنه رأى أنه يدخل مكة فعجل في سنة الحديبية فرد عنها فافتتن بعض المسلمين بذلك وقيل رأى في المنام أن بني أمية يصعدون على منبره فاغتم بذلك والشجرة الملعونة في القرآن يعني شجرة الزقوم وهي معطوفة على الرؤيا أي جعل الرؤيا والشجرة فتنة للناس وذلك أن قريشا لما سمعوا أن في جهنم شجرة زقوم سخروا من ذلك وقالوا كيف تكون شجرة في النار والنار تحرق الشجر وقال أبو جهل ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد فإن قيل لم لعنت شجرة الزقوم في القرآن فالجواب أن المراد لعنة آكلها وقيل اللعنة بمعنى الإبعاد لأنها في أصل الجحيم ونخوفهم الضمير لكفار قريش طينا تمييز أو حال من من أو من مفعول خلقت قال أرأيتك ... 371

(2/112)


175 هذا الذي كرمت علي ) الكاف من أرأيتك للخطاب لا موضع لها من الإعراب وهذا مفعول بأرأيت والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته وأنا خير منه فاختصر الكلام بحذف ذلك وقال ابن عطية أرأيتك هذا بمعنى أتأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني لأحتنكن ذريته معناه لأستولين عليهم ولأقودنهم وهو مأخوذ من تحنيك الدابة وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد قال اذهب قال ابن عطية اذهب وما بعده من الأوامر صيغة أمر على وجه التهديد وقال الزمخشري ليس المراد الذهاب الذي هو ضد المجيء إنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلانا له وتخلية ويحتمل عندي أن يكون معناه للطرد والإبعاد فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم كان الأصل أن يقال جزاؤهم بضمير الغيبة ليرجع إلى من اتبعك ولكنه ذكره بلفظ المخاطب تغليبا للمخاطب على الغائب وليدخل إبليس معهم جزاء موفورا مصدر في موضع الحال والموفور المكمل واستفزز أي اخدع واستخف بصوتك قيل يعني الغناء والمزامير وقيل الدعاء إلى المعاصي وأجلب عليهم أي هول وهو من الجلبة وهي الصياح بخيلك ورجلك الخيل هنا يراد بها الفرسان الراكبون على الخيل والرجل جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه فقيل هو مجاز واستعارة بمعنى افعل جهدك وقيل إن له من الشيطان خيلا ورجلا وقيل المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر وشاركهم في الأموال والأولاد مشاركته في الأموال بكسبها من الربا وإنفاقها في المعاصي وغير ذلك ومشاركته في الأولاد هي بالاستيلاد بالزنا وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك وعدهم يعني المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وشبه ذلك إن عبادي يعني المؤمنين الذين يتوكلون على الله بدليل قوله بعد ذلك وكفى بربك وكيلا ونحوه إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون يزجي لكم الفلك أي يجريها ويسيرها والفلك هنا جمع وابتغاء الفضل في التجارة وغيرها

(2/113)


الضر في البحر يعني خوف الغرق
ضل من تدعون إلا إياه ضل هنا بمعنى تلف وفقد أي تلف عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه إلا الله وحده فلجأتم إليه حينئذ دون غيره فكيف تعبدون غيره وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه وكان الإنسان كفورا ... 372
176 أي كفورا بالنعم والإنسان هنا جنس أفأمنتم الهمزة للتوبيخ والفاء للعطف أي أنجوتم من البحر فأمنتم الخسف في البر حاصبا يعني حجارة أو ريحا شديدة ترمى بالحصباء وكيلا أي قائما بأموركم وناصرا لكم قاصفا من الريح يعني الذي يقصف ما يلقى أي يكسره تبيعا أي مطالبا يطالبنا بما فعلنا بكم أي لا تجدون من ينصركم منا كقوله ولا يخاف عقباها وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا يعني فضلهم على الجن وعلى سائر الحيوان ولم يفضلهم على الملائكة ولذلك قال على كثير وأنواع التفضيل كثيرة لا تحصى وقد ذكر المفسرون منها كون الإنسان يأكل بيده وكونه منتصب القامة وهذه أمثلة بإمامهم قيل يعني بينهم يقال يا أمة فلان وقيل يعني كتابهم الذي أنزل عليهم وقيل كتابهم الذي فيه أعمالهم ولا يظلمون فتيلا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة والمعنى أنهم لا يظلمون من أعمالهم قليلا ولا كثيرا فعبر بأقل الأشياء تنبيها على الأكثر ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى الإشارة بهذه إلى الدنيا والعمى يراد به عمى القلب أي من كان في الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو في يوم القيامة أعمى أي حيران يائس من الخير ويحتمل أن يريد بالعمى في الآخرة عمى البصر كقوله ونحشره يوم القيامة أعمى وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضل سبيلا لأنه حينئذ لا ينفعه الاهتداء ويجوز في أعمى الثاني أن يكون صفة للأول وأن يكون من الأفعال التي للتفضيل وهذا أقوى لقوله وأضل سبيلا فعطف أضل الذي هو من أفعل من كذا على ما هو شبهه قال سيبويه لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا ولكن إنما يمتنع ذلك في

(2/114)


عمى البصر لا في عمى القلب وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآية سببها أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اقبل بعض أمرنا ونقبل بعض أمرك وقيل إن ثقيفا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات والعزى والآية على هذا القول مدنية لتفتري علينا غيره الافتراء هنا يراد به المخالفة لما أوحي إليه من القرآن وغيره وإذا لاتخذوك خليلا أي لو فعلت ما أرادوا منك لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا لولا تدل على امتناع شيء لوجود غيره فدلت هنا على امتناع مقاربة النبي صلى الله عليه وسلم الركون إليهم لأجل تثبيت الله له وعصمته وكدت تقتضي نفي الركون لأن معنى كاد فلان يفعل كذا أي أنه لم يفعله فانتفى الركون إليهم ومقاربته فليس في ذلك نقض من جانب النبي صلى الله عليه وسلم لأن التثبيت منعه ... 373

(2/115)


177 من مقاربة الركون ولو لم يثبته الله لكانت مقاربته للركون إليهم شيئا قليلا وأما منع التثبيت فلم يركن قليلا ولا كثيرا ولا قارب ذلك
إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي ضعف عذابهما لو فعل ذلك وإن كادوا ليستفزونك من الأرض الضمير لقريش كانوا قد هموا أن يخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وذلك قبل الهجرة فالأرض هنا يراد بها مكة لأنها بلده وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك بمكة إلا قليلا فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة لأجل إذاية قريش له ولأصحابه لم يبقوا بعد ذلك إلا قليلا وقتلوا يوم بدر سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا انتصب سنة على المصدر ومعناه العادة أي هذه عادة الله مع رسله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة فدلوك الشمس زوالها والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر صلاة الصبح وانتصب قرآن الفجر بالعطف على موضع اللام في قوله لدلوك الشمس فإن اللام فيه ظرفية بمعنى علم وقيل هو عطف على الصلاة وقيل مفعول بفعل مضمر تقديره اقرأ قرآن الفجر وإنما عبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر لأن القرآن يقرأ فيها أكثر من غيرها لأنها تصلى بسورتين طويلتين إن قرآن الفجر كان مشهودا أي تشهده ملائكة الليل والنهار فيجتمعون فيه إذ تصعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار ومن الليل فتهجد به نافلة لك لما أمر بالفرائض أمر بعدها بالنوافل ومن للتبعيض والضمير في به للقرآن والتهجد السهر وهو ترك الهجود ومعنى الهجود النوم فالتفعل هنا للخروج عن الشيء كالتحرج والتأثم في الخروج عن الإثم والحرج عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا يعني الشفاعة يوم القيامة وانتصب مقاما على الظرف وقل رب أدخلني مدخل صدق الآية المدخل دخوله إلى المدينة

(2/116)


والمخرج خروجه من مكة وقيل المدخل في القبر والمخرج إلى البعث واختار ابن عطية أن يكون على العموم في جميع الأمور سلطانا نصيرا قيل معناه حجة تنصرني بها وتظهر بها صدقي وقيل قوة ورياسة تنصرني بها على الأعداء وهذا أظهر وقل جاء الحق وزهق الباطل الحق الإيمان والباطل الكفر وننزل من القرآن ما هو شفاء من للتبعيض أو لبيان الجنس والمراد بالشفاء أنه يشفي القلوب من الريبة والجهل ويحتمل أن يريد نفعه من الأمراض بالرقيا به والتعويذ وإذا أنعمنا على الإنسان الآية المراد بالإنسان هنا الجنس لأن ذلك من سجية الإنسان وقيل ... 374

(2/117)


178 إنما يراد الكافر لأنه هو الذي يعرض عن الله ونآى بجانبه أي بعد وذلك تأكيد وبيان للإعراض وقرئ ناء وهو بمعنى واحد كل يعمل على شاكلته أي مذهبه وطريقته التي تشاكله ويسئلونك عن الروح السائلون اليهود وقيل قريش بإشارة اليهود والروح هنا عند الجمهور هو الذي في الجسم وقد يقال فيه النفس وقيل الروح هنا جبريل وقيل القرآن والأول هو الصواب لدلالة ما بعده على ذلك قل الروح من أمر ربي أي من الأمور التي استأثر الله بها ولم يطلع عليها خلقه وكانت اليهود قد قالت لقريش اسألوه عن الروح فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبي وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه وقال ابن بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعرف الروح ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح وليس في أقوالهم في ذلك ما يعول عليه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا خطاب عام لجميع الناس لأن علمهم قليل بالنظر إلى علم الله وقيل خطاب لليهود خاصة والأول أظهر لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن فمحوناه من الصدور والمصاحف وهذه الآية متصلة المعنى بقوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك فلا يبقى عندك شيء من العلم وكيلا أي من يتوكل بإعادته ورده بعد ذهابه إلا رحمة من ربك يحتمل أن يكون استثناء متصلا فمعنى أن رحمة ربك ترد القرآن بعد ذهابه لو ذهب أو استثناء منقطعا بمعنى أن رحمة ربك تمسكه عن الذهاب قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله عجز الخلق عن الإتيان بمثله لما تضمنه من العلوم الإلهية والبراهين الواضحة والمعاني العجيبة التي لم يمكن الناس يعلمونها ولا يصلون إليها ثم جاءت فيه على الكمال وقال أكثر الناس إنهم عجزوا عنه لفصاحته وحسن نظمه ووجوه إعجازه كثيرة قد

(2/118)


ذكرنا في غير هذا منها خمسة عشر وجها ظهيرا أي معينا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل أي بينا لهم كل شيء من العلوم النافعة والبراهين القائمة والحجج الواضحة وهذا يدل على أن إعجاز القرآن بما فيه من المعاني والعلوم كما ذكرنا فأبى أكثر الناس إلا كفورا الكفور الجحود وانتصب بقوله أنى لأنه في معنى النفي وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا من خوارق العادات وهي التي ذكرها الله في هذه الآية وقيل إن الذي قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وكان ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك والينبوع العين قالوا له إن مكة قليلة الماء ففجر لنا فيها عينا من ... 375

(2/119)


179 الماء أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا إشارة إلى قوله تعالى إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء وكسفا بفتح السين جمع كسفة وهي القطعة وقرئ بالإسكان أي قطعا واحدا قبيلا قيل معناه مقابلة ومعاينة وقيل ضامنا شاهدا بصدقك والقبالة في اللغة الضمان بيت من زخرف أي من ذهب قل سبحان ربي تعجب من اقتراحاتهم أو تنزيه لله عن قولهم تأتي بالله وعن أن يطلب منه هذه الأشياء التي طلبها الكفار لأن ذلك سوء أدب هل كنت إلا بشرا رسولا أي إنما أنا بشر فليس في قدرتي شيء مما طلبتم وأنا رسول فليس على إلا التبليغ إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا المعنى أن الذي منع الناس من الإيمان إنكارهم لبعث الرسول من البشر قل لو كان في الأرض ملائكة الآية معناها أنه لو كان أهل الأرض ملائكة لكان الرسول إليهم ملكا ولكنهم بشر فالرسول إليهم بشر من جنسهم ومعنى مطمئنين ساكنين في الأرض شهيدا بيني وبينكم ذكر في الأنعام عميا وبكما وصما قيل هي استعارة بمعنى أنهم يوم القيامة حيارى وقيل هي حقيقة وأنهم يكونون عميا وبكما وصما حين قيامهم من قبورهم كلما خبت معناه في اللغة سكن لهبا والمراد هنا كلما أكلت لحومهم فسكن لهبا بدلوا أجساد أخر ثم صارت ملتهبة أكثر مما كانت وقالوا أئذا كنا عظاما استبعاد للحشر وقد تقدم معنى الرفات والكلام في الاستفهامين أولم يروا أن الله الآية احتجاج على الحشر فإن السموات والأرض أكبر من الإنسان فكما قدر الله على خلقها فأولى وأحرى أن يقدر على إعادة جسد الإنسان بعد فنائه والرؤية في الآية رؤية قلب أجلا لا ريب فيه القيامة أو أجل الموت قل لو أنتم تملكون لو حرف امتناع ولا يليها الفعل إلا ظاهر أو مضمرا فلا بد من فعل يقدر هنا بعدها تقديره تملكون ثم فسره بتملكون الظاهر وأنتم تأكيد للضمير الذي في تملكون المضمر خزائن رحمة ربي أي الأموال

(2/120)


والأرزاق إذا لأمسكتم خشية الإنفاق أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن الإعطاء خشية الفقر فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق وهو الفقر ومفعول أمسكتم محذوف وقال الزمخشري ... 376
180 لا مفعول له لأن معناه بخلتم من قولهم للبخيل ممسك ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح وخوف الفقر بخلاف وصف الله تعالى بالجود والغنى تسع آيات بينات الخمس منها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والأربع انقلاب العصا حية وإخراج يده بيضاء وحل العقدة من لسانه وفلق البحر وقد عد فيها رفع الطور فوقه وانفجار الماء من الحجر على أن يسقط اثنان من الأخر وقد عد فيها أيضا السنون والنقص من الثمرات روى أن بعض اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشي ببريء إلى السلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت فاسئل بني إسرائيل أي اسأل المعاصرين لك من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقينا والآية على هذا خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الزمخشري إن المعنى قلنا لموسى اسأل بني إسرائيل من فرعون أي اطلب منه أن يرسلهم معك فهو كقوله أن أرسل معنا بني إسرائيل فلا يرد قوله اسأل لموسى على إضمار القول وقال أيضا يحتمل أن يكون المعنى اسأل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك وهذا أيضا على أن يكون الخطاب لموسى والأول أظهر إذ جاءهم الضمير لبني إسرائيل والمراد آباؤهم الأقدمون والعامل في إذ على القول الأول آتينا موسى أو فعل مضمر والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف مسحورا هنا وفي الفرقان أي سحرت واختلط عقلك وقيل ساحر لقد علمت بفتح التاء خطاب لفرعون والمعنى أنه علم أن الله أنزل الآيات ولكنه كفر بها عنادا كقوله وجحدوا بها واستيقنتها

(2/121)


أنفسهم والإشارة بهؤلاء إلى الآيات مبثورا أي مهلوكا وقيل مغلوبا وقيل مصروفا عن الخير قابل موسى قول فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض أي أرض مصر اسكنوا الأرض يعني أرض الشام لفيفا أي جميعا مختلطين وبالحق أنزلناه وبالحق نزل الضمير للقرآن وبالحق معناه في الموضعين بالواجب من المصلحة والسداد وقيل معنى الأول كذلك ومعنى الثاني ضد الباطل أي بالحق في إخباره وأوامره ونواهيه وقرآنا فرقناه انتصب بفعل مضمر يدل عليه فرقناه ومعناه بيناه وأوضحناه على مكث قيل معناه على تمهل وترتيل في قراءته وقيل على طول مدة نزوله شيئا شيئا من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته وذلك عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون قل آمنوا به أو لا تؤمنوا أمر باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم كأنه يقول سواء آمنتم أو لم تؤمنوا لكونكم لستم بحجة وإنما الحجة أهلم بالعلم من قبله وهم المؤمنون من أهل الكتاب إن الذين ... 377

(2/122)


181 أوتوا العلم من قبله ) يعني المؤمنين من أهل الكتاب وقيل الذين كانوا على الحنيفية قبل البعثة كزيد بن عمرو بن نوفل وورقة بن نوفل والأول أظهر وهذه الجملة تعليل لما تقدم والمعنى إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو أعلم منكم ويخرون للأذقان أي لناحية الأذقان كقولهم خر لليدين وللفم والأذقان جمع ذقن وهو أسفل الوجه حيث اللحية وإنما كرر يخرون للأذقان لأن الأول للسجود والآخر للبكاء قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يا ألله يا رحمن فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحد وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أن قوله الله أو الرحمن اسما لمسمى واحد وأنه مخير في الدعاء بأي الاسمين شاء والدعاء في الآية بمعنى التسمية كقولك دعوت ولدي زيدا لا بمعنى النداء أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى أيا اسم شرط منصوب بتدعوا والتنوين فيه عوض من المضاف إليه وما زائدة للتأكيد والضمير في به لله تعالى وهو المسمى لا الاسم والمعنى أي هذين الاسمين تدعو فحسن لأن الله له الأسماء الحسنى فموضع قوله لله الأسماء الحسنى موضع الحال وهو في المعنى تعليل للجواب لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها المخافتة هي الإسرار وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن في الصلاة فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسط بين الإسرار والجهر ليسمع أصحابه الذين يصلون معه ولا يسمع المشركون وقيل المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها واجعل منها سرا وجهرا حسبما أحكمته السنة وقيل الصلاة هنا الدعاء ولم يكن له ولي من الذل أي ليس له ناصر يمنعه من الذل لأنه تعالى عزيز لا يفتقر إلى ولي يحميه فنفى الولاية على هذا المعنى لأنه غني عنها ولم ينف الولاية على وجه المحبة والكرامة لمن

(2/123)


شاء من عباده وحكى الطبري أن قوله لم يتخذ ولدا رد على النصارى واليهود والذين نسبوا لله ولدا وقوله ولم يكن له شريك رد على المشركين وقوله ولم يكن به ولي من الذل رد على الصابئين في قولهم لو لا أولياء الله لذل الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وكبره معطوف على قل ويحتمل هذا التكبير أن يكون بالقلب وهو التعظيم أو باللسان وهو قوله أن يقول الله أكبر مع قوله الحمد لله الذين لم يتخذ ولدا الآية سورة الكهف
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب العبد هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية تشريفا له ... 378

(2/124)


182 وإعلاما باختصاصه وقربه والكتاب القرآن ولم يجعل له عوجا العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها ومعناه عدم الاستقامة وقيل فيه هنا معناه لا تناقض فيه ولا خلل وقيل لم يجعله مخلوقا واللفظ أعم من ذلك قيما أي مستقيما وقيل قيما على الخلق بأمر الله تعالى وقيل قيما على سائر الكتب بتصديقها وانتصابه على الحال من الكتاب والعامل فيه أنزل ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيما لينذر بأسا شديدا متعلق بأنزل أو بقيما والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلى الله عليه وسلم والبأس العذاب وحذف المفعول الثاني وهو الناس كما حذف المفعول الآخر من قوله وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف من لدنه أي من عنده والضمير عائد على الله تعالى أجرا حسنا يعني الجنة ماكثين فيه أي دائمين وانتصابه على الحال من الضمير في لهم وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا هم النصارى لقولهم في عيسى واليهود لقولهم في عزير وبعض العرب لقولهم في الملائكة وما لهم به من علم الضمير عائد على قولهم أو على الولد كبرت كلمة انتصب على التمييز على الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولدا وعلى هذا يعود الضمير في كبرت فلعلك باخع نفسك أي قاتلها بالحزن والأسف والمعنى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمانهم على أثارهم استعارة فصيحة كأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفا عليهم وانتصب أسفا على أنه مفعول من أجله والعامل فيه باخع نفسك إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها يعني ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم والأشجار والأنهار وغير ذلك لنبلوهم أيهم أحسن عملا أي لنختبرهم أيهم أزهد في زينة الدنيا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها والصعيد هو التراب والجرز الأرض

(2/125)


التي لا نبات فيها أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء بهجة أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أم هنا استفهام والمعنى أحسبت أنهم عجب بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب والكهف الغار الواسع والرقيم اسم كلبهم وقيل هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف وقيل كتاب فيه شرعهم ودينهم وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف وقيل الجبل الذي فيه الكهف وقال ابن عباس لا أدري ما الرقيم إذ أوى الفتية إلى الكهف نذكر من قصتهم على وجه الاختصار ما لا غنى عنه إذ قد أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نقلوا وذلك أنهم كانوا قوما مؤمنين وكان ملك بلادهم كافر يقتل كل مؤمن ففروا بدينهم ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه ويستخفوا من الملك وقومه فأمر الملك بأتباعهم فانتهى المتبعون لهم إلى الغار فوجدوهم وعرفوا الملك بذلك فوقف ... 379

(2/126)


183 عليه في جنده وأمر بالدخول إليهم فهاب الرجال ذلك وقالوا له دعهم يموتوا جوعا وعطشا وكان الله قد ألقى عليهم قبل ذلك نوما ثقيلا فبقوا على ذلك مدة طويلة ثم أيقظهم الله وظنوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما بدراهم كانت لهم فعجب لها البائع وقال هذه الدراهم من عهد فلان الملك في قديم الزمان من أين جاءتك وشاع الكلام بذلك في الناس وقال الرجل إنما خرجت أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهف فقال هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم فمشوا إليهم فوجدوهم موتى وأما موضع كهفهم فقيل إنه بمقربة من فلسطين وقال قوم إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة من جهة غرناطة وفيه موتى ومعهم كلب وقد ذكر ابن عطية ذلك وقال إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد وقريب منهم بناء يقال له الرقيم قد بقي بعض جدرانه وروى أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دقيوس وفي تلك الجهة آثار مدينة يقال لها مدينة دقيوس والله أعلم ومما يبعد ذلك ما روى أن معاوية مر عليهم وأراد الدخول إليهم ولم يدخل معاوية الأندلس قط وأيضا فإن الموتى التي في غار لوشة يراهم الناس ولم يدرك أحد منهم الرعب الذي ذكر الله في أصحاب الكهف فضربنا على ءاذانهم في الكهف عبارة عن إلقاء النوم عليهم وقال الزمخشري المعنى ضربنا على آذانهم حجابا ثم حذف هذا المفعول سنين عددا أي كثيرة ثم بعثناهم أي أيقظناهم من نومهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا أي لنعلم علما يظهر في الوجود لأن الله قد كان علم ذلك والمراد بالحزبين الذين اختلفوا في مدة لبثهم فالحزب الواحد أصحاب الكهف والحزب الآخر القوم الذين بعث الله أصحاب الكهف في مدتهم وقيل إن الحزبين معا أصحاب الكهف إذ كان بعضهم قد قال لبثنا يوما أو بعض يوم وقال بعضهم ربكم أعلم بما لبثتم وأحصى فعل ماض وأمدا مفعول به وقيل أحصى اسم للتفضيل وأمدا تمييز وهذا ضعيف لأن أفعل من التي

(2/127)


للتفضيل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ وربطنا على قلوبهم أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر إذ قاموا يحتمل أن يريد قيامهم من النوم أو قيامهم بين يدي الملك الكافر لما آمنوا ولم يبالوا به لقد قلنا إذا شططا أي لو دعونا من دونه إلها لقلنا قولا شططا والشطط الجور والتعدي لولا يأتون عليهم بسلطان بين تحضيض بمعنى التعجيز أنهم لا يأتون بحجة بينة على عبادة غير الله وإذ اعتزلتموهم خطاب من بعضهم لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم وما يعبدون عطف على المفعول في اعتزلتموهم أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون إلا الله أي ما يعبدون من دون الله وإلا هنا بمعنى غير وهذا استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله وفي مصحف ابن مسعود وما يعبدون ... 380

(2/128)


184 من دون الله
فأووا إلى الكهف هذا الفعل هو العامل في إذ اعتزلتموهم والمعنى أن بعضهم قال لبعض إذا فارقنا الكفار فلنجعل الكهف لنا مأوى ونتكل على الله فهو يرحمنا ويرفق بنا مرفقا بفتح الميم وكسرها ما يرتفق به وينتفع وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال قيل هنا كلام محذوف تقديره فأوى القوم إلى الكهف ومكثوا فيه وضرب الله على آذانهم ومعنى تزاور تميل وتزوغ ومعنى تقرضهم تقطعهم أي تبعد عنهم وهو بمعنى القطع وذات اليمين والشمال أي جهته ومعنى الآية أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرها فقيل إن ذلك كرامة لهم وخرق عادة وقيل كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش فلذلك لا تصيبهم الشمس والأول أظهر لقوله ذلك من آيات الله وهم في فجوة منه أي في موضع واسع وذلك مفتح لإصابة الشمس ومع ذلك حجبها الله عنهم ذلك من آيات الله الإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى امرهم بجملته وتحسبهم أيقاظا وهم رقود أيقاظا جمع يقظ وهو المنتبه كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون فيحسبهم من يراهم أيقاظا وفي قوله أيقاظا ورقود مطابقة وهي من أدوات البيان ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال أي نقلبهم من جانب إلى جانب ولولا ذلك لأكلتهم الأرض وكان هذا التقليب من فعل الله وملائكته وهم لا ينتبهون من نومهم وروى أنهم كانوا يقلبون مرتين في السنة وقيل من سبع سنين إلى مثلها وكلبهم باسط ذراعيه قيل إنه كان كلبا لأحدهم يصيد به وقيل كان كلبا لراع فمروا عليه فصحبهم وتبعه كلبه وأعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنه حكاية حال بالوصيد أي بباب الكهف وقيل عتبته وقيل البناء ولملئت منهم رعبا ذلك لما ألبسهم الله من الهيبة وقيل لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم وقيل لوحشة مكانهم وعن معاوية أنه غزا

(2/129)


الروم فمر بالكهف فأراد الدخول إليه فقال له ابن عباس لا تستطيع ذلك قد قال الله لمن هو خير منك لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا فبعث ناسا إليهم فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأحرقتهم وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم ليسأل بعضهم بعضا واللام في ليتساءلوا لام الصيرورة قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هذا قول من استشعر منهم أن مدة لبثهم طويلة فأنكر على من قال يوما أو بعض يوم ولكنه لم يعلم مقدارها فأسند علمها إلى الله فابعثوا أحدكم بورقكم الورق الفضة وكانت دراهم تزودوها حين خروجهم إلى الكهف ويستدل بذلك على أن التزود للمسافر أفضل من تركه ويستدل ببعث أحدهم على جواز الوكالة فإن قيل كيف ... 381

(2/130)


185 اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم فالجواب أنهم كانوا قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم فابعثوا أحدكم إلى المدينة قيل إنها طرسوس أزكى طعاما قيل أكثر وقيل أحل وقيل إنه أراد شراء زبيب وقيل تمر وليتلطف في اختفائه وتحيله إن يظهروا عليكم يرجموكم أي إن يظفروا بكم يقتلوكم بالحجارة وقيل المعنى يرجموكم بالقول والأول أظهر وكذلك أعثرنا عليهم أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا الناس عليهم ليعلموا الضمير للقوم الذين أطلعهم الله على أصحاب الكهف أي أطلعناهم على حالهم من انتباههم من الرقدة الطويلة ليستدلوا بذلك على صحة البعث من القبور إذ يتنازعون بينهم أمرهم العامل في إذ أعثرنا أو مضمر تقديره اذكر والمتنازعون هم القوم الذين كانوا قد تنازعوا فيما يفعلون في أصحاب الكهف أو تنازعوا هل هم أموات أو أحياء وقيل تنازعوا هل تحشر الأجساد أو الأرواح بالأجساد فأراهم الله حال أصحاب الكهف ليعلموا أن الأجساد تحشر فقالوا ابنوا عليهم بنيانا أي على باب كهفهم إما ليطمس آثارهم أو ليحفظهم ويمنعهم ممن يريد أخذهم أو أخذ تربتهم تبركا وإما ليكون علما على كهفهم ليعرف به قال الذين غلبوا على أمرهم قيل يعني الولاة وقيل يعني المسلمين لأنهم كانوا أحق بهم من الكفار فبنوا على باب الكهف مسجدا لعبادة الله سيقولون الضمير لمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود أو غيرهم ممن تكلم في أصحاب الكهف رجما بالغيب أي ظنا وهو مستعار من الرجم بمعنى الرمي سبعة وثامنهم كلبهم قال قوم إن الواو واو الثمانية لدخولها هنا وفي قوله سبع ليال وثمانية أيام وفي قوله في أهل الجنة وفتحت أبوابها وفي قوله في براءة والناهون عن المنكر وقال البصريون لا تثبت واو الثمانية وإنما الواو هنا كقوله جاء زيد وفي يده سيف قال الزمخشري وفائدتها التوكيد

(2/131)


والدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدقوا وأخبروا بحق بخلاف الذين قالوا ثلاثة ورابعهم كلبهم والذين قالوا خمسة وسادسهم كلبهم وقال ابن عطية دخلت الواو في آخر إخبار عن عددهم لتدل على أن هذا نهاية ما قيل ولو سقطت لصح الكلام وكذلك دخلت السين في قوله سيقولون الأول ولم تدخل في الثاني والثالث استغناء بدخولها في الأول ما يعلمهم إلا قليل أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس وهم من أهل الكتاب قال ابن عباس أنا من ذلك القليل وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم لأنه قال في الثلاثة والخمسة رجما بالغيب ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا لا تمار من المراء وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج والمعنى لا تمار أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف إلا مراء ظاهرا أي غير متعمق فيه من غير مبالغة ولا تعنيف في الرد عليهم ولا تستفت فيهم منهم أحدا ... 382

(2/132)


186 أي لا تسأل أحدا من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما يغنيك عن السؤال ولا تقولون لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله سببها أن قريشا سألوا اليهود عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول وهم أصحاب الكهف وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو ذو القرنين وعن الروح فإن أجابكم في الاثنين وسكت عن الروح فهو نبي فسألوه فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأمسك عنه الله الوحي خمسة عشر يوما فأوجف به كفار قريش وتكلموا في ذلك فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء جبريل بسورة الكهف فقص عليه فيها قصة أصحاب الكهف وذي القرنين وأنزل الله عليه هذه الآية تأديبا لهم وتعليما فأمره بالاستثناء بمشيئة الله في كل أمر يريد أن يفعله فيما يستقبل وقوله غدا يريد به الزمان المستقبل لا اليوم الذي بعد يومه خاصة وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله أو تقول إلا أن يشاء الله والمعنى أن يعلق الأمر بمشيئة الله وحوله وقوته ويبرأ هو من الحول والقوة وقيل إن قوله إلا أن يشاء الله بقوله لا تقولن والمعنى لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه فالمشيئة على هذا راجعة إلى القول لا إلى الفعل ومعناها إباحة القول بالإذن فيه حكى ذلك الزمخشري وحكاه ابن عطية وقال إنه من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكي واذكر ربك إذا نسيت قال ابن عباس الإشارة بذلك إلى الإستثناء أي استثن بعد مدة إذا نسيت الاستثناء أولا وذلك على مذهبه فإن الاستثناء في اليمين ينفع بعد سنة وأما مذهب مالك والشافعي فإنه لا ينفع إلا إن كان متصلا باليمين وقيل معنى الآية اذكر ربك إذا غضبت وقيل اذكر إذا نسيت شيئا ليذكرك ما نسيت والظاهر أن المعنى اذكر ربك إذا نسيت ذكره أي ارجع إلى الذكر إذا غفلت عنه

(2/133)


واذكره في كل حال ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا هذا كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف أي عسى الله أن يؤتيني من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوتي من خبر أصحاب الكهف واللفظ يقتضي أن المعنى عيني أن يوفقني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خير أصحاب أهل الكهف وأقرب إلى الله وقيل إن الإشارة بهذا إلى المنسي أي إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهديني الله إلى شيء آخر هو أرشد من المنسي ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا في هذا قولان أحدهما أنه حكاية عن أهل الكتاب يدل على ذلك ما في قراءة ابن مسعود وقالوا لبثوا في كهفهم وهو معطوف على سيقولون ثلاثة فقوله قل الله أعلم بما لبثوا رد عليهم في هذا العدد المحكي عنهم والقول الثاني أنه من كلام الله تعالى وأنه بيان لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ومعنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا على هذا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم وقد أخبر بمدة لبثهم فإخباره هو الحق لأنه أعلم من الناس وكان قوله قل الله أعلم احتجاجا على صحة ذلك ... 383

(2/134)


187 الإخبار وانتصب سنين على البدل من ثلاثمائة أو عطف بيان أو على التمييز وذلك على قراءة التنوين في ثلاثمائة وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد أبصر به وأسمع أي ما أبصره وما أسمعه لأن الله يدرك الخفيات كما يدرك الجليات ما لهم الضمير لجميع الخلق أو للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يشرك في حكمه أحدا هو خبر عن القراءة بالياء والرفع وقرئ بالتاء والجزم على النهي لا مبدل لكلماته يحتمل أن يراد بالكلمات هنا القرآن فالمعنى لا يبدل أحد القرآن ولا يغيره ويحتمل أن يريد بالكلمات القضاء والقدر ملتحدا أي ملجأ تميل إليه واصبر نفسك أي احبسها صابرا مع الذين يدعون ربهم هم فقراء المسلمين كبلال وخباب وصهيب وكان الكفار قد قالوا له اطرد هؤلاء نجالسك نحن فنزلت الآية بالغداة والعشي قيل المراد الصلوات الخمس وقيل الدعاء على الإطلاق ولا تعد عيناك عنهم أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا وقال الزمخشري يقال عداه إذا جاوزه فهذا الفعل يتعدى بنفسه دون حرف وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمن معنى نبت عينه عن الرجل إذا احتقره تريد زينة الحياة الدنيا جملة في موضع الحال فهي متصلة بما قبلها وهي في معنى تعليل الفعل المنهي عنه في قوله ولا تعد عيناك عنهم أي لا تبعد عنهم من أجل إرادتك لزينة الدنيا أغفلنا قلبه أي جعلناه غافلا أو وجدناه غافلا وقيل يعني أنه عيينة بن حصين الفزاري والأظهر أنها مطلقة من غير تقييد فرطا من التفريط والتضييع أو من الإفراط والإسراف وقل الحق من ربكم أي هذا هو الحق فمن شاء فليؤمن لفظه أمر وتخيير ومعناه أن الحق قد ظهر فليختر كل إنسان لنفسه إما الحق الذي ينجيه أو الباطل الذي يهلكه ففي ضمن ذلك تهديد سرادقها السرادق في اللغة ما أحاط بالشيء كالسور والجدار وأما سرادق جهنم فقيل حائط من نار وقيل دخان كالمهل وهو دردي الزيت

(2/135)


إذا انتهى حره روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ما أذيب من الرصاص وشبهه مرتفقا أي شيء يرتفق به فهو من الرفق وقيل يرتفق عليه فهو من الارتفاق بمعنى الاتكاء أولئك لهم خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ويجوز أن يكونا خبرين أو يكون إنا لا نضيع الخبر وأولئك استئناف ويقوم العموم في قوله من أحسن مقام الضمير الرابط أو يقدر من أحسن عملا منه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان ... 384

(2/136)


188 وعلي رضي الله عنهم أساور جمع أسوار وسوار وهو ما يجعل في اليد وقيل أساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار من سندس وإستبرق السندس رقيق الديباج والإستبرق الغليظ منه الأرائك الأسرة والفرش واضرب لهم الضمير للكفار الذين قالوا أطرد فقراء المسلمين وللفقراء الذين أرادوا طردهم أي مثل هؤلاء وهؤلاء كمثل هذين الرجلين وهما أخون من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر ورثا مالا عن أبيهما فاشترى الكافر بماله جنتين وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله حتى افتقر فعير الكافر بفقره فأهلك الله مال الكافر وروي أن اسم المؤمن تمليخا واسم الكافر فطروس وقيل كانا شريكين اقتسما المال فاشترى أحدهما بماله جنتين وتصدق الآخر بماله أكلها بضم الهمزة اسم لما يؤكل ويجوز ضم الكاف وإسكانها ولم تظلم أي لم تنقص وكان له ثمر بضم الثاء والميم أصناف المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك قاله ابن عباس وقتادة وقيل هو الذهب والفضة خاصة وهو من ثمر ماله إذا أكثره ويجوز إسكان الميم تخفيفا وأما بفتح الثاء والميم فهو المأكول من الشجر ويحتمل المعنى الآخر وهو يحاوره أي يراجعه في الكلام وأعز نفرا يعني الأنصار والخدم ودخل جنته أفرد الجنة هنا لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين إذ لا يمكن دخول الجنتين دفعة واحدة وهو ظالم لنفسه إما بكفره وإما بمقابلته لأخيه فإنها تتضمن الفخر والكبر والاحتقار لأخيه وقال ما أظن أن تبيد هذه أبدا يحتمل أن تكون الإشارة إلى السموات والأرض وسائر المخلوقات فيكون قائلا ببقاء هذا الوجود كافرا بالآخرة أو تكون الإشارة إلى جنته فيكون قوله إفراطا في الاغترار وقلت التحصيل ولئن رددت إلى ربي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي لأجدن في الآخرة خيرا من جنتي في الدنيا وقرئ خيرا منهما بضمير الاثنين للجنتين وبضمير الواحد للجنة منقلبا أي مرجعا أكفرت

(2/137)


بالذي خلقك من تراب أي خلق منه اباك آدم وإنما جعله كافرا لشكه في البعث سواك رجلا كما تقول سواك إنسانا ويحتمل أن يقصد الرجولية على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى لكنا هو الله ربي قرأ الجمهور بإثبات الألف في الوقف وحذفها في الوصل والأصل على هذا لكن أنا ثم ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت ثم أدغمت النون في النون وقرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والوقف ويتوجه ذلك بأن تكون لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ثم أدغمت النون في النون ولولا ... 385

(2/138)


189 إذ دخلت جنتك ) الآية وصية من المؤمن للكافر ولولا تحضيض فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك يحتمل أن يريد في الدنيا أو الآخرة حسبانا أي أمرا مهلكا كالحر والبرد ونحو ذلك صعيدا زلقا الصعيد وجه الأرض والزلق الذي لا يثبت فيه قدم يعني أنه تذهب أشجاره ونباته وغورا أي غائرا ذاهبا وهو مصدر وصف به وأحيط بثمره عبارة عن هلاكها يقلب كفيه عبارة عن تلهفه وتأسفه وندمه وهي خاويةعلى عروشها يريد أن السقف وقعت وهي العروش ثم تهدمت الحيطان عليها والحيطان على العروش وقيل إن كرومها المعروشة سقطت على عروشها ثم سقطت الكروم عليها ويقول يا ليتني لم أشرك قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه أو على وجه التوبة من الشرك هنالك ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصرا أو يكون في موضع خبر الولاية لله بكسر الواو بمعنى الرياسة والملك وبفتحها من الموالاة والمودة وخير عقبا أي عاقبة فاختلط الباء سببية والمعنى صار به النبات مختلطا أي ملتفا بعضه ببعض من شدة تكاثفه فأصبح هشيما أي متفتتا وأصبح هنا بمعنى صار تذروه الرياح أي تفرقه ومعنى المثل تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضرته المال والبنون الآية هذا من الجمع بين شيئين في خبر واحد وذلك من أدوات البيان وقرئ زينتا بالتثنية لأنه خبر عن اثنين وأما قراءة الجمهور فأفردت فيه الزينة لأنها مصدر والباقيات الصالحات هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا قول الجمهور وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الصلوات الخمس وقيل الأعمال الصالحات على الإطلاق نسير الجبال أي نحملها ومنه قوله وهي تمر مر السحاب وبعد ذلك تصير هباء وترى الأرض بارزة أي ظاهرة لزوال الجبال عنها وحشرناهم قال الزمخشري إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله نسير للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير

(2/139)


الجبال ليعاينوا تلك الأهوال فلم نغادر أي لم نترك صفا أي صفوفا فهو إفراد تنزل منزلة الجمع وقد جاء في الحديث إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا لقد جئتمونا يقال هذا للكفار على وجه التوبيخ كما خلقناكم أي حفاة عراة ... 386
190 غرلا ووضع الكتاب يعني صحائف الأعمال فالكتاب اسم جنس كان من الجن كلام مستأنف جرى مجرى التعليل لإباية إبليس عن السجود وظاهر هذا الموضع يقتضي أن إبليس لم يكن من الملائكة وأن استثناءه منهم استثناء منقطع فإن الجن صنف غير الملائكة وقد يجيب عن ذلك من قال إنه كان من الملائكة بأن كان هنا بمعنى صار أي خرج من صنف الملائكة إلى صنف الجن أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن وهم الذين خلقوا من نار ففسق عن أمر ربه أي خرج عن ما أمر به والفسق في اللغة الخروج أفتتخذونه وذريته أولياء هذا توبيخ ووعظ وذرية إبليس هم الشياطين واتخاذهم أولياء بطاعتهم في عصيان الله والكفر به ما أشهدتهم الضمير للشياطين على وجه التحقير بهم أو للكفار أو لجميع الخلق فيكون فيه رد على المنجمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرصة وما كنت متخذ المضلين عضدا أي معينا ومعنى المضلين الذين يضلون العباد وذلك يقوي أن المراد الشياطين ويوم يقول نادوا شركائي يقول هذا للكفار على وجه التوبيخ لهم وأضاف تعالى الشركاء إلى نفسه على زعمهم وقد بين هذا بقوله الذين زعمتم موبقا أي مهلكا وهو اسم موضع أو مصدر من وبق الرجل إذا هلك وقد قيل إنه واد من أودية جهنم والضمير في بينهم للمشركين وشركائهم فظنوا أنهم مواقعوها الظن هنا بمعنى اليقين مصرفا أي معدلا ينصرفون إليه جدلا أي مخاصمة ومدافعة بالقول ويقتضي سياق الكلام ذم الجدل وسببها فيما قيل مجادلة النضر بن الحارث على أن الإنسان هنا يراد به الجنس وما منع الناس أن يؤمنوا الآية معناها أن المانع

(2/140)


للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سنة الأمم المتقدمة وهي الإهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب يعني عذاب الآخرة ومعنى قبلا معاينة وقرئ بضمتين وهو جمع قبيل أي أنواعا من العذاب ليدحضوا أي ليبطلوا وما أنذروا هزوا يعني العذاب وما موصولة والضمير محذوف تقديره أنذروه أو مصدرية ... 387
191 إنا جعلنا على قلوبهم أكنة هذه عقوبة على الإعراض المحكي عنهم أو تعليل لهم والأكنة جمع كنان وهو الغطاء والوقر الصمم وهما على وجه الاستعارة في قلة فهمهم للقرآن وعدم استجابتهم للإيمان فلن يهتدوا إذا أبدا يريد به من قضى الله أنه لا يؤمن لو يؤاخذهم الضمير لكفار قريش أو لسائر الناس لقوله ولو يؤاخذ الله الناس والجملة خبر المبتدأ والغفور ذو الرحمة صفتان اعترضتا بين المبتدأ والخبر توطئة لما ذكر بعد من ترك المؤاخذة ويحتمل أن يكون الغفور هو الخبر ويؤاخذهم بيان لمغفرته ورحمته والأول أظهر بل لهم موعد قيل هو الموت وقيل عذاب الآخرة وقيل يوم بدر موئلا أي ملجأ يقال وئل للرجل إذا لجأ وتلك القرى يعني عادا وثمود وغيرهم من المتقدمين والمراد هنا أهل القرى ولذلك قال أهلكناهم وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش وجعلنا لمهلكهم موعدا أي وقتا معلوما والمهلك هنا بضم الميم وفتح اللام اسم مصدر من أهلك فالمصدر على هذا مضاف للمفعول لأن الفعل متعدي وقرئ بفتح الميم من هلك فالمصدر على هذا مضاف للفاعل وإذ قال موسى لفتاه هذا ابتداء قصة موسى مع الخضر وهو موسى ابن عمران نبي الله وقال قوم هو موسى آخر وذلك باطل رده ابن عباس وغيره ويدل الحديث على بطلانه وفتاه هو يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وهو من ذرية يوسف عليه السلام والفتى هنا بمعنى الخديم وسبب القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن موسى عليه السلام خطب يوما في بني إسرائيل فقيل له هل تعلم أحدا أعلم

(2/141)


منك فقال لا فأوحى الله إليه أن بل عبدنا الخضر أعلم منك فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقائه فأوحى الله إليه أن يحمل حوتا في مكتل ويسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مجمع البحرين فإذا فقد الحوت فإن الخضر هناك ففعل موسى ذلك حتى لقيه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين قال موسى هذا الكلام وهو سائر أي لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين فحذف خبر لا أبرح اختصارا لدلالة المعنى عليه ومعنى لا أبرح هنا لا أزال لأن حقيقة لا أبرح تقتضي الإقامة في الموضع وكان موسى حين قالها على سفر لا يريد إقامة ومجمع البحرين عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه وهو بحر الأندلس وقيل هو مجمع بحر فارس وبحر الروم في المشرق أو أمضي حقبا أي زمانا طويلا والحقب بضم القاف وإسكانها ثمانون سنة وقيل زمان غير محدود وقيل هي جمع حقبة وهي السنة فلما بلغ مجمع بينهما الضمير في بلغا لموسى وفتاه والضمير في بينهما للبحرين نسيا حوتهما نسب النسيان إليهما وإنما كان النسيان من الفتى وحده كما تقول فعل بنو فلان كذا إذا فعله واحد منهم وقيل نسي الفتى أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه ... 388

(2/142)


192 بشيء
فاتخذ سبيله في البحر سربا فاعل اتخذ الحوت والمعنى أنه سار في البحر فقيل إن الحوت كان ميتا مملوحا ثم صار حيا بإذن الله ووقع في الماء فسار فيه وقال ابن عباس إنما حيي الحوت لأنه مسه ماء عين يقال لها عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي وفي الحديث أن الله أمسك جرية الماء عن الحوت فصار مثل السراب وهو المسلك في جوف الأرض وذلك معجزة لموسى عليه السلام وقيل اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا حتى وصل إلى البحر فعام على العادة ويرد هذا ما ورد في الحديث فلما جاوزا أي جاوزا الموضع الذي وصف له وهو الصخرة التي نام عندها فسار الحوت في البحر بينما كان موسى نائما وكان ذهاب الحوت أمارة لقائه للخضر فلما استيقظ موسى أصابه الجوع فقال لفتاه آتنا غداءنا نصبا أي تعبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة قال الزمخشري أرأيت هنا بمعنى أخبرني ثم قال فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له فالجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه فدهش ففلق يسأل موسى عن سبب ذلك فكأنه قال أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف بعض الكلام نسيت الحوت أي نسيت أن أذكر لك ما رأيت من ذهابه في البحر وتقديره نسيت ذكر الحوت أن أذكره بدل من الهاء في أنسانيه وهو بدل اشتمال واتخذ سبيله في البحر عجبا يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع أي اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا للناس أو اتخذ موسى سبيل الحوت عجبا أي تعجب هو منه وإعراب عجبا مفعول ثان لاتخذ مثل سربا وقيل إن الكلام تم عند قوله في البحر ثم ابتدأ التعجب فقال عجبا وذلك بعيد قال ذلك ما كنا نبغ أي فقد الحوت هو ما كنا نطلب لأنه أمارة على وجدان الرجل فارتدا على آثارهما قصصا أي رجعا في طريقهما يقصان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق فوجدا عبدا من عبادنا

(2/143)


هو الخضر آتيناه رحمة يعني النبوة على قول من قال إن الخضر نبي وقيل إنه ليس بنبي ولكنه ولي وتظهر نبوته من هذه القصة أنه فعل أشياء لا يعملها إلا بوحي واختلف أيضا هل مات أو هو حي إلى الآن ويذكر كثيرا من الصلحاء أنهم يرونه ويكلمهم وعلمناه من لدنا علما في الحديث أن موسى وجد الخضر مسحى بثوبه فقال له السلام عليك فرفع رأسه وقال وأني بأرضك السلام قال له من أنت قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم قال أولم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا قال بلى ولكني أحببت لقاءك وأن أتعلم منك قال إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه أنا قاله موسى هل أتبعك الآية مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه رشدا قرىء بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها والمعنى واحد وانتصب على أنه مفعول ثان بتعلمني أو حال من الضمير في أتبعك فانطلقا الضمير ... 389

(2/144)


193 لموسى والخضر وفي الحديث أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفها الخضر فحمل فيها بغير نوال أي بغير أجرة خرقها روي أن الخضر أزال لوحين من ألواحها شيئا إمرا أي عظيما وقيل منكرا فانطلقا يعني بعد نزولهما من السفينة فمرا بغلمان يلعبون وفيهم غلام وضيء الصورة فاقتلع الخضر رأسه وقيل ذبحه وقيل أخذ صخرة فضرب بها رأسه والأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح وروي أن اسم الغلام جيسورا بالجيم وقيل بالحاء المهملة قال الزمخشري إن قلت لم قال خرقها بغير فاء وقال فقتله بالفاء والجواب أن خرقها جواب الشرط وقتله من جملة الشرط معطوف عليه والخبر قال أقتلت نفسا فإن قيل لم خولف بينهما فالجواب أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام نفسا زكية قيل إنه كان لم يبلغ فمعنى زكية ليس له ذنب وقيل إنه كان بالغا ولكنه لم ير له الخضر ذنبا بغير نفس يقتضي أنه لو كان قد قتل نفسا لم يكن بقتله بأس على وجه القصاص وهذا يدل على أن الغلام كان بالغا فإن غير البالغ لا يقتل وإن قتل نفسا شيئا نكرا أي منكرا وهو أبلغ من قوله إمرا ويجوز ضم الكاف وإسكانها قال ألم أقل لك بزيادة لك فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في قوله أولا ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا بعدها الضمير للقصة وإن لم يتقدم لها ذكر ولكن سياق الكلام يدل عليها قد بلغت من لدني عذرا أي قد أعذرت إلي فأنت معذور عندي وفي الحديث كانت الأولى من موسى نسيانا أتيا أهل قرية قيل هي أنطاكية وقيل برقة وقال أبو هريرة وغيره هي بالأندلس ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وذلك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة استطعما أهلها أي طلبا منهم طعاما جدارا يريد أن ينقض أن يسقط وإسناده الإرادة إلى الجدار مجاز ومثل ذلك كثير في كلام العرب وحقيقته أنه قارب أن ينقض ووزن ينقض ينفعل وقيل يفعل بالتشديد كيحمر

(2/145)


فأقامه قيل إنه هدمه ثم بناه وقيل مسحه بيده وأقامه فقام لو شئت لتخذت عليه اجرا أي قال موسى للخضر لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما نأكله قال هذا فراق بيني وبينك إنما قال له هذا لأجل شرطه في قوله إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني على أن قوله لو شئت لاتخذت عليه أجرا ليس بسؤال ولكن في ضمنه أمر بأخذ الأجرة عليه لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام والبين هنا ليس بظرف وإنما معناه الوصلة والقرب وقال الزمخشري الأصل هذا فراق ... 390

(2/146)


194 بيني وبينك بتنوين فراق ونصب بيني على الظرفية ثم أضيف المصدر إلى الظرف والإشارة بقوله هذا إلى السؤال الثالث الذي أوجب الفراق أما السفينة فكانت لمساكين قيل إنهم تجار ولكنه قال فيهم مساكين على وجه الإشفاق عليهم لأنهم كانوا يغصبون سفينتهم أو لكونهم في لجج البحر وقيل كانوا إخوة عشرة منهم خمسة عالمون بالسفينة وخمسة ذوو عاهات لا قدرة لهم وقرئ مساكين بتشديد السين أي يمسكون السفينة وكان وراءهم قيل معناه قدامهم وقرأ ابن عباس أمامهم وقال ابن عطية إن وراءهم على بابه ولكن روعي به الزمان فالوراء هو المستقبل والأمام هو الماضي كل سفينة غصبا عموم معناه الخصوص في الجياد والصحاح من السفن ولذلك قرأ ابن مسعود يأخذ كل سفينة صالحة وقيل إن اسم هذا الملك هدد بن يدد وهذا يفتقر إلى نقل صحيح وفي الكلام تقديم وتأخير لأن قوله فأردت أن أعيبها مؤخر في المعنى عن ذكر غصبها لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها وإنما قدم للعناية به وأما الغلام روي أنه كان كافرا وروي أنه كان يفسد في الأرض فخشينا أن يرهقهما المتكلم بذلك الخضر وقيل إنه من كلام الله وتأويله على هذا فكر هنا وقال ابن عطية إنه من نحو ما وقع في القرن من عسى ولعل وإنما هو في حق المخاطبين ومعنى يرهقهما طغيانا وكفرا يكلفهما ذلك والمعنى أن يحملهما حبه على اتباعها أو يضر بهما لمخالطته مع مخالفته لهما خيرا منه أي غلاما آخر خيرا من الغلام المذكور المقتول زكاة أي طهارة وفضيلة في دينه وأقرب رحما أي رحمة وشفقة فقيل المعنى أن يرحمهما وقيل يرحمانه لغلامين يتيمين اليتيم من فقد أبويه قبل البلوغ وروي أن اسم الغلامين أصرم وصريم واسم أبيهما كاشح وهذا يحتاج إلى صحة نقل كنز لهما قيل مال عظيم وقيل كان علما في صحف مدفونة والأول أظهر وكان أبوهما صالحا قيل إنه الأب السابع وظاهر اللفظ أنه الأقرب فأراد ربك أسند الإرادة

(2/147)


هنا إلى الله لأنها في أالله وأسند الخضر إلى نفسه في قوله فأردت أن أعيبها لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لا يسندها إلى الله وذلك كقول إبراهيم عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تأدبا واختلف في قوله فأردنا أن يبدلهما هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله وما فعلته عن أمري هذا دليل على نبوة الخضر لأن المعنى أنه فعل بأمر الله أو بوحي ويسئلونك عن ذي القرنين السائلون اليهود أو قريش بإشارة اليهود وذو القرنين هو الإسكندر الملك وهو يوناني وقيل رومي وكان رجلا صالحا وقيل كان نبيا وقيل كان ملكا بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف ... 391

(2/148)


195 لم سمي ذو القرنين فقيل كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه فسمي بذلك وقيل لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا إنا مكنا له في الأرض التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم آتيناه من كل شيء سببا أي علما وفهما يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك فأتبع سببا أي طريقا يوصله وجدها تغرب في عين حمئة قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء على وزن فاعلة وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال أما العربية فأنتما أعلما بها مني ولكن أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى حامية حارة ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين وقد قيل يمكن أن يكون فيها حمئة وتكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين ويجتمع معنى القراءتين قلنا يا ذا القرنين استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبي لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا كانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل أو يدعوهم إلى الإسلام فيحسن إليهم وقيل الحسن هناهو الأسر وجعله حسنا بالنظر إلى القتل قال أما من ظلم فسوف نعذبه اختار أن يدعوهم إلى الإسلام فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم أحسن إليه والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله عذابا نكرا عذاب الآخرة فله جزاء الحسنى المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة وسنقول له من أمرنا يسرا وعدهم بأن ييسر عليهم وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت

(2/149)


الأرض وقال ابن عطية الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب كذلك أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيما لأمره وقيل إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم سترا كما جعلنا لكم من المباني والثياب وقيل المعنى وجد عندها قوما كذلك أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله بين السدين أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض وقرئ بالفتح والضم وهما بمعنى واحد وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح وجد من دونهما قوما قيل هم الترك لا يكادون يفقهون قولا عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس فهم لا يفقهون القول ... 392

(2/150)


196 إلا بالإشارة أو نحوها
يأجوج ومأجوج قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه منهم مفرط الطول ومفرط القصر مفسدون في الأرض لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشر وقيل كانوا يأكلون بني آدم فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة والخرج الجباية ويقال فيه خراج وقد قرئ بهما فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالا ليقيم بها السد قال ما مكني فيه ربي خير أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي ردما أي حاجزا حصيبا والردم أعظم من السد ساوى بين الصدفين أي بين الجبلين قال انفخوا يريد نفخ الكير أي أوقدوا النار على الحديد قطرا أي نحاسا مذابا وقيل هو الرصاص وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من زبر الحديد حتى ملأ به ما بين الجبلين ثم افرغ عليه النحاس المذاب فما اسطاعوا أن يظهروه أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفا والضمير في يظهروه للسد ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السد لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته قال هذا رحمة من ربي القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم فإذا جاء وعد ربي يعني القيامة جعله دكا أي مبسوطا مسوى بالأرض وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض الضمير في تركنا لله عز وجل ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد والضمير في قوله بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج والأول أرجح لقوله بعد ذلك ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم ونفخ في الصور الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور وعرضنا جهنم أي أظهرناها

(2/151)


كانت أعينهم في غطاء عبارة عن عمي بصائرهم وقلوبهم وكذلك لا يستطيعون سمعا أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء كما حكى عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم والعباد هنا من عبد مع الله ممن لا يريد ذلك كالملائكة وعيسى ابن مريم أعتدنا أي يسرنا نزلا ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله كانت لهم جنات الفردوس نزلا ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الآية في كفار العرب كقوله كفروا بآيات ربهم ... 393

(2/152)


197 ولقائه وقيل في الرهبان لأنهم يتعبدون ويظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم وفي قوله يحسبون أنهم يحسنون تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت جنات الفردوس هي أعلا الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب حولا أي تحولا وانتقالا قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي المعلومات فمعنى الاية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفذ البحر ولم ينفذ علم الله وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناه وعلم الله غير متناه بمثله مددا أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر فمن كان يرجو لقاء ربه إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه ولا يشرك بعبادة ربه احدا يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعا إلى قوله يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أو يريد الرياء لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله سورة مريم ... 394
| 3 | الجزء الثالث ... 395

(2/153)


أول الجزء الثالث
سورة مريم
كهيعص قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء وقيل في هذا إن الكاف من كريم أو كبير أو كاف والهاء من هادي والياء من علي والعين من عزيز أو عليم والصاد من صادق وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه يا كهيعص فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسما من أسماء الله تعالى أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف ذكر تقديره هذا ذكر عبده زكريا وصفه بالعبودية تشريفا له وإعلاما له بتخصيصه وتقريبه ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل ونصب المفعول وقيل هو مفعول بفعل مضمر تقديره رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له إذ نادى ربه يعني دعاه نداء خفيا أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء ولئلا يلومه الناس على طلب الولد وهن العظم أي ضعف واشتعل استعارة للشيب من اشتعال النار ولم أكن بدعائك رب شقيا أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم فاستجب لي في هذا فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه وإني خفت الموالي يعني الأقارب قيل خاف أن يرثوه دون نسله وقيل خاف أن يضيعوا الدين من بعده من ورائي أي من بعدي عاقرا أي عقيما فهب لي من لدنك وليا يعني وارثا يرثني قيل يعني وراثة المال وقيل وراثة العلم والنبوة وهو أرجح لقوله صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث وكذلك يرث من آل يعقوب العلم والنبوة وقيل الملك ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح رضيا أي مرضيا فهو فعيل بمعنى مفعول سميا يعني من سمي باسمه وقيل مثيلا ونظيرا والأول أحسن هنا أنى يكون لي غلام تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته فسأل ذلك أولا لعلمه بقدرة الله عليه وتعجب منه ... 396

(2/154)


3 لأنه نادر في العادة وقيل سأله وهو في سن من يرجوه وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ عتيا قيل يبسا في الأعضاء والمفاصل وقيل مبالغة في الكبر كذلك الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك تصديقا له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته وعلى هذا يوقف على قوله كذلك ثم يبتدأ قال ربك وقيل إن الكاف في موضع نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره هو علي هين اجعل لي آية أي علامة على حمل امرأته سويا أي سليما غير أخرس وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس وقيل إن سويا يرجع إلى الليالي أي مستويات فأوحى إليهم أي أشار وقيل كتبه في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام أن سبحوا قيل معناه صلوا والسبحة في اللغة الصلاة وقيل قولوا سبحان الله يا يحيى التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته خذ الكتاب يعني التوراة بقوة أي في العلم به والعمل به وآتيناه الحكم صبيا قيل الحكم معرفة الأحكام وقيل الحكمة وقيل النبوة وحنانا قيل معناه رحمة وقال ابن عباس لا أدري ما الحنان وزكاة أي طهارة وقيل ثناء كما يزكي الشاهد واذكر في الكتاب مريم خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن إذ انتبذت من أهلها أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم مكانا شرقيا أي إلى جهة الشرق ولذلك يصلي النصارى إلى المشرق أرسلنا إليها روحنا يعني جبريل وقيل عيسى والأول هو الصحيح لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم فقالت له هذا الكلام ومعناه إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني فإني أعوذ بالله منك وقيل إن تقيا اسم رجل معروف بالشر عندهم وهذا ضعيف وبعيد لأهب لك غلاما زكيا الغلام الزكي هو عيسى عليه السلام وقرىء ليهب بالياء والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه

(2/155)


وتعالى وقرئ بهمزة التكلم وهو جبريل وإنما نسب الهبة إلى نفسه لأنه هو الذي أرسله الله بها أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى ولم أك بغيا البغي هي المرأة المجاهرة بالزنا ووزن بغي فعول ولنجعله آية الضمير للولد واللام ... 397
4 تتعلق بمحذوف تقديره لنجعله آية فعلنا ذلك فحملته يعني في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر وقال ابن عباس حملته وولدته في ساعة مكانا قصيا أي بعيدا وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر فأجاءها معناه ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية المخاض أي النفاس إلى جذع النخلة روي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس قالت يا ليتني مت إنما تمنت الموت خوفا من إنكار قومها وظنهم بها الشر ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه وكنت نسيا النسي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له ويقال بفتح النون وكسرها فناداها من تحتها قرىء من بفتح الميم وكسرها وقد اختلف على كلتا القراءتين هل هو جبريل أو عيسى وعلى أنه جبريل قيل إنه كان تحتها كالقابلة وقيل كان في مكان أسفل من مكانها أن لا تحزني تفسير للنداء فأن مفسرة سريا جدولا وهي ساقية من ماء كان قريبا من جذع النخلة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بذلك وقيل يعني عيسى فإن السري الرجل الكريم وهزي إليك بجذع النخلة كان جذعا يابسا فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيسا وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق لأن الله أمر مريم بهز النخلة والباء في بجذع زائدة كقوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة تساقط عليك رطبا جنيا الفاعل بتساقط النخلة وقرىء بالياء والفاعل على ذلك الجذع ورطبا تمييز والجني معناه الذي طاب وصلح لأن يجتني فكلي واشربي أي كلي من الرطب واشربي من ماء الجدول وهو السري وقري عينا

(2/156)


أي طيبي نفسا بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم أو من تيسير المأكول والمشروب فإما ترين هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد وترين فعل خوطبت به المرأة ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد نذرت للرحمن صوما أي صمتا عن الكلام وقيل يعني الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها ولأن عيسى تكلم عنها فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام وقيل بالإشارة ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت فأتت به قومها لما رأت الآيات علمت أن الله سيبين عذرها فجاءت به من المكان القصي إلى قومها شيئا فريا أي شنيعا وهو من الفرية يا أخت هارون كان هارون عابدا من بني إسرائيل شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه وقيل كان أخاها من أبيها وكان رجلا صالحا وقيل هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته فأخت على هذا كقولك أخو بني فلان أي واحد منهم ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة فإن ... 398

(2/157)


5 بين زمانهما دهرا طويلا فأشارت إليه أي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت كان في المهد صبيا كان بمعنى يكون والمهد هو المعروف وقيل المهد هنا حجرها آتاني الكتاب يعني الإنجيل أو التوراة والإنجيل مباركا من البركة وقيل نفاعا وقيل معلم للخير واللفظ أعم من ذلك وأوصاني بالصلاة والزكاة هما المشروعتان وقيل الصلاة هنا الدعاء والزكاة التطهير من العيوب وبرا معطوف على مباركا روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر وفي كلامه هذا رد على النصارى لأنه اعترف أنه عبد الله ورد على اليهود لقوله وجعلني نبيا والسلام علي أدخل لام التعريف هنا لتقدم السلام المنكر في قصة يحيى فهو كقولك رأيت رجلا فأكرمت الرجل وقال الزمخشري الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال السلام كله علي لا عليكم بل عليكم ضده قول الحق بالرفع خبر مبتدأ تقديره هذا قول الحق أو بدل أو خبر بعد خبر وبالنصب على المدح بفعل مضمر أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم فيه يمترون أي يختلفون فهو من المراء أو يشكون فهو من المرية والضمير لليهود والنصارى وأن الله ربي من كلام عيسى وقرىء بفتح الهمزة تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه وبكسرها لابتداء الكلام وقيل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى يا محمد قل لهم ذلك عيسى ابن مريم وأن الله ربي وربكم والأول أظهر فاختلف الأحزاب هذا ابتداء إخبار والأحزاب اليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافا شديدا فكذبه اليهود وعبده النصارى والحق خلاف أقوالهم كلها من بينهم معناه من تلقائهم ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم ( من مشهد يوم عظيم ) يعني يوم القيامة أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة على أنهم في الدنيا في ضلال مبين يوم الحسرة هو يوم يؤتى

(2/158)


بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت وقيل هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية لا على الظرفية وهم في غفلة يعني في الدنيا فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أو بأنذرهم صديقا بناء مبالغة من الصدق أو من ... 399
6 التصديق ووصفه بأنه صديق قبل الوحي نبي بعده ويحتمل أنه جمع الوصفين ما لا يسمع ولا يبصر يعني الأصنام صراطا سويا أي قويما لأرجمنك ) قيل يعني الرجم بالحجارة وقيل الشتم واهجرني مليا أي حينا طويلا وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك قال سلام عليك وداع مفارقة وقيل مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز سأستغفر لك وعد وهو الذي أشير إليه بقوله عن موعدة وعدها إياه قال ابن عطية معناه سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز وقيل وعده أن يستغفر له مع كفره ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك ويقوي هذا القول قوله واغفر لأبي إنه كان من الضالين ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب لأستغفرن لك ما لم أنه عنك حفيا أي بارا متلطفا وأعتزلكم وما تدعون أي ما تعبدون إسحاق ويعقوب هما ابنه وابن ابنه وهبهما الله له عوضا من أبيه وقومه الذين اعتزلهم من رحمتنا النبوة وقيل المال والولد واللفظ أعم من ذلك لسان صدق يعني الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر مخلصا بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوة والتقريب وكان رسولا نبيا النبي أعم من الرسول لأن النبي كل من أوحى الله إليه ولا يكون رسولا حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا وناديناه هو تكليم الله له الطور وهو الجبل المشهور بالشام الأيمن صفة للجانب وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن نجيا

(2/159)


النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل هو من المناجاة والأول أصح من رحمتنا من سببية أو للتبعيض وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل إنه كان صادق الوعد روي أنه وعد رجلا إلى مكان فانتظره فيه سنة وقيل الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله ستجدني إن شاء الله من الصابرين وهذا يدل على قول من قال إن الذبيح هو إسماعيل إدريس هو أول نبي بعث إلى أهل الأرض بعد آدم وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم ... 400

(2/160)


7 وخاط الثياب وهو من أجداد نوح عليه السلام ورفعناه مكانا عليا قال ابن عباس رفعه الله إلى السماء وهناك مات وفي حديث الإسراء وإنه في السماء الرابعة وقيل يعني رفعة النبوة وتشريف منزلته والأول أشهر ورجحه الحديث أولئك إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة من زكريا إلى إدريس من النبيين من هنا للبيان والتي بعدها للتبعيض من ذرية آدم يعني نوحا وإدريس وممن حملنا يعني إبراهيم ومن ذرية إبراهيم يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب وإسرائيل يعني أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى وممن هدينا يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية بكيا جمع باك ووزنه فعول فخلف من بعدهم خلف يقال في عقب الخير خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون وهو المعنى هنا واختلف فيمن المراد بذلك فقيل النصارى لأنهم خلفوا اليهود وقيل كل من كفر وعصى من بعد بني إسرائيل أضاعوا الصلوة قيل تركوها وقيل أخرجوها عن أوقاتها يلقون غيا الغي الخسران وقد يكون بمعنى الضلال فيكون على حذف مضاف تقديره يلقون جزاء غي إلا من تاب استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع بالغيب أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم مأتيا وزنه مفعول فقيل إنه بمعنى فاعل لأن الوعد هو الذي يأتي وقيل إنه على بابه لأن الوعد هو الجنة وهو يأتونها لغوا يعني ساقط الكلام إلا سلاما استثناء منقطع بكرة وعشيا قيل المعنى أن زمانهم يقدر بالأيام والليالي إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل وقيل المعنى أن الرزق يأتيهم في كل حين يحتاجون إليه وعبر عن ذلك بالبكرة والعشي علىعادة الناس في أكلهم وما نتنزل إلا بأمر ربك حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبطأت عني واشتقت إليك فقال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست ونزلت هذه الآية له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك أي له ما

(2/161)


قدامنا وما خلفنا وما نحن فيه من الجهات والأماكن فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله وقيل ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور وما خلفنا الآخرة وما بين ذلك ما بين النفختين وقيل ما مضى من أعمارنا وما بقي منها والحال التي نحن فيها والأول أكثر مناسبة لسياق الآية وما كان ربك نسيا هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول وقيل بمعنى الترك والأول أظهر هل تعلم له سميا أي مثيلا ونظيرا ... 401

(2/162)


8 فهو من المسامي والمضاهي وقيل من تسمى باسمه لأنه لم يتسم باسم الله غير الله تعالى ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا هذه حكاية قول من أنكر البعث من القبور والإنسان هنا جنس يراد به الكفار وقيل إن القائل لذلك أبي بن خلف وقيل أمية بن خلف والهمزة التي دخلت على أئذا ما مت للإنكار والاستبعاد واللام في قوله لسوف سيقت على الحكاية لقول من قال بهذا المعنى والإخراج يراد به البعث أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل احتجاج على صحة البعث ورد على من أنكره لأن النشأة الأولى دليل على الثانية لنحشرنهم والشياطين يعني قرناءهم من الشياطين الذين أضلوهم والواو للعطف أو بمعنى مع فيكون الشياطين مفعول معه جثيا جمع جاث ووزنه مفعول من قولك جثا الرجل إذا جلس جلسة الذليل الخائف ثم لننزعن من كل شيعة الشيعة الطائفة من الناس التي تتفق على مذهب أو اتباع إنسان ومعنى الآية أن الله ينزع من كل طائفة أعتاها فيقدمه إلى النار وقال بعضهم المعنى نبدأ بالأكبر جرما فالأكبر جرما أيهم اختلف في إعرابه فقال سيبويه هو مبني على الضم لأنه حذف العائد عليه من الصلة وكأن التقدير أيهم أشد فوجب البناء وقال الخليل هو مرفوع على الحكاية تقديره الذي يقال له اشد وقال يونس علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء أولى بها صليا الصلي مصدر صلى النار ومعنى الآية أن الله يعلم من هو أولى بأن يصلى العذاب وإن منكم إلا واردها خطاب لجميع الناس عند الجمهور فأما المؤمنون فيدخلونها ولكنها تخمد فلا تضرهم فالورود على هذا بمعنى الدخول كقوله حصب جهنم أنتم لها واردون وأوردهم النار وقيل الورود بمعنى القدوم عليها كقوله ورد ماء مدين والمراد بذلك جواز الصراط وقيل الخطاب للكفار فلا إشكال حتما أي أمرا لا بد منه ثم ننجي الذين اتقوا إن كان الورود بمعنى الدخول فنجاة الذين اتقوا بكون النار عليهم بردا وسلاما ثم بالخروج

(2/163)


منها وإن كان بمعنى المرور على الصراط فنجاتهم بالجواز والسلامة من الوقوع فيها أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا الفريقان هم المؤمنون والكفار والمقام اسم مكان من قام وقرئ بالضم من أقام والندي المجلس ومعنى الآية أن الكفار قالوا للمؤمنين نحن خير منكم مقاما أي أحسن حالا في الدنيا وأجمل مجلسا فنحن أكرم على الله منكم وكم أهلكنا قبلهم من قرن كم مفعول بأهلكنا ومعنى الآية رد على الكفار في قولهم المذكور أي ليس حسن الحال في الدنيا دليلا على الكرامة عند الله لأن الله قد أهلك من كان أحسن حالا منكم في الدنيا هم أحسن قال الزمخشري هذه الجملة في موضع نصب صفة لكم أثاثا أي متاع البيت وقال ابن عطية هو اسم عام في المال العين والعروض والحيوان وهو اسم جمع وقيل هو جمع واحده أثاثه ورئيا بهمزة ساكنة قبل الياء معناه منظر حسن وهو من الرؤية والرئي اسم المرئي وقرىء بتشديد ... 402

(2/164)


9 الياء من غير همز وهو تخفيف من الهمز فالمعنى متفق وقيل هو من ري الشارب أي التنعم بالمشارب والمآكل وقرأ ابن عباس زيا بالزاي فليمدد له الرحمن مدا أي يمهله ويملي له واختلف هل هذا الفعل دعاء أو خبر سيق بلفظ الأمر تأكيدا حتى هنا غاية للمد في الإضلال إما العذاب يعني عذاب الدنيا شر مكانا وأضعف جندا في مقابلة قولهم خير مقاما وأحسن نديا والباقيات الصالحات ذكر في الكهف خير مردا أي مرجعا وعاقبة أفرأيت الذي كفر هو العاصي بن وائل وقال لأوتين مالا وولدا كان قد قال لئن بعثت كما يزعم محمد ليكونن لي هناك مالا وولدا أطلع الغيب الهمزة للإنكار والرد على العاصي في قوله كلا رد له عن كلامه سنكتب ما يقول إنما جعله مستقبلا لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل ونمد له من العذاب مدا أي نزيد له فيه ونرثه ما يقول أي نرث الأشياء التي قال إنه يؤتاها في الآخرة وهي المال والولد ووراثتها هي بأن يهلك العاصي ويتركها وقد أسلم ولداه هشام وعمرو رضي الله عنهما ويأتينا فردا أي بلا مال ولا ولد ولا ولي ولا نصير سيكفرون بعبادتهم قيل إن الضمير في يكفرون للكفار وفي عبادتهم للمعبودين فالمعنى كقولهم ما كنا مشركين وقيل إن الضمير في يكفرون للمعبودين وفي عبادتهم للكفار فالمعنى كقولهم ما كنتم إيانا تعبدون ويكونون عليهم ضدا معناه يكون لهم خلاف ما أملوه منهم فيصير العز الذي أملوه ذلة وقيل معناه أعداء أرسلنا الشياطين على الكافرين تضمن معنى سلطانا ولذلك تعدى بعلى تؤزهم أزا أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي فلا تعجل عليهم أي لا تستبطىء عذابهم وتطلب تعجيله إنما نعد لهم عدا أي نعد مدة بقائهم في الدنيا وقيل نعد أنفاسهم وفدا قيل معناه ركبانا ومعنى الوفد لغة القادمون وعادتهم الركوب فلذلك قيل ذلك وقيل مكرمون لأن العادة إكرام الوفود وردا معناه

(2/165)


عطاشا لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش لا يملكون الشفاعة الضمير يحتمل أن يكون للكفار والمعنى لا يملكون أن يشفعوا لهم ويكون من اتخذ استثناء منقطعا بمعنى لكن أو يكون الضمير للمتقين فالاستثناء متصل والمعنى لا يملكون أن يشفعوا إلا لمن اتخذ عهدا أو لا يملكون أن يشفع منهم إلا من اتخذ عهدا أو يكون الضمير للفريقين إذ قد ذكروا قبل ذلك فالاستثناء أيضا متصل ومن اتخذ يحتمل أن يراد به ... 403
10 الشافع أو المشفوع له عهدا يريد به الإيمان والأعمال الصالحة ويحتمل أن يريد به الإذن في الشفاعة وهذا أرجح لقوله لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن والظاهر أن ذلك إشارة إلىشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف حين ينفرد بها ويقول غيره من الأنبياء نفسي نفسي شيئا إدا أي شيئا صعبا يتفطرن منه أي يتشققن من قول الكفار اتخذ الله ولدا هدا أي انهداما أن دعوا أي من أجل أن دعوا للرحمن ولدا وقرئ ولدا بضم الواو وإسكان اللام وهي لغة إن كل من في السموات والأرض رد على مقالة الكفار والمعنى أن الكل عبيده فكيف يكون أحد منهم ولدا له وإن نافية وكل مبتدأ وخبره آتي الرحمن سيجعل لهم الرحمن ودا هي المحبة والقبول الذي يجعله الله في القلوب لمن شاء من عباده وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسرناه بلسانك الضمير للقرآن وبلسانك أي بلغتك قوما لدا جمع ألد وهو الشديد الخصومة والمجادلة والمراد بذلك قريش وقيل معناه فجارا أو تسمع لهم ركزا هو الصوت الخفي والمعنى أنهم لم يبق منهم اثر وفي ذلك تهديد لقريش
سورة طه
قيل في طه إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل معناه يا رجل وانظر الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الصلاة حتى تورمت قدماه فنزلت الآية تخفيفا عنه فالشقاء على هذا

(2/166)


إفراط التعب في العبادة وقيل المراد به التأسف على كفر الكفار واللفظ عام في ذلك كله والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة إلا تذكرة نصب على الاستثناء المنقطع وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من موضع لتشقى إذ هو في موضع مفعول من أجله ومنع ذلك الزمخشري لاختلاف الجنسين ويصح أن ينتصب بفعل مضمر تقديره أنزلناه تذكرة تنزيلا نصب على المصدرية والعامل فيه مضمر وما أنزلنا وبدأ السورة بلفظ المتكلم في قوله ما أنزلنا ثم رجع إلى الغيبة في قوله تنزيلا ممن خلق الأرض الآية وذلك هو الالتفات ... 404

(2/167)


11 والسموات العلى جمع عليا على العرش استوى تكلمنا عليه في الأعراف الثرى هو في اللغة التراب الندي والمراد به هنا الأرض وإن تجهر مطابقة هذا الشرط لجوابه كأنه يقول إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك لأنه يعلم السر وأخفى يعلم السر وأخفى السر الكلام الخفي والأخفى ما في النفس وقيل السر ما في نفوس البشر والأخفى ما انفرد الله بعلمه الأسماء الحسنى تكلمنا عليها في الأعراف وهل أتاك لفظ استفهام والمراد به التنبيه إذ رأى العامل في إذ حديث لأن فيه معنى الفعل وكان من قصة موسى أنه رحل بأهله من مدين يريد مصر فسار بالليل واحتاج إلى نار فقدح بزناده فلم ينقدح فرأى نارا فقصد إليها فناداه الله وأرسله إلى فرعون آنست نارا أي رأيت بقبس هو الجذوة من النار تكون على رأس العود والقصبة ونحوها أو أجد على النار هدى يعني هدى إلى الطريق من دليل أو غيره فاخلع نعليك قيل إنما أمر بخلع نعليه لأنهما كانتا من جلد حمار ميت فأمر بخلع النجاسة واختار ابن عطية أن يكون أمر بخلعهما ليتأدب ويعظم البقعة المباركة ويتواضع في مقام مناجاة الله وهذا أحسن الوادي المقدس أي المطهر طوى في معناه قولان أحدهما أنه اسم للوادي وإعرابه على هذا بدل ويجوز تنوينه على أنه مكان وترك صرفه على أنه بقعة والثاني أن معناه مرتين فإعرابه على هذا مصدر أي قدس الوادي مرة بعد مرة أو نودي موسى مرة بعد مرة وأقم الصلاة لذكري قيل المعنى لتذكرني فيها وقيل لأذكرك بها فالمصدر على الأول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل وقيل معنى لذكري عند ذكري كقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس أي عند دلوك الشمس وهذا أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بالآية على وجوب الصلاة على الناسي إذا ذكرها أكاد أخفيها اضطرب الناس في معناه فقيل أخفيها بمعنى أظهرها وأخفيت هذا من الأضداد وقال ابن عطية هذا قول مختل وذلك أن

(2/168)


المعروف في اللغة أن يقال أخفى بالألف من الإخفاء وخفي بغير ألف بمعنى أظهر فلو كان بمعنى الظهور لقال أخفيها بفتح همزة المضارع وقد قرىء بذلك في الشاذ وقال الزمخشري قد جاء في بعض اللغات أخفي بمعنى خفي أي أظهر فلا يكون هذا القول مختلا على هذه اللغة وقيل أكاد بمعنى أريد فالمعنى أريد إخفاءها وقيل إن المعنى إن الساعة آتية أكاد وتم هنا الكلام بمعنى أكاد أنفذها لقربها ثم استأنف الإخبار فقال أخفيها وقيل المعنى أكاد أخفيها عن نفسي فكيف عنكم وهذه الأقوال ضعيفة وإنما الصحيح أن ... 405

(2/169)


12 المعنى أن الله أبهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحد حتى أنه كاد أن يخفي وقوعها لإبهام وقتها ولكنه لم يخفها إذ أخبر بوقوعها فالأخفى على معناه المعروف في اللغة وكاد على معناها من مقاربة الشيء دون وقوعه وهذا المعنى هو اختيار المحققين لتجزى يتعلق بآتية بما تسعى أي بما تعمل فلا يصدنك عنها الضمير للساعة أي لا يصدنك عن الإيمان بها والاستعداد لها وقيل الضمير للصلاة وهو بعيد والخطاب لموسى عليه السلام وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك بعيد فتردى معناه تهلك والردى هو الهلاك وهذا الفعل منصوب في جواب لا يصدنك وما تلك بيمينك يا موسى إنما سأله ليريه عظيم ما يفعله في العصا من قلبها حية فمعنى السؤال تقرير أنها عصى فيتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن قلبها وقيل إنما سأله ليؤنسه ويبسطه بالكلام وأهش بها على غنمي معناه أضرب بها الشجر لينتشر الورق للغنم مآرب أي حوائج حية تسعى أي تمشي سيرتها الأولى يعني أنه لما أخذها عادت كما كانت أول مرة وانتصب سيرتها على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر واضمم يدك إلى جناحك الجناح هنا الجنب أي تحت الإبط وهو استعارة من جناح الطائر تخرج بيضاء روي أن يده خرجت وهي بيضاء كالشمس من غير سوء يريد من غير برص ولا عاهة لنريك من آياتنا الكبرى يحتمل أن تكون الكبرى مفعول لنريك وأن تكون صفة للآيات ويختلف المعنى على ذلك اشرح لي صدري إن قيل لم قال اشرح لي ويسر لي مع أن المعنى يصح دون قوله لي فالجواب أن ذلك تأكيد وتحقيق للرغبة واحلل عقدة من لساني العقدة هي التي اعترته بالجمرة حين جعلها في فيه وهو صغير حين أراد فرعون أن يجر به وإنما قال عقدة بالتنكير لأنه طلب حل بعضها ليفقهوا قوله ولم يطلب الفصاحة الكاملة وزيرا أي معينا وإعراب هارون بدل أو مفعول أول أزري أي ظهري والمراد القوة ومنه فآزره أي قواه

(2/170)


قال قد أوتيت سؤلك أي قد أعطيناك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة إذ أوحينا إلى أمك يحتمل أن يكون وحي كلام بواسطة ملك أو وحي إلهام كقوله وأوحى ربك إلى النحل ما يوحى إبهام يراد به تعظيم الأمر أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم الضمير الأول لموسى والثاني للتابوت أو لموسى واليم البحر والمراد به هنا النيل وكان فرعون قد ذكر له أن هلاكه وخراب ملكه على يد غلام من بني إسرائيل فأمر ... 406
13 بذبح كل ولد ذكر يولد لهم فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في التابوت وتلقي التابوت في البحر ففعلت ذلك وكان فرعون في موضع يشرف على النيل فرأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتحه فأشفقت عليه امرأته وطلبت أن تتخذه ولدا فأباح لها ذلك يأخذه عدو لي وعدو له هو فرعون محبة مني أي أحببتك وقيل أراد محبة الناس فيه إذ كان لا يراه أحد إلا أحبه وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له وقوله مني يحتمل أن يتعلق بقوله ألقيت أو يكون صفة لمحبة فيتعلق بمحذوف ولتصنع على عيني أي تربى ويحسن إليك بمرأى مني وحفظ والعامل في لتصنع محذوف إذ تمشي أختك العامل في إذ تصنع أو ألقيت أو فعل مضمر تقديره ومننا عليك فتقول هل أدلكم على من يكفله كان لا يقبل ثدي امرأة فطلبوا له مرضعة فقالت أخته ذلك ليرد إلى أمه وقتلت نفسا يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه فنجيناك من الغم يعني الخوف من أن يطلب بثأر المقتول وفتناك فتونا أي اختبرناك اختبارا حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوة والرسالة وقيل خلصناك من محنة بعد محنة لأنه خلصه من الذبح ثم من البحر ثم من القصاص بالقتل والفتون يحتمل أن يكون مصدرا أو جمع فتنة فلثبت سنين يعني الأعوام العشرة التي استأجره فيها شعيب جئت على قدر أي بميقات محدود قدره الله لنبوتك واصطنعتك لنفسي عبارة عن الكرامة والتقريب أي استخلصتك وجعلتك موضع صنيعتي وإحساني ولا

(2/171)


تنيا أي لا تضعفا ولا تقصرا والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها أن يفرط أي يعمل بالشر فأرسل معنا بني إسرائيل أي سرحهم وكانوا تحت يد فرعون وقومه فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل ولا تعذبهم كان يعذبهم بذبح أبنائهم وتسخيرهم في خدمته وإذلالهم قد جئناك بآية يعني قلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء وإنما وحدهما وهما آيتان لأنه أراد إقامة البرهان وهو معنى واحد والسلام على من اتبع الهدى يحتمل أن يريد التحية أو السلامة قال فمن ربكما يا موسى أفرد موسى بالنداء بعد جمعه مع أخيه لأنه الأصل في النبوة وأخوه تابع له الذي أعطى كل شيء خلقه المعنى أن الله أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه فخلقه على هذا بمعنى المخلوقين وإعرابه مفعول أول وكل شيء ... 407

(2/172)


14 مفعول ثان وقيل المعنى أعطى كل شيء خلقته وصورته أي أكمل ذلك وأتقنه فالخلق على هذا بمعنى الخلقة وإعرابه مفعول ثان وكل شيء مفعول أول والمعنى الأول أحسن ثم هدى أي هدى خلقه إلى التوصل لما أعطاهم وعلمهم كيف ينتفعون به قال فما بال القرون الأولى يحتمل أن يكون سؤاله عن القرون الأولى محاجة ومناقضة لموسى أي ما بالها لم تبعث كما يزعم موسى أو ما بالها لم تكن على دين موسى أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم موسى في قوله أن العذاب على من كذب وتولى ويحتمل أن يكون قال ذلك قطعا للكلام الأول وروغانا عنه وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها فقال علمها عند ربي ثم عاد إلى وصف الله رجوعا إلى الكلام الأول في كتاب يعني اللوح المحفوظ الذي جعل لكم الأرض مهدا أي فراشا وانظر كيف وصف موسى ربه تعالى بأوصاف لا يمكن فرعون أن يتصف بها لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ولو قال له هو القادر أو الرازق وشبه ذلك لأمكن فرعون أن يغالطه ويدعي ذلك لنفسه وسلك لكم فيها سبلا أي نهج لكم فيها طرقا تمشون فيها فأخرجنا يحتمل أن يكون من كلام موسى على تقدير يقول الله عز وجل فأخرجنا ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله وأنزل من السماء ماء ثم ابتدأ كلام الله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة كلوا وارعوا أنعامكم المعنى أنها تصلح لأن تؤكل وترعاها الأنعام وعبر عن ذلك بصيغة الأمر لأنه أذن في ذلك فكأنه أمر به لأولي النهى أي العقول واحدها نهية منها خلقناكم الضمير للأرض يريد خلقة آدم من تراب وفيها نعيدكم يعني بالدفن عند الموت ومنها نخرجكم يعني عند البعث أريناه آياتنا يعني الآيات التي رآها فرعون وهي تسع آيات وليس يريد جميع آيات الله على العموم فالإضافة في قوله آياتنا تجري مجرى التعريف بالعهد أي آياتنا التي أعطينا موسى كلها

(2/173)


وإنما أضافها الله إلى نفسه تشريفا فاجعل بيننا وبينك موعدا يحتمل أن يكون الموعد اسم مصدر أو اسم زمان أو اسم مكان ويدل على أنه اسم مكان قوله مكانا سوى ولكن يضعف بقوله موعدكم يوم الزينة لأنه أجاب بظرف الزمان ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله يوم الزينة ولكن يضعف بقوله مكانا سوي ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله لا نخلفه لأن الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان ولكن يضعف ذلك بقوله مكانا وبقوله يوم الزينة فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار ويختلف إعراب قوله مكانا باختلاف تلك الوجوه فأما إن كان الموعد اسم مكان فيكون قوله موعدا ومكانا مفعولين لقوله اجعل ويطابقه قوله يوم الزينة ... 408

(2/174)


15 من طريق المعنىلا من طريق اللفظ وذلك أن الاجتماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكانا على أنه ظرف زمان والتقدير موعدا كائنا في مكان وإن كان الموعد اسم مصدر فينتصب مكانا على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد أو بفعل من معناه ويطابقه قوله يوم الزينة على حذف مضاف تقديره موعدكم وعد يوم الزينة وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف مكانا سوى معناه مستوى في القرب منا ومنكم وقيل معناه مستوى الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع وقرىء بكسر السين وضمها والمعنى متفق يوم الزينة يوم عيد لهم وقيل يوم عاشوراء وأن يحشر عطف على الزينة فهو في موضع خفض أو على اليوم فهو في موضع رفع وقصد موسى أن يكون موعدهم عند اجتماع الناس على رؤس الأشهاد لتظهر معجزته ويستبين الحق للناس فيسحتكم معناه يهلككم يقال سحت وأسحت وقد قرىء بفتح الياء وضمها والمعنى متفق قالوا إن هذان لساحران قرئ إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك وقرىء بتخفيف إن وهي مخففة من الثقيلة وارتفع بعدها هذان بالابتداء وأما قراءة نافع وغيره بتشديد إن ورفع هذان فقيل إن هنا بمعنى نعم فلا تنصب ومنه ما روي في الحديث أن الحمد لله بالرفع وقيل اسم إن ضمير الأمر والشأن تقديره إن الأمر وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن وقيل جاء القرآن في هذه الآية بلغة بني الحرث بن كعب وهو إبقاء التثنية بالألف حال النصب والخفض وقالت عائشة رضي الله عنها هذا مما لحن فيه كتاب المصحف ويذهبا بطريقتكم المثلى أي يذهب بسيرتكم الحسنة فأجمعوا كيدكم أي اعزموا وأنفذوه يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى استدل بعضهم بهذه الآية على أن السحر تخييل لا حقيقة وقال بعضهم إن حيلة السحرة في سعي الحبال والعصي هي أنهم حشوها بالزئبق وأوقدوا تحتها نارا وغطوا النار لئلا يراها الناس ثم وضعوا

(2/175)


عليها حبالهم وعصيهم وقيل جعلوها للشمس فلما أحس الزئبق بحر النار أو الشمس سال وهو في حشو الحبال والعصي فحملها فتخيل للناس أنها تمشي فألقى موسى عصاه فصارت ثعبانا فابتلعتها إنما صنعوا كيد ... 409
16 ساحر ) ما هنا موصولة وهي اسم إن وكيد خبرها آمنا برب هارون وموسى قدم هارون لتعادل رؤس الآي من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والذي فطرنا معطوف على ما جاءنا من البينات وقيل هي واو القسم هذه الحياة نصب على الظرفية أي إنما قضاؤك في هذه الدنيا إنه من يأت ربه مجرما قيل إن هنا وما بعده من كلام السحرة لفرعون على وجه الموعظة وقيل هو من كلام الله أن أسر بعبادي يعني ببني إسرائيل وأضافهم إلى نفسه تشريفا لهم وكانوا فيما قيل ستمائة ألف يبسا أي يابسا وهو مصدر وصف به لا تخاف دركا ولا تخشى أي لا تخاف أن يدركك فرعون وقومه ولا تخشى الغرق في البحر ما غشيهم إبهام لقصد التهويل ( وما هدى ) إن قيل إن قوله وأضل فرعون قومه يغني عن قوله وما هدى فالجواب أنه مبالغة وتأكيد وقال الزمخشري هو تهكم بفرعون في قوله وما أهديكم إلا سبيل الرشاد يا بني إسرائيل خطاب لهم بعد خروجهم من البحر وإغراق فرعون وقيل هو خطاب لمن كان منهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر وواعدناكم جانب الطور الأيمن لما أهلك الله فرعون وجنوده أمر موسى وبني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه ربه والطور هو الجبل واختلف هل هذا الطور هو الذي رأى فيه موسى النار في أول نبوته أو هو غيره ونزلنا عليكم المن والسلوى ذكر في البقرة فقد هوى أي هلك وهو استعارة من السقوط من علو إلى سفل وإني لغفار لمن تاب المغفرة لمن تاب حاصلة ولا بد والمغفرة للمؤمن الذي لم يتب في مشيئة الله عند أهل السنة وقالت المعتزلة لا يغفر إلا لمن تاب ثم اهتدى أي استقام ودام على الإيمان

(2/176)


والتوبة والعمل الصالح ويحتمل أن يكون الهدى هنا عبارة عن نور وعلم يجعله الله في قلب من تاب وآمن وعمل صالحا وما أعجلك عن ... 410
17 قومك يا موسى ) قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور تقدم هو وحده مبادرة إلى أمر الله وطلبا لرضاه وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده واستخلف عليهم أخاه هارون فأمرهم السامري حينئذ بعبادة العجل فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال له الله تعالى ما أعجلك عن قومك وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم يأتون على أثره فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل وقيل سأله على وجه الإنكار لتقدمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين أحدهما أن قومه على أثره أي قريب منه فلم يتقدم عليهم بكثير فيوجب العتاب والثاني أنه إنما تقدم طلبا لرضا الله وأضلهم السامري كان السامري رجلا من بني إسرائيل يقال إنه ابن خال موسى وقيل لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة وكان ساحرا منافقا فرجع موسى إلى قومه يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يوما التي كلمه الله فيها أسفا ذكر في الأعراف ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور أفطال عليكم العهد يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم بملكنا قرىء بالفتح والضم والكسر ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ولكن غلبنا بكيد السامري فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة بضم الميم واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد ويناسب هذا المعنى القراءة بالفتح والكسر حملنا أوزارا من زينة القوم الأوزار هنا الأحمال سميت أوزارا لثقلها أو لأنهم اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب وزينة القوم هي حلي القبط قوم فرعون كان بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم وقيل أخذوه بعد هلاكهم

(2/177)


فقال لهم السامري اجمعوا هذا الحلي في حفرة حتى يحكم الله فيه ففعلوا ذلك وأوقد السامري نارا على الحلي وصاغ منه عجلا وقيل بل خلق الله منه العجل من غير أن يصنعه السامري ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك فقذفناها أي قذفنا أحمال الحلي في الحفرة فكذلك ألقى السامري كان السامري قد رأى جبريل عليه السلام فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب وألقى الله في نفسه أنه إذا جعلها على شيء مواتا صار حيوانا فألقاها على العجل فخار العجل أي صاح صياح العجول فالمعنى أنهم قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري قبضة التراب جسدا أي جسما بلا روح والخوار صوت البقر فقالوا هذا إلهكم أي قال ذلك بنو إسرائيل بعضهم لبعض فنسي يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل موسى أي نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور والنسيان على هذا بمعنى الذهول والوجه الثاني أن يكون من كلام الله تعالى والفاعل على هذا السامري أي نسي دينه وطريق الحق والنسيان على هذا المعنى الترك أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا معناه لا يرد عليهم كلاما إذا ... 411

(2/178)


18 كلموه وذلك رد عليهم في دعوى الربوبية له وقرىء يرجع بالرفع وأن مخففة من الثقيلة وبالنصب وهي مصدرية قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن لا زائدة للتأكيد والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي إلى الطور أو تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر لمن عبد العجل وقتالهم بمن لم يعبده قال يا ابن أم ذكر في الأعراف لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدة غضبه لما وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده لقلت فرقت جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم وهذا على أن يكون معنى قوله تتبعني في الزجر والقتال ولو اتبعتك في المشي إلى الطور لاتبعني بعضهم دون بعض فتفرقت جماعتهم وهذا على أن يكون معنى تتبعني في المشي إلى الطور ولم ترقب قولي يعني قوله له اخلفني في قومي وأصلح قال فما خطبك يا سامري أي قال موسى ما شأنك ولفظ الخطب يقتضي الانتهار لأنه يستعمل في المكاره قال بصرت بما لم يبصروا به أي رأيت ما لم يروه يعني جبريل عليه السلام وفرسه فقبضت قبضة من أثر الرسول أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل وقرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول وإنما سمي جبريل بالرسول لأن الله أرسله إلى موسى والقبضة مصدر قبض وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ويقال قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه وبالصاد المهملة إذا أخذ بأطراف الأصابع وقد قرئ كذلك في الشاذ فنبذتها أي ألقيتها على الحلي فصار عجلا أو على العجل فصار له خوار فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس عاقب موسى عليه السلام السامري بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومؤاكلته ومكالمته وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته لا مساس أي لا مماسة ولا إذاية وروي أنه كان إذا مسه أحد أصابت الحمى له وللذي مسه فصار هو يبعد

(2/179)


عن الناس وصار الناس يبعدون عنه وإن لك موعدا يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد ظلت أصله ظللت حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل أقام بالنهار ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلا ونهارا لنحرقنه من الإحراق بالنار وقرئ بفتح النون وضم الراء بمعنى نبرده بالمبرد وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى لأن الذهب لا يفنى بالإحراق بالنار والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك ثم لننسفنه في اليم نسفا أي نلقيه في البحر والنسف تفريق الغبار ونحوه ... 412

(2/180)


19 إنما إلهكم الله الآية من كلام موسى لبني إسرائيل كذلك نقص عليك مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنباء ما قد سبق أخبار المتقدمين ذكرا يعني القرآن من أعرض عنه يعني إعراض تكذيب به وزرا الوزر في اللغة الثقل ويعني هنا العذاب لقوله خالدين فيه أو الذنوب لأنها سبب العذاب وساء لهم يوم القيامة حملا شبه الوزر بالحمل لثقله قال الزمخشري ساء تجري مجرى بئس ففاعلها مضمر يفسره حملا وقال غيره فاعلها مضمر يعود على الوزر يوم ينفخ في الصور أي ينفخ الملك في القرن وقرئ ننفخ بالنون أي بأمرنا زرقا أي زرق الألوان كالسواد وقيل زرق العيون من العمى يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا أي يقول بعضهم لبعض في السر إن لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال وذلك لاستقلالهم مدة الدنيا وقيل يعنون لبثهم في القبور يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما أي يقول أعلمهم بالأمور فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا يوما واحدا فاستقل المدة أشد مما استقلها غيره ينسفها ربي أي يجعلها كالغبار ثم يفرقها فيذرها قاعا صفصفا الضمير في يذرها للجبال والمراد موضعها من الأرض والقاع الصفصف المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه لا ترى فيها عوجا المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأشخاص والأرض شخص فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح وإنما قاله بالكسر مبالغة في نفيه فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الشخاص فنفاه ليكون غاية في نفي العوج من كل وجه ولا أمتا الأمت هو الارتفاع اليسير يتبعون الداعي يعني الذي يدعو الخلق إلى الحشر لا عوج له أي لا يعوج أحد عن اتباعه والمشي نحو صوته أو لا عوج لدعوته لأنها حق همسا هو الصوت الخفي لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا ومن في موضع نصب بتنفع وهي واقعة على المشفوع له فالمعنى لا تنفع

(2/181)


الشفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن في أن يشفع له وأن يكون الاستثناء منقطعا ومن واقعة على الشافع والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع ورضي له قولا إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه فاللام في له بمعنى لأجله أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه وإن أريد الشافع فالمعنى رضي له قوله في الشفاعة يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم الضميران ... 413
20 لجميع الخلق والمعنى ذكر في آية الكرسي ولا يحيطون به علما قيل المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله ولو أراد المعنى الأول لقال ولا يحيطون بعلمه ولذلك استثني إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا وعنت الوجوه أي ذلت يوم القيامة ولا هضما أي بخسا ونقصا لحسناته أو يحدث لهم ذكرا أي تذكرا وقيل شرفا وهو هنا بعيد ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه أي إذا أقرأك جبريل القرآن فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ وحينئذ تقرأه أنت فالآية كقوله لا تحرك به لسانك لتعجل به وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين فأمر بأن يتأنى حتى تفسر له المعاني والأول أشهر عهدنا إلى آدم أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة فنسي يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضد الذكر فيكون ذلك عذرا لآدم أو يريد الترك وقال ابن عطية ولا يمكن غيره لأن الناسي لا عقاب عليه وقد تقدم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة فجعل المسبب موضع السبب وخص آدم بقوله فتشقى لأنه كان المخاطب أولا والمقصود بالكلام وقيل لأن الشقاء في معيشة الدنيا مختص بالرجال لا تظمأ فيها ولا تضحى الظمأ هو العطش والضحى هو البروز للشمس يخصفان ذكر في الأعراف وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك

(2/182)


في البقرة اهبطا خطاب لآدم وحواء فإما يأتينكم هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها فمن اتبع فلا يضل ولا يشقى أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة معيشة ضنكا أي ضيقة فقيل إن ذلك في الدنيا فإن الكافر ضيق المعيشة لشدة حرصه وإن كان واسع الحال وقد قال بعض الصوفية لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه وقيل إن ذلك في البرزخ وقيل في جهنم يأكل الزقوم وهذا ... 414

(2/183)


21 ضعيف لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة ونحشره يوم القيامة أعمى أي يعني أعمى البصر فنسيتها وكذلك اليوم تنسى من الترك لا من الذهول ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أي عذاب جهنم أشد وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى أفلم يهد لهم معناه أفلم يتبين لهم والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر تقديره أولم يهد لهم الهدي أو الأمر وقال الزمخشري الفاعل الجملة التي بعده وقيل الفاعل ضمير الله عز وجل ويدل عليه قراءة أفلم نهد بالنون وقال الكوفيون الفاعل كم يمشون في مساكنهم يريد أن قريشا يمشون في مساكن عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم لأولى النهي أي ذوي العقول ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما الكلمة هنا القضاء السابق والمعنى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزاما أي واقعا بهم وأجل مسمى معطوف على كلمة أي لولا الكلمة والأجل المسمى لكان العذاب لزاما وإنما أخره لتعتدل رؤس الآي والمراد بالأجل المسمى يوم بدر وبذلك ورد تفسيره في البخاري وقيل المراد به أجل الموت وقيل القيامة وسبح يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة أو قول سبحان الله وهو ظاهر اللفظ بحمد ربك في موضع الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحا مقرونا بحمد ربك فيكون أمرا بالجمع بين قوله سبحان الله وقوله الحمد لله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض قبل طلوع الشمس وقبل غروبها إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى فسبح الصلاة فالتي قبل طلوع الشمس الصبح والتي قبل غروبها الظهر والعصر ومن آناء الليل المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح وكرر الصبح في ذلك تأكيدا للأمر بها وسمى الطرفين أطرافا لأحد وجهين إما على نحو فقد صغت قلوبكما وإما أن يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف وآناء الليل ساعاته

(2/184)


واحدها إنى ولا تمدن عينيك ذكر في الحجر ومد العينين هو تطويل النظر ففي ذلك دليل على أن النظر غير الطويل معفو عنه زهرة الحياة الدنيا شبه نعم الدنيا بالزهر وهو النوار لأن الزهر له منظر حسن ثم يذبل ويضمحل وفي نصب زهرة خمسة أوجه أن ينتصب بفعل مضمر على الذم أو يضمن متعنا معنى أعطينا ويكون زهرة مفعولا ثانيا له أو يكون بدلا من موضع الجار والمجرور أو يكون بدلا من أزواجا على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال لنفتنهم فيه أي لنختبرهم لا نسألك رزقا أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة فنحن ... 415

(2/185)


22 نرزقك وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا بهذا أمركم الله ويتلو هذه الآية أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى البينة هنا البرهان والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله والضمير في قالوا وفي أولم تأتهم لقريش لما اقترحوا آية على وجه العناد والتعنت أجابهم الله بهذا الجواب والمعنى قد جاءكم برهان ما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فلأي شيء تطلبون آية أخرى ويحتمل أن يكون المعنى قد جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى فذلك بينة وبرهان على أنه من عند الله ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله الية معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا ولولا هنا عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلى الله عليه وسلم قل كل متربص أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر فتربصوا تهديد ) الصراط السوي ) المستقيم
سورة الأنبياء عليهم السلام )
اقترب للناس حسابهم الناس لفظ عام وقال ابن عباس المراد هنا المشركون من قريش بدليل ما بعد ذلك لأنه من صفاتهم وإنما أخبر عن الساعة بالقرب لأن الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث يعني بالذكر القرآن ومحدث أي محدث النزول وأسروا النجوى الذين ظلموا الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله والذين ظلموا بدل من الضمير وقيل إن الفاعل هو الذين ظلموا وجاء ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث وهي لغة بني الحارث بن كعب وقال سيبويه لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل أن يكون الذين ظلموا منصوبا بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر والأول أحسن هل هذا إلا بشر مثلكم هذا الكلام في موضع نصب بدل من النجوى لأنه هو الكلام الذي تناجوا به والبشر المذكور في الآية هو سيدنا

(2/186)


محمد صلى الله عليه وسلم قال ربي يعلم بالقول إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسروه فإن قيل هلا قال يعلم السر مناسبة لقوله أسروا النجوى فالجواب أن القول يشمل السر والجهر ... 416
23 فحصل به ذكر السر وزيادة بل قالوا أضغاث أحلام أي أخلاط منامات وحكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم كما أرسل الأولون أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات فليأتنا محمد بآية فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها لما قالوا فليأتنا بآية أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا ثم قال أفهم يؤمنون أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم ويحتمل أن يكون المعنى أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك ولا يكون على هذا جوابا لقولهم فليأتنا بآية بل يكون إخبارا مستأنفا على وجه التهديد وأهلكناها في موضع الصفة لقرية والمراد أهل القرية وما أرسلنا قبلك إلا رجالا رد على قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أن الرسل المتقدمين رجالا من البشر فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولا أهل الذكر يعني أحبار أهل الكتاب وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام أي ما جعلنا الرسل اجسادا غير طاعمين ووحد الجسد لإرادة الجنس ولا يأكلون الطعام صفة لجسد وفي الآية رد على قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ومن نشاء يعني المؤمنين فيه ذكركم أي شرفكم وقيل تذكيركم قصمنا أي أهلكنا وأصله من قصم الظهر أي كسره من قرية يريد أهل القرية قال ابن عباس هي قرية باليمن يقال لها حضور بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم بالقتل وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير فلا يريد قرية معينة يركضون عبارة عن فرارهم فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن

(2/187)


يركض الدابة لا تركضوا أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة قالوه تهكما بهم أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة قالوا ذلك لهم خداعا ليرجعوا فيقتلوهم أترفتم أي نعمتم لعلكم تسئلون تهكم بهم وتوبيخ أي ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون عما جرى عليكم ويحتمل أن يكون تسئلون بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم قالوا يا ويلنا الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم حصيدا خامدين شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود ومعنى خامدين موتى وهو تشبيه بخمود النار لاعبين حال منفية أي ما خلقنا السموات ... 417

(2/188)


24 والأرض لأجل اللعب بل للاعتبار بها والاستدلال على صانعها لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا اللهو في لغة اليمن الولد وقيل المرأة ومن لدنا أي من الملائكة فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولدا لاتخذناه من الملائكة لا من بني آدم فهو رد على من قال إن المسيح ابن الله وعزير ابن الله والظاهر أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لاعبين وقال الزمخشري المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهوا لكان ذلك في قدرتنا ولكن ذلك لا يليق بنا لأنه مناقض للحكمة وفي كلا القولين نظر إن كنا فاعلين يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها أو نافية والأول أظهر بل نقذف بالحق على الباطل الحق عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق والباطل عام في أضداد ذلك فيدمغه أي يقمعه ويبطله وأصله من إصابة الدماغ ومن عنده يعني الملائكة ولا يستحسرون أي لا يعيون ولا يملون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون أم هنا للإضراب عما قبلها والاستفهام على وجه الإنكار لما بعدها من الأرض يتعلق بينشرون والمعنى أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض فليست بآلهة في الحقيقة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا هذا برهان على وحدانية الله تعالى والضمير في قوله فيهما للسموات والأرض وإلا الله صفة لآلهة وإلا بمعنى غير فاقتضى الكلام أمرين أحدهما نفي كثرة الآلهة ووجوب أن يكون الإله واحدا والأمر الثاني أن يكون ذلك الواحد هو الله دون غيره ودل على ذلك قوله إلا الله وأما الأول فكانت الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة وقال كثير من الناس في معنى الآية إنها دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون وذلك أنا لو فرضنا إلهين فأراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما وذلك محال لأن النقيضين لا يجتمعان وإما أن لا تنفذ

(2/189)


إرادة واحد منهما وذلك أيضا محال لأن النقيضين لا يرتفعان معا ولأن ذلك يؤدي إلى عجزهما وقصورهما فلا يكونان إلهين وإما أن ينفذ إرادة واحد منهما دون الآخر فالذي تنفذ إرادته هو الإله والذي لا تنفذ إرادته ليس بإله فالإله واحد وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا يطابقه بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة ولا وليان لخطة واحدة لا يسئل عما يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ولأنه حكيم فأفعاله كلها جارية على الحكمة وهم يسئلون لفقد العلتين أم اتخذوا من دونه آلهة كرر هذا الإنكار استعظاما للشرك ومبالغة في تقبيحه لأن قبله من صفات الله ما يوجب توحيده وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين وأنهم ليس لهم على الشرك برهان لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع ... 418

(2/190)


25 هاتوا برهانكم تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في البقرة هذا ذكر من معي وذكر من قبلي رد على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله بل كلها متفقة على التوحيد وما أرسلنا الآية رد على المشركين والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله عباد مكرمون يعني الملائكة وهم الذين قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض البنؤة ووصفهم بالكرامة لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا لا يسبقونه بالقول أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدبا معه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى أي لم ارتضى أن يشفع له ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا وهي استغفارهم لمن في الأرض مشفقون أي خائفون ومن يقل منهم الآية على فرض أن لو قالوا ذلك ولكنهم لا يقولونه وإنما مقصد الآية الرد على المشركين وقيل إن الذي قال إني إله هو إبليس لعنه الله كانتا رتقا ففتقناهما الرتق مصدر وصف به ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع فيه ولا فتح والفتق الفتح فقيل كانت السموات ملصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء وقيل كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا والرؤية في قوله أولم ير على هذا رؤية قلب وقيل فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات فالرؤية على هذا عين وجعلنا من الماء كل شيء حي أي خلقنا من الماء كل حيوان ويعني بالماء المني وقيل الماء الذي يشرب لأنه سبب لحياة الحيوان ويدخل في ذلك النبات باستعارة رواسي يعني الجبال أن تميد تقديره كراهية أن تميد فجاجا يعني الطرق الكبار وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل لأنه صفة تقدمت على النكرة لعلهم يهتدون يعني في طرقهم وتصرفاتهم سقفا محفوظا أي حفظ من السقوط ومن الشياطين عن آياتها معرضون يعني الكواكب والأمطار والرعد

(2/191)


والبرق وغير ذلك كل في فلك يسبحون التنوين في كل عوض عن الإضافة أي كلهم في فلك يسبحون يعني الشمس والقمر دون الليل والنهار إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك فالجملة في موضع حال من الشمس والقمر أو مستأنفا فإن قيل لفظ كل ويسبحون جمع فكيف يعني الشمس والقمر وهما اثنان فالجواب أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة وهي كثيرة ... 419
26 قاله الزمخشري وقال القزنوي أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة وعبر عنهما بضمير الجماعة العقلاء في قوله يسبحون لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح فإن قيل كيف قال في فلك وهي أفلاك كثيرة فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في فلكه وذلك كقولهم كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة ومعنى الفلك جسم مستدير وقال بعض المفسرين إنه من موج وذلك بعيد والحق أنه لا يعلم صفته وكيفيتة إلا بإخبار صحيح عن الشارع وذلك غير موجود ومعنى يسبحون يجرون أو يدورون وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء وقوله كل في فلك من المقلوب الذي يقرأ من الطرفين وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بشر يموت وقيل إنهم تمنوا موته ليشمتوا به وهذا أنسب لما بعده أفإن مت فهم الخالدون موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام كل نفس ذائقة الموت أي كل نفس مخلوقة لا بد لها أن تذوق الموت والذوق هنا استعارة ونبلوكم بالشر والخير أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال الدنيا ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير أو خلاف ذلك فتنة مصدر من معنى نبلوكم أهذا الذي يذكر آلهتكم أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحال فإن الذكر قد يكون بذم أومدح والجملة تفسير للهزء أي يقولون أهذا الذي وهم بذكر الرحمن هم كافرون الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن فهم أحق

(2/192)


بالملامة وقيل معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم لأنهم أنكروها والأول أغرق في ضلالهم خلق الإنسان من عجل خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة كقولهم خلق حاتم من جود والإنسان هنا جنس وسبب الآية أن الكفار استعجلوا الآيات التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه فذكر الله هذا توطئة لقوله فلا تستعجلون وقيل المراد هنا آدم لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم وهذا ضعيف وقيل من عجل أي من طين وهذا أضعف سأريكم آياتي وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل ويقولون الآية تفسير لاستعجالهم الوعد القيامة وقيل نزول العذاب بهم لو يعلم جواب لو محذوف حين مفعول به ليعلموا أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم العذاب لآمنوا وما استعجلوا بل تأتيهم الضمير الفاعل للنار وقيل للساعة تبهتهم أي تفجؤهم ولا هم ينظرون أي لا يؤخرون عن العذاب ولقد استهزىء الآية تسلية بالتأسي فحاق أي أحاط من يكلؤكم أي من ... 420

(2/193)


27 يحفظكم من أمر الله ومن استفهامية والمعنى تهديد وإقامة حجة لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا حافظ ثم جاء قوله بل هم عن ذكر ربهم معرضون بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ولكنهم يعرضون عن ذكر الله أي عن الجواب الذي فيه ذكر الله وقال الزمخشري معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره فضلا عن أن يخافوا بأسه
أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا أي تمنعهم من العذاب وأم هنا للاستفهام والمعنى الإنكار والنفي وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله لا يستطيعون نصر أنفسهم فإن من لا ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره ولا هم منا يصحبون الضمير للكفار أي لا يصحبون منا بنصر ولا حفظ بل متعنا هؤلاء وآباءهم أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم أي لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر ولا حفظ بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم ننقصها من أطرافها ذكر في الرعد ولا يسمع الصم الدعاء إشارة إلى الكفار والصم استعارة في إفراط إعراضهم نفحة أي خطرة وفيها تقليل العذاب والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذعنوا واعترفوا بذنوبهم ونضع الموازين القسط أي العدل وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع لأنه مصدر وصف به كالعدل والرضا وعلى تقدير ذوات القسط ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال والخفة والثقل متعلقة بالأجسام إما صحف الأعمال أو ما شاء الله وقالت المعتزلة إن الميزان عبارة عن العدل في الجزاء ليوم القيامة وقال ابن عطية تقديره لحساب يوم القيامة أو لحكمة فهو على حذف مضاف وقال الزمخشري هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشهر مثقال حبة أي وزنها

(2/194)


والرفع على أن كان تامة والنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر الفرقان هنا التوراة وقيل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر وإقامة الحجة وهذا ذكر يعني القرآن رشده أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك من قبل أي قبل موسى وهارون وقيل آتيناه رشده قبل النبوة وكنا به ... 421
28 عالمين ) أي علمناه أنه يستحق ذلك التماثيل يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم وجدنا آباءنا اعتراف بالتقليد من غير دليل قالوا أجئتنا بالحق أي هل الذي تقول حق أم مزاح وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل وعن اللعب بالجملة الإسمية لأنه أثبت عندهم فطرهن أي خلقهن والضمير للسموات والأرض أو التماثيل وهذا أليق بالرد عليهم بعد أن تولوا مدبرين يعني خروجهم إلى عيدهم جذاذا أي فتاتا ويجوز فيه الضم والكسر والفتح وهو من الجذ بمعنى القطع إلا كبيرا لهم ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدوم في يده لعلهم إليه يرجعون الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء وقيل الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أي يرجعون إليه فيبين لهم الحق قالوا من فعل هذا قبله محذوف تقديره فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة فقالوا من فعل هذا فتى يذكرهم أي يذكرهم بالذم وبقوله لأكيدن أصنامكم يقال له إبراهيم قيل إن إعراب إبراهيم منادى وقيل خبر ابتداء مضمر وقيل رفع على الإهمال والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله لأن المراد الاسم لا المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري لعلهم يشهدون أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له قال بل فعله كبيرهم قصد إبراهيم عليه السلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم كأنه يقول إن كان إلها فهو قادر على أن يفعل وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض لأنه كذب فإن قيل فقد جاء في الحديث إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات

(2/195)


أحدها قوله فعله كبيرهم فالجواب أن معنى ذلك أنه قال قولا ظاهره الكذب وإن كان القصد به معنى آخر ويدل على ذلك
قوله فاسألوهم إن كانوا ينطقون لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم فرجعوا إلى أنفسهم أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر أو رجعوا إليها بالملامة فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي الظالمون لأنفسكم في عبادتكم مالا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين وفي تعنيفه على أعين الناس ثم نكسوا على رءوسهم استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ... 422

(2/196)


29 وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم ويحتمل أن يكون نكسوا على رءوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع فإن قولهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون إعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رءوسهم حقيقة أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة أف لكم تقدم الكلام على أف في الإسراء قالوا حرقوه لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم قلنا يا نار كوني بردا وسلاما أي ذات برد وسلام وجاءت العبارة هكذا للمبالغة واختلف كيف بردت النار فقيل أزال الله عنها ما فيها من الحر والإحراق وقيل دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها وقيل خلق بينه وبينها حائلا ومعنى السلام هنا السلامة وقد روي أنه لو لم يقل سلاما لهلك إبراهيم من البرد وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه إلى الأرض التي باركنا فيها هي الشام خرج إليها من العراق وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها نافلة أي عطية والتنفيل العطاء وقيل سماه نافلة لأنه عطاء بغير سؤال فكأنه تبرع وقيل الهبة إسحاق والنافلة يعقوب لأنه سأل إسحاق بقوله هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول يهدون بأمرنا أي يرشدون الناس بإذننا ولوطا قيل إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضا وقيل بفعل مضمر تقديره اذكر آتيناه حكما أي حكما بين الناس أو حكمة من القرية هي سدوم من أرض الشام وأدخلناه في رحمتنا أي في الجنة أو في أهل رحمتنا نادى من قبل أي دعا قبل إبراهيم ولوط من الكرب يعني من الغرق ونصرناه من القوم تعدى نصرناه

(2/197)


بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدي بمن أو تضمن معنى نجيناه أو أجرناه وداود وسليمان كان داود نبيا ملكا وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاما في الحرث قيل زرع وقيل كرم والحرث يقال فيهما إذ نفشت رعت فيه بالليل ... 423
30 لحكمهم الضمير لداود وسليمان والمتخاصمين وقيل لداود وسليمان خاصة على أن يكون أقل الجمع اثنان ففهمناها سليمان تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال يا نبي الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع قال وما هو قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها والأرض بزرعها إلى ربها فقال له داود وفقت يا بني وقضى بينهما ذلك ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحا لا حكما واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء وعلى القول بالجواز اختلف هل وقع أم لا وظاهر قوله ففهمناها سليمان أنه كان باجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية ومن قال كان بوحي جعل حكم سليمان ناسخا لحكم داود وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا فقال مالك والشافعي يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان لأن النفش لا يكون إلا بالليل وقال أبو حنيفة لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله صلى الله عليه وسلم العجماء

(2/198)


جرحها جبار وكلا آتيناه حكما وعلما قيل يعني في هذه النازلة وأن داود لم يخطيء فيها ولكنه رجع إلى ما هو أرجح ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب وقيل بل يعني حكما وعلما في غير هذه النازلة وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها وأن المصيب واحد من المجتهدين وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير كان هذا التسبيح قول سبحان الله وقيل الصلاة معه إذا صلى وقدم الجبال على الطير لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد وكنا فاعلين أي قادرين على أن نفعل هذا وقال ابن عطية معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة صنعة لبوس يعني دروع الحديد وأول من صنعها داود عليه السلام وقال ابن عطية اللبوس في اللغة السلاح وقال الزمخشري اللبوس اللباس لتحصنكم من بأسكم أي لتقيكم في القتال وقرىء بالياء والتاء والنون فالنون لله تعالى والتاء للصنعة والياء لداود أو للبوس فهل أنتم شاكرون لفظ استفهام ومعناه استدعاء إلى الشكر ولسليمان الريح عاصفة عطف الريح على الجبال والعاصفة هي الشديدة فإن قيل كيف يقال عاصفة وقال في ص رخاء أي لينة فالجواب أنها كانت في نفسها لينة طيبة وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين وقيل كانت رخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه إلى وطنه لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع وقيل كانت تشتد إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته إلى الأرض التي باركنا فيها يعني أرض الشام وكانت مسكنه وموضع ملكه فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها يغوصون له أي ... 424

(2/199)


31 يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار عملا دون ذلك أقل من الغوص كالبنيان والخدمة وكنا لهم حافظين أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه وقيل معناه عالمين بعددهم وأيوب إذ نادى ربه كان أيوب عليه السلام نبيا من الروم وقيل من بني إسرائيل وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر ثم أهلك الأولاد فصبر ثم سلط البلاء على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به فحينئذ دعا الله تعالى على أن قوله مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ليس تصريحا بالدعاء ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب فكشفنا ما به من ضر لما استجاب الله له أنبع له عينا من ماء فشرب منه واغتسل فبرىء من المرض والبلاء وآتيناه أهله ومثلهم معهم روي أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل في الآخرة وقيل ولدت امرأته مثل عدد أولاده الموتى ومثلهم معهم وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله رحمة من عندنا أي رحمة لأيوب وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معا للعابدين وذا الكفل قيل هو إلياس وقيل زكريا وقيل نبي بعث إلى رجل واحد وقيل رجل صالح غير نبي وسمي ذا الكفل أي ذا الحظ من الله وقيل لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده وذا النون هو يونس عليه السلام والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه إذ ذهب مغاضبا أي مغاضبا لقومه إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله ولا تكن كصاحب الحوت ولا يصح قول من قال مغاضبا لربه فظن أن لن نقدر عليه أي ظن أن نضيق عليه فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه وقيل هو من القدر والقضاء أي ظن أن لن نضيق عليه بعقوبة ولا يصح قول من قال إنه من القدرة فنادى في الظلمات قيل هذا الكلام

(2/200)


محذوف لبيانه في غير هذه الآية وهو أنه لما خرج ركب السفينة فرمى في البحر فالتقمه الحوت فنادى في الظلمات وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت لشدة ظلمته كقوله وتركهم في ظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم ونجيناه من الغم يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البر وكذلك ننجي المؤمنين يحتمل أن يكون مطلقا أو لمن دعا بدعاء يونس ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له لا تذرني ... 425

(2/201)


32 فردا ) أي بلا ولد ولا وارث وأنت خير الوارثين إن لم ترزقني وارثا فأنت خير الوارثين فهو استسلام لله وأصلحنا له زوجه يعني ولدت بعد أن كانت عقيما واسم زوجته أشياع قاله السهيلي يسارعون في الخيرات والضمير للأنبياء المذكورين رغبا ورهبا الرغب الرجاء والرهب الخوف وقيل الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي والرهب أن ترفع ظهورها والتي أحصنت فرجها هي مريم بنت عمران ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال كقولها لم يمسسني بشر فنفخنا فيها من روحنا أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها ونسب الله النفخ إلى نفسه لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أوللملك آية أي دلالة ولذلك لم يثن إن هذه أمتكم أي ملتكم ملة واحدة وهو خطاب للناس كافة أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد فتقطعوا أمرهم أي اختلفوا فيه وهو استعارة من جعل الشيء قطعا والضمير للمخاطبين قيل فالأصل تقطعتم فلا كفران لسعيه أي لإبطال ثواب عمله وإنا له كاتبون أي نكتب عمله في صحيفته وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون قرىء حرام بكسر الحاء وهو بمعنى حرام واختلف في معنى الآية فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ولا زائدة في الوجهين وقيل حرام بمعنى حتم واقع لا محالة ويتصور فيه الوجهان وتكون لا نافية فيهما أي حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو حتم رجوعهم إلى الدنيا وقيل المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة ولا على هذا نافية أيضا ففيه رد على من أنكر البعث حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج حتى هنا حرف ابتداء أو غاية

(2/202)


متعلقة بيرجعون وجواب إذا فإذا هي شاخصة وقيل الجواب يا ويلنا لأن تقديره يقولون يا ويلنا وفتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف وهم من كل حدب ينسلون الحدب المرتفع من الأرض وينسلون أي يسرعون والضمير ليأجوج ومأجوج أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم وقيل لجميع الناس الوعد الحق يعني القيامة فإذا هي شاخصة إذا هنا للمفاجأة والضمير عند سيبويه ضمير القصة وعند الفراء للأبصار وشاخصة من الشخوص وهو إحداد النظر من الخوف إنكم وما تعبدون من دون الله حصب ... 426

(2/203)


33 جهنم ) هذا خطاب للمشركين والحصب ما توقد به النار كالحطب وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه حطب جهنم والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخا لمن عبدها واردون الورود هنا الدخول زفير ذكر في هود لا يسمعون قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا وقيل يصمهم الله كما يعميهم
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى سبقت أي قضيت في الأزل والحسنى السعادة ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعري على قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فقال إن عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة حسيسها أي صوتها الفزع الأكبر أهوال القيامة على الجملة وقيل ذبح الموت وقيل النفخة الأولى في الصور لقوله ففزع من السموات ومن في الأرض كطي السجل للكتب السجل الصحيفة والكتاب مصدر أي كما يطوي السجل ليكتب فيه أو ليصان الكتاب الذي فيه وقيل السجل رجل كاتب وهذا ضعيف وقيل هو ملك في السماء الثانية ترفع إليه الأعمال وهذا أيضا ضعيف كما بدأنا أول خلق نعيده أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة فهو كقوله قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وقيل المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده والكاف متعلقة بقوله نعيده فاعلين تأكيدا لوقوع البعث ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر في الزبور هنا قولان أحدهما أنه كتاب داود والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى وما في الزبور من ذكر الله تعالى والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حين قضى الأمور كلها والأول أرجح لأن إطلاق الزبور على كتاب

(2/204)


داود أظهر وأكثر استعمالا ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الأرض هنا على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها وقيل الأرض المقدسة وقيل أرض الجنة والأول أظهر والعباد الصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم ففي الآية ثناء عليهم وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تشريف عظيم وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول ... 427

(2/205)


34 والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرحمة ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره أرسلناك راحمين للعالمين أو يكون مفعولا من أجله والمعنى على كل وجه أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى والنجاة من الشقاوة العظمى ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة فإن قيل رحمة للعالمين عموم والكفار لم يرحموا به فالجواب من وجهين أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك آذنتكم على سواء أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إن هنا وفي الموضع الآخر نافية وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول من طريق المعنى فيجب وصله معه والهمزة في قوله أقريب للتسوية لا لمجرد الاستفهام وقيل يوقف على إن أدري في الموضعين ويبتدأ بما بعده وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده لعله فتنة الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم ومتاع إلى حين أي الموت أو القيامة المستعان على ما تصفون أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب
سورة الحج
اتقوا ربكم تكلمنا على التقوى في أول البقرة إن زلزلة الساعة أي شدتها وهولها كقوله وزلزلوا أو تحريك الأرض حينئذ كقوله إذا زلزلت الأرض زلزالها والجملة تعليل للأمر بالتقوى واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة أو بعد أن تقوم القيامة والأرجح أن ذلك قبل القيامة لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة ووضع الحامل لا بعد القيامة يوم ترونها العامل في الظرف تذهل

(2/206)


والضمير للزلزلة وقيل الساعة وذلك ضعيف لما ذكرنا إلا أن يريد ابتداء أمرها تذهل الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة مرضعة إنما لم يقل مرضع لأن المرضعة هي التي ... 428
35 في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقال مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ وترى الناس سكارى تشبيه بالسكارى من شدة الغم وما هم بسكارى نفي لحقيقة السكر وقرئ سكرى والمعنى متفق ومن الناس من يجادل في الله نزلت في النضر بن الحارث وقيل في أبي جهل وهي تتناول كل من اتصف بذلك شيطان مريد أي شديد الإغواء ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس كتب تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب ويحتمل أن يكون بمعنى قضى كقولك كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل تأكيد من تولاه أي تبعه أو اتخذه وليا والضمير في عليه وفي أنه في الموضعين وفي تولاه للشيطان وفي يضله ويهديه للمتولى له ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث الآية معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم خلقناكم من تراب إشارة إلى خلق آدم وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم من علقة العلقة قطعة من دم جامدة من مضغة أي قطعة من لحم مخلقة المخلقة التامة الخلقة وغير المخلقة الغير التامة كالسقط وقيل المخلقة المسواة السالمة من النقصان لنبين لكم اللام تتعلق بمحذوف تقديره ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على البعث ونقر فعل مستأنف إلى أجل مسمى يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ست أشهر إلى ما

(2/207)


فوق ذلك نخرجكم طفلا أفرده لأنه أراد الجنس أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا لتبلغوا أشدكم هو كمال القوة والعقل والتمييز وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين أرذل العمر ذكر في النحل هامدة يعني لا نبات فيها اهتزت تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء وربت انتفخت زوج بهيج أي صنف عجيب ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك المذكور من أمر الإنسان والنبات حاصل بأن الله هو الحق هكذا قدره الزمخشري والباء على هذا سببية وبهذا المعنى أيضا فسره ابن عطية ويلزم على هذا أن لا يكون قوله وأن الساعة آتية معطوفا على ذلك لأنه ليس بسبب لما ذكر فقال ابن عطية قوله أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح وأما قوله على تقدير الأمر أن الساعة فذلك استئناف ... 429

(2/208)


36 وقطع للكلام الأول ولا شك أن المقصود من الكلام الأول هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى وذلك أن يكون التقدير ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وبأن الساعة آتية فيصح عطف وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات ومن الناس من يجادل في الله بغير علم نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل في الأخنس بن شريق ثاني عطفه كناية عن المتكبر المعرض له في الدنيا خزي إن كانت في النضر بن الحارث فالخزي أسره ثم قتله وكذلك قتل أبي جهل ذلك بما قدمت يداك أي يقال له ذلك بما فعلت وبعدل الله لأنه لا يظلم العباد من يعبد الله على حرف نزلت في قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال هذا دين حسن وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام فالحرف هنا كناية عن المقصد وأصله من الانحراف عن الشيء أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه خسر الدنيا والآخرة خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها وخسارة الآخرة بارتداده وسوء اعتقاده ما لا يضره يعني الأصنام ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين يدعو لمن ضره أقرب من نفعه فيها إشكالان الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ثم وصفها بأن ضرها أقرب من نفعها فنفى الضر ثم أثبته فالجواب أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا والضر الثاني يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره والإشكال الثاني دخول اللام على من وهي في الظاهر مفعول واللام لا تدخل على المفعول وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها أن اللام مقدمة على موضعها كأن الأصل أن يقال يدعو من لضره أقرب من نفعه

(2/209)


فموضعها الدخول على المبتدأ والثاني أن يدعو هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده ثم ابتدأ قوله لمن ضره فمن مبتدأ وخبره لبئس المولى وثالثها أن معنى يدعو يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة الأصنام فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام المولى هنا بمعنى الولي العشير الصاحب فهو من العشيرة إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية لما ذكر أن ... 430
37 الأصنام لا تنفع من عبدها قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع وهو دخول الجنة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع السبب هنا الحبل والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء التي تعلق منها الحبال والقطع هنا يراد به الاختناق بالحبل يقال قطع الرجل إذا اختنق ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته أو طمعا فيما لا يصل إليه كقوله للحسود مت كمدا أو اختنق فإنك لا تقدر على غير ذلك وفي معنى الآية قولان الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى على هذا من كان من الكفار يظن أن لن ينصر الله محمدا فليختنق بحبل فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من والمعنى على هذا من ظن بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله فليختنق وليمت بغيظه فإنه لا يقدر على غير ذلك فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء وسوء الظن بالله حتى ييئس من نصره ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه وهذا القول أرجح من الأول لوجهين أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط حتى ظن أن الله لن ينصره فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية إن الله يفعل ما يريد أي

(2/210)


الأمور بيد الله فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ولا ينقلب إذا أصابته فتنة والوجه الثاني أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدمه وأما علىالقول الأول فلا يعود على مذكور قبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ الكيد هنا يراد به اختناقه وسمي كيدا لأنه وضعه موضع الكيد إذ هو غاية حيلته والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر أي ليس يذهبه وكذلك أنزلناه الضمير للقرآن أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله
آيات بينات وأن الله يهدي من يريد قال ابن عطية أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله وهذا ضعيف لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله وقال الزمخشري التقدير لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات فجعل أن تعليلا للإنزال وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو والصحيح عندي أن قوله وأن الله معطوف على آيات بينات لأنه مقدر بالمصدر فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه والصابئين ذكر في البقرة وكذلك الذين هادوا والمجوس هم الذين يعبدون النار ويقولون إن الخير من النور والشر من الظلمة والذين أشركوا هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم إن الله يفصل بينهم هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية وكررت مع الخبر للتأكيد وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو الحق وسائر الأديان باطلة وبأن ... 431

(2/211)


38 يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار يسجد له من في السموات ومن في الأرض دخل في هذا من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الملائكة والجن ولم يدخل الناس في ذلك لأنه ذكرهم في آخر الآية إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤا أو أبوا وكثير من الناس إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله فيكون كثير من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله وكثير حق عليه العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة ويوقف على قوله وكثير من الناس وهذا القول هو الصحيح وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلىمن يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى وقيل إن قوله وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه كثير حق عليه العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود وتأوله الزمخشري على هذا المعنى بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد هذان خصمان الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم وهو قول ابن عباس وقيل نزلت في علي ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة والمراد به هنا الجماعة والإشارة بهذان إلى الفريقين اختصموا في ربهم أي

(2/212)


في دينه وفي صفاته والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين فالذين كفروا الآية حكم بين الفريقين بأن جعل للكفار النار وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا قطعت لهم ثياب من نار أي فصلت على قدر أجسادهم وهو مستعار من تفصيل الثياب الحميم الماء الحار يصهر به ما في بطونهم أي يذاب وذلك أن الحميم إذا صب على رؤسهم وصل حره إلى بطونهم فأذاب ما فيها وقيل معنى يصهر ينضج مقامع جمع مقمعة أي مقرعة من حديد يضربون بها وقيل هي السياط من غم بدل من المجرور قبله وذوقوا التقدير يقال لهم ذوقوا من أساور من ذهب من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في الكهف ولؤلؤا ... 432

(2/213)


39 بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا أو معطوف على موضع من أساور إذ هو مفعول وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب الطيب من القول قيل هو لا إله إلا الله واللفظ أعم من ذلك صراط الحميد أي صراط الله فالحميد اسم الله ويحتمل أن يريد الصراط الحميد وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك مسجد الجامع إن الذين كفروا خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم وقيل الخبر يصدون على زيادة الواو وهذا ضعيف وإنما قال يصدون بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل سواء بالرفع مبتدأ أو خبره مقدر والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا وقرىء بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به العاكف فيه والباد العاكف المقيم في البلد والبادي القادم عليه من غيره والمعنى أن الناس سواء في المسجد الحرام لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع وقال أبو حنيفة حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء وليس لأحد فيها ملك والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة وقال مالك وغيره ليست الدور في ذلك كالمسجد بل هي متملكة بإلحاد بظلم الإلحاد الميل عن الصواب والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر لأن الذنوب في مكة أشد منها في غيرها وقيل هو استحلال الحرام ومفعول يرد محذوف تقديره من يرد أحدا أو من يرد شيئا وبإلحاد بظلم حالان مترادفان وقيل المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع ثم ضوعف ليتعدى واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله تبوئ المؤمنين إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدي الفعل باللام وهو يتعدى بنفسه حتى قيل اللام زائدة وقيل معناه هيأنا وقيل جعلنا والبيت هنا الكعبة وروي أنه كان آدم يعبد الله فيه ثم درس بالطوفان فدل الله إبراهيم عليه السلام على مكانه وأمره ببنيانه أن لا

(2/214)


تشرك أن مفسرة والخطاب لإبراهيم عليه السلام وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك والأمر بالتطهير لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك طهرا بيتي عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس وغير ذلك والقائمين يعني المصلين وأذن في الناس بالحج خطاب لإبراهيم وقيل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأول هو الصحيح روي أنه لما أمر بالأذان بالحج صعد على جبل أبي قبيس ونادى أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة وهم في أصلاب آبائهم وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك فجرت التلبية على ذلك يأتوك رجالا جمع راجل أي ماشيا على رجليه وعلى كل ضامر الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره وقوله وعلى كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجالا وركبانا واستدل ... 433

(2/215)


40 بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر يأتين صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع من كل فج عميق أي طريق بعيد منافع لهم أي بالتجارة وقيل أعمال الحج وثوابه واللفظ أعم من ذلك ويذكروا اسم الله يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا وقيل يعني الذكر على الإطلاق وإنما قال اسم الله لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء في أيام معلومات هي عند مالك يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده وقيل عشر ذي الحجة خاصة وأما الأيام المعدودات فهي الثلاثة بعد يوم النحر فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر من المعدودات لا من المعلومات فكلوا منها ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر البائس الذي أصابه البؤس وقيل هو المتكفف وقيل الذي يظهر عليه أثر الجوع ثم ليقضوا تفثهم التفث في اللغة الوسخ فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلوا من الحج وقيل التفث أعمال الحج وقرئ بكسر اللام وإسكانها وهي لام الأمر وكذلك وليوفوا وليطوفوا وليطوفوا المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب بالبيت العتيق أي القديم لأنه أول بيت وضع للناس وقيل العتيق الكريم كقولهم فرس عتيق وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم وقيل العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط ذلك هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه ثم يقول هذا وقد كان كذا وأجاز بعضهم الوقف على قوله ذلك في ثلاثة مواضع

(2/216)


من هذه السورة وهي هذا وذلك ومن يعظم شعائر الله وذلك ومن يشرك بالله لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا ومثلها ذلك ومن عاقب وذلكم فذوقوه في الأنفال وهذا وإن للطاغين في ص حرمات الله جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه من جميع الشريعة فيحتمل أن يكون هنا على العموم أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه فهو خير له أي التعظيم للحرمات خير إلا ما يتلى عليكم يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة الرجس من الأوثان من لبيان الجنس كأنه قال الرجس الذي هو الأوثان والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا إليها كما كانت العرب تفعل قول الزور أي الكذب وقيل شهادة الزور فكأنما خر من السماء الآية تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشد الهلاك سحيق أي بعيد شعائر الله قيل هي الهدايا ... 434

(2/217)


41 في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما غالية الأثمان وقيل مواضع الحج كعرفات ومنى والمزدلفة وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها وقيل الشعائر أمور الدين على الإطلاق وتعظيمها القيام بها وإجلالها فإنها من تقوى القلوب الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم وقال الزمخشري التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات لكم فيها منافع من قال إن شعائر الله هي الهدايا فالمنافع بها شرب لبنها وركوبها لمن اضطر إليها والأجل المسمى نحرها ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر والأجل المسمى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة ثم محلها إلى البيت العتيق من قال إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وثم على هذا القول ليست للترتيب في الزمان لأن محلها قبل نحرها وإنما هي لترتيب الجمل ومن قال إن الشعائر موضع الحج فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله محلها إلى البيت ولكل أمة جعلنا منسكا أي لكل أمة مؤمنة والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة والمراد بذلك الذبائح لقوله ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقربا إلى الأصنام فإلهكم إله واحد في وجه اتصاله بما قبله وجهان أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدمة خاطبها بقوله فإلهكم إله واحد أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدم قبلكم والثاني أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا لغيره المخبتين الخاشعين وقيل المتواضعين وقيل نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكذلك قوله بعد ذلك وبشر المحسنين

(2/218)


واللفظ فيهما أعم من ذلك وجلت خافت والبدن جمع بدنة وهو ما أشعر من الإبل واختلف هل يقال للبقرة بدنة وانتصابه بفعل مضمر من شعائر الله واحدها شعيرة ومن للتبعيض واستدل بذلك من قال إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين لكم فيها خير قيل الخير هنا المنافع المذكورة قبل وقيل الثواب والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة صواف معناه قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور ووزنه فواعل وواحده صافة وجبت جنوبها أي سقطت إلى الأرض عند موتها يقال وجب ... 435

(2/219)


42 الحائط وغيره إذا سقط القانع معناه السائل وهو من قولك قنع الرجل بفتح النون إذا سأل وقيل معناه المتعفف عن السؤال فهو على هذا من قولك قنع بالكسر إذا رضي بالقليل والمعتر المعترض بغير سؤال ووزنه مفتعل يقال اعتررت بالقوم إذا تعرضت لهم فالمعنى أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية ومن تعرض للعطاء كذلك سخرناها لكم أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم وقال الزمخشري التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون من الهدايا فعبر عن هذا المعنى بلفظ ينال مبالغة وتأكيدا لأنه قال لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله وإنما تصل بالتقوى منكم فإن ذلك هو الذي طلب منكم وعليه يحصل لكم الثواب وقيل كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية كذلك سخرها لكم كرر للتأكيد لتكبروا الله قيل يعني قول الذابح بسم الله والله أكبر واللفظ أعم من ذلك إن الله يدافع عن الذين آمنوا كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة فوعدهم الله أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم وقرئ يدافع بالألف ويدفع بسكون الدال من غير الألف وهما بمعنى واحد أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة الأمر وقال الزمخشري يدافع معناه يبالغ في الدفع عنهم لأنه للمبالغة وفعل المغالبة أقوى إن الله لا يحب كل خوان كفور الخوان مبالغة في خائن والكفور مبالغة في كافر قال الزمخشري هذه الآية عليه لما قبلها أذن للذين يقاتلون هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال ونسخت الموادعة مع الكفار وكان نزولها عند الهجرة وقرئ أذن بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله وبالفتح على البناء للفاعل وهو

(2/220)


الله تعالى والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه وقرىء يقاتلون بفتح التاء وكسرها بأنهم ظلموا أي بسبب أنهم ظلموا الذين أخرجوا من ديارهم يعني الصحابة فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم إلا أن يقولوا ربنا الله قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه وقال الزمخشري أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق ولولا دفع الله الناس الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه كأنه يقول لولا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين وقيل المعنى لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة والأول أليق بسياق الآية وقرىء دفاع بالألف مصدر دافع ... 436

(2/221)


43 وبغير ألف مصدر دفع لهدمت قرئ بالتخفيف والتشديد للمبالغة صوامع جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع العبادة وكانت للصابئين ولرهبان النصارى ثم سمي بها في الإسلام موضع الأذان والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى والصلوات كنائس اليهود وقيل هي مشتركة لكل أمة والمراد بها مواضع الصلوات والمساجد للمسلمين فالمعنى لولا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم يذكر فيها اسم الله الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات وقيل للمساجد خاصة ولينصرن الله من ينصره ) أي من ينصر دينه وأولياءه وهو وعد تضمن الحض على القتال الذين إن مكناهم الآية قيل يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الصحابة وقيل الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به وإن يكذبوك الآية ضمير الفاعل لقريش والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم نكير مصدر بمعنى الإنكار على عروشها العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها بئر معطلة أي لا يستقي الماء منها لهلاك أهلها وروي أن هذه البئر هي الرس وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود والأظهر أنه لم يرد التعيين لقوله كأين من قرية وهذا اللفظ يراد به التكثير وقصر مشيد أي مبني بالشيد وهو الجص وقيل المشيد المرفوع البنيان قلوب يعقلون دليل على أن العقل في القلب خلافا للفلاسفة في قولهم العقل في الدماغ فإنها لا تعمى الأبصار أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم فالمعنى الأول لقصد المبالغة والثاني خاص بهؤلاء القوم التي في

(2/222)


الصدور مبالغة كقوله يقولون بأفواههم
ويستعجلونك بالعذاب الضمير لكفار قريش ولن يخلف الله وعده إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب وسماه وعدا لأن المراد به مفهوم وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون المعنى أن يوما من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف ... 437
44 يوم وذلك خمسمائة سنة وقيل المعنى إن يوما واحدا من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب فإن أيام البؤس طويلة وإن كانت في الحقيقة قصيرة وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب إلا أن الأول أرجح لأن الألف سنة فيه حقيقة وقيل إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وكأين من قرية ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو وقال في الأولى فكأين لأنه بدل من قوله فكيف كان نكير سعوا في آياتنا أي سعوا فيها بالطعن عليها وهو من قولك سعى في الأمر إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده معاجزين بالألف أي مغالبين لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي عجزهم فصارت مفاعلة وقرىء بالتشديد من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه من رسول ولا نبي النبي أعم من الرسول فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فقدم الرسول لمناسبته لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة

(2/223)


ترتجى فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد واختلف في كيفية إلقاء الشيطان فقيل إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك وظن الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتكلم به لأنه قرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم هوالذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في التبليغ فمعنى الآية أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل تمنى بمعنى تلا والأمنية التلاوة أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته وقيل هو من التمني بمعنى حب الشيء وهذا المعنى أشهر في اللفظ أي تمنى النبي صلى الله عليه وسلم مقاربة قومه واستئلافهم وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يبطله كقولك نسخت الشمس الظل ليجعل متعلق بقوله ينسخ ويحكم للذين في قلوبهم مرض أي أهل الشك والقاسية ... 438

(2/224)


45 قلوبهم ) المكذبون وقيل الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار والقاسية قلوبهم أشد كفرا وعتوا كأبي جهل وإن الظالمين لفي شقاق بعيد يعني بالظالمين المذكورين قبل ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر ليقضي عليهم بالظلم والشقاق العداوة ووصفه ببعيد لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير الذين أوتوا العلم قيل يعني الصحابة واللفظ أعم من ذلك أنه الحق الضمير عائد على القرآن وقال الزمخشري هو لتمكين الشيطان من الإلقاء فتخبت أي تخشع في مرية منه الضمير للقرآن أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو للإلقاء يوم عقيم يعني يوم بدر ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم لأنهم يقتلون فيه وقيل هو يوم القيامة والساعة مقدماته ويقوي ذلك قوله الملك يومئذ لله ثم قسم الناس إلى قسمين أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم قتلوا أو ماتوا روي أن قوما قالوا يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات فما لمن مات معك فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معا ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت رزقا حسنا يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة أو رزق الشهداء في البرزخ والأول أرجح لأنه يعم الشهداء والموتى مدخلا يعني الجنة ذلك تقديره هنا الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر ومن عاقب بمثل ما عوقب به سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوزا كما تسمى العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه إن الله لعفو غفور إن قيل ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة فالجواب من وجهين أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة فكأنه حض على العفو والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو الله عن المعاقب حين عاقب ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى ذلك بأن الله يولج الليل أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر ومن آيات قدرته أنه

(2/225)


يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا وقيل الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو ... 439
46 بسبب أنه الحق فتصبح الأرض مخضرة تصبح هنا بمعنى تصير وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر فقال لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارة وأما على معنى تصير فذلك عام في كل بلد والفاء للعطف وليست بجواب ولو كانت جوابا لقوله ألم تر لنصبت الفعل وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود وإنما قال تصبح بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة سخر لكم ما في الأرض يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك أن تقع في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع وقال الزمخشري كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله إلا بإذنه يحتمل أن يريد يوم القيامة فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء أحياكم أي أوجدكم بعد العدم وعبر عن ذلك بالحياة لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح ثم أحياه بنفخ الروح ثم يميتكم يعني الموت المعروف ثم يحييكم يعني البعث لكفور أي جحود للنعمة منسكا هو اسم مصدر لقوله ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه فلا ينازعنك ضمير الفاعل للكفار والمعنى أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي وقيل إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ في الأمر أي في الدين والشريعة أو في الذبائح وادع إلى ربك أي ادع الناس إلى عبادة ربك وإن جادلوك الآية تقتضي موادعة منسوخة بالقتال إن ذلك في كتاب يعني اللوح المحفوظ والإشارة بذلك إلى معلومات الله إن ذلك على

(2/226)


الله يسير يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر ما لم ينزل به سلطانا يعني الأصنام والسلطان هنا الحجة والبرهان وما ليس لهم به علم قيل إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري فنفى أولا البرهان النظري ثم العلم الضروري وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معا تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها يسطون من السطوة ... 440

(2/227)


47 وهي سرعة البطش النار وعدها الله يحتمل أن تكون النار مبتدأ ووعدها الله خبرا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأن قائلا قال ما هو فقيل هو النار ويكون وعدها الله استئنافا وهذا أظهر ضرب مثل أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين لن يخلقوا ذبابا تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى والمعنى أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره فكيف تعبد من دون الله الذي خلق كل شيء ثم أوضح عجزهم بقوله ولو اجتمعوا له أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه وقد قيل إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك ضعف الطالب والمطلوب المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها وقيل الطالب الكفار والمطلوب الأصنام لأن الكفار يطلبون الخير منهم وما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق تعظيمه الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس رد على من أنكر أن يكون الرسول من البشر اركعوا واسجدوا في هذه الآية سجدة عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية واعبدوا ربكم عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود وإنما قدمها لأنها أهم العبادات وافعلوا الخير قيل المراد صلة الرحم وقال ابن عطية هي في الندب فيما عدا الواجبات واللفظ أعم من ذلك كله وجاهدوا في الله يحتمل أن يريد جهاد الكفار أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى أو العموم في ذلك حق جهاده قيل إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله ما استطعتم وفي ذلك نظر وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله اجتباكم أي اختاركم من بين الأمم من حرج

(2/228)


أي مشقة وأصل الحرج الضيق ملة أبيكم إبراهيم انتصب ملة بفعل مضمر تقديره أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة وقال الزمخشري انتصب بمضمون ما تقدم كأنه قال وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ثم حذف المضاف فإن قيل لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم فالجواب أنه أبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده ولذلك قرىء وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم هو سماكم الضمير لله تعالى ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة وفي هذا أي في القرآن وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى ... 441

(2/229)


48 قوله ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ومعنى من قبل على هذا من قبل وجودكم وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله وفي هذا مستأنفا أي وفي هذا البلاغ والقول الأول أرجح وأقل تكلفا ويدل عليه قراءة أبي بن كعب الله سماكم المسلمين شهيدا عليكم تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة فأقيموا الصلاة الظاهر أنها المكتوبة به لاقترانها مع الزكاة هو مولاكم معناه هنا وليكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك
سورة المؤمنون
الذين هم في صلاتهم خاشعون الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة المولى جل جلاله ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع وقد عد بعض الفقهاء الخشوع في فرائض الصلاة لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها وقد جاء في الحديث لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب فقد يحضر القلب ولا يخشع عن اللغو معرضون اللغو هنا الساقط من الكلام كالسب واللهو والكلام بما لا يعني وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعا ومعنى الإعراض عنه عدم الاستماع إليه والدخول فيه ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى للزكاة فاعلون أي مؤدون فإن قيل لم قال فاعلون ولم يقل مؤدون فالجواب أن الزكاة لها معنيان أحدهما الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال والآخر المقدار المخرج من المال كقولك هذه زكاة مالى والمراد هنا الفعل لقوله فاعلون ويصح المعنى الآخر على حذف تقديره هم لأداء الزكاة فاعلون على أزواجهم هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله غير ملومين أي لا يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله حافظون على أن يكون على بمعنى عن أو ما ملكت أيمانهم يعني النساء المملوكات قال الزمخشري إنما قال ما ملكت ولم يقل من لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء

(2/230)


وراء ذلك يعني ما سوى الزوجات والمملوكات لأماناتهم وعهدهم يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في دينه أو العموم والأمانة أعم من العهد ... 442
49 لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد متقدم راعون أي حافظون لها قائمون بها على صلواتهم يحافظون المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها فإن قيل كيف كرر ذكر الصلوات أولا وآخرا فالجواب أنه ليس بتكرار لأنه قد ذكر أولا الخشوع فيها وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة على ثبوت فعلهم لها الوارثون أي المستحقون للجنة فالميراث استعارة وقيل إن الله جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فيرث المؤمنون مساكن الكفار في الجنة الفردوس مدينة الجنة وهي جنة الأعناب وأعاد الضمير عليها مؤنثا على معنى الجنة ولقد خلقنا الإنسان اختلف هل يعني آدم أو جنس بني آدم من سلالة من طين السلالة هي ما يسل من الشيء أي ما يستخرج منه ولذلك قيل إنها الخلاصة والمراد بها هنا القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم فإن أراد بالإنسان آدم فالمعنى أنه خلق من تلك السلالة المأخوذة من الطين ولكن قوله بعد هذا ثم جعلناه نطفة لا بد أن يراد به بنو آدم فيكون الضمير يعود على غير من ذكر أولا ولكن يفسره سياق الكلام وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود الضمير عليه ويكون معنى خلقه من سلالة من طين أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته فأجمل ذكر الإنسان أولا ثم فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم وهي من طين وإلى الخلقة المختصة بذريته وهي النطفة فإن قيل ما الفرق بين من ومن فالجواب على ما قال الزمخشري أن الأولى للابتداء والثانية للبيان كقوله من الأوثان في قرار مكين يعني رحم الأم ومعنى مكين متمكن وذلك في الحقيقة من صفة النطفة المستقرة لا من صفة المحل

(2/231)


المستقر فيه ولكنه كقولك طريق سائر أي يسير الناس فيه وقد تقدم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج خلقا آخر قيل هو نفخ الروح فيه وقيل خروجه إلى الدنيا وقيل استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته فتبارك الله هو مشتق من البركة وقيل معناه تقدس أحسن الخالقين أي أحسن الخالقين خلقا فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه وفسر بعضهم الخالقين بالمقدرين فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله وإذ تخلق من الطين وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع والإيجاد من العدم فهذا هو الذي انفرد الله به سبع طرائق يعني السموات وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل وقيل يعني الأفلاك لأنها طرق للكواكب وما كنا عن الخلق غافلين يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين أو المصدر ... 443

(2/232)


50 ماء بقدر يعني المطر الذي ينزل من السماء فتكون منه العيون والأنهار في الأرض وقيل يعني أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة وسيحان ولا دليل على هذا التخصيص ومعنى بقدر بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه وشجرة تخرج من طور سيناء يعني الزيتون وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع وطور سيناء جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل أضافه إليه كقوله جبل أحد وقرئ بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم وقرئ بالكسر ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف لأن فعلاء بالكسر لا تكون ألفه للتأنيث وقيل معناه مبارك وقيل ذو شجرة ويلزم على ذلك صرفه تنبت بالدهن يعني الزيت وقرىء تنبت بفتح التاء فالمجرور على هذا في موضع الحال كقولك جاء زيد بسلاحه وقرئ بضم التاء وكسر الباء وفيه ثلاثة أوجه الأول أن أنبت بمعنى نبت والثاني حذف المفعول تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء وصبغ للآكلين الصبغ الغمس في الإدام في الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل لقوله وعليها وعلى الفلك تحملون وقد تقدم في النحل ذكر المنافع التي فيها وتذكيرها وتأنيثها ما هذا إلا بشر استبعدوا أن تكون النبوة لبشر فيا عجبا منهم إذ أثبتوا الربوبية لحجر يريد أن يتفضل أي يطلب الفضل والرياسة عليكم ما سمعنا بهذا أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله أو بمثل الكلام الذي قال لهم وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة به جنة أي جنون فانظر اختلاف قولهم فيه فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة وتارة إلى الجنون حتى حين أي إلى وقت لم يعينوه ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على قولهم أو وقت موته انصرني بما كذبون تضمن هذا دعاء عليهم لأن نصرته إنما هي بإهلاكهم وقد تقدم في هود تفسير بأعيننا ووحينا وفار

(2/233)


التنور ولا تخاطبني اسلك فيها ... 444
51 أي أدخل فيها وقد تقدم تفسير زوجين اثنين وإن كنا لمبتلين إن مخففة من الثقيلة ومبتلين اسم فاعل من ابتلى ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار أو إنزال البلاء قرنا آخرين قيل إنهم عاد ورسولهم هود لأنهم الذين يلون قوم نوح وقيل إنهم ثمود ورسولهم صالح وهذا أصح لقوله فأخذتهم الصيحة وثمود هم الذين أهلكوا بالصيحة وأما عاد فأهلكوا بالريح من قومه قدم هذا المجرور على قوله الذين كفروا لئلا يوهم أنه متصل بقوله الحياة الدنيا بخلاف قوله قال الملأ الذين كفروا من قومه في غير هذا الموضع أترفناهم أي نعمناهم بشر مثلكم يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبي من البشر أو قالوه أنفة من اتباع بشر مثلهم وكذلك قال قوم نوح أيعدكم استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أنكم مخرجون كرر أن تأكيدا للأولى ومخرجون خبر عن الأولى هيهات هيهات لما توعدون هذا من حكاية كلامهم وهيهات اسم فعل بمعنى بعد وقال الغزنوي هي للتأسف والتأوه ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان وتارة يجيء فاعله دون لام كقوله فهيهات هيهات العقيق وأهله وتارة يجيء باللام كهذه الآية قال الزجاج في تفسيره البعد لما توعدون فنزله منزلة المصدر قال الزمخشري وفيه وجه آخر وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا فوضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها نموت ونحيا أي يموت بعض ويولد بعض فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم إنكارهم البعث عما قليل ما زائدة وقيل صفة للزمان والتقدير عن زمان قليل يندمون فجعلناهم غثاء يعني هالكين كالغثاء والغثاء ما يحمله السيل من الورق وغيره مما يبلى ويسود فشبه به الهالكين فبعدا مصدر وضع موضع الفعل بمعنى بعدوا أي هلكوا

(2/234)


والعامل فيه مضمر لا يظهر تترا مصدر ووزنه فعلى ومعناه التواتر والتتابع وهو موضوع موضع الحال أي متواترين واحدا بعد واحد فمن قرأه بالتنوين فألفه للإلحاق ومن قرأه بغير تنوين فألفه للتأنيث فلم ينصرف وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة ... 445
52 وجعلناهم أحاديث أي يتحدث الناس بما جرى عليهم ويحتمل أن يكون جمع حديث أو جمع أحدوثة وهذا أليق لأنها تقال في الشر قوما عالين أي متكبرين وقومهما لنا عابدون أي حامدون متذللون لعلهم يهتدون الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون لأنهم هلكوا قبل إنزال التوراة وآويناهماإلى ربوة الربوة الموضع المرتفع من الأرض ويجوز فيها فتح الراء وضمها وكسرها واختلف في موضع هذه الربوة فقيل بيت المقدس وقيل بغوطة دمشق وقيل بفلسطين ذات قرار ومعين القرار المستوي من الأرض فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها الحرث والغراسة وقيل إن القرار هنا الثمار والحبوب والمعين الماء الجاري فقيل إنه مشتق من قولك معن الماء إذا كثر فالميم على هذا أصلية ووزنه فعيل وقيل إنه مشتق من العين فالميم زائدة ووزنه مفعول يا أيها الرسل هذا النداء ليس على ظاهره لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك وقيل الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد كلوا من الطيبات أي من الحلال فالأمر على هذا للوجوب أو من المستلذات فالأمر للإباحة وأن هذه أمتكم أمة واحدة قرىء إن بالكسر على الاستئناف وبالفتح على معنى لأن وهي متعلقة بقوله آخرا فاتقون وقيل تتعلق بفعل مضمر تقديره واعلموا والأمة هنا الدين وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره فتقطعوا أمرهم أي افترقوا واختلفوا والضمير لأمم الرسل المذكورين من اليهود والنصارى وغيرهم زبرا جمع زبور وهو الكتاب والمعنى أنهم افترقوا في اتباع

(2/235)


الكتب فاتبعت طائفة التوراة وطائفة الإنجيل وغير ذلك ووضعوا كتابا من عند أنفسهم فذرهم في غمرتهم الضمير لقريش والغمرة الجهل والضلال وأصلها من غمرة الماء حتى حين هنا يوم بدر أو يوم موتهم أيحسبون الآية رد عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم نسارع لهم هذا خبر أن والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به بل لا يشعرون أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم ففيه معنى التهديد يؤتون ما آتوا قيل معناه يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقيل إنه عام في جميع أفعال البر أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم ... 446

(2/236)


53 وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها قرأت يؤتون ما أتوا بالقصر فيحتمل أن يكون الحديث تفسيرا لهذه القراءة وقيل إنه عام في الحسنات والسيئات أي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله أنهم إلى ربهم راجعون أن في موضع المفعول من أجله أو في موضع المفعول بوجلت إذ هي في معنى خائفة أولئك يسارعون في الخيرات فيه معنيان أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات والآخرأنهم يتعجلون ثواب الخيرات وهذا مطابق للآية المتقدمة لأنه أثبت فيهم ما نفي عن الكفار من المسارعة وهم لها سابقون فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات وقيل معناه سبقت لهم السعادة في الأزل لا نكلف نفسا إلا وسعها يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع والطاقة وقد تقدم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة ولدينا كتاب يعني صحائف الأعمال ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم والحيف في غمرة من هذا أي في غفلة من الدين بجملته ومن القرآن وقيل من الكتاب المذكور وقيل من الأعمال التي وصف بها المؤمنون ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها فالمعنى أنهم يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة وإنما أشار إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر وقيل الإشارة إلى قوله من هذا أي لهم أعمال سيئة غير المشار إليه حسبما اختلف فيه هم لها عاملون قيل هي إخبار عن أعمالهم في الحال وقيل عن الاستقبال وقيل المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل حتى إذا أخذنا مترفيهم غاية لقوله عاملون مترفيهم أي أغنياؤهم وكبراؤهم إذا هم يجأرون أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد بالعذاب قتل المترفين يوم بدر فالضمير في يجأرون لسائر قريش أي صاحوا وناحوا على القتلى وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة فالضمير لجميعهم لا تجأروا اليوم

(2/237)


تقديره يقال لهم يوم العذاب
لا تجأروا ويحتمل أن يكون هذا القول حقيقة وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي ومعناه أن الجؤار لا ينفعهم على أعقابكم تنكصون أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن مستكبرين به قيل إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل إنه على الحرم وإن لم يذكر ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته وقيل إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتوا وتكبرا وقيل إنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذا متعلق بسامرا سامرا مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث وكانت قريش تجتمع بالليل في المسجد فيتحدثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلى الله عليه وسلم وسامرا مفرد بمعنى الجمع وهو منصوب ... 447

(2/238)


54 على الحال فمن جعل الضمير في به للنبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه تهجرون من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش من الكلام ومن قرأ بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو من قولك هجر المريض إذا هذى أي تقولون اللغو من القول أفلم يدبروا القول يعني القرآن وهذا توبيخ لهم أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين معناه أن النبوة ليست ببدع فينكرونها بل قد جاءت آباؤهم الأولين فقد كانت النبوة لنوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم أم لم يعرفوا رسولهم المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلا فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون أو غير ذلك من النقائص مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم وأنه عين الصواب ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض الاتباع هنا استعارة والحق هنا يراد به الصواب والأمر المستقيم فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواءهم من الشرك بالله واتباع الباطل لفسدت السموات والأرض كقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقيل إن الحق في الآية هو الله تعالى وهذا بعيد في المعنى وإنما حمله عليه أن جعل الاتباع حقيقة ولم يفهم فيه الاستعارة وإنما الحق هنا هو المذكور في قوله بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون بل أتيناهم بذكرهم يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم أو بفخرهم وشرفهم وهذا أظهر أم تسألهم خرجا الخرج هو الأجرة ويقال فيه خراج والمعنى واحد وقرىء بالوجهين في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجرا فيثقل عليهم اتباعك فخراج ربك خير أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم عن الصراط لناكبون أي عادلون ومعرضون عن الصراط المستقيم ولو رحمناهم

(2/239)


الآية قال الأكثرون نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضر الجوع والقحط لتمادوا على طغيانهم وفي هذا عندي نظر فإن الآية مكية باتفاق وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث وقيل المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وهذا القول لا يلزم عليه ما يلزم على الآخر ولكنه خرج عن معنى الآية ولقد أخذناهم بالعذاب قيل إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر والباب المتوعد به هو القحط وقيل الباب ذو العذاب الشديد عذاب الآخرة وهذا أرجح ولذلك وصفه بالشدة لأنه أشد من عذاب الدنيا وقال إذ هم فيه مبلسون أي ... 448

(2/240)


55 يائسون من الخير وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون فما استكانوا أي ما تذللوا لله عز وجل وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر آل عمران وما يتضرعون إن قيل هلا قال فما استكانوا وما تضرعوا أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال فالجواب أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى ونفى التضرع في الحال والاستقبال قليلا ما تشكرون ما زائدة وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا تشكرون وذكر السمع والبصر والأفئدة وهي القلوب لعظم المنافع التي فيها فيجب شكر خالقها ومن شكره توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة ذرأكم في الأرض أي نشركم فيها وله اختلاف الليل والنهار أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار بل قالوا مثل ما قال الأولون أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث وإليه الإشارة بقولهم لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا وقد ذكر الاستفهامان في الرعد وأساطير الأولين في الأنعام قل لمن الأرض ومن فيها هذه الآيات توقيف لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة سيقولون لله قرئ في الأول لله باللام بإجماع جوابا لقوله لمن الأرض وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث وذلك على المعنى لأن قوله من رب السموات في معنى لمن هي وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ ملكوت مصدر وفي بنائه مبالغة يجير ولا يجار عليه الإجارة المنع من الإهانة يقال أجرت فلانا على فلان إذا منعته من مضرته وإهانته فالمعنى أن الله تعالى يغيث من شاء ممن شاء ولا يغيث أحد منه أحدا فأنى تسحرون أي تخدعون عن الحق

(2/241)


والخادع لهم الشيطان وذلك تشبيه بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولا أفلا تذكرون ثم قال ثانيا أفلا تتقون وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف ثم قال ثالثا فأنى تسحرون وفيه ما التوبيخ من ليس في غيره وإنهم لكاذبون يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد ولذلك رد عليهم بنفي ذلك إذا لذهب كل إله بما خلق هذا برهان على ... 449
56 الوحدانية وبيانه أن يقال لو كان مع الله إلها آخر لانفرد كل واحد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر واستبد كل واحد منهما بملكه وطلب غلبة الآخر والعلو عليه كما ترى حال ملوك الدنيا ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة علمنا أن مالكه ومدبره واحد لا إله غيره وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره بل هو دليل آخر فإن قيل إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب فكيف دخلت هنا ولم يتقدم قبلها شرط ولا سؤال سائل فالجواب أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله وما كان معه من إله وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم عالم الغيب بالرفع خبر ابتداء وبالخفض صفة لله قل رب إما تريني ما يوعدون الآية معناه أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضي أن يرى ذلك وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار وإن شرطية وما زائدة وجواب الشرط فلا تجعلني وكرر قوله رب مبالغة في الدعاء والتضرع ادفع بالتي هي أحسن السيئة قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله والسيئة الشرك والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ وإنما نسخ ما يقتضيه من مسالمة الكفار من همزات الشياطين يعني نزغاته ووساوسه وقيل يعني الجنون واللفظ أعم من ذلك أن يحضرون معناه أن يكونوا معه وقيل يعني حضورهم عند الموت حتى إذا جاء أحدهم الموت قال

(2/242)


ابن عطية حتى هنا حرف ابتداء أي ليست غاية لما قبلها وقال الزمخشري حتى تتعلق بيصفون أي لا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت قال رب ارجعون يعني الرجوع إلى الدنيا وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم قال ذلك الزمخشري وغيره ومثله قول الشاعر ( ألا فارحمون يا آل محمد ) وقيل إنه نادى ربه ثم خاطب الملائكة فيما تركت قيل يعني فيما تركت من المال وقيل فيما تركت من الإيمان فهو كقوله أو كسبت في إيمانها خيرا والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا في الإيمان الذي تركه أول مرة كلا ردع له عما طلب إنها كلمة هو قائلها يعني قوله رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال أحدها أن يقولها هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله والثاني أن المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئا والثالث أن يكون المعنى أنه يقولها كاذبا فيها ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحا ومن ورائهم أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في قوله جاء أحدهم برزخ يعني المدة التي بين الموت والقيامة وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين
فلا أنساب بينهم المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة لاشتغال كل أحد بنفسه ... 450

(2/243)


57 كقوله يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه فتكون الأنساب كأنها معدومة ولا يتساءلون أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد بنفسه فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك فإن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف كثيرة تلفح وجوههم النار أي تصيبهم بالإحراق كالحون الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان وكثيرا ما يجري ذلك للكلاب وقد يجري للكباش إذا شويت رؤسها وفي الحديث إن شفة الكافر ترتفع في النار حتى تبلغ وسط رأسه وفي ذلك عذاب وتشويه غلبت علينا شقوتنا أي ما قدر عليهم من الشقاء وقرئ شقاوتنا والمعنى واحد قال اخسؤا كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إهانة وإبعاد ولا تكلمون أي لا تكلمون في رفع العذاب فحينئذ يياسون من ذلك أعاذنا الله من ذلك برحمته سخريا بضم السين من السخرة بمعنى التخديم وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء وقد يقال هذا بالضم وقرىء هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين على أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله وكنتم منهم تضحكون كم لبثتم في الأرض يعني في جوف الأرض أمواتا وقيل أحياء في الدنيا فأجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدون شيئا فاسأل العادين أي اسئل من يقدر على أن يعد وهو من عوفي مما ابتلوا به أو يعنون الملائكة إن لبثتم إلا قليلا معناه أنه قليل بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبدا عبثا أي باطلا والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب لا برهان له به أي لا حجة ولا دليل والجملة صفة لقوله إلها آخر وجواب الشرط فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون الضمير للأمر والشأن وانظر كيف افتتح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكافرين ليبين البون بين الفريقين والله أعلم ... 451

(2/244)


58 سورة النور
سورة أنزلناها السورة خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة وأنزلناها صفة للسورة وفرضناها أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرئ بالتشديد للمبالغة آيات بينات يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال وقيل معنى بينات هنا ليس فيها مشكل الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الزانية والزاني يراد بهما الجنس وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر فإنه كان منهن إماء وبغايا يجاهرن بذلك وإعراب الزاني والزانية كإعراب السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقد ذكر في المائدة وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة النساء من الإمساك في البيوت في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه فإن جلد المائدة إنما هو حد الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين فيخرج منها الكفار فيردون إلى أهل دينهم ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة فأما العبد والأمة فحدهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين وأما المحصنان الحران فحدهما الرجم هذا على مذهب مالك وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق ومنها باختلاف فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا أخذا بعموم الآية ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذ زنيا ورأى مالك أن يردوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى في سورة النساء واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه ولكن بقيت في محلها وأما العبد والأمة فرأى أهل

(2/245)


الظاهر أن حد الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وأن حد العبد الجلد مائة لعموم الآية وقال غيرهم يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة إذ لا فرق بينهما وأما المحصن فقال الجمهور حده الرجم فهو مخصوص في هذه الآية وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخا ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ فقيل الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقيل الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب يجلد المحصن بالآية ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدين ولم يجعلوا الآية منسوخة ولا مخصصة وقال الخوارج لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله ولا يعتد بقولهم وظاهر الآية الجلد دون تغريب وبذلك قال أبو حنيفة وقال مالك الجلد والتغريب سنة للحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب ... 452

(2/246)


59 عام ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ويجرد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص ولا تأخذكم بهما رأفة قيل يعني في إسقاط الحد أي أقيموه ولا بد وقيل في خفيف الضرب وقيل في الوجهين فعلى القول الأول يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح وهو مذهب مالك والشافعي وعلى القول الثاني والثالث يكون الضرب في الزنا أشد واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم واختلف في أقل ما يجزىء من الطائفة فقيل أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد وقيل عشرة وقيل اثنين وهو مشهور في مذهب مالك وقيل واحد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة وينكح على هذا بمعنى يجامع وقيل معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤا والأول هو الصحيح وحرم ذلك على المؤمنين الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل الإشارة إلى تزوج المؤمن غير الزاني بزانية فإن قوما منعوا أن يتزوجها وهذا على القول الثاني في الآية قبلها وهو بعيد وأجاز تزويجها مالك وغيره وروى عنه كراهته والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة هذا حد القذف وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من

(2/247)


قذف الرجال ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد وقيل إن المعنى يرمون الأنفس المحصنات فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والقاذف والمقذوف والشهادة في ذلك فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقا أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية خلافا لأبي حنيفة أو النفي من النسب ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافا للشافعي وأبي حنيفة وأما القاذف فيحد سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الآية وسواء كان حرا أو عبدا إلا أن العبد والأمة إنما يحدان أربعين عند الجمهور فنصفوا حدهما قياسا على تنصيفه في الزنا خلافا للظاهرية ولا يحد الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به والتمكن من الوطء تحرزا من المجبوب وشبهه فلا يحد عنده من قذف صبيا أو كافرا أو مجبوبا أو عبدا ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل يحد من قذف واحدا منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رمي به وأما الشهادة التي ... 453

(2/248)


60 تسقط حد القذف فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبدا أو كافرا ويشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمرود في المكحلة ويؤدون الشهادة مجتمعين إلا الذين تابوا تقدم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام وهي الحد ورد شهادة القاذف وتفسيقه فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق وأن ذلك يزول عنه بالتوبة واتفق على أنه لا يرجع إلى الحد وأنه لا يسقط عنه بالتوبة واختلف هل يرجع إلى رد الشهادة أم لا فقال مالك إذا تاب قبلت شهادته خلافا لأبي حنيفة وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقيل إكذاب نفسه والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك وسببها أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فسكت عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فأتني بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وموجب اللعان عند مالك شيئان أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني والآخر أن ينفي حملها ويدعي الاستبراء قبله فإا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام نفي حد القذف عنه وانتفاء سبب الولد منه ووجوب حد الزنا عليها إن لم تلاعن فإن تلاعنت سقط الحد عنها ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين أي يقول الزوج أربع مرات أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزني أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وزاد أشهب أن يقول أشهد بالله الذي لا إله إلا هو وانتصب أربع شهادات بالله على المصدرية والعامل

(2/249)


فيه شهادة أحدهم وقرئ بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم وقوله بالله وإنه لمن الصادقين من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين قرئ بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب وقرئ بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع وقرئ أن لعنة وأن غضب بتشديد أن ونصب اسمها وتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء
ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين العذاب هنا حد الزنا أي يدفعه التعان المرأة وهي أن تقول أربع مرات اشهد بالله ما زنيت وإنه في ذلك لمن الكاذبين ثم تقول في الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام دفع الحد عنها والتفريق بينها وبين زوجها وتأبيد الحرمة ولولا فضل الله جواب لو محذوف هنا ... 454

(2/250)


61 وفي الموضع الآخر تقديره لولا فضل الله عليكم لآخذكم أو نحو هذا إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم الإفك أشد الكذب ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ستة عشر آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها والكرامة لها والتشديد على من قذفها وقد خرج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما واختصاره أن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل فرآها فنزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وسأل جارية عائشة فقالت والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وخمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وقيل إن حسانا لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن واختار ابن عطية أن يكون عصبة بدلا من الضمير في جاؤا ويكون الخبر لا تحسبوه شرا لكم على تقدير إن حديث الذين جاؤا بالإفك والأول أظهر بل هو خير لكم خطاب المسلمين والخير في ذلك من خمسة أوجه تبرئة أم المؤمنين وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها والأجر الجزيل لها في الفرية عليها وموعظة المؤمنين والانتقام من المفترين والذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول

(2/251)


المنافق وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحد أو عذاب الآخرة لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا لولا هنا عرض والمعنى أنه كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم فإن كان ذلك يبعد في حقهم فهو في حق عائشة أبعد لفضلها وروى أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري فقال لزوجته أكنت أنت تفعلين ذلك قالت لا والله قال فعائشة أفضل منك قالت نعم فإن قيل لم قال سمعتموه بلفظ الخطاب ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله ظن المؤمنون ولم يقل ظننتم فالجواب أن ذلك التفات قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شرا لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء لولا هنا عرض والضمير في جاءوا لأهل الإفك ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء أفضتم فيه يقال أفاض في الحديث وخاض فيه إذا أكثر الكلام فيه إذ تلقونه بألسنتكم العامل في إذ قوله مسكم أو أفضتم ومعنى تلقونه يأخذه بعضكم من بعض وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم ... 455

(2/252)


62 في حديث الإفك وإن كانوا لم يصدقوه فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلية فعاتبهم على ثلاثة أشياء وهي تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه وأخذه من المسؤل والثاني قولهم ذلك والثالث أنهم حسبوه هينا وهو عند الله عظيم وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له ولولا أيضا في هذه الآية عرض وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما ولكنه فصل بينهما بقوله إذ سمعتموه لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه ومعنى ما يكون لنا ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال أهل الإفك وقال الزمخشري هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب بهتان عظيم البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال ما فيه أن تعودوا لمثله تقديره يعظكم كراهة أن تعودوا لمثله ثم عظم الأمر وأكده بقوله إن كنتم مؤمنين إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث الإفك ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم والعذاب في الدنيا الحد وأما عذاب الآخرة فقد ورد في الحديث أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في الآخرة فأشكل اجتماع الحد مع عذاب الآخرة في هذا الموضع فيحتمل أن يكون القاذف يعذب في الآخرة ولا يسقط الحد عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود أو يكون هذا مختصا بمن قذف عائشة فإنه روى عن ابن عباس أنه قال من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر

(2/253)


عائشة أو يكون لمن مات مصرا غير تائب أو يكون للمنافقين خطوات الشيطان ذكر في البقرة الفحشاء والمنكر ذكر في النحل زكى أي تطهر من الذنوب وصلح دينه ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى معنى يأتل يحلف فهو من قولك آليت إذا حلفت وقيل معناه يقصر فهو من قولك ... 456
63 ألوت أي قصرت ومنه لا يألونكم خبالا والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين أو الفضل في المال وهو أن يفضل له عن مقدار ما يكفيه والسعة هي اتساع المال ونزلت الآية بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح لما تكلم في حديث الإفك وكان ينفق عليه لمسكنته ولأنه قريبه وكان ابن بنت خالته فلما نزلت الآية رجع إلى مسطح النفقة والإحسان وكفر عن يمينه قال بعضهم هذه أرجى آية في القرآن لأن الله أوصى بالإحسان إلى القاذف ثم إن لفظ الآية على عمومه في أن لا يحلف أحد على ترك عمل صالح ألا تحبون أن يغفر الله لكم أي كما تحبون أن يغفر الله لكم كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم ولما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه إني لأحب أن يغفر الله لي ثم رد النفقة إلى مسطح المحصنات الغافلات معنى المحصنات هنا العفائف ذوات الصون ومعنى الغافلات السليمات الصدور فهو من الغفلة عن الشر لعنوا في الدنيا والآخرة هذا الوعيد للقاذفين لعائشة ولذلك لم يذكر فيه توبة قال ابن عباس كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل الوعيد لكل قاذف والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحد أو عذاب الآخرة يوم تشهد العامل فيه يوفيهم وكرر يومئذ توكيدا وقيل العامل فيه عذاب أو فعل مضمر دينهم الحق أي جزاؤهم الواجب لهم ويعلمون أن الله هو الحق المبين هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه الخبيثات للخبيثين الآية

(2/254)


معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ففي ذلك رد على أهل الإفك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات وقيل المعنى أن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس ففيه أيضا رد على أهل الإفك وقيل معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس والإشارة بذلك إلى أهل الإفك أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم أولئك مبرؤن مما يقولون الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات والخبيثين والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل فيعم بذلك بيوت الأقارب وغيرهم وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة أن يراها عريانة ومعنى تستأنسوا تستأذنوا وهو مأخوذ من قولك آنست الشيء إذا علمته فالاستئناس أن يستعلم هل يريد أهل الدار الدخول أم لا وقيل هو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة وقرأ ابن عباس حتى تستأذنوا والاستئذان واجب وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب واختلف ... 457

(2/255)


64 أيهما يقدم فقيل يقدم السلام ثم يستأذن فيقول السلام عليكم ثم يقول أأدخل وقيل يقدم الاستئذان لتقديمه في الآية وليس في الآية عدد الاستئذان وجاء في الحديث أن يستأذن ثلاث مرات وهو تفسير للآية ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون فأباحت هذه الآية دخولها بغير استئذان واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية فقيل هي الفنادق التي في الطرق ولا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل والمتاع على هذا التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك وقيل هي الخرب التي تدخل للبول والغائط والمتاع على هذا حاجة الإنسان وقيل هي حوانيت القيسارية والمتاع على هذا الثياب والبسط وشبهها وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب بإجماع قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم إعرابها كإعراب يقيموا الصلاة في إبراهيم وقد ذكر ومن أبصارهم للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل وقيل معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج بها ويمنع ما بعدها وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة وقيل هي لابتداء الغاية لأن البصر مفتاح القلب والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة أو إلى ما لا يحل من النساء أو إلى كتب الغير وشبه ذلك مما يستر وحفظ الفروج المأمور به هو عن الزنا وقيل أراد ستر العورة والأظهر أن الجميع مراد وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهمن تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة إجماعا واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا وعن سائر جسد المرأة أم لا فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه والكلام في حفظ فروج النساء كحفظ فروج الرجال ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها وهو ما لا بد

(2/256)


من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك فقيل إلا ما ظهر منها يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها وقيل الثياب والوجه والكفان وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة وزاد أبو حنيفة القدمين وليضربن بخمرهن على جيوبهن الجيوب هي التي يقول لها العامة أطواق وسببها أن النساء كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب يظهر منها صدورهن وكن إذا غطين رؤسهن بالأخمرة سدلها من وراء الظهر فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها فأمرهن الله بلي الأخمرة على الجيوب ليستر جميع ذلك ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن الآية المراد بالزينة هنا الباطنة فلما ... 458

(2/257)


65 ذكر في الآية قبلها ما أباح أن يراه غير ذوي المحرم من الزينة الظاهرة وذكر في هذه ما أباح أن يراه الزوج وذوي المحارم من الزينة الباطنة وبدأ بالبعولة وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا ثم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن مراتبهم تختلف بحسب القرب والمراد بالآباء كل من له ولادة من والد وجد وبالأبناء كل من عليه ولادة من ولد وولد ولد ولم يذكر في هذه الآية من ذوي المحارم العم والخال ومذهب جمهور العلماء جواز رؤيتهما للمرأة لأنهما من ذوي المحارم وكره ذلك قوم وقال الشافعي إنما لم يذكر العم والخال لئلا يصفا زينة المرأة لأولادهما أو نسائهن يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن ويخرج عن ذلك نساء الكفار أو ما ملكت أيمانهن يدخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال منع رؤيتهم لسيدتهم وهو قول الشافعي والجواز وهو قول ابن عباس وعائشة والجواز بشرط أن يكون العبد وغدا وهو مذهب مالك وإنما أخذ جوازه من قوله أو التابعين غير أولي الإربة واختلف هل يجوز أن يراها عبد زوجها وعبد الأجنبي أم لا على قولين أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال شرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطين أحدهما أن يكونا تابعين ومعناه أن يتبع لشيء يعطاه كالوكيل والمتصرف ولذلك قال بعضهم هو الذي يتبعك وهمته بطنه والآخر أن لا يكون لهم إربة في النساء كالخصي والمخنث والشيخ الهرم والأحمق فلا يجوز رؤيتهم للنساء إلا باجتماع الشرطين وقيل بأحدهما ومعنى الإربة الحاجة إلى الوطء
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء أراد بالطفل الجنس ولذلك وصفه بالجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم ويظهروا معناه يطلعون بالوطء على عورات النساء فمعناه الذين لم يطؤا النساء وقيل الذين لا يدرون ما عورات النساء وهذا أحسن ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن روي أن امرأة كان لها خلخالان

(2/258)


فكانت تضرب بهما ليسمعهما الرجال فنهى الله عز وجل عن ذلك قال الزجاج إسماع صوت الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وفرائضها ثلاثة الندم على الذنب من حيث عصى به ذو الجلال لا من حيث أضر ببدن أو مال والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجددا وآدابها ثلاثة الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار والإكثار من التضرع والاستغفار والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات ومراتبها سبع فتوبة الكفار من الكفر وتوبة المخلطين من الذنوب والكبائر وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من الفترات وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات وتوبة أهل الورع من الشبهات وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات والبواعث على التوبة سبعة خوف العقاب ورجاء الثواب والخجل ... 459

(2/259)


66 من الحساب ومحبة الحبيب ومراقبة الرقيب القريب وتعظيم بالمقام وشكر الإنعام وأنكحوا الأيامى منكم الأيامى جمع أيم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبات والخطاب هنا للأولياء والحكام أمرهم الله بتزويج الأيامى فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالإنكاح واشتراط الولاية فيه وهو مذهب مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة والصالحين من عبادكم وإمائكم يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم وقال الزمخشري الصالحين بمعنى الصلاح في الدين قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج عبيده على هذه الآية خلافا لمالك ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على النكاح خلافا للشافعي إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله ولذلك قال ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله أمر بالاستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن لا يقدر على التزوج فقوله لا يجدون نكاحا معناه لا يجدون استطاعة على التزوج بأي وجه تعذر التزوج وقيل معناه لا يجدون صداقا للنكاح والمعنى الأول أعم والثاني أليق بقوله حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة وهي مقاطعة العبد على مال منجم فإذا أداه خرج حرا وإن عجز بقي رقيقا وقيل إن الآية نزلت بسبب حويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة وهذا الأمر على الندب عند مالك والجمهور وقال الظاهرية وغيرهم هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ

(2/260)


أنس فقال له عمر لتكاتبنه أو لأوجعنك بالدرة وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها واختلف هل يجبر السيد عبده على الكتابة أم لا على قولين في المذهب إن علمتم فيهم خيرا الخير هنا القوة على أداء الكتابة بأي وجه كان وقيل هو المال الذي يؤدي منه كتابته من غير أن يسأل أموال الناس وقيل هو الصلاح في الدين وآتوهم من مال الله الذي آتاكم هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته واختلف فيمن المخاطب بذلك فقيل هو خطاب للناس أجمعين وقيل للولاة والأمر على هذين القولين للندب وقيل هو خطاب لسادات المكاتبين وهو على هذا القول ندب عند مالك ووجوب عند الشافعي فإن كان الأمر للناس فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم وإن كان للولاة فيعطوهم من الزكاة وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم وقيل يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحط فقيل الربع وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 460

(2/261)


67 وقيل الثلث وقال مالك والشافعي لا حد في ذلك بل أقل ما ينطلق عليه اسم شيء إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ولا يجبره مالك وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك وقيل في أول نجم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء معنى البغاء الزنا نهى الله المسلمين أن يجبروا مملوكاتهم على ذلك وسبب الآية أن عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق كان له جاريتان فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله إن أردن تحصنا هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا إذ لا يتصور إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف وقيل هو راجع إلى قوله وأنكحوا الأيامى وذلك بعيد لتبتغوا عرض الحياة الدنيا يعني ما تكسبه الأمة بفرجها وما تلده من الزنا ويتعلق لتبتغوا بقوله لا تكرهوا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا لأنهن أكرهن عليه ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك آيات مبينات بفتح الياء أي بينها الله وبالكسر مبينات للأحكام والحلال والحرام ومثلا يعني ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا لأنه كان حراما في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم
الله نور السموات والأرض
النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار ومجازا على المعاني التي تدرك بالقلوب والله ليس كمثله شيء فتأويل الآية الله ذو نور السموات والأرض ووصف نفسه بأنه نور كما تقول زيد كرم إذا أردت المبالغة في أنه كريم فإن أراد بالنور المدرك بالأبصار فمعنى نور السموات والأرض أنه خلق النور الذي فيهما من الشمس والقمر والنجوم أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء ومن هذا المعنى قرأ علي بن أبي طالب الله نور السموات والأرض بفتح

(2/262)


النون والواو والراء وتشديد الواو أي جعل فيهما النور وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب فمعنى نور السموات والأرض جاعل النور في قلوب أهل السموات والأرض ولهذا قال ابن عباس معناه هادي أهل السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه والأول أصح وأشهر والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإنارة وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه وقيل الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل على القرآن وقيل على المؤمن وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير فإن قيل كيف يصح أن يقال الله نور السموات والأرض فأخبر أنه هو النور ثم أضاف النور إليه في قوله مثل نوره والمضاف عين المضاف إليه فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السموات والأرض أو كما تقول زيد كرم ثم تقول ينعش الناس بكرمه ... 461

(2/263)


68 المصباح في زجاجة المصباح هو الفتيل بناره والمعنى أنه في قنديل من زجاج لأن الضوء فيه أزهر لأنه جسم شفاف الزجاجة كأنها كوكب دري شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب دري وذلك يحتمل معنيين إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء لصفائها ورقة جوهرها وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح والمراد بالكوكب الدري أحد الدراري المضيئة كالمشتري والزهرة وسهيل ونحوها وقيل أراد الزهرة ولا دليل على هذا التخصيص وقرأ نافع دري بضم الدال وتشديد الياء بغير همزة ولهذه القراءة وجهان إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه أو يكون مسهلا من الهمز وقرئ بالهمز وكسر الدال وبالهمز وضم الدال وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع يوقد من شجرة مباركة زيتونة من قرأ يوقد بالياء أو توقد بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسنج إلى الزجاجة والمعنى توقد من زيت شجرة مباركة ووصفها بالبركة لكثرة منافعها أو لأنها تنبت في الأرض المباركة وهي الشام لا شرقية ولا غربية قيل يعني أنها بالشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها وأجود الزيتون زيتون الشام وقيل هي منكشفة تصيبها الشمس طول النهار فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية بل هي غربية شرقية لأن الشمس تستدير عليها من الشرق والغرب وقيل إنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من الدوحة ولا في جهة الغرب وقيل إنها من شجرة الجنة ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار مبالغة في وصف صفاته وحسنه نور على نور يعني اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت والمراد بذلك كمال النور الممثل به يهدي الله لنوره من يشاء أي يوفق الله من يشاء لإصابة الحق في بيوت يعني المساجد وقيل بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن والأول أصح والجار يتعلق بما

(2/264)


قبله أي كمشكاة في بيوت أو توقد في بيوت وقيل بما بعده وهو يسبح وكرر الجار بعد ذلك تأكيدا وقيل بمحذوف أي سبحوا في بيوت أذن الله أن ترفع والمراد بالإذن الأمر ورفعها بناؤها وقيل تعظيمها بالغدو والآصال أي غدوة وعشية وقيل أراد الصبح والعصر وقيل صلاة الضحى والعصر رجال فاعل يسبح على القراءة بكسر الباء وأما على القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله أي لا تشغلهم ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها والبيع من التجارة ولكنه خصه بالذكر تجريدا كقوله فاكهة ونخل ورمان أو أراد بالتجارة الشراء تتقلب فيه القلوب والأبصار أي تضطرب ... 462

(2/265)


69 من شدة الهول والخوف وقيل تفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد العمى لأن الحقائق تنكشف حينئذ والأول أصح كقوله وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وفي قوله تتقلب فيه القلوب تجنيس ليجزيهم الله متعلق بما قبله أو بفعل من معنى ما قبله أحسن ما عملوا تقديره جزاء أحسن ماعملوا ويزيدهم من فضله يعني زيادة على ثواب أعمالهم بغير حساب ذكرفي البقرة والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال الكافرين الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة وأنها لا تنفعهم بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا وأنها في غاية الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض والسراب هو ما يرى في الفلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض والقيعة جمع قاع وهو المنبسط من الأرض وقيل بمعنى القاع وليس بجمع يحسبه الظمآن ماء الظمآن العطشان أي يظن العطشان أن السراب ماء فيأتيه ليشربه فإذا جاء خاب ما أمل وبطل ما ظن وكذلك الكافر يظن أن أعماله تنفعه فإذا كان يوم القيامة لم تنفعه فهي كالسراب حتى إذا جاءه ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله لم يجده شيئا أي شيئا ينتفع به أو شيئا موجودا على العموم لأنه معدوم ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله ووجد الله عنده ضمير الفاعل في وجد للكافر والضمير في عنده لعمله والمعنى وجد الله عنده بالجزاء أو وجد زبانية الله أو كظلمات هذا هو المثال الثاني وهو عطف على قوله كسراب والمشبه بالظلمات أعمال الكافر أي هم من الضلال والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة البحر تحت الموج تحت السحاب في بحر لجي منسوب إلى اللج وهو معظم الماء وذهب بعضهم إلى أن أجزاء هذا المثال

(2/266)


قوبلت به أجزاء الممثل به فالظلمات أعمال الكافر والبحر اللجي صدره والموج جهله والسحاب الغطاء الذي على قلبه وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف النور المذكور قبلها مبالغة إذا أخرج يده لم يكد يراها المعنى مبالغة في وصف الظلمة والضمير في أخرج وما بعده للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة واختلف في تأويل الكلام فقيل المعنى إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها فنفى الرؤية ومقاربتها وقيل بل رآها بعد عسر وشدة لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب وإذا أوجبت تقتضي النفي وقال ابن عطية إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها فأما إذا دخل حرف النفي على كاد كقوله لم يكد فإنه يحتمل النفي والإيجاب ومن لم يجعل الله له نورا أي من لم يهده الله لم يهتد فالنور كناية عن الهدى والإيمان في الدنيا وقيل أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله فلا رحمة له والأول أليق بما قبله ألم تر أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم وهو من العقلاء بالنطق وأما تسبيح الطير وغيرها مما لا يعقل فقال الجمهور إنه حقيقي ولا يبعد أن ... 463

(2/267)


70 يلهمها الله التسبيح كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا يهتدي إليها العقلاء وقيل تسبيحه ظهور الحكمة فيه صافات يصففن أجنحتهن في الهواء كل قد علم الضمير في علم لله أو لكل والضمير في صلاته وتسبيحه لكل يزجي معناه يسوق والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل كالسحاب ركاما متكاثف بعضه فوق بعض الودق المطر من خلاله أي من بينه وهو جمع خلل كجبل وجبال
وينزل من السماء من جبال فيها من برد قيل إن الجبال هنا حقيقة وأن الله جعل في السماء جبالا من برد وقيل إنه مجاز كقولك عند فلان جبال من مال أو علم أي هي في الكثرة كالجبال ومن في قوله من السماء لابتداء الغاية وفي قوله من جبال كذلك وهي بدل من الأولى وتكون للتبعيض فتكون مفعول ينزل ومن في قوله من برد لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل وقال الأخفش هي زائدة وذلك ضعيف وقوله فيها صفة للجبال والضمير يعود على السماء سنا برقه السنا بالقصر الضوء وبالمد المجد والشرف يقلب الله الليل والنهار أي يأتي بهذا بعد هذا خلق كل دابة يعني بني آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب من ماء يعني المني وقيل الماء الذي في الطين الذي خلق منه آدم وغيره على بطنه كالحيات والحوت ويقولون آمنا الآية نزلت في المنافقين وسببها أن رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ودعاه إلى كعب بن الأشرف مذعنين أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم أفي قلوبهم مرض توقيف يراد به التوبيخ وكذلك ما بعده أن يحيف معناه أن يجور والحيف الميل وأسنده إلى الله لأن الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه إنما كان قول المؤمنين الآية معناها إنما الواجب أن يقول المؤمنون سمعنا وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه ومن يطع الله ورسوله الآية قال

(2/268)


ابن عباس معناها من ... 464
71 يطع الله في فرائضه ورسوله في سنته ويخشى الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية وسمعها بعض بطارقة الروم فأسلم وقال إنها جمعت كل ما في التوراة والإنجيل وأقسموا أي حلفوا والضمير للمنافقين جهد أيمانهم أي بالغوا في اليمين وأكدوها ليخرجن يعني إلى الغزو قل لا تقسموا نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل طاعة معروفة مبتدأ وخبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم أو خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها عليه ما حمل يعني تبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة ليستخلفنهم في الأرض وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وقيل إن المراد بالآية خلافة أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة وانتهت الثلاثون إلى آخر خلافة علي فإن قيل أين القسم الذي جاء قوله ليستخلفنهم جوابا له فالجواب أنه محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم الرجال خاصة وقيل النساء خاصة لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء والذين لم يبلغوا الحلم يعني الأطفال غير البالغين ثلاث مرات نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن فمعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات وهي قبل الصبح وحين القائلة وسط النهار وبعد صلاة العشاء الأخيرة لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم وهذه الآية محكمة وقال ابن عباس ترك الناس العمل بها وحملها بعضهم على الندب تضعون ثيابكم يعني تتجردون الظهيرة وسط النهار ثلاث عورات جمع

(2/269)


عورة من الانكشاف كقوله بيوتنا عورة ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الأوقات ثلاث عورات لكم أي تنكشفون فيها ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدمة أي ليس عليكم ... 465
72 ولا على المماليك والأطفال جناح في ترك الاستئذان في غير المواطن الثلاثة طوافون عليكم تقديره المماليك والأطفال طوافون عليكم فلذلك يؤمر بالاستئذان في كل وقت بعضكم على بعض بدل من طوافون أي بعضكم يطوف على بعض وقال الزمخشري هو مبتدأ أي بعضكم يطوف على بعض أو فاعل بفعل مضمر وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا لما أمر الأطفال في الآية المتقدمة بالاستئذان في ثلاثة أوقات وأباح لهم الدخول بغير إذن في غيرها أمرهم هنا بالاستئذان في جميع الأوقات إذا بلغوا ولحقوا بالرجال والقواعد من النساء جمع قاعد وهي العجوز فقيل هي التي قعدت عن الولد وقيل التي قعدت عن التصرف وقيل التي إذا رأيتها استقذرتها فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يبح لغيرهن من وضع الثياب قال ابن مسعود إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء وقال بعضهم إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذوو محارمها غير متبرجات بزينة إنما أباح الله لهن وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار زينة والتبرج هو الظهور وأن يستعففن خير لهن المعنى أن الاستعفاف عن وضع الثياب المذكورة خير لهن من وضعها والأولى لهن أن يلتزمن ما يلتزم شباب النساء من الستر ليس على الأعمى حرج الآية اختلف في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية فقيل هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم عنه وقوله ولا على أنفسكم مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال ليس على هؤلاء الثلاثة حرج في ترك الغزو ولا عليكم حرج في الأكل وقيل الآية

(2/270)


كلها في معنى الأكل واختلف الذاهبون إلى ذلك فقيل إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل مع الناس لئلا يتقذرهم الناس فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس وقيل إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم وكانوا يتجنبون أكل مال الغائب فنزلت الآية في ذلك وقيل إن الناس كانوا يتجنبون الأكل معهم تقذرا فنزلت الآية وهذا ضعيف لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم وقيل إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من الجهاد وغيره ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أباح الله تعالى للإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في الآية فبدأ ببيت الرجل نفسه ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن لأنه دخل في قوله من بيوتكم لأن بيت ابن الرجل بيته لقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك واختلف العلماء فيما ذكر في هذه الآية من الأكل من بيوت القرابة فذهب قوم إلى أنه منسوخ وأنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه والناسخ قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ... 466

(2/271)


73 وقيل الآية محكمة ومعناها إباحة الأكل من بيوت القرابة إذا أذنوا في ذلك وقيل بإذن وبغير إذن أو ما ملكتم مفاتحه يعني الوكلاء والأجراء والعبيد الذين يمسكون مفاتح مخازن أموال ساداتهم فأباح لهم الأكل منها وقيل المراد ما ملك الإنسان من مفاتح نفسه وهذا ضعيف
أو صديقكم الصديق يقع على الواحد والجماعة كالعدو والمراد به هنا جمع ليناسب ما ذكر قبله من الجموع في قوله آبائكم وأمهاتكم وغير ذلك وقرن الله الصديق بالقرابة لقرب مودته وقال ابن عباس الصديق أوكد من القرابة ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد لأن بعض العرب كان لا يأكل وحده أبدا خيفة من البخل فأباح لهم الله ذلك فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم أي إذا دخلتم بيوتا مسكونة فسلموا على من فيها من الناس وإنما قال على أنفسكم بمعنى صنفكم كقوله ولا تلمزوا أنفسكم وقيل المعنى إذا دخلتم بيوتا خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقيل يعني بالبيوت المساجد والأمر بالسلام على من فيها فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين وإذا كانوا معه على أمر جامع الآية الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه أو للتعاون عليه ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان لبعض شأنهم أي لبعض حوائجهم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا في معناها ثلاثة أقوال الأول أن الدعاء هنا يراد به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمر جامع أو في قتال وشبه ذلك فالمعنى أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبة عليكم بخلاف إذا دعا بعضكم بعضا فهو كقوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ويقوي هذا القول

(2/272)


مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع والقول الثاني أن المعنى لا تدعوا الرسول عليه السلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضا باسمه بل قولوا يا رسول الله أو يا نبي الله تعظيما ودعاء بأشرف أسمائه وقيل المعنى لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم يجاب فاحذروه ولفظ الآية بعيد من هذا المعنى على أن المعنى صحيح قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا الذين ينصرفون عن حفر الخندق واللواذ الروغان والمخالفة وقيل الانصراف في خفية فليحذر الذين يخالفون عن أمره الضمير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واختلف في عن هنا ... 467

(2/273)


74 فقيل إنها زائدة وهذا ضعيف وقال ابن عطية معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح قال الزمخشري يقال خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه وخالفه عن الأمر إذا صد الناس عنه فمعنى يخالفون عن أمره يصدون الناس عنه فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف فتنة أو يصيبهم عذاب أليم الفتنة في الدنيا بالرزايا أو بالفضيحة أو القتل أو العذاب في الآخرة قد يعلم ما أنتم عليه دخلت قد للتأكيد وفي الكلام معنى الوعيد وقيل معناها التقليل على وجه التهكم والخطاب لجميع الخلق أو للمنافقين خاصة ويوم يرجعون إليه يعني المنافقين والعامل في الظرف بينهم
سورة الفرقان
تبارك من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق له بالمضارع على عبده يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك على وجه التشريف له والاختصاص ليكون للعالمين نذيرا الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو للقرآن والأول أظهر وقوله للعالمين عموم يشمل الجن والإنس ممن كان في عصره وممن يأتي بعده إلى يوم القيامة وتضمن صدر هذه السورة إثبات النبوة والتوحيد والرد على من خالف في ذلك فقدره تقديرا الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم والتقدير عبارة عن إتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوق بمقداره وصفته وزمانه ومكانه ومصلحته وأجله وغير ذلك واتخذوا الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى وأعانه عليه قوم آخرون يعنون قوما من اليهود منهم عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي فقد جاؤا ظلما وزورا أي ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما نسبوا إليه وكذبوا في ذلك عليه وقالوا أساطير الأولين أي ما سطره الأولون في كتبهم وكان الذي يقول هذه المقالة النضر بن الحارث اكتتبها أي كتبها له كاتب ثم صارت تملى عليه ليحفظها وهذا حكاية كلام الكفار وقال الحسن إنها من قول الله على وجه الرد عليهم ولو كان ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار ... 468

(2/274)


75 وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين قل أنزله الذي يعلم السر رد على الكفار في قولهم ويعني بالسر ما أسره الكفار من أقوالهم أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما افتريت عليه بل هو أنزله علي فإن قيل ما مناسبة قوله إنه كان غفورا رحيما لما قبله فالجواب أنه لما ذكر أقوال الكفار أعقبها بذلك لبيان أنه غفور رحيم في كونه لم يعجل عليهم بالعقوبة بل أمهلهم وإن أسلموا تاب عليهم وغفر لهم وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام الآية قال هذا الكلام قريش طعنا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عليهم بقوله وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقولهم هذا الرسول على وجه التهكم كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم أو يعنون الرسول بزعمه ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم لولا أنزل إليه ملك وما بعده ثم وصفهم بالظلم وقد ذكرنا معنى مسحورا في سبحان ضربوا لك الأمثال أي قالوا فيك تلك الأقوال فلا يستطيعون سبيلا أي لايقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم خيرا من ذلك الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار يعني جنات الآخرة وقصورها وقيل يعني جنات وقصورا في الدنيا ولذلك قال إن شاء إذا رأتهم أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو مجازا بمعنى صارت منهم بقدر ما يرى على البعد سمعوا لها تغيظا وزفيرا التغيظ لا يسمع وإنما المسموع وإنما المسموع أصوات دالة عليه ففي لفظه تجوز والزفير اول صوت الحمار مكانا ضيقا تضيق عليهم زيادة في عذابهم مقرنين أي مربوط بعضهم إلى بعض وروي أن ذلك بسلاسل من النار دعوا هنالك ثبورا الثبور الويل وقيل الهلاك ومعنى دعائهم ثبورا

(2/275)


أنهم يقولون يا ثبوراه كقول القائل واحسرتاه واأسفاه لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا تقديره يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك وإن لم يكن ثم قول وإنما دعوا ثبورا كثيرا لأن عذابهم دائم فالثبور يتجدد عليهم في كل حين قل أذلك خير أم جنة الخلد إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار لأن الكلام توقيف وتوبيخ وإنما ... 469
76 يمنع التفضيل بين شيئين ليس بينهما اشتراك في المعنى إذا كان الكلام خبرا وعدا مسئولا أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم وأدخلهم جنات عدن وقيل معناه وعدا واجب الوقوع لأنه حتمه فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء القائل لذلك هو الله عز وجل والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم وقيل الأصنام خاصة والأول أرجح لقوله ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أم هم ضلوا السبيل أم هنا معادلة لما قبلها والمعنى أن الله يقول يوم القيامة للمعبودين أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم باختيارهم ولم تضلوهم أنتم ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله هم ليتحقق إسناد الضلال إليهم فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء القائلون لهذا هم المعبودون قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم أنت ولينا من دونهم والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ وإقامة الحجة عليهم ولكن متعتهم وآباءهم معناه أن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته قوما بورا أي هالكين وهو من البوار وهو الهلاك واختلف هل هو جمع بائر أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة فقد كذبوكم بما تقولون هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي قد كذبكم آلهتكم التي عبدتم من دون الله وتبرؤا منكم وقيل هو خطاب للمعبودين أي كذبوكم

(2/276)


في هذه المقالة لما عبدوكم في الدنيا وقيل هو خطاب للمسلمين أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من التوحيد والشريعة وقرىء بما يقولون بالياء من أسفل والباء في قوله بما تقولون على القراءة بالتاء بدل من الضمير في كذبوكم وعلى القراءة بالياء كقولك كتبت بالقلم أو كذبوكم بقولهم فما يستطيعون صرفا ولا نصرا قرىء فما تستطيعون بالتاء فوق ويحتمل على هذا أن يكون الخطاب للمشركين أو للمعبودين والصرف على هذين الوجهين صرف العذاب عنهم أو يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب وقرىء بالياء وهو مسند إلى المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب ومن يظلم منكم خطاب للكفار وقيل للمؤمنين وقيل على العموم وما أرسلنا قبلك من المرسلين تقديره وما أرسلنا رسلا أو رجالا قبلك وعلى هذا المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله إلا أنهم ليأكلون الطعام وهذه الآية رد على الكفار في استبعادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم فالغنى فتنة للفقير ... 470

(2/277)


77 والصحيح فتنة للمريض والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به أتصبرون تقديره لننظر هل تصبرون لا يرجون لقاءنا قيل معناه لا يخافون والصحيح أنه على بابه لأن لقاء الله يرجى ويخاف لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله وحينئذ يؤمنون فرد الله عليهم بقوله لقد استكبروا الآية أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه وقوله في أنفسهم كما تقول فلان عظيم في نفسه أي عند نفسه أو بمعنى أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين لما طلبوا رؤية الملائكة أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم يرونهم فالعامل في يوم معنى لا بشرى ويومئذ بدل ويقولون حجرا محجورا الضمير في يقولون إن كان للملائكة فالمعنى أنهم يقولون للمجرمين حجرا محجورا أي حرام عليكم الجنة أو البشرى وإن كان الضمير للمجرمين فالمعنى أنهم يقولون حجرا بمعنى عوذا لأن العرب كانت تتعوذ بهذه الكلمة مما تكره وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله وقدمنا إلى ما عملوا أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز وقيل هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره فجعلناه هباء منثورا عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة والمنثور المتفرق خير مستقرا جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار لأن هذا مستقر وهذا مستقر وأحسن مقيلا هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة وقيل إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويوم تشقق السماء بالغمام هو يوم القيامة وانشقاق

(2/278)


السماء انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام وهو السحاب الرقيق الأبيض وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض ويوم يعض الظالم على يديه عض اليدين كناية عن الندم والحسرة والظالم هنا عقبة بن أبي معيط وقيل كل ظالم والظلم هنا الكفر مع الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم أو اسم جنس على العموم ليتني لم أتخذ فلانا خليلا روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبي بن خلف وأمية بن خلف فهو فلان وقيل إن عقبة نهى أبي بن خلف عن الإسلام فالظالم على هذا أبي وفلان عقبة وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل ... 471

(2/279)


78 كافر
وكان الشيطان للإنسان خذولا يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور وقال الرسول قيل إن هذا حكاية قوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وقيل في الآخرة مهجورا من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل من الهجر بضم الهاء أي قالوا فيه الهجر حين قالوا إنه شعر وسحر والأول أظهر وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا العدو هنا جمع والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء وكفى بربك هاديا ونصيرا وعد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالهدى والنصرة وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة هذا من اعتراضات قريش لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل كذلك لنثبت به فؤادك هذا جواب لهم تقديره أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم لحفظه ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ فحفظ المفرق عليه أسهل وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه وأيضا منه ناسخ ومنسوخ ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة ورتلناه ترتيلا أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت ولا يأتونك بمثل الآية معناها لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا إلا أتيناك في جوابه بالحق والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم الذين يحشرون على وجوههم يعني الكفار وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث قيل يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه شر مكانا يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في الآخرة وزيرا معينا إلى القوم يعني فرعون وقومه وفي الكلام

(2/280)


حذف تقديره فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم كذبوا الرسل تأويله كما ذكر في قوله في هود فعصوا رسله وأعتدنا للظالمين يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم أو يريد الظالمين على العموم وأصحاب الرس معنى الرس في اللغة البئر واختلف في أصحاب الرس فقيل هم من بقية ثمود وقيل من أهل اليمامة وقيل من أهل أنطاكية وهم أصحاب يس واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبيا فرموه في بئر فأهلكهم الله وقيل كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا وقرونا بين ذلك كثيرا يقتضي التكثير ... 472

(2/281)


79 والإبهام والإشارة بذلك إلى المذكور قبل من الأمم ضربنا له الأمثال أي بينا له تبرنا أي أهلكنا ولقد أتوا على القرية الضمير في أتوا لقريش وغيرهم من الكفار والقرية قرية قوم لوط ومطر السوء الحجارة ثم وقفهم على رؤيتهم لها لأنها في طريقهم إلى الشام ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم بالنشور ويرجون كقوله يرجون لقاءنا وقد ذكر أهذا الذي حكاية قولهم على وجه الاستهزاء فالجملة في موضع مفعول لقول محذوف يدل عليه هذا وقوله إن كاد ليضلنا استئناف جملة أخرى وتم كلامهم واستأنف كلام الله تعالى في قوله وسوف يعلمون الآية على وجه التهديد لهم اتخذ إلهه هواه أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله بل هم أضل لأن الأنعام ليس لها عقول وهؤلاء لهم عقول ضيعوها ولأن الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب ولا يخافون أضر الأشياء وهو العقاب ألم تر إلى ربك أي إلى صنع ربك وقدرته مد الظل قيل مدة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل ولا يقال ظل بالليل واختار أن مد الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير وقيل معنى مد الظل أي جعله يمتد وينبسط ولو شاء لجعله ساكنا أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس وقيل معنى ساكن غير منبسط على الأرض بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها ثم جعلنا الشمس عليه دليلا قيل معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض ومتى يزول عن مكان إلى آخر فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه وقيل معناه لولا الشمس لم يعرف أن الظل شيء لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا قبضه نسخه وإزالته بالشمس ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا دفعة واحدة فإن قيل ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة فالجواب

(2/282)


أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة وأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم من الثاني الليل لباسا شبه ظلام الليل باللباس لأنه يستر كل شيء كاللباس والنوم سباتا قيل راحة وقيل موتا لقوله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ويدل عليه مقابلته بالنشور الرياح بشرا ذكر في الأعراف ماء طهورا مبالغة في طاهر وقيل معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره وبهذا المعنى يقول الفقهاء ماءا طهورا أي مطهر وكل مطهر طاهر وليس كل ... 473

(2/283)


80 طاهر مطهر أناسي قيل جمع إنسي وقيل جمع إنسان والأول أصح ولقد صرفناه الضمير للقرآن وقيل للمطر وهو بعيد ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر وجاهدهم به الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم مرج البحرين اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح قال ابن عباس أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض والبحر العذب الفرات بحر السحاب وقيل البحر الملح البحر المعروف والبحر العذب مياه الأرض وقيل البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون ومعنى العذب البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والأجاج نقيضه واختلف في معنى مرجهما فقيل جعلهما متجاورين متلاصقين وقيل أسال أحدهما في الآخر وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان وقيل البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر خلق من الماء بشرا إن أراد بالبشر آدم فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع التراب فصار طينا وإن أراد بالبشر بني آدم فالمراد بالماء المني الذي يخلقون منه فجعله نسبا وصهرا النسب والصهر يعمان كل قربى أي كل قرابة والنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أم قرب ذلك أو بعد والصهر هو الاختلاط بالنكاح وقيل أراد بالنسب الذكور أي ذوي نسب ينتسب إليهم وأراد بالصهر الإناث أي ذوات صهر يصاهر بهن وهو كقوله فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى وكان الكافر على ربه ظهيرا الكافر هنا الجنس وقيل المراد أبو جهل والظهير المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك ولفظه يقع للواحد والجماعة كقوله والملائكة بعد ذلك ظهير قل ما أسئلكم عليه من أجر أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة

(2/284)


إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا معناه إنما أسئلكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالتقرب إليه وعبادته فالاستثناء منقطع وقيل المعنى أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالصدقة فالاستثناء على هذا متصل والأول أظهر وفي الكلام محذوف تقديره إلا سؤال من شاء وشبه ذلك وتوكل على الحي الذي لا يموت قرأ هذه الآية بعض السلف فقال لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت وسبح بحمده أي قل سبحان الله وبحمده والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به ومعنى بحمده أي بحمده أقول ذلك ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا بحمده فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد وكفى به بذنوب ... 474

(2/285)


81 عباده خبيرا ) يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع علمه بذنوبهم أو بكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم استوى على العرش ذكر في الأعراف الرحمن خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في استوى فاسأل به خبيرا فيه معنيان أحدهما وهو الأظهر أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به وانتصب خبيرا على المفعولية وهذا الخبير المسؤل هو جبريل عليه السلام والعلماء وأهل الكتاب والباء في قوله به يحتمل أن تتعلق بخبيرا أو تتعلق بالسؤال ويكون معناها على هذا معنى عن والمعنى الثاني أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء فانتصب خبيرا على الحال وهو كقولك لو رأيت فلانا رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته أسدا قالوا وما الرحمن لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش وقالوا لا نعرف الرحمن وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن فقالوا على وجه المغالطة إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة أنسجد لما تأمرنا تقديره لما تأمرنا أن نسجد له وزادهم نفورا الضمير المفعول في زادهم يعود على المقول وهو اسجدوا للرحمن بروجا يعني المنازل الاثنى عشر وقيل الكواكب العظام سراجا يعني الشمس وقرئ بضم السين والراء على الجمع يعني جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا جعل الليل والنهار خلفة أي يخلف هذا هذا وقيل هو من الاختلاف لأن هذا أبيض وهذا أسود والخلفة اسم الهيئة كالركبة والجلسة والأصل جعلهما ذوي خلفة لمن أراد أن يذكر قيل معناه يعتبر في المصنوعات وقيل معناه يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره بالليل وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما وعباد الرحمن أي عباده المرضيون عنده فالعبودية هنا للتشريف والكرامة وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون أو قوله في آخر السورة أولئك يجزون الغرفة الذين يمشون على الأرض

(2/286)


هونا أي رفقا ولينا بحلم ووقار ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم قالوا سلاما أي قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق وقيل معناه قالوا للجاهل سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف وإنما يصح النسخ في حق الكفار وأما الإغضاء عن السفهاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ إن عذابها وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عز وجل كان غراما أي هلاكا وخسرانا وقيل ملازما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الاقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الاسراف فنهى عن الطرفين وأمر بالتوسط بينهما ... 475

(2/287)


82 وهو القوام وذلك في الإنفاق في المباحات وفي الطاعات وأما الإنفاق في المعاصي فهو إسراف وإن قل ومن يفعل ذلك يلق أثاما أي عقابا وقيل الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام وقيل الأثام واد في جهنم والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا ويخلد فيه مهانا قيل نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع فكأنه قال الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا وقيل نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون فأما على مذهب المعتزلة فالخلود على بابه وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة إلا من تاب إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها لأن الكافر إذا أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا وإن قلنا إنها في المؤمنين فلا خلاف أن التوبة من الزنا تصح واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا
يبدل الله سيئاتهم حسنات
قيل يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلا عما عملوا من السيئات وقيل إن هذا التبديل في الآخرة أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات يتوب إلى الله متابا أي متابا مقبولا مرضيا عند الله كما تقول لقد قلت يا فلان قولا أي قولا حسنا لا يشهدون الزور أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة وقيل معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو فهو على هذا من المشاهدة والحضور والأول أظهر وإذا مروا باللغو مروا كراما اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه ومعنى مروا كراما أي أعرضوا عنه واستحيوا ولم يدخلوا مع أهله تنزيها لأنفسهم عن ذلك لم يخروا عليها صما وعميانا أي لم يعرضوا عن آيات الله بل أقبلوا عليها بأسماعهم وقلوبهم فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها قرة أعين قيل معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك وقيل أدخلهم معنا الجنة واللفظ أعم من ذلك واجعلنا للمتقين إماما أي قدوة يقتدي بنا المتقون فإمام مفرد يراد به الجنس وقيل هو جمع آم أي

(2/288)


متبع الغرفة يعني غرفة الجنة فهي اسم جنس قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال الأول أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لولا عبادتكم له فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الثاني أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال والمعنى لا يبالي الله بكم ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا ... 476

(2/289)


83 لجميع الناس من المؤمنين والكافرين لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه أو خطابا للمؤمنين خاصة لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه ولكن يضعف هذا بقوله فقد كذبتم الثالث أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا ما يعبأ بكم ربي لولا أن يدعوكم إلى دينه والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين وهو مصدر مضاف إلى المفعول وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل فقد كذبتم هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين فسوف يكون لزاما أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر أو عذاب الآخرة
سورة الشعراء
طسم تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويخص هذا أنه قيل الطاء من ذي الطول والسين من السميع أو السلام والميم من الرحيم أو المنعم باخع ذكر في الكهف فظلت أعناقهم لها خاضعين الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء وقيل الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم رؤس وصدور وقيل هم الجماعات من الناس فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل محدث يعني به محدث الإتيان فسيأتيهم الآية تهديد من كل زوج أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه والأدوية والمرعى ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع إن في ذلك لآية الإشارة إلى ما تقدم من النبات وإنما ذكره بلفظ الإفراد لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله أنبتنا ويضيق صدري بالرفع عطف على أخاف أو استئناف وقرىء بالنصب عطفا على يكذبون فأرسل إلى هارون أي اجعله معي رسولا أستعين به ولهم على ذنب يعني قتله للقبطي قال كلا أي لا تخف أن يقتلوك إنا معكم خطاب لموسى ... 477 . 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.وج4.مشكاة المصابيح - التبريزي{ من 3864 الي6285}

  3. مشكاة المصابيح - التبريزي 3864 - [ 4 ] ( صحيح ) وعن سلمة بن الأكوع قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضل...