الأحد، 28 أغسطس 2022

ثانيا ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

 

ثانيا ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني
فصل في المرسل
قال أبو محمد: المرسل من الحديث، هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي ﷺ ناقل واحد فصاعداً، وهو المنقطع أيضاً.
وهو غير مقبول، ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول، وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله، وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك. إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره، وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل، وقد وثق سفيان جابراً الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف، ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه، ومرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري، وغيرهما سواء، لا يؤخذ منه بشيء، وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول، أن الحسن البصري كان إذا حدَّثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله.
قال: فهو أقوى من المسند. قال أبو محمد: وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن، وحسبك بالمرء سقوطاً أن يضعف قولاً يعتقده ويعمل به، ويقوي قولاً يتركه ويرفضه، وقد توجه عن رسول الله ﷺ رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله ﷺ أمره أن يعرس بامرأة منهم، فأرسلوا إلى النبي ﷺ من أخبره بذلك فوجه رسول الله ﷺ إليه رسولاً وأمر بقتله إن وجده حياً، فوجده قد مات.
فهذا كما ترى قد كذب على النبي ﷺ وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون.
فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله إلا حتى يسميه، ويكون معلوماً بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى. قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وقد ارتد قوم ممن صحب النبي ﷺ عن الإسلام كعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس، والرجال، وعبد الله بن أبي سرح. قال علي: ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم، فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين: إما أنه لا يعرف من هو، ولا عرف صحة دعواه الصحبة، أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الملك، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وكان خالد ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، ومِيثَرة الأرجوان، وصوم رجب كله، فأنكر ابن عمر أن يكون حرّم شيئاً من ذلك. فهذه أسماء وهي صحابية، من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم، قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك، فصح كذب ذلك المخبر، وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله نحو ذلك، فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه، وعرفت عدالته وحفظه. قال أبو محمد: والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب مالك، وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه، وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة، ولم يعيبوه إلا بالإرسال، وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم، وقد رواه أيضاً الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلاً، وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي ﷺ صلَّى في مرضه الذي مات فيه بالناس جالساً والناس قيام، وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي فرض زكاة الفطر مُدَّين من بُرَ على كل إنسان، مكان صاع من شعير، وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر، وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضاً وابن عباس، وذكر ابن عمر أنه عمل الناس، فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلاً، وأنه صحبه العمل عندهم، فترك ذلك أصحاب مالك. فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه؟ وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها؟.
وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب، عن النبي في ألا يباع الحيوان باللحم، وهو أيضاً فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ومثل هذا كثير جداً، ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك، وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده، وأمد بفسحة من العمر.
فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل، أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل، ثم تركوه في غير تلك المسائل، وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق، ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى، وسنبين من ذلك كثيراً إن شاء الله تعالى.
ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى.
أخبرني أحمد بن عمر العذري/ حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه، ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد، عن زيد بن أبي أنيسة: أن رجلاً أجنب فغسل فمات، فقال النبي ﷺ : «لَو يَمَّمُوهُ، قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله» .
قال النعمان: فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي ﷺ فقلت: من حدثك؟ قال: أنت حدثتني ، عمن تحدثه؟ قلت: عن رجل من أهل الكوفة، قال: أفسدته، في حديث أهل الكوفة دغل كثير. وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال: قال معاذ، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة كان النبي ﷺ لا يصلي في شعرنا. قال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، قلت لمحمد بن سيرين: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته، ولا أدري أثبت أم لا، فسلوا عنه. وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال: قال يحيى بن سعيد القطان: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إليَّ من الثوري عن إبراهيم. لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى: كلاهما عندي شبه الريح. قال أبو محمد: فإذا كان الزهري، ومحمد بن سيرين، وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة، في مراسليهم ما ترى، فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلاً، ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه، وبالله تعالى التوفيق. ///
قال أبو محمد: السنن تنقسم ثلاثة أقسام:
قول من النبي ﷺ
أو فعل منه ﷺ
أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره .
فحكم أوامره ﷺ الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز وجل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب ، أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله ﷺ الائتساء به فيه، وليس واجباً إلا أن يكون تنفيذاً لحكم، أو بياناً لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله ﷺ من هذا الكتاب، وأما إقراره ﷺ على ما علم وترك إنكاره إياه، فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط، وغير موجب له، ولا نادب إليه، لأن الله عز وجل افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه ﷺ علم منكراً فلم ينكره، فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى ، وكذبه في قوله ﷺ : «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» فقال الناس: نعم، فقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» قال ذلك في حجة الوداع.
فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي ﷺ على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله ﷺ فلا حجة علينا في هذا، لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله ﷺ شاكاً في أمره، أهو الدجال أم لا ؟
بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه: دعني يا رسول الله ﷺ أضرب عنقه، فقال ﷺ : «إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» أو نحو ذلك من الكلام، فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثاً ولا آثماً، إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه، فهذا الحديث حجة لنا، وليس فيه أيضاً أن النبي ﷺ صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكناً، والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكراً، فيلزم رسول الله ﷺ تغييره. قال أبو محمد: وأما من قال: إن أفعاله ﷺ على الوجوب، فقوله ساقط ، لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله ﷺ بل قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }
وإنما أنكر ﷺ على تنزه أن يفعل مثل فعله ﷺ وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهاراً وهو صائم، أو تنزه أن يمشي حافياً حاسراً زارياً على من فعل ذلك، وأما من ترك أن يفعل مثل فعله ﷺ لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله ﷺ قط، وهذا التارك للائتساء به غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم، والمؤتسي به ﷺ محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زارياً على محمد ﷺ فهو كافر، وما نعلم لمن صحح عنه فعلاً ثم رغب عنه وجهاً ينجو به من الشرك، إلا أن يتعلق بفعل له ﷺ آخر، أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه، فإن تعلق بأنه خصوص له ، فهو أحد الكاذبين الفساق، ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع. قال أبو محمد: وأما من ادعى أن أفعال رسول الله ﷺ فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جداً، وأتى بما لا برهان له على صحته، وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة، لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه، وأيضاً فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل، ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله ﷺ ، وأن يجعل رجليه حيث جعلهما ﷺ وأن يصلي حيث صلى ﷺ وأن يصوم فرضاً الأيام التي كان يصومها ﷺ ، وأن يجلس حيث جلس، وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها ﷺ ، وأن يحرم الأكل متكئاً وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوماً ثلاثاً تباعاً ، وأن يوجب فرضاً أكل الدُّبَّاء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم ، مع أن هذا يخرج إلى المحال، وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه ﷺ .
فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله ﷺ واجبة علينا، إذ لم يأت على ذلك دليل، بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي ذكرنا، وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه: «هذا لك» أنه غير واجب قبوله، بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه، وأن ما جاء بلفظ: «عليك كذا» فهذا هو الملزم لنا، ولا بد فلما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } كنا مندوبين إلى ذلك، وكنا مباحاً لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به، لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعاً، فليس آثماً بذلك ولو صلى تطوعاً لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغباً عنها في الوقت المباح فيه التطوع، فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف، لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن. قال أبو محمد: وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك، على أنهم أترك خلق الله تعالى لأفعال رسول الله ﷺ ، فمن ذلك أنه ﷺ جلد في الخمر أربعين ، وهم يجلدون ثمانين وودى حضريّاً وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل، فقالوا هم : لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة. وصلى على قبر ، فقالوا هم: لا نفعل ذلك ، وصلى على غائب، فقالوا هم: لا نرى ذلك ، وقبّل وهو صائم. فقالوا هم: نكره ذلك، وصلى ﷺ حاملاً أمامة، فقالوا نكره ذلك، وصلى ﷺ جالساً والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم.
فقالوا: لا يجوز ذلك، ومن صلى كذلك بطلت صلاته، في كثير جداً اقتصرنا منه على ما ذكرنا.
وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له ﷺ ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله ﷺ ، ومن تعرض لغضبه ﷺ فقد تعرض لغضب الله عز وجل، فقد غضب ﷺ غضباً شديداً حين سأله الأنصاري عن قُبْلة الصائم: فأخبر ﷺ أنه يفعل ذلك، فقال القائل: لست مثلنا يا رسول الله ﷺ ، أنت قد غفر لك ذنبك ، فغضب رسول الله ﷺ حينئذ غضباً شديداً وأنكر هذا القول، فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز وجل، وغضب رسوله ﷺ في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره، ولا يغني عنه من الله تعالى شيئاً. قال أبو محمد: واحتجوا في تخصيص القُبْلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها: وأيكم أملك لإربه من رسول الله ﷺ .
قال أبو محمد: وهذا القول منها، رضي الله عنها، أعظم الحجة عليهم، لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا، وإنما قالته إنكاراً على من استعظم القُبْلة للصائم. فأخبرهم أنه ﷺ كان أورع منهم، وأملك لإربه، ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم، فكيف أنتم.
ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان:
أحدهما: أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه ﷺ كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها، وأيكم أملك لإربه من رسول الله ﷺ ، فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض، لقول عائشة، وأيكم أملك لإربه كما قالت في قُبْلة الصائم سواء بسواء.
والثاني: أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان: ألا تُقبِّل زوجتك وتلاعبها؟ تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل جواري أهل زمانها قاطبة، فقال: إني صائم. فقالت لقد كان رسول الله ﷺ يقبِّل وهو صائم، فهي دأباً تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء، اقتداء برسول الله ﷺ وائتساء به.
وهذا هو قولنا لا قولهم، ففعلوا ما ترى فيما أخبر ﷺ أنه عموم، وغضب على من ادعى أنه خصوص ، ثم أتوا إلى ما أخبر ﷺ أنه خصوص له دون سائر الناس ، وهو قتله بمكة من قتل الكفار، وخطب ﷺ الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دماً، ثم لم يقنع ﷺ بذلك، حتى قال في خطبته تلك : «وإنْ أحدَ تَرَخَّصَ لقتالِ رسول الله فيها فَقُولوا: إِنَ الله أحَلَّهَا لنبيهِ ولمْ يُحِلَّها لَكُمْ، وإنما أحلّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِها بِالأمسِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» أو كلاماً هذا معناه، فقالوا: هذا عموم وليس خصوصاً. قال أبو محمد: فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق، ما زادوا على ما فعلوا، وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا، لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك، ممن قد بلغتهم الآثار، وقامت عليهم الحجة، وسقطت عنهم المعذرة، وإن الظن ليسوء جدّاً بمن هذا معتقده، ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: وإذا مدح الله تعالى أو رسوله ﷺ أحداً على فعل ما كان ذلك الفعل مندوباً إليه، مستحباً يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم، وليس ذلك الشيء فرضاً لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط، وإن لم نؤمر به فمعفواً عنه، وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه، وليس حراماً إلا بدليل، لما ذكرناه في المدح ولا فرق، وقد ذم الله تعالى الشح، وليس حراماً إذا أدى المرء فرائضه، ولكنه مذموم مكروه، وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء، وليس فرضاً، ومدح النبي ﷺ من لم يكتوا ولا استرقى، وليس كل ذلك حراماً، لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي، وبالله تعالى التوفيق.///////
فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلكوفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر
قال أبو محمد: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم .
وهكذا قال البراء: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى العنزي، ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب قال: أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله ﷺ ، ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل. وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة، وعرفه محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله ﷺ .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان : أخفي علي هذا من أمر رسول الله ﷺ ؛ ألهاني الصفق في الأسواق.
وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } وخفي عليه أمر رسول الله ﷺ بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضاً طول مدة خلافته، فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحداً. وخفي على عمر أيضاً أمره ﷺ بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.
وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله في صلاتي الفطر والأضحى.
وهذا وقد صلاهما رسول الله أعواماً كثيرة، ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله ﷺ فيهم، ونسي قبوله ﷺ الجزية من مجوس البحرين، وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظاً كما أخذ غيره منه.
ونسي أمره ﷺ بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبداً ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار، وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبيّ بن كعب بأن النبي ﷺ لم يفعل ذلك فأمسك، وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت، حتى أخبر بأن رسول الله ﷺ أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن، وكان يفاضل بين ديات الأصابع، حتى بلغه عن النبي ﷺ أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ بالمساواة، وكان يرى الدية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي ﷺ ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك، ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالاً بمهور النبي ﷺ حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: {وآتيتم إحداهن قنطارا} (النساء: 20) فرجع عن نهيه، وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله ﷺ : «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ» فأمر ألا ترجم، وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه، فأمسك عن رجمها، وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله ﷺ فسكت عمر.
وقد خفي على الأنصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون أنزل، وهذا مما تكثر فيه البلوى، وخفي على عائشة، وأم حبيبة، أُمَّي المؤمنين: وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي موسى. وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم، وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين. إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد.
والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخباراً خالفها غيرهم تعم البلوى، كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك، وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد، وجهله غيرهم، ومثل هذا كثير جداً.
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد به عبد النصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا صخر بن جويرية، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره قال: كنت جالساً مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس ، فقال ابن الزبير: إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل، فكبروا الله واحمدوه وهللوا، فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال: أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي، فقال ابن الزبير: لبيك اللهم لبيك وكان صيتاً. قال أبو محمد: فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره، وهو مشهور عن النبي ﷺ . وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء، وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم، ويرى أبا أيوب الأنصاري، وأبا موسى الأشعري، وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصديق، وقد ولد بحضرة رسول الله ﷺ وفي حجة الوداع، واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء، وقد علم يقيناً أن النبي ﷺ علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك، وأقرهم عليها ودعاهم بها، ولم يغير شيئاً من ذلك ﷺ .
فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي ﷺ بإباحة ذلك، أمسك عن النهي عنه، وهم بترك الرَّمَل في الحج، ثم ذكر أن النبي ﷺ فعله.
فقال: لا يجب لنا أن نتركه.
وهذا عثمان رضي الله عنه، فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله ﷺ في أمر عدتها، وأنه أخذ بذلك، وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها.
وهذا علي رضوان الله عليه: يعترف بأن كثيراً من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس عنده عن النبي ﷺ ، وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه، وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك.
وهذا طلحة: يبيح الذهب بالفضة نسيئة، حتى ذكره عمر. وهذا ابن عمر وابن عباس: يبيعان الدرهم بالدرهمين، حتى ذكرا فأمسكا، ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ ، ذكره مسلم، فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال: هذا عهد نبينا ﷺ إلينا.
ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر، وصدق ابن عمر، ونحن نقول في حديث النبي ﷺ إذا بلغنا: هذا عهد نبينا ﷺ إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث ، ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه، فلما حدث بما بلغه، لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا، وهذا نص ما ذكرنا عن ابن عمر ببيان لا يخفى، وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث.
ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين، وقد أعاذهم الله تعالى منهما، كلاهما ضلال وفسق، وهما إما المجاهرة بخلاف النبي ﷺ وهذا لا يحل لأحد، ولا يحل أن يظن بهم، وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ، ويكتموا عنا الناسخ. وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين، ولا ينسب هذا إليهم إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب، فبطل ظنهم الفاسد، وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلاً إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضاً. فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن، وروايتهم على النبي يقين، ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن، فارتفع الإشكال جملة هذا الباب، والحمد لله رب العالمين.
وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون، لأنه اجتهاد منهم، مع أن ذلك منهم أيضاً قليل جداً، وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه.
وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين، وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي ﷺ بأشهر، وأقرت عائشة أنها لا علم لها به، وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه، وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطىء، أفيه غسل أم لا؟ فقالت لا علم لي.
وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي ﷺ عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي ﷺ ، فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة.
وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا : لو كان هذا حقّاً ما خفي على عمر. وقد خفي على زيد بن ثابت، وابن عمر، وجمهور أهل المدينة إباحة النبي ﷺ للحائض أن تنفر، حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم، فرجعوا عن قولهم: وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد: إنك تخالف أباك.
فقال: أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر، حتى أمرته بذلك عن النبي ﷺ بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك. وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة، وعن تحريم الحمر الأهلية، حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه.
وقال ابن عباس : ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض، أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر ، وهؤلاء الأنصار نسوا قوله ﷺ : «الأَئمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، وقد رواه أنس.
وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لأمر بلغهم عن النبي ﷺ ، وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم، وأنه هو كان يلازم رسول الله ويحضر ما لا يحضرون، وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الإجماع في ديواننا هذا في فصل ترجمته : «إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله» فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا.
وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة، أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر، فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل: حرمت لأنها كانت تأكل العذرة، ومن قائل: لأنها لم تخمس. ومن قائل: إنه خشي فناء الظهر، وقال بعضهم: بل حينئذ حرمت البتة. قال أبو محمد: وكل ذلك باطل إلا قول من قال: حرمت البتة، وقد جاء النص بتحريمها لعينها، ولأنها رجس، روى ذلك أنس.
فلما صح كل ما ذكرنا وبطل التقليد جملة، وجب أن يؤخذ برأي صاحب، وإن تعرى من مخالفة الخبر فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر .
وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم، فأخبر ﷺ : أنه ليس كذلك . قال أبو محمد: وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه فهم أترك خلق الله تعالى له، وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي ﷺ : بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً فقالوا: قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثاً، ثم تركوا قول أبي هريرة، وقول رسول الله ﷺ فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها، ورأيه الذي احتجوا به، وأحدثوا ديناً حديثاً، فقالوا: لا يغسل إلا مرة واحدة، ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا: يغسل سبعاً فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه ، وتعلقوا كلهم بذلك أيضاً في حديث ابن عباس وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا: قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك، فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا، فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما.
وأخذ المالكيون آنفاً برواية أبي هريرة، وتركوا قوله، ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث، لأنه إن كان تركته عائشة، فقد رواه أيضاً بريدة الأسلمي، ولم يخالفه، وأما ابن عباس فالأصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وليس بالقوي، وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح.
وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الأمر بالصيام عن الميت، فأين هم عن طرد هذا الأصل الفاسد ؟
إذ روت عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت هي تتم في السفر، فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها، وإذ روت التحريم بلبن العجل، ثم كانت لا تأخذ بذلك، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها، وأخذوا بروايتها، وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر ابن الزبير وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره، فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها.
فإن قالوا: تأولت في كل هذا قلنا لهم : وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت، ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا وليّ لها، فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لأن نصه «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» .
وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة، وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به، فخالف المالكيون رأي عمر، وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة، فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى.
وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها. وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث: «حَدُّ المُكاتَبِ وَمِيرَاثُهُ وَدَيْنُه بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى» فقالوا: خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك، ولا حجة لهم في هذا لأن هذا الحديث قد رواه أيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذوا به وأفتي به.
فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل عليَ به ؟ وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوهاً: منها أن يتأول فيه تأويلاً كما ذكرنا آنفاً، أو يكون نسيه جملة، أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفاً فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك، أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه الحديث بعد ذلك، فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم، فلا يحل لأحد ترك كلامه ﷺ الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه ﷺ ، ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم، وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم، لكثر ذلك جداً، لأن القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط، وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم. وفيما ذكرنا كفاية.
وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل لمخالفته لذلك منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها.
وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه، فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فحملاه على تفرق الأبدان، فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا: التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه. وهذا علي رضي الله عنه روى: «الصَّلاةُ تَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ» ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون، ورأوا التسليم فرضاً لا بد منه.
وتناقضهم في الباب عظيم جداً.///////////
قال علي : وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله، وسواء قال حدثنا أو أنبأنا، أو قال عن فلان، أو قال: قال فلان، كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحداً منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم الناس، وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك، ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل، وبالله التوفيق.
فصل فيما ادَّعاه قوم من تعارض النصوص قال علي : إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يظن من لا يعلم، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكل من عند الله عز وجل، وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، وأحمد بن عون الله، قال: حدثنا ابن الأعرابي، قال حدثنا سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أشعث بن شعبة، أنبأنا أرطاة بن المنذر، سمعت أبا الأحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية/ أنه حضر رسول الله ﷺ يخطب الناس وهو يقول: «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ الله تَعَالى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئاً إِلاَّ ما فِي القُرْآنِ أَلا وَإِنِّي وَالله قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنها لَمِثْلِ القُرْآنِ» . قال علي : صدق النبي هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا. وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وهي أيضاً مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى قال الله عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } . قال علي : ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وبين وجوب طاعة رسوله ﷺ في أمره: أن يصلي المقيم الظهر أربعاً، والمسافر ركعتين، وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي ﷺ ، وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط. قال علي : وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق: «إِنَّها لَمِثْلُ القُرْآنِ وَأَكْثَرُ» . قال علي : ولا نكرة في هذا اللفظ لأنه إنما أراد بذلك اللفظ أنها أكثر عدداً مما ذكر في القرآن، وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة، لأن الفرائض الواردة في كلامه بياناً لأمر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن. قال علي : فإذا ورد النصان كما ذكرنا، فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما، وليس تعارضاً من أحد أربعة أوجه لا خامس لها، إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر، أو يكون أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً، أو يكون أحدهما موجباً والثاني نافياً، فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني، وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين، وكذلك حديث نهي النبي عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق، ومثل أمر الله عز وجل بقطع (يد) السارق والسارقة جملة مع قوله ﷺ : «لا قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينارٍ فَصَاعِداً» فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع، وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه، وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة، مع قوله : «لا تُحَرِّمَ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ» ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات، فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم، ويبقى الخمس فصاعداً على التحريم، ومثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج، فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات، وبقي سائر المشركات على التحريم، ومثل قوله ﷺ : «دِماؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» مع قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } وأمر على لسان نبيه ﷺ بقتل من ارتد بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً، أو شرب خمراً بعد أن حُدَّ فيها ثلاثاً، وأباح قتل من سعى في الأرض فساداً، وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات، وأمر بتغيير المنكر باليد، فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض، وبقي سائرها على التحريم.
فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني، وأرينا في ذلك إباحة من حظر، وحظراً من إباحة، وحديثاً من آية، وآية من حديث، وآية من آية، وحديثاً من حديث، ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولاً أو لم نعلم ذلك، وسواء كان الأكثر معاني ورد أولاً، أو ورد آخراً كل ذلك سواء، ولا يترك واحد منهما للآخر، لكن يستعملان معاً كما ذكرنا فهذا وجه.
والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجباً بعض ما أوجبه النص الآخر، أو حاظراً بعض ما حظره النص الآخر، فهذا يظنه قوم تعارضاً، وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء، وليس في شيء من ذلك تعارض.
وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب، وذلك قوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }
وقال في موضع آخر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال ﷺ : «إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتمالكة والمقتولة، بل هو بعضه وداخل في جملته، ومثل نهيه ﷺ أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } فليس ذكره ﷺ امرأة الجار معارضاً لعموم النهي عن الزنى، بل هو بعضه. فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله ﷺ في سائمة الغنم كذا، معارضاً لقوله ﷺ في مكان آخر: «في كُلِّ أَرْبَعِين شَاةٍ شَاةٍ» وليس كما ظنوا، بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه، والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معاً والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة.
وكذلك غلط قوم أيضاً فظنوا قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } معارضاً لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } والآية الأولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق.
وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } معارضاً لقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ولقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وظن قوم أن قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } معارضاً لقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وليس كذلك على ما قدمنا قبل، لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر، ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة، ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة، ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة، ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر، ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها، ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر، ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخباراً بأن ما عدا المسفوح حلال، بل هو كله حرام بالآية الأخرى، كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم، ولا أمر به، فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر، ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى. قال علي : فهذا وجه ثان.
والوجه الثالث : أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما، معلق بكيفية ما، أو بزمان ما، أو على شخص ما، أو في مكان ما، ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما، بكيفية ما، أو في زمان ما، أو مكان ما، أو عدد ما، أو عذر ما، ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر، وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعداً، فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاماً لبعض ما ذكر في النص الآخر، ولا شيء آخر معه، ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عامّاً أيضاً لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر، ولا شيئاً آخر معه. قال علي : وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه، ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف. وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما وجدنا أحداً قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب، فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جداً إلا من سدَّده الله بمنّه ولطفه، لا إله إلا هو. قال علي : فمن ذلك قول الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وقال ﷺ : «لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْها» ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن، وهو مكة أعزها الله، فاضبط هذا، وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء، ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة، لم يخص بذلك مكان دون مكان.
فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين.
فقالت طوائف منهم: معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم، فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفراً قدره كذا، فاستثنوا كما ترى النساء من الناس.
وقالت طوائف أخر: معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخرأن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، إلا أن يكون سفراً أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها، أو ألزمته كالتغريب، فإنها تسافر إليه دون زوج ودون ذي محرم، فاستثنوا كما ترى الأسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الأسفار المباحة كلها، وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم. قال علي : لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا، إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين، وابتغاء البرهان على الواجب منهما من مكان غيرهما. قال علي : وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة، وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين، والتغريب، وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج، ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله ﷺ : «البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ» ولقوله ﷺ : «لا تَمْنَعُوا إِمَاءِ الله مَسَاجِدَ الله» فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد، ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة، وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولاً، وإلا صار المانع لهن عاصياً لهذا الحديث، تاركاً له بلا دليل. قال علي : وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه ﷺ لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له ﷺ رجل من الأنصار: يا رسول الله ﷺ إني اكتتبت في غزوة كذا، وإن امرأتي خرجت حاجة فقال ﷺ : «حُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . قال علي : وهذا الحديث حجة عليهم لأنه ﷺ لم يلزمها الرجوع، ولا أوقع عليها النهي عن الحج، ولكنه ﷺ أمر زوجها بالحج معها، فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاصٍ، ولا يسقط عنها لأجل معصيته فرض الحج، هذا نص الحديث الذي احتجوا به، وليس يفهم منه غير ذلك أصلاً، لأن الأمر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة. قال علي : ومن هذا النوع أمره ﷺ بالإنصات للخطبة، وفي الصلاة، مع قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } الآية: فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عامّاً لكل كلام، سلاماً كان أو غيره، ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة، ووجدنا في النص الثاني إيجاب ردّ السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم. فقال بعض العلماء: معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه وردّه في الخطبة، وقال بعضهم: ردّ السلام وسلم إلا أن تكون منصتاً للخطبة أو في الصلاة. قال علي : فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني، فلا بد من طلب الدليل من غير هذه الرتبة. قال علي : وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بيّن بأنه ﷺ ، سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد، وأنه سُئِلَ عن ذلك فقال ﷺ : «إِنَّ الله يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ أَحْدَثَ أَلاَّ تَكَلَّمُوا فِي الصَّلاةِ» أو كلاماً هذا معناه. قال علي : وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجباً ألا يرد أيضاً في الخطبة، لأن الخطبة ليست صلاة، ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة، وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود، والأصل إباحة الكلام جملة، ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة، وجاء الأمر برد السلام واجباً وإفشائه، فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الأصل، وشريعة واردة قد تيقنَّا لزومها، وكان ردّ السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه، فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الأول آنفاً. قال علي : ومن ذلك أمره ﷺ : من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها، ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وحين استواء الشمس، فقال بعض العلماء: معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتاً منهياً عن الصلاة فيها.
وقال آخرون: معناه لا تصلوا بعد العصر، ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس، إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندباً أو فرضاً أو تعودتموها. قال علي : فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما، ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما، فإن لم يوجد صبر إلى الأخذ بالزيادة، وبالله التوفيق. قال علي : ومن هذا قول الله تعالى : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } ومع قوله تعالى لنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من الآخر، إلا بنص أو إجماع، لأنه جائز أن يقول قائل: معناه: كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين، وجائز أن يقول قائل معناه: أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد ﷺ الذين هم خير أمة أخرجت للناس، فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني. قال علي : فنظرنا فوجدنا قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه، لأن الملائكة أفضل منهم بيقين، فوقفنا على هذا، ثم نظرنا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره، لأن الملائكة يدخلون في العالمين، وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك، ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس، فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد بأن يخصه، فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه؛ فإذاً ذلك فرض، ولا بد من أن نخص أحد ذينك النصين من الآخر، ولم يجز تخصيص هذا، فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد، إذ لا بد من تخصيص أحدهما، وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت: بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجَّر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط، ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط، ثم أجرَّ آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال ﷺ : «فأنتم أقل عملاً وأكثر أجراً» وبالله تعالى التوفيق. قال علي : ونقول قطعاً إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا، من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين، لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح، وبرهان واضح لكان ضمان الله تعالى خائساً، وهذا كفر ممن أجازه، فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسرَّه الله تعالى لفهمه، وبالله تعالى التوفيق.
والوجه الرابع : أن يكون أحد النصين حاظراً لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجباً والآخر مسقطاً لما وجب في هذا النص بأسره. قال علي : فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر، لا يجوز غير هذا أصلاً وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل، ثم لزمنا يقيناً للعمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقيناً إخراجنا عما كنا عليه، ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل، ولا يجوز لنا أن نترك يقيناً بشك، ولا أن نخالف الحقيقة للظن، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }
وقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقال تعالى ذامّاً لقوم قالوا حاكمين بظنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وقال رسول الله ﷺ : «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» .
ولا يحل أن يقال فيما صحّ وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين، ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفاً أن يكون منسوخاً، ولا أن يقول قائل: لعله منسوخ، وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى، برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفاً من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل، فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلاً بمنسوخ، حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلاً، لكان الدين غير محفوظ، والذكر مضيعاً قد تلفت الحامق فيه، وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه، نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص، فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقرّه، وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه، ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه، إلا الظن، والله تعالى يقول: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه أصلاً، وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى، فإن البرهان قائم ظاهر فيه، وحرم القول بما عدا هذا، لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه، وقد حرم الله تعالى القول بالظن، وأخبر أنه خلاف الحق، وأنه أكذب الحديث، فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله. وهذا أيضاً برهان واضح في إبطال القول بالقياس، والتعليل والاستحسان في جميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة، وفي جملة القول بكل ذلك، لأن القول بكل ذلك ظن من قائله بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك الحديث الوارد: في ألا يغتسل من الإكسال والحديث الوارد في الغسل منه، فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الأصل، إذ الأصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك، فلما جاء الأمر بالغسل وإن لم ينزل، علمنا يقيناً أن هذا الأمر قد لزمنا، وأنه للحكم الأول بلا شك، ثم لا ندري، أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا، فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين، ومن ذلك أمره ﷺ ألا يشرب أحد قائماً، وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائماً، فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع، ثم جاء النهي عن الشرب قائماً، بلا شك، فكان مانعاً مما كنا عليه من الإباحة السالفة. ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائماً أم لا ؟ فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفاً أن يكون منسوخاً. قال علي: فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه، ولم نبال زائداً كان على معهود الأصل أم موافقاً له، كما فعلنا في الوضوء مما مست النار، فإنه لولا أنه روى جابر: أنه كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار، ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه، وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة: «مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ جُنُباً فَقَدْ أَفْطَرَ» لأنه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب، ولا يطأ بعد أن ينام فنسخ ذلك بالإباحة بيقين، فصرنا إلى الناسخ. وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج، لأنه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه، لأن حديث طلق موافق لمعهود الأصل.
وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر، وأخذ بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز وجل في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } . قال علي: وإن أمدنا الله بعمر، وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتباً كافية من غيرها إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا به، فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز وجل، لا إله إلا هو. قال علي: وها هنا وجه خامس، ظنه أهل الجهل تعارضاً ولا تعارض فيه أصلاً ولا إشكال، وذلك ورود حديث بحكم مَّا، في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه، فظنه قوم تعارضاً وليس كذلك، ولكنهما جميعاً مقبولان ومأخوذ بهما، ونحو ذلك ما روي عن النبي من طريق ابن مسعود: بالتطبيق في الركوع، وروي من طريق أبي حميد الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه، وكلا الأمرين جائز، أي ذلك فعله المرء حسن. قال علي : إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعاً من الوجه الآخر، وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب، فصار مانعاً من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده، ومنعه ما كان مباحاً قبل ذلك، وقد وجدنا أمراً ثابتاً عن رسول الله بالأخذ بالركب، فخرج عن هذا الباب، وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد «إنّا كنا نفعله ثم نهينا عنه، وأمرنا بالركب»
لكن من هذا الباب اغتساله بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن، وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلاً واحداً.
فهذا كله مباح، وهذا إنما هو في الأفعال منه ﷺ لا في الأوامر المتدافعة، ومثل ذلك ما روي عن نهيه ﷺ عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، مع قوله تعالى، وقد ذكر ما حرم من النساء. ثم قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فكان نهي النبيِّ ﷺ مضافاً إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة، ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير، مع قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الآية.
فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه مضافاً إلى ما في هذه الآية ومضموماً معه، وكذلك ما روي عن مسحه ﷺ برأسه ثلاثاً واثنتين وواحدة، وعلى ناصيته وعمامته، وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض، وشرائع لازمة كلها، وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جداً، فقالوا: إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما، وعدمه في نص آخر، دليل على سقوطه. قال علي : وهذا إقدام عظيم، وإسقاط لجميع الشرائع، ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد، لأنه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ولم يذكر الافتراق وقال ﷺ : «إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالقَوْلُ مَا قَالَ البَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ»
فلم يذكر الافتراق، دل ذلك على سقوط حكم الافتراق، وعلى تمام البيع دونه، فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله ﷺ في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر، وعن الملامسة والمنابذة، وعن بيع الخمر والخنازير، وجب أن يكون كل ذلك مباحاً، ولما لم يذكر الله تعالى في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.
إن العذرة حرام، وإن الخمر حرام، وجب أن يكون حلالاً، وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جداً، لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث، ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها، لأنها غير مذكورة في كل آية ولا في كل حديث. قال علي : ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي ﷺ وما نقل من أفعاله قول الله عز وجل مخبراً عن رسوله ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وقوله تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } وقال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } فأخبر عز وجل أن كلام نبيه ﷺ وحي من عنده، كالقرآن في أنه وحي، وفي أنه كل من عند الله عز وجل، وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه ﷺ ، وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الائتساء به ﷺ فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح، وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة، وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض، أو ضرب الحديث بالقرآن، وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفاً لسائره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث، وبالله تعالى التوفيق، وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض، ومضاف بعضه إلى بعض، ومبني بعضه على بعض، إما بعطف وإما باستثناء ، وهذان الوجهان نعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبداً.
وقد بيّن ذلك رسول الله ﷺ في حلة عطارد إذ قال لعمر رضي الله عنه: «إِنَّما يَلْبَسُ هذِهِ مَنْ لا خلاقَ لَهُ» ثم بعث إلى عمر حلة سِيَرَاء فأتاه عمر فقال: يا رسول الله أبعثت إليَ هذه، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ فقال ﷺ : ﷺ وفي بعض الأحاديث: «إِنَّما بَعَثْتُها إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِها حَاجَتَكَ» أو كلاماً هذا معناه.
ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها، لأنه أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء، وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط، وألا يتعدى ما أمر إلى غيره، وألا تعارض بين أحكامه ﷺ. قال علي : وفي هذا الحديث إبطال القياس، لأن عمر رضي الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به، فأخبره رسول الله ﷺ أن ذلك باطل، وفيه أيضاً أن حكمه ﷺ في عين مّا حكم على جميع نوع تلك العين، لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد، ثم أخبر ﷺ أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير. وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس، وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس. قال علي : وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه، ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفاً ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز وجل، وما توفيقي إلا بالله. وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر، بأن يستثنى الأقل من الأكثر، فيستعمل الأقل معاني على عمومه، ويستعمل الأكثر معاني حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور على ما بينا قبل فورد حديث النبي ﷺ فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط، وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى رسول الله ﷺ قاعداً لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة. قال علي : فقال قوم: نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان، ونمنع منه في الصحارى. قال علي : وأخطؤوا من وجهين: أحدهما، تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شيء من الحديثين نص ولا دليل على ذلك، بل وجدنا أبا أيوب الأنصاري وهو بعض رواة حديث النهي قد أنكر ذلك في البيوت، فلو عكس عاكس فقال: بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان، هل كان يكون بينهم وبينه فرق ؟ ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه بعد أن يوقف عليه ذو ورع، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبي ﷺ كان في بنيان، بل قد وصفت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت، وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل، والرواية الصحيحة أنه ﷺ كان إذا أراد أن يتبرز أبعد، وليس لأحد أن يقول: إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهناً فهذا وجه.
والوجه الثاني: أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده، فبأي شيء استحلوا استقبال القبلة بالغائط، ولا نص عندهم فيه ؟
وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو يترك سائره، فإن قالوا: بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين، ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل، وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل.
ولزمهم أيضاً أن يقولوا: إن النبي ﷺ لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام، ثم أباح كسب الحجام، أن يستباح حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب، لأن كل ذلك مذكور في حديث واحد، وإلا كانوا متناقضين. قال علي : ووجه العمل في هذين الحديثين، هو الأخذ بالزائد، وقد كان الأصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء، فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي ، ثم صار ذلك النهي رافعاً لتلك الإباحة بيقين، ولا يقين عندنا أنسخ شيء من ذلك النهي أم لا ؟ فحرام أن نترك يقيناً لشك، وأن نخالف حقيقة لظن، وليس لأحد أن يقول: إن حديث ابن عمر متأخر، إلا لكان لغيره، أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر، لأنه قد رواه سليمان، وإسلامه في سنة الخندق، وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر، إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين، ولا يقين عندنا في أن الإباحة عادت بعد ارتفاعها، ولو صحّ أن حديث ابن عمر كان متأخراً ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط، وليبق استقبالها على التحريم.
فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص قال علي : وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً، أو كان أحدهما موجباً والآخر مسقطاً. قال: فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان. قال علي : وهذا خطأ من جهات :
أحدها: أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه فإنه وحي فبطل أن يكون في شيء من النصوص تعارض أصلاً، وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض، إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب من السبب الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة.
والثاني: أنهم يتركون كلا الخبرين والحق في أحدهما بلا شك؛ فإذا تركوهما جميعاً فقد تركوا الحق يقيناً في أحدهما، ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلاً.
والثالث : أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة، أو إحداهما موجبة والثانية نافية، بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر، وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن، وبين وجوب ما جاء في كلام النبي ﷺ . قال علي : كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك، ولسنا نعلمه بعينه، فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . قال علي : وهذه الحجة فاسدة من وجهين :
أحدهما: أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية: إن هذا منسوخ إلا بيقين. قال علي : ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده، فهو الناسخ بلا شك، ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا ؟ فحرام ترك اليقين للشكوك. وبالله تعالى التوفيق. قال علي : وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك، وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق. قال علي : وقال بعض أهل القياس: نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة. قال علي : وهذا باطل، لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه، بل النصوص كلها سواء في وجوب الأخذ بها، والطاعة لها، فإذ قد صح ذلك بيقين، فما الذي جعل بعضها مردوداً وبعضها مردوداً إليه، وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلاً وبعضها فرعاً، وبعضها حاكماً وبعضها محكوماً فيه ؟
فإن قال: الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حطّ درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما. قال علي: وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، لأنه ليس الاختلاف موجباً لكونهما معروضين على غيرهما، لأن الاختلاف باطل، فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سبباً لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى، فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض، وهذا برهان ضروري، وبالله تعالى التوفيق. قال علي : وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها، فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر، وإنما ذلك من باب طيب النفس، وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض. قال علي : وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة، نذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته. فمن ذلك أن قالوا: إن كان أحد الخبرين معمولاً به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به. قال علي : وهذا باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة إلا أننا نقول ها هنا جملة: لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقاً واجباً أو باطلاً، فإن كان حقاً واجباً لم يزده العمل به قوة، لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق، وإن كان باطلاً فالباطل لا يحققه أن يعمل به. قال علي : واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر. فقال: كما نرجح إحدى البينتين على الأخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد. قال علي : وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على أخرى لا بيد ولا بقرعة، لأن ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع. وأيضاً: فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى لما جاز ذلك في الحديثين، لأن هذا قياس والقياس باطل، وأيضاً فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى وكان القياس حقاً، لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لأن الاختلاف في الحديثين باطل، والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وبإخباره تعالى أن كلام نبيه وحي كله، وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود، والاختلاف فيهما ممكن . قال علي : وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظراً والآخر مبيحاً فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح. قال علي : وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان، ولو عكس عاكس فقال: بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
ولقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ؟
ولكنا لا نقول ذلك، بل نقول: إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف، ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم، وسواء كان حظراً أو إباحة، ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء. قال علي : ويبطل ما قالوا أيضاً بقوله ﷺ : «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . قال علي : فأوجب ﷺ من الفعل ما انتهت إليه الطاقة، ولم يفسح في ترك شيء منه إلا ما خرج عن الاستطاعة، ووقع العجز عنه فقط، وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الأمر. قال علي : وهذا ظن فاسد لأن الاجتناب ترك، والترك لا يعجز عنه أحد، وأما العمل فهو حركة لها كلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الأكل والشرب، وفي ذلك تكلف، وربما يعجز المرء عن كثير منه، فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع، ولم يسقط عنا منه شيء إلا لم يكن بنا طاقة على فعله، هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه، فصح بذلك التسوية بين الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة للحظر والإباحة على السواء، فليس الحاظر بأوكد من المبيح، ولا المبيح بأوكد من الحاظر. قال علي : وقالوا: نرجح أيضاً بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن. قال علي : هذا أيضاً خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأن فلاناً أعدل من فلان، فأغنى ذلك عن إعادته، ولكنا نقول ههنا: إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نصّ ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط. قال علي : وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة، وروى الآخر واحد. قال علي : وقد أبطلنا هذا فيما سلف من هذا الباب بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض كلهم لخبر نقله واحد، ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها، وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه في أقل، ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير، وبيّنا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما، وفي القطع بأنهما حق ولا فرق.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم، والآخر لم يقصد به الحكم، ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله ﷺ : «إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» . قال علي : أما هذا الترجيح فصحيح، لأن الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم، وأما الحديثان اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا، بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره ، بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه، وألا يمس طيباً ولا يغطي وجهه ولا رأسه، فهذا قصد به بيان حكم العمل في تكفين المحرم، فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله ﷺ : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ» لأن هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره، وأيضاً فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح، ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ ، لأن المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الأمر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره، فتكون رواية من باشر أولى، ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة: نكحني رسول الله ﷺ ونحن حلالان.
وبالرواية عن ابن عباس: نكح رسول الله ﷺ ميمونة وهو محرم. قال علي : وهذا ترجيح صحيح، لأنا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله غيره، ولا ندري عمن نقله، ولا تقوم الحجة بمجهول، ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه.//////
قال علي: إلا أن قائل هذا قد نسي نفسه فتناقض، وهدم ما بنى في قوله: نرجح الخبر بأن يكون راويه أضبط وأتقن، وتركوا ذلك في هذا المكان، وقد قال الأكابر من أصحاب ابن عباس رحمة الله عليه إذ حدثوا بحديث ميمونة المذكور وإنما رواه عنها يزيد بن الأصم
فقالوا: كلا لا نترك حديثاً حدثناه البحر عبد الله بن العباس لحديث رواه أعرابي بوال على عقبيه. قال علي: فإن كان كون أحد الرواة أعدل واجباً أن نترك له رواية من دونه في العدالة، فليتركوا ها هنا رواية يزيد بن الأصم لرواية ابن عباس، فلا خلاف عند من له أدنى مسكة عقل أن البون بين ابن عباس وبين يزيد بن الأصم، كما بين السماء والأرض، وإن كان لا معنى لذلك، فلا ترجحوا بكون أحد الراويين أعدل. قال أبو محمد: ونسوا أنفسهم أيضاً؛ فتركوا ما رجحوا به ها هنا من تغليب رواية من باشر على رواية من لم يباشر، في قول أنس: أنا سمعت رسول الله ﷺ وركبتي تمس ركبته وأنا إلى جنبه رديف لأبي طلحة، وهو ﷺ يقول: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجّاً، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجّاً» وفي قول البراء بن عازب إذ يقول: سألت رسول الله ﷺ عن كيفية حجه فقال له رسول الله ﷺ : «إِنِّي سُقْتُ الهَدْيَ وَقَرَنْتُ» .
وفي قول حفصة أم المؤمنين له: لم تحل من عمرتك، فصدقها النبي ﷺ في ذلك وبين عليها لم فعل ذلك، فتركوا ما سمع أنس بن مالك من لفظ رسول الله ﷺ ، وما أخبر به رسول الله ﷺ عن نفسه، لكلام عن عائشة لم تدع أنها سمعته، وقد اضطرب عنها أيضاً فيه، فروي عنها مثل ما قال أنس والبراء وحفصة رضي الله عن جميعهم، ولكلام عن جابر لم يدع أنه سمعه، وهو مع ذلك أيضاً يحتمل التأويل، وقد اضطرب عنه أيضاً في ذلك ولا شك عند ذي عقل أنه ﷺ أعلم بأمر نفسه من جابر وعائشة، وأن أنساً والبراء وحفصة الذين ذكروا أنهم سمعوا من لفظه ذلك، وباشروه يقول ذلك أيقن من جابر فيما لم يدع أنه سمعه، ولكن هكذا يكون من اعتقد قولاً قبل أن يعتقد برهانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } .
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قولاً لم يختلف فيه، والآخر فعلاً مختلفاً فيه، ومثلوا ذلك برواية عثمان رضي الله عنه: لا يَنْكح المحرم ولا يُنْكح ولا يَخْطب، وبالرواية في نكاح ميمونة مرة بأنه ﷺ كان حلالاً، ومرة بأنه ﷺ كان محرماً. قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لأن العدل إذا روى شيئاً قد بيّنا أنه لا يبطله خلاف من خالفه، ولا كثرة من خالفه، وليس العمل في الأخبار كدراهم قمار تلقى درهم بدرهم ويبقى الفضل للغالب، لكن خبر واحد يستثنى منه أخبار كثيرة، ويستثنى هو من أخبار كثيرة، أو يؤخذ به إذا كان زائداً عليها، أو يؤخذ بها إن كانت زائدة عليه. لأن قائلها كلها وقائل ذلك واحد، أو فاعلها وفاعله، أو قائلها وفاعله، أو فاعلها وقائله واحد وهو رسول الله ﷺ عن واحد هو الله عز وجل، وليس تكرار قوله بموجب منه ما لم يكن يجب لولا تكراره، وتركه تكرار ما لم يكرر لا يخرج ما لم يكرر عن وجوب الطاعة له، وإذا قال القول مرة واحدة فقد لزم فرضاً كما لو كرره ألف مرة ولا مزيد، وإذا فعل الفعل مرة واحدة فالفضل في الائتساء به ﷺ فيه، كما لو فعله ألف مرة ولا مزيد ولا فرق.
ولم يخص الله تعالى إذا أمرنا بطاعة رسوله فيما كرر دون ما لم يكرر، بل ألزمنا الطاعة لأمره، وأمره مرة يسمى أمراً كما لو كرره ألف مرة، كل ذلك يقع عليه اسم أمر، ولا خص لنا تعالى إذا حضنا على الائتساء بنبيه ما فعله مرات دون ما فعله مرة، ولا ما فعله مرة دون ما فعله مرات، بل إذا فعل ﷺ الفعل مرة فقد وقع عليه اسم أنه فعله ألف ألف مرة ، كل ذلك يقع عليه اسم فعل، ومن قال غير هذا فقد تعدى حدود الله عز وجل، وشرع ما لم يأذن به الله عز وجل، وقفا ما لا علم له به، واستحق اسم الظلم والوعيد، وبالله تعالى نعتصم.
ونسأل أيضاً من أتى بهذا الهوس فنقول له: إذا سقط عندك ما صح أن رسول الله ﷺ فعله مرة ثم لم يفعله بعدها، ولا نهى عنه بأنه لم يعد إليه، فما تقول فيما صح أنه ﷺ فعله مرتين، ثم لم يعد إليه ولا نهى عنه ؟ فإن تركه من أجل ترك العود، سألناه عما فعله ثلاث مرات ثم لم يعد إليه ولا نزال نزيده مرة بعد مرة حتى يبدو سخف قوله إلى قول إلى كل ذي فهم، أو يترك قوله الفاسد ويرجع إلى الحق. قال أبو محمد: وإنما أخذنا بالمنع من نكاح المحرم برواية عثمان رضي الله عنه لأنها زائدة على معهود الأصل، لأن الأصل إباحة النكاح على كل حال بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }
فجاء النهي من طريق عثمان من أن ينكح المحرم فتيقنا ارتفاع الحالة الأولى بلا شك، واستثنينا النهي حالة الإحرام عن النكاح من جملة العموم بإباحة النكاح، وشككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا ؟ فلم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن لم يصح، فصح يقيناً لا مرية فيه أن حكم حديث ابن عباس في نكاح ميمونة قد نسخ وبطل بلا شك، ومن ادعى عود المنسوخ وبطلان الناسخ فقد كذب وأفك.
ثم حتى لو شككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا؟ لم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن ولم يصح، وحتى ولو صح قول ابن عباس أنه نكحها وهو محرم دون أن تخبر ميمونة على أنه عليه السلام نكحها وهو محرم لما وجب بذلك ترك ما قد تيقناه من النهي عن نكاح المحرم الناسخ للإباحة المتقدمة لأمر لا ندري أقبله كان أم بعده، وترك اليقين للشك وتغليب الظن على الحقيقة باطل وحرام لا يحل وهذا ما لا يُخيل على ذي لب، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فحتى لو صح أن نكاحه عليه السلام ميمونة رضي الله عنها كان حرماً وأنه كان بعد نهيه عن نكاح المحرم لما كان ذلك مبيحاً لإنكاح المحرم غيره، ولا لخطبته على نفسه، وعلى غيره، ولكان نكاح المحرم حينئذ منسوخاً مستثنى من النهي الوارد عن نكاحه وإنكاحه وخطبته، ولكان باقي الحديث واجباً لازماً لا يحل مخالفته، وهذه كلها وجوه لائحة واضحة، والحمد لله رب العالمين.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين، بأن يكون أحدهما اختلف على راويه فيه، والآخر لم يختلفوا على راويه فيه، ومثلوا ذلك بحديث ابن عمر، فإن زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وبحديث عليّ فإن زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة. قال أبو محمد: وهذا بيِّن ليس من أجل الاختلاف فقد أبطلنا ذلك في الفصل الذي قبل هذا ولكن لأن حديث ابن عمر هو الزائد حكماً على حديث علي رضي الله عنهما.
وقالوا أيضاً: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد قيل فيه إنه من كلام الراوي، ولم يقل ذلك في الآخر، فأخذ بالذي لم يقل ذلك فيه، ومثلوا بحديث عتق الشقص الذي أحدهما من طريق ابن عمر دون أن يكون فيه ذكر الاستسعاء.
والآخر من طريق أبي هريرة وفيه ذكر الاستسعاء.
قالوا وقد قيل: إن الاستسعاء من لفظ سعيد بن أبي عروبة، لأن شعبة وهماماً روياه عن قتادة ولم يذكر ذلك فيه، وقد قيل إنه من لفظ قتادة. قال أبو محمد: وهذا خطأ قد تابع سعيداً على ذكر الاستسعاء جرين بن حازم الأزدي، وأبان بن يزيد العطار، ويزيد بن زريع، وحجاج بن حجاج، وموسى بن خلف كلها لم يذكر فيه الاستسعاء عن قتادة مسنداً إلى النبي ﷺ ، فالأخذ بالاستسعاء واجب لا يجوز تركه، لأنه حكم زائد ثابت، وليس في حديث ابن عمر ما يضاده ولا ينافيه، وإنما فيه: «فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عُتِقَ» ولا يصح ما زاد فيه بعضهم من قوله: «وقد رق ما رق» ولا أتى ذلك من طرق تصح أصلاً. قال أبو محمد: وتناقض في هذا الخبر أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة تناقضاً فاحشاً، فجعل أصحاب أبي حنيفة ذكره ﷺ السائمة مسقطاً للزكاة عما في حديث الآخر من عموم الزكاة في جميع الغنم، ولم يجعلوا قوله ﷺ في حديث ابن عمر: «فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عُتِقَ» موجباً لإرقاق سائره، وقد كان يجب أن يطلبوا لقوله ﷺ : «فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عُتِقَ» فائدة تنبىء أن ما لم يعتق منه لم يعتق كما قالوا في السائمة، ولم يجعل أصحاب مالك ذكر السائمة مسقطاً للزكاة في غير السائمة بالعموم الذي في حديث ابن عمر في ذكره الغنم، وجعلوا قوله عليه السلام: «فقد عتقوا منه ما عتق» مسقطاً لعتق باقيه المذكور في حديث أبي هريرة بالاستسعاء.
وقالوا: نرجّح أحد الخبرين، بأن يكون أحدهما اجتمع فيه الأمر والفعل، وانفرد الآخر بأحدهما، فيكون الذي اجتمعا فيه أولى، ومثلوا ذلك بما روي من أنه ﷺ سعى وأمر بالسعي بين الصفا والمروة، وبما روي من قوله ﷺ : «الحَجُّ عَرَفَةُ» . قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لأن الحديث الذي فيه إيجاب السعي إنما صح من طريق أبي موسى، وهو زائد على ما روي من أن الحج عرفة، فوجب الأخذ بالشريعة الزائدة، وليس في حديث: «الحَجُّ عَرَفَةُ» ما يمنع من وجوب الإحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة. قال أبو محمد: وقد تناقضوا ههنا فأوجبوا السعي فرضاً، ولم يسقطوا وجوبه، لما روي من أن الحج عرفة ولم يوجبوا الوقوف بمزدلفة، وذكر الله عز وجل فيها، وقد جاء النص الصحيح من القرآن والسنة بإيجاب ذلك فرضاً، فأما القرآن فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }
وأما السنة فقوله ﷺ لعروة بن مضرس: «مَنْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ ههنا يعني بمزدلفة مَعَ النَّاسِ وَالإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ، وَإِلاَّ فَلَمْ يُدْرِكْ» أو كما قال ﷺ وتحكم أصحاب التقليد وأهل القياس أكثر من أن يحصيه إلا خالقهم الذي أحصى عدد القطر وورق الشجر ومكايل البحار، لا إله إلا هو.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يوافقه عمل أهل المدينة. قال أبو محمد: وهذا باطل، وقد أفردنا له فصلاً بعد كلامنا هذا في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق، ومثلوا ذلك بأخبار رويت في الأذان والإقامة. قال أبو محمد: ولا يصح في ذلك خبر مسند إلا حديث أنس بن مالك رضوان الله عليه: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» وبه نأخذ.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد علق الحكم فيه بالاسم، ويكون الآخر قد علق الحكم فيه بالمعنى، فيكون الذي علق الحكم فيه بالمعنى أولى. قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لأنها دعوى بلا برهان، وإذ لو عارضهم معارض فقال: بل الذي علق فيه الحكم بالاسم أولى، لما انفصلوا منه، ومثلوا ذلك بقوله ﷺ : «من بدَّل دينه فاقتلوه» مع نهيه ﷺ عن قتل النساء. قال أبو محمد: وإنما أخذنا بقتل النساء المرتدات، لأن النهي عن قتل النساء عموم، والأمر بقتل من غيَّر دينه مخصوص من ذلك العموم، على ما قدمنا قبل من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني، وأيضاً فقد اتفقت الأمة على أن نهيه ﷺ عن قتل النساء ليس على ظاهره، واتفقوا أنها إن زنت وهي محصنة أنها تقتل، وإن قتلت مسلماً أنها تقتل، وأيضاً فإن نهيه ﷺ عن قتل النساء، إنما هو داخل في جملة قوله: «دِماؤُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» فهو بعض تلك الجملة، واستثنى كل من ورد أمر بإيجاب قتله أو إباحته من باغ أو شارب خمر بعد أن حُدَّ فيها ثلاثاً، أو زانٍ محصن، أو قاتل عمداً أو مرتد، وصح أن النهي عن قتل النساء إنما هو من الأسارى من أهل دار الحرب.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما منصوصاً بنسبته إلى النبي ﷺ ، والآخر إنما ينسب إلى النبي استدلالاً. قال أبو محمد: وهذا لا إشكال فيه، ولا يجوز أن يؤخد بشيء لم ينص عليه أنه عن النبي ﷺ أو يوقن بأنه عنه ببرهان لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولا يجوز أن يكون عن غيره إلا أن يكون إجماع في شيء مّا، فيؤخذ به، والإجماع أيضاً راجع إلى التوقف منه عليه السلام، لا بد من ذلك. قال أبو محمد: ومثلوا ذلك بالتشهد المروي عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر، وبالتشهد المروي عن ابن عباس وعائشة وأبي موسى وابن مسعود مسنداً إلى النبي . قال أبو محمد: وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهد على المنبر ما يدل على أنه عن النبي ﷺ ، وقد نهى عمر رضوان الله عليه وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء، وعلم الناس ذلك، ولا شك عند أحد في أن نهيه عن ذلك ليس عن النبي ﷺ ، وأن ذلك من اجتهاد عمر فقط، وقد أقرّ رحمه الله بذلك في ذلك الوقت، ورجع عن النهي عنه، إذ ذُكِرَ أن نهيه مخالف لما في القرآن، وأما التشهدات المروية عن ابن عباس، وعائشة وابن مسعود، وأبي موسى رضوان الله عليهم، فهي التي لا يحل تعديها لصحة سندها إلى النبي ﷺ ، وقد خالف تشهد عمر الذي علمه الناس على المنبر ابنه عبد الله، وابن مسعود وابن عباس وعائشة، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شهدوه يخطب به، وغاب عنهم من أنه حجة إجماعية ما ادعى هؤلاء لأنفسهم من فهمه، ومن أنه يغيب عنهم، وهذا كما نرى.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد ثبت فيه الخصوص، والآخر لم يثبت فيه الخصوص، فغلب الذي لم يثبت فيه الخصوص، على الذي ثبت فيه، ومثلوا ذلك بآية النهي عن الجمع بين الأختين مع الآية التي فيها إباحة ذلك بملك اليمين. قال أبو محمد: الآية التي فيها إباحة ملك اليمين، أكثر معاني من الآيات التي فيها النهي عن وطء الحريمة بنسب أو صهر، ومن التي فيها النهي عن الجمع بين الأختين، والأم وابنتها، والمرأة المشتركة، ووطء الحائض والصائمة والمحرمة والزانية، ووطء الذكور المماليك، والبهائم المملوكة والمشتركة، فوجب استثناء كل ذلك، لأنه أقل معاني مما أبيح بملك اليمين، فخرج كل ما ذكرنا بالتحريم، وتبقى الآية المسلمة التي ليس فيها شيء من الصفات التي ذكرنا على الإباحة، وكذلك الآية التي فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } أكثر معاني من الآيات التي ذكرنا، فوجب استثناء كل ذلك بالتحريم، لأنه أقل معاني مما أبيح بالنكاح، فنكون على يقين من استعمالنا جميع النصوص الواردة، وأننا لم نخالف منها شيئاً ولا تناقضنا في تخصيص ما خصصنا، واستثنائنا ما استثنينا، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد جواباً، والآخر ورد ابتداءً، فنغلب الذي ورد جواباً على الذي ورد ابتداءً. قال أبو محمد: هذا خطأ، لأنه قبل كل شيء تحكم بلا برهان، والبرهان أيضاً على بطلان هذا الحكم قائم، وذلك أن رسول الله ﷺ بعث معلماً، وقد سئل عن شيء فأجاب عن أشياء كثيرة، وقد سئل عن شحوم الميتة فأجاب ﷺ عنها ولعن اليهود، ونهى أيضاً في ذلك الحديث عن بيع ما حرم من الميتات، ولم يكن سئل عن كل ذلك، ومثل هذا كثير، ولا فرق بين ما ورد قوله ﷺ جواباً، وبين ما ورد ابتداء، وكل ذلك محمول على عمومه، وعلى ما فهم من لفظه لا يحل أن يقتصر به على بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ دون بعض، إلا بنص أو إجماع، وكذلك القول فيما ورد من القرآن جواباً عن سؤال متقدم، وقد سئل عن اليتامى فأجاب تعالى فيهم، ثم قال عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } فأخبرهم عن النساء زائداً على ما سألوا عنه.
فقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما من رواية من يختص بذلك المعنى، والآخر برواية من لا يختص به، ومثلوا ذلك برواية عائشة رضي الله عنها في الغسل من الإكسال على خبر من روى أن لا غسل منه. قال أبو محمد: وهذا باطل، لأن الراوين أن لا غسل منه مختصون بالوطء لنسائهم كاختصاص النساء ولا فرق ولأن كل عالم نفر للتفقه فهو مختص بالسؤال عن الحيض كسؤال المرأة عنه ولا فرق، وحرص العالم على أن يتعلم كحرص الممتحن بالنازلة التي يسأل عنها ولا فرق، وإنما أوجبنا الغسل من الإكسال لحديث أبي هريرة لأنه زائد على سائر الأحاديث، لأن الأصل أن لا غسل على أحد، وجاء حديث أبي هريرة بإيجاب الغسل، فكان شريعة واردة زائدة بيقين، ثم لم يصح أنها نسخت، ولو لم يكن في ذلك إلا حديث عائشة رضي الله عنها لما وجب به الغسل، لأنه ليس فيه إلا: فعلت أنا ورسول الله ﷺ فاغتسلنا. وليس في هذا الحديث إيجاب الغسل، وإنما فيه أن الغسل فضل فقط.
وقد روي وصح أنه ﷺ كان ربما اغتسل بين كل وطأتين وليس ذلك واجباً، فلو لم يكن هنا إلا قول عائشة رضي الله عنها لكان اغتساله عليه السلام من الإكسال كاغتساله بين كل وطأتين ولا فرق، وإنما هو عمل يؤجر من ائتسى به ﷺ ، ولا يأثم من لم يفعله غير راغب عنه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين على الآخر، بأن يكون أحد المختلفين استعمل كل واحد من الخبرين في موضع الخلاف، فيكون أولى ممن لا يستعملها، ومثلوا ذلك بقوله ﷺ : «كُلُّ امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَليّها فَنِكَاحُها بَاطِلٌ» مع قوله ﷺ : «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّها» . قال أبو محمد: وهذا الذي ذكروا لا معنى له، بوجه من الوجوه هو كلام ساقط زائف، لأنه ليس عمل أحد الخصمين حجة على الآخر، إلا أن يأتي ببرهان يصحح عمله، وأما الحديثان اللذان ذكروا فإنما حملناهما على ظاهرهما فأبطلنا نكاح كل امرأة نكحت بغير إذن مواليها ثيِّباً كانت أو بكراً، على عموم الحديث. وظاهر لفظه المفهوم منه في بطلان نكاحها بغير إذنهم، وهو الذي لا يحل لأحد تعديه، وقلنا الأيم أحق بنفسها من وليها في اختيار نكاح من شاءت، والإذن فيه أورده فلا اعتراض لوليها في ذلك عليها، ولا على كل بالغ من بكر ذات أب أو يتيمة بأحاديث أخر وآي مضافة بعضها إلى بعض، فاستثنينا الإنكاح وحده وهو المنصوص عليه من سائر أحوالها، لأنه الأخص فاستثني من الأعم، وكانت أحق بنفسها في سائر أمورها كلها من وليها حاشا عقد الإنكاح وحده، وهذا هو لفظ الحديثين نصاً بلا مزيد.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يعضده قول الأئمة، والآخر يعضده قول غيرهم، فيكون الذي أيده قول الأئمة أولى، ومثلوا لذلك بالتكبير في العيدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، وبما روي من طريق حذيفة من تكبير ثلاث في الأولى قبل القراءة، وأربع في الثانية بعد القراءة. قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لما قد أبطلناه في باب إبطال الاحتجاج بعمل أهل المدينة من هذا الباب، وبما قد أبطلناه من القول بالتقليد في باب التقليد من هذا الكتاب، وإنما أخذنا بتكبير سبع وخمس، لأنه فعل في الخير زائد وذكر لله تعالى ولأن الخبر المروي في ذلك لا بأس به.
وأما خبر حذيفة فليس يقوم بسنده حجة لما سنبينه في أمر موضعه من الكلام في أشخاص الأحاديث إن شاء الله.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس. قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لما سنبينه في باب الإجماع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ولأن كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحاً قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقاً قبل أن يقول به أحد، وقد بيَّنا هذا جداً في باب إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة في آخر هذا الباب، وأيضاً فإن القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلاً، ويقلون بعد أن كانوا كثيراً، فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله، ثم رجعوا إلى مذهب مالك، وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة، وكذلك أهل العراق، ثم غلب على إفريقية مذهب مالك، وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي، فيلزم على هذا أن القول إذا كثر قائلوه صار حقاً، وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلاً، وهذا هو الهذيان نفسه.
وقد احتج نصراني على مسلم بكثرة أهل القسطنطينية، وأنهم لم يكونوا لتجتمع تلك الأعداد على باطل، وهذا لا يلزم لمن رجح الأقوال بالكثرة، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول، بل الحق حق وإن لم يقل به أحد، والباطل باطل ولو اتفق عليه جميع أهل الأرض. قال أبو محمد: ويكفي من كشف غمة من اغتر بالكثرة أن نقول له: لا تغتر بكثرة من ترى من أصحاب المذاهب، فإنما هم ثلاثة رجال فقط: مالك والشافعي وأبو حنيفة، ولا مزيد فقد حصلنا من كل ما نرى على ثلاثة رجال فقط، وبالله تعالى التوفيق.
وهم يخالفون هذا كثيراً، لأنهم أخذوا بقول زيد في إبطال الردّ على ذوي الأرحام، وتركوا قول عمر، وعثمان، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في ذلك. وأخذوا بقول من قال: إن القرء هو الطهر، وإنما قال به نحو ثلاثة من الصحابة، والجمهور على أنه الحيض، وقد ترك أيضاً، أصحاب أبي حنيفة قول الجمهور في أشياء كثيرة.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يعضد أحدهما خبر مرسل. قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، لأن المرسل في نفسه لا تجب به حجة، فكيف يؤيد غيره ما لا يقوم بنفسه ؟.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين، بأن يكون راوي أحدهما أشد تقصياً للحديث، ومثلوا ذلك بحديث جابر، يعني الحديث الطويل في الحج. قال أبو محمد: هذا لا معنى له، لأن من حفظ أشياء كثيرة فليس ذلك بمانع أن يحفظ غيره بعض ما غاب عنه، مما جرى في تلك الأشياء التي حفظ أكثرها، وقد سمع أنس، والبراء، وحفصة من فم النبي في تلك الحجة ما لم يسمع جابر، وثقفوا ما لم يثقفه جابر، فالواجب قبول الزيادة التي عند هؤلاء على ما عند جابر، وقبول الزيادة التي عند جابر على ما عند هؤلاء، فنأخذ بروايتهم كلها ولا نترك منها شيئاً، وكلهم عدل صادق، وهذا الذي لا يجوز غيره.
وقالوا: نرجح أحد النصين، بأن يكون أحدهما مكشوفاً، ويكون الآخر فيه حذف، فنأخذ بالمكشوف، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
مع قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
قالوا: لأن هذه الأخيرة فيها حذف، كأنه قال تعالى: فإن أحصرتم فأحللتم. قال أبو محمد: وهذا الذي ذكروا خطأ، لأن آية الإحصار أخصّ من آية الإتمام، لأن المحصرين هم بعض المعتمرين والحجاج، فواجب ضرورة أن يستثنوا منهم، مع ما روي عن النبي في ذلك من قوله ﷺ : «مَنْ كَسَرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ» والحذف الذي ذكروا لا يعتد به إلا جاهل لأن ما تيقن فقد يحذف في كلام العرب كثيراً، عن ذلك قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }
فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن في هذه الآية حذفاً كأنه قال تعالى : أو على سفر فأحدثتم، لأن كون المرء مريضاً، أو مسافراً لا يوجب عليه وضوءاً إلا أن يحدث، ومن ذلك قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
لا يختلف مسلمان في أن في هذه الآية حذفاً، وأن معناه: إذا حلفتم فحنثتم، أو أردتم الحنث، كلا المعنيين قد قال به قوم، لأن الحلف لا يوجب كفارة إلا بالحنث أو بإرادته. ومن ذلك قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ، {فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } لا خلاف عند ذي عقل في أن في كلتا الآيتين حذفاً، وأنه كأنه تعالى قال: فضرب فانفلق، وضربت فانبسجت، فمثل هذا الحذف لا يتعلل به في كلام الله تعالى، وفي كلام رسوله ﷺ ، وفي كلام كل متكلم إلا جاهل مظلم الجهل لا علم له بمواقع اللغة وهو كالمذكور الذي لم يحذف سواء بسواء.
ومن ذلك أيضاً قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، ونحن نقول في كل وقت قال تعالى، وقال ﷺ ، ولا يذكر اسم الله تعالى في ذلك، ولا اسم نبيه ﷺ ، اكتفاء منا بفهم السامع، وأن ذلك لا يخيل عليه البتة وكذلك قال تعالى : {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ولم يذكر الشمس اكتفاء بأن السامع قد علم المراد ضرورة.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد في لفظه حكمه، والآخر لم يرد في لفظه حكمه، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقوله ﷺ : «أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيائِهِمْ» وقوله ﷺ : «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ» فذكر الصبي حتى يحتلم: والمجنون حتى يفيق. قال أبو محمد: ليس في قوله ﷺ : «وَرُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ» ما يوجب سقوط الحقوق عن أموالهم، وإنما فيه سقوط العبادات عن أبدانهم، وقد قالوا بإخراج الديات والأروش وزكاة ما خرج من الأرض من مال الصبي والمجنون، وهو داخل في جملة الأغنياء وأسقطوا عنه زكاة الناض تحكماً بلا برهان، فهلا قاسوا وجوب زكاة الناض عليه بوجوب زكاة ما أخرجت ثماره، وبوجوب زكاة الفطر عليه؟
وهم يدينون الله تعالى بالقياس، ويعصون أوامر الله تعالى وأوامر رسوله ﷺ ، ولكن هكذا يتناقض من اتبع السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله.
وقالوا: نرجح أحد النصين بأن يكون مؤثراً في الحكم، والآخر غير مؤثر، ومثلوا ذلك بالاختلاف في زوج بريرة أحراً كان أم عبداً. قال أبو محمد: وهذا لا يعقل، لأن التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل، وليس في كونه عبداً ما يمنع من تخييرها تحت الحر، وحتى لو اتفق النقلة كلهم على أنه كان عبداً لما أوجب ذلك ألا تخيير تحت حر إذا جاء ما يوجب ذلك. وإنما نص النبي على تخيير الأمة المتزوجة إذا أعتقت، ولم يقل ﷺ إنما خيرتها لأنها تحت عبد، فوجب بالنص تخيير كل أمة متزوجة إذا أعتقت، ولا نبالي تحت من كانت، وليس من قال: إنها خيرت لأنها كانت تحت عبد، بأولى ممن قال: بل لأنها كانت أسود، وكل هذا لا معنى له، فكيف ولا اختلاف في الروايات، وكلها صحيح، فالذي روى أنه كان عبداً أخبر عن حاله في أول أمره، والذي روى أنه كان حراً أخبر بما صار إليه، وكان ذلك أولى لأنه كان عنده علم من تحريره زائداً على من لم يكن عنده علم ذلك.
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون منقولاً من طرق بألفاظ شتى، والآخر لم ينقل إلا من طريق واحد. ومثلوا ذلك بحديث وابصة بن معبد الأسدي في إعادة المنفرد خلف الصف ، وبحديث أبي بكرة في تكبيره دون الصف، وحديث ابن عباس في ردّه ﷺ إياه عن شماله إلى يمينه، وحديث صلاة جدة أنس منفردة خلف النبي ﷺ . قال أبو محمد: أما كثرة الرواة فقد قدمنا إبطال الاحتجاج بها، لأنهم يتركون أكثر ما نقله أهل الأرض برهم وفاجرهم وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد، فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد ؟ وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا، وأما الأحاديث التي ذكروا فلا حجة لهم فيها، وبعضها حجة عليهم.
أما حديث أبي بكرة فقد نهاه النبي ﷺ عن ذلك نصاً وقال له: «زَادَكَ الله حِرْصاً وَلا تَعُدْ» فنهاه عن العودة إلى التكبير خلف الصف وحده، ولم يأمره ﷺ بإعادة الصلاة.
قال قوم: لأن أبا بكرة جهل الحكم في ذلك قبل أن يعلمه النبي ﷺ أن فعله ذلك لا يجوز، فأعلمه بنهيه إياه عن أن يعود لذلك كما أمر النبي ﷺ الذي أساء الصلاة في حديث رافع بالإعادة مرة بعد مرة، فلما قال له: يا رسول الله ﷺ ، والله ما أدري غير هذا فعلمني، فعلمه، ولم يأمره حينئذ الإعادة، ولو أن أبا بكرة يعود لما نهاه عنه رسول الله ﷺ لبطلت صلاته بلا شك، لأنه كان يكون مؤدياً لصلاة لم يؤمر بها غير الصلاة التي أمر بها بحكم ضرورة العقل، وقد قال ﷺ : «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ» .
والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: أن خبر أبي بكرة موافق لمعهود الأصل في إباحة الصلاة حيث شاء وأنه حينئذ ثبت الأمر بالمنع من الصلاة خلف الصف، فجازت صلاته الكائنة قبل ورود الأمر، ولزم النهي عنه في المستأنف، ولأن النهي عن الصلاة خلف الصف أمر وارد، وحكم زائد، وشرع حادث بلا شك، فهو ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين، وأما الذي علمه النبي ﷺ الصلاة بعد قوله: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فإن الأمر بالصلاة ثابت عليه ولا بد، ولازم حتى يؤديه كما أمره عليه السلام، وليس في ذلك الخبر أنه ﷺ أسقط عنه لجهله ما كان أمره به من الصلاة ما دام وقتها قائماً. فلا يجوز أن يسقط أمر متيقن بظن كاذب، وبالله تعالى التوفيق.
وأما حديث جدة أنس بن مالك، فإنما ذلك حكم النساء، وهكذا نقول: إن حكم النساء في ذلك مخالف لحكم الرجال، وإن حكم المرأة والنساء ألا يصلين مع رجل في صفه، وهذا ما لا خلاف فيه، فأخذنا بحديث جدة أنس بن مالك في النساء، وبحديث وابصة في الرجال، لأنه جاء منصوصاً في رجل صلى خلف الصف، فأخذنا بكلا الحديثين؛ وأطعنا أمره ﷺ في جميع الوجهين، ولم نعص شيئاً من أحكامه ﷺ ولا ضربنا بعضها ببعض ، ولا أبطلنا بعضها ببعض، ولم نجعل فيها اختلافاً وليس من ترك حديث وابصة لحديث جدة أنس بأولى من أن يكون مصيباً ممن ترك حديث جدة أنس لحديث وابصة، فأبطل ذلك على المرأة كإبطاله على الرجل، وكل ذلك لا يجوز، وليس أحد الحديثين أولى بالطاعة من الآخر، والغرض أن يستعملا جميعاً فيما ورد فيه، فيؤمر الرجل الذي يصلي خلف الصف وحده بالإعادة، ولا تؤمر المرأة.
وأما حديث ابن عباس: فإنه كبر مع النبي ﷺ منفرداً في مكان لا يصلح له الوقوف فيه، وهو جاهل بذلك غير عالم بالسنة فيه، فرده رسول الله ﷺ إلى المكان الذي حقه أن يقف فيه، ولم يبطل ما عمل متأولاً بغير علم، وكذلك نقول في الرجل المأمور بالإعادة؛ إنه لولا أن النهي من رسول الله ﷺ كان قد تقدم عن ذلك لما أمر بالإعادة.
وقد اعترض بعضهم باعتراضين غثين فقالوا: لعل أمر النبي ﷺ لأبي بكر ألا يعود، إنما كان من سعيه بالكد إلى الصلاة، فقيل لهم: نعم كذلك نقول: إنه عليه السلام نهاه بقولهﷺ : «لا تَعُدْ» عن كل عمل عمله على غير الواجب ، وكان من أبي بكرة رضي الله عنه في ذلك الوقت أعمال منهي عنها، أحدها سعيه إلى الصلاة، والثاني تكبيره دون الصف، والثالث مشيه في الصلاة فعن كل ذلك نهاه ﷺ بقوله: «وَلا تَعُدْ» لا سيما وقد روينا نص قولنا بلا إشكال .
كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال: ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي، ثنا أحمد بن جعفر، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال السلمي، حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان/ عن أبيه علي بن شيبان قال: صلينا مع رسول الله ﷺ فقضى الصلاة، ورجل فرد يصلي خلف الصف. فوقف عليه رسول الله ﷺ حتى قضى الرجل صلاته ثم قال له رسول الله : «اسْتَقْبِلْ صَلاتَكَ فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» .
والاعتراض الثاني أن قالوا: لعل المأمور بالإعادة إنما أمره عليه السلام بذلك لعمل مّا، غير انفراده في الصف.
فقيل لهم: هذا تكهن لا دليل عليه، والراوي الذي نقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إنما أخبر أن سبب أمره بالإعادة كان انفراده، ولم يذكر غير ذلك، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ولو ساغ هذا لساغ لغيرهم أن يقول لعل ما روي من لَعْن رسول الله ﷺ من وشم في الوجه، ومن غيّر منار الأرض، إنما لعنه لأمر ما غير هذين الفعلين، ولعله ﷺ جلد الأمة التي زنت، ورجم ماعزاً، ورجم الغامدية لغير الزنى، ولشيء ما لم يذكر لنا. ومثل هذا من الاعتراض فإنما هو عناد ظاهر وجهل شديد وإن العجب ليطول من أصحاب أبي حنيفة الذين يأمرون المرأة إذا صلت مع الرجل إلى جنبه أن يعيد الرجل، ومن أصحاب مالك الذين يأمرون الإمام إذا صلى في مكان مرتفع والناس تحته أن يعيد، فإن سئلوا عن الحجة في ذلك قالوا: لأنهما صليا حيث لم يبح لهما، ولا يأمرون المنفرد خلف الصف والمصلي في مكان مغصوب بالإعادة، وكلاهما قد صلى على الحقيقة في مكان لم يبح له بلا شك، وأما الإمام المصلي في المكان المرتفع، والرجل الذي صلت المرأة إلى جنبه بصلاته وهو غير راض بذلك فما صليا إلا كما أمر، وكما أبيح لهما، فلو عكس هؤلاء القوم أكثر مذاهبهم لأصابوا فكيف وقد صح نص قولنا عن النبي ﷺ ، كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا حميد بن مسعدة: أن يزيد بن زريع حدثهم قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن زياد الأعلم، قال: أنبأنا الحسن وهو البصري أن أبا بكرة حدثه قال: إنه دخل المسجد ونبي الله ﷺ راكع فركعت دون الصف، فقال النبي ﷺ : «زَادَكَ الله حِرْصاً وَلا تَعْدُ» . قال أبو محمد: وحتى لو صح هذا الترجيح الفاسد الذي ذكرنا في أول كلامنا هذا، لكان حديث وابصة هو الذي يجب أن يؤخذ به، لأن الأحاديث الواردة من طرق جمة وألفاظ شتى في تسوية الصفوف وإيجاب ذلك، والوعيد الشديد على خلافه مؤيدة كلها لحديث وابصة وموافقة له، ومبطلة لصلاة من لم يقم الصف من الرجال، وكل من صلى وحده منفرداً خلف الصف فلم يقم الصف، وتلك الأحاديث التي ذكرناها رواها جابر بن سلمة، وأبو مسعود البدري، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وأبو هريرة من طرق في غاية الصحة.
وروي ذلك أيضاً من طريق ابن عمرو، وأبي مالك الأشعري، والعرباض بن سارية، والبراء بن عازب، كلهم عن النبي ، وقد ذكرنا أن حديث أبي بكر موافق لحديث وابصة، فثبت حديث وابصة لا معارض له، وصار بكثرة من ذكرنا من رواة معناه، والحكم الواجب فيه منقولا نقل التواتر، موجباً للعلم الضروري، لأنه رواه اثنا عشر صاحباً، منهم الكوفي والبصري والرقي والشامي والمدني من طرق شتى، وهذه صفة نقل الكافة، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } الآية مع قوله عز وجل: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } . قال أبو محمد: وهذا لا معنى له، ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسول الله ﷺ ، والتحكم بالآراء الفاسدة على ما أمرنا به، فهذه هي الشُّنْعة التي لا شنعة غيرها. وقوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ }
مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الواحد الفاسق فلا يقبل فاسق أصلاً إلا في الوصية في السفر فقط، فإنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق، ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر من بطلان قول من قال: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ }
أي من غير قبيلتكم، تعالى الله عن هذا الهذر علوّاً كبيراً، وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز وجل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل، وقد قال تعالى في أول الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
وما علمنا الذين أمنوا قبيلة بعينها. بل في الذين آمنوا: عرب، وفرس، وقبط، ونبط، وروم، وصقلب، وخزر، وسودان حبشة، وزنج، ونوبة، وبجاة، وبربر، وهند، وسند، وترك، وديلم، وكرد، فثبت بضرورة لا مجال للشك فيها، أن غير الذين آمنوا: هم الذين كفروا، ولا ينكر ذلك إلاَّ من سفه نفسه، وأنكر عقله، وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان؛ ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائلمن غيركم من غير قبيلتكم؛ من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره؛ الذي ليس عليه من نور الحق أثر.
والعجب يكثر من أصحاب أبي حنيفة الذين يقبلون اليهود والنصارى في جميع الحقوق بعضهم على بعض، وقد نهاهم الله تعالى عن قبول الفاسقين، ثم لا يقبلونهم في الوصية في السفر؛ وقد جاء نص القرآن بقبولهم فيها، وحسبنا الله وما عسى أن يقال في هذا المكان أكثر من وصف هذا القول البشيع الشنيع الفظيع، فإن ذكره كاف من تكلف الرد عليه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: ونرجع بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين؛ ومثلوا ذلك بالشفق، وادعوا أن اشتقاقه يؤيد أنه الحمرة. قال أبو محمد: ما سمعنا هذا في علم اللغة ولا علمناه؛ ولا سمع لغوي قط أن الشفق مشتق من الحمرة، وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض المختلطين في الجدود بالشفق على سبيل التشبيه فقط، وإنما قلنا: إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة، لأن الحمرة تسمى شفقاً والبياض يسمى شفقاً، فمتى غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها الخبر في ذلك عن النبي . وهذا هو القول بالعموم والظاهر.
وأما من قال: حتى يغيب كل ما يسمى شفقاً فقد خصص الحديث بلا معنى ولا برهان، وادعى أن المراد بذلك بعض ما يسمى شفقاً وهو البياض، وأنه قد يغيب الشفق ولا يكون ذلك وقتاً للعتمة؛ وذلك مغيب الحمرة. وهذا تخصيص للحديث بلا دليل؛ وإنما بيّنا هذا لئلا يموه مموه فيقول لنا: أنتم خصصتم الظاهر في هذا المكان؛ ولئلا يدعوا أنهم قالوا بعمومه في هذا المكان.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يضيف إلى السلف نقصاً والآخر لا يضف إليهم ذلك، فيكون الذي لا يضيف إليهم ذلك النقص أولى، ومثلوا ذلك بمثال لا يصح، فذكروا حديثين وردا في إعادة الوضوء من القهقهة في الصلاة؛ وفي إسقاط الوضوء منها وكلا الحديثين ساقط لا يصح. أحدهما رواه الحسن بن دينار وهو ضعيف، وروي مرسلاً من طريق أبي العالية وقد بينا أن المرسل لا تقوم به حجة، والآخر رواه أبو سفيان عن جابر، وأبو سفيان طلحة بن نافع ضعيف.
ولكنا نمثل في ذلك مثالاً يصح، وذلك الحديث المروي أن امرأة مخزومية سرقت، فشفع فيها أسامة ألا تقطع يدها، فأنكر ﷺ على أسامة رضي الله عنه وقال له: «يا أُسَامَةُ أَتَشْفَعُ فِي حَدَ مِنْ حُدُودِ الله تَعَالَى» .
وروي أيضاً: أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر رسول الله بقطع يدها، فشفع فيها أسامة، فقال من رجح إحدى الروايتين بما ذكرنا، محال أن يزجر النبي ﷺ أسامة عن أن يشفع في حد ثم يعود لمثل ذلك، فراموا أن يثبتوا بذلك أنها قصة واحدة وامرأة واحدة، وأنها قطعت للسرقة لا لجحد العارية. قال أبو محمد: هذا لا معنى له ولا حجة فيه، لأننا لم نقل إن أسامة رضي الله عنه أقدم على ذلك وهو يعلمه حداً، وليس في الحديث زجر، وإنما فيه تعليم ولسنا ننكر على أسامة وغير أسامة جهل شريعة ما حتى يعلمه إياها رسول الله ﷺ ، ومن قال في خبر ورد في سارقة، وخبر ورد في مستعيرة إنها قصة واحدة، فقد كان كابر وقال بغير برهان، وقفا ما ليس له به علم.
وأما نحن فنقول يقيناً بغير شك: إن حال المستعيرة غير حال السارقة، وإن العارية والجحود غير السرقة، وإنهما قضيتان متغايرتان بلا شك، ثم لسنا نقطع على أنهما امرأتان، ولا على أنها امرأة واحدة، لأن كل ذلك ممكن، وقد يمكن ولو كانت امرأة واحدة أن تكون سرقت مرة فقطعت يدها، ثم استعارت فجحدت فقطعت يدها الثانية، والله تعالى أعلم، وإنما نقول ما روينا وصحح عندنا، ولا نزيد من رأينا ما لم نسمع، ولا قام به برهان، فنحصل في حد الكذب، ونعوذ بالله من ذلك، إلا أننا نقول : إنا قد روينا بالسند الصحيح أن رسول الله ﷺ أمر بقطع يد امرأة استعارت المتاع وجحدته، فنحن نقطع يد كل مستعير جاحد إذا قامت عليه بذلك بيّنة، أو علم بذلك الحاكم، أو أقر هو بذلك.
ونقول: قد روينا أنه ﷺ قطع يد من سرق، فنحن نقطع يد من سرق إذا ثبت عليه شيء مما ذكرنا. هذا على أن حديث قطع المستعيرة قد روي من غير طريق عائشة رضي الله عنها بسند صحيح؛ ليس فيه ذكر شفاعة أسامة ولا شيء مما في حديث السارقة، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: ولهم ترجيحات فاسدة جداً، والتي ذكرنا تستوعبها كلها، وقد بينا سقوطها بالبراهين الواضحة وبتعري دعاويهم من الأدلة، وعلى ذلك فكل ما رجحوا به في مكان ما فقد تركوه في أمكنة كثيرة، وقد بينا الوجوه التي بها يرفع التعارض المظنون عن النصوص من القرآن والحديث، بياناً لائحاً والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل فيمن قال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر والرد عليه قال أبو محمد: قد بيّنا فيما قبل هذا بحول الله تعالى وقوته كيف يستثنى ما جاء في الحديث مما جاء في القرآن، وما جاء في القرآن مما جاء في الحديث، وما جاء في كل واحد منهما من خاص مما جاء فيهما من عام، ووجه الأخذ بالزائد في كل ذلك، وذكر تخبط من خالف تلك الطريقة في حيرة التناقض وغلبة الشكوك على أقوالهم، وبقي من خبال قولهم شيء نذكره ههنا إن شاء الله تعالى، وهو أن بعضهم رأى أن يرد بعض ما بلغه عن النبي مما قد أخذ بمثله فيما بيّن من المواضع، فقال: لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر عن النبي ، وقد بينا فيما خلا أن القوم إنما حسبهم نصر المسألة التي بين أيديهم فقط، بأي شيء أمكنهم، وإن هدموا على أنفسهم ألف مسألة مما يحتجون به في هذه، ثم لا يبالون إذا تناولوا مسألة أخرى أن يحققوا ما أبطلوا في هذه ويبطلوا ما حققوا فيها، فهم أبداً كما ترى يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. ولقد كان ينبغي لمن ترك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }
لحديث الوضوء بالنبيذ المسكر الحرام، وهو لا يصح أبداً، ولمن ترك قول الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
فقال: بل يتبعه بالضرب بالسياط والنفي في البلاد، ومثل هذا كثير أن يستحي من أن يقول: لا أخصص القرآن بالحديث الصحيح الذي نقله الثقات.
وإن العجب ليطول ممن أبى قبول خبر الواحد في الحكم باليمين مع الشاهد وفي تمام صيام الآكل ناسياً، وفي التحريم بخمس رضعات، وفي قضاء الصيام عمن مات وعليه صوم، وفي ألا يحنط المحرم الميت، وفي مئين من الأحكام، ثم لا يستحي من أن يقول: لا أجلد الزاني المحصن. وقد جاء القرآن بجلد كل زان ولم يخص محصناً من غيره، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ولم يخص تعالى من ذلك إلا الإماء والعبيد فقط.
فتركوا القرآن كما ترى والسنة الصحيحة من طريق عبادة في إيجاب الجلد على الزاني محصناً كان أو غير محصن، لظنَ ظنوه في أن ماعزاً رجم ولم يجلد، وقد علمنا وجه قول المعتزلة لا نأخذ بالحديث إلا حتى نجد حكمه في القرآن، وما علمنا وجهاً لقول من قال لا نأخذ بالقرآن حتى يأتي حكمه في الحديث.
وهذا هو نفس قول إخواننا، وفقهم الله في هذا المسألة، وإنما روي أن رسول الله ﷺ لم يجلد ماعزاً، من طريق ساقطة لا يقوم به حجة.
وقد فعل مثل ذلك أيضاً بعضهم، فسمع القرآن قد نزل بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
فقالوا: لا نستعيذ إذا قرأنا في الصلاة، لأنه لم يأت خبر بإيجاب الاستعاذة، فمرة يتركون الأخبار الصحاح لأنها لم تذكر أحكامها في القرآن، ومرة يتركون القرآن لأن حكمه لم يأت به خبر، فأين تطلب مذاهب هؤلاء القوم، وكيف يستجيزون هذه العظائم الشنيعة التي لا تطرد مع خطئها، وعدم الحجة عليها وقيام البرهان على بطلانها. وقد اعترض بعضهم في ترك الاستعاذة بما روي عن النبي ﷺ : «كان يفتتح القرآن بالحمد لله رب العالمين» . قال أبو محمد: وهذا من غريب احتجاجهم، وليت شعري متى قلنا لهم إن الاستعاذة قراءة يحتجون علينا بها، وإنما قلنا لهم: إن الاستعاذة قبل القراءة، وبعد ما روي من التوجيه والدعاء أثر التكبير، وأما استفتاح القراءة فبالحمد لله رب العالمين بلا شك، ولا نقول غير ذلك. قال أبو محمد: فإن قالوا لنا: أتقولون إن ماعزاً جلده النبي ، وأنه ﷺ كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة ؟
قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق: إنا نقول ونقطع أن الله عز وجل قد أمر بجلد كل زان على كل حال، وأن رسول الله ﷺ قد حكم على الزاني المحصن بالجلد مع الرجم، وأنه ﷺ لم يخالف ربه قط، ولا شك عندنا في أن ماعزاً جلد مع الرجم، ولا ندري إن كان أمره بعد ورود النص بالجلد مع الرجم وقد يمكن أن يكون رجمه قبل نزول آية الجلد، فقد روينا بأصح طريق أنه قيل لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في رجم رسول الله المحصن والمحصنة أكان ذلك قبل نزول سورة النور أم بعد نزولها؟ فقال: لا أدري، فصح قولنا، وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي ﷺ فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها.
وكذلك نقول أيضاً إن الله عز وجل قد أمر كل قارىء بالاستعاذة، وأن رسول الله ﷺ لم يخالف أمر ربه قط، ولا شك عندنا في وجوب الاستعاذة في الصلاة وقد استعاذ قبل القراءة جماعة من الصحابة.
روينا ذلك عنهم بالسند الصحيح، وما روي إنكار ذلك عن أحد منهم، ولا يبطل ما صح بقول القائل لعله نسخ، ولا بأن يروى أنه ﷺ كرره وكذلك إن كان أمراً فلا يبطل بألا يروى أنه ﷺ فعله، وقد بينا أن الأمر ساعة وروده يلزم ما لم يتيقن نسخه، ولو كان الأمر لا يصح إلا بأن يكرر للزم مثل ذلك في التكرار، وفي تكرار التكرار إلى ما لا نهاية له، وللزم مثل ذلك في الأفعال، فكان لا تصح شريعة أبداً. وهذا قول يؤدي إلى إبطال جميع الشرائع وإلى الكفر، وليس الأمر الثاني بأوكد من الأول أصلاً. قال أبو محمد: ثم نعكس عليهم هذا السؤال الفاسد فنقول لمن كان منهم مالكياً أتقول: إن رسول الله ﷺ أخذ الزكاة من زيت الفجل، ومن الفول والعَلَس ومن عروض التجارة، وقد كان ذلك موجوداً بالمدينة، وكانت التجارة هي الغالبة على المهاجرين، ومعاش جميع أهل مكة لا نحاشي منهم أحداً في أيامه ﷺ وهل حكم رسول الله ﷺ بالشفعة في الثمار، وقد كانت تتبايع على عهده بالمدينة بلا شك ؟.
ونقول له إن كان حنفياً: أتقول إنه ﷺ أخذ الزكاة من القثاء والرمان والخضروات والقطن.
ونقول لمن كان منهم شافعياً: هل تقول إنه ﷺ بسمل ولا بد في كل ركعة قبل أم القرآن ؟.
فإن قالوا: قد قام الدليل على كل ما ذكرنا ولا ينسب إلى رسول الله ﷺ خلاف ما أوجبه القرآن، وخلاف ما جاء به أمره، قلنا لهم: هذا قولنا نفسه في جلد ماعز، وفي الاستعاذة.
فإن قالوا: نعم، قد فعل ذلك كله رسول الله ﷺ
قالوا: ما لم يأت في شيء من الروايات أنه فعله ﷺ فلا ينكروا هذا على من قاله فيما جاء به نص كلام الله عز وجل، وإن قالوا: لم يفعله ﷺ ولكنا أوجبناه بالدلائل، أقروا على أنفسهم بالكفر وبإحداث شريعة لم يأذن بها الله تعالى، ولا علمها الرسول ﷺ وصرحوا بأن النبي ﷺ خالف أمر ربه جاهراً وضيع الواجب، وأنهم استدركوا ذلك وعملوا بأمر ربهم، وهذا لا يقوله مسلم، والله الموفق للصواب.
==============
فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً قال علي : وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقناً منقولاً جيلاً فجيلاً ، فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن ، فاستغني عن ذكر السند فيه ، وكان ورود ذلك المرسل ، وعدم وروده سواء ولا فرق ، وذلك نحو : «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
وكثير من أعلام نبوته ﷺ ، وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح فهي منقوله نقل الكافة كشق القمر مع أنه مذكور في القرآن ، وكإطعامه النفر الكثير من الطعام اليسير ، وكسقيه الجيش من ماء يسير في قدح وكصبه وضوءه في البئر فانثالت بماء عظيم بتبوك ، وكرميه التراب في عيون أهل حنين ، فأصابت جميعهم وهي مذكورة في القرآن.
وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطروح على ما ذكرنا ، لأنه لا دليل عن قبوله البتة ، فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا جمع عليها قبلت ، وإذا اختلفت فيها سقطت ، وهي كل قولة لم يأت بتفصيلها باسمها نص.
ومن قال بذلك دون برهان كان عاصياً لقول الله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . قال علي : وإن العجب ليكثر من الحنفيين ، والمالكيين ، فإنهم يأبون قبول خبر الواحد في عدة مواضع ، ويقولون: قد جاء القرآن بخلافها ، نعم ويتركونها والقرآن موافق لها على ما قد ذكرنا ، ثم يتركون القرآن لنقل لا أحد ، فإن قال قائل: وكيف ذلك ؟
قلنا له وبالله تعالى التوفيق : إنهم يقولون كثيراً بالمرسل، وهو نقل لا أحد لأن المسكوت عن ذكره المجهول حاله هو ومن هو معدوم سواء. وبالله تعالى التوفيق .//////
فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح قال علي : وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي ﷺ ، ويكون الإجماع على خلافه، قال وذلك دليل على أنه منسوخ. قال علي : وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن، لوجهين برهانيين ضروريين:
أحدهما: أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم، لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا، ولا سبيل له والله إلى وجوده أبداً.
والثاني: أن الله تعالى قد قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبداً، لا يشك في ذلك مسلم، وكلام النبي ﷺ كله وحي بقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }
والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص، فكلامه ﷺ محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة، منقول كله إلينا لا بد من ذلك.
فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه، وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ، وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله، ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ ﷺ عن ربه، وقد أبطل ذلك رسول الله ﷺ في قوله في حجة الوداع: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلّغْتُ» . قال علي : ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين بحديث آخر صحيح، وإما بآية متلوة، ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت ، بل هو موجود عندنا، إلا أننا نقول: لا بد أن يكون الناسخ لهما موجوداً أيضاً عندنا، منقولاً إلينا محفوظاً عندنا، مبلغاً نحونا بلفظه، قائم النص لدينا، لا بد من ذلك، وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظاً منقولاً مبلغاً إلينا، ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه، فهذا باطل عندنا، لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد، لأنه معدوم البتة، قد دخل بأنه غير كائن في باب المحال والممتنع عندنا، وبالله تعالى التوفيق .///////
قال علي : وإذا قال الصحابي: السنة كذا، وأمرنا بكذا، فليس هذا إسناداً، ولا يقطع على أنه عن النبي ﷺ ، ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله، وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله ﷺ ، حتى نهانا عمر فانتهينا.
وقد قال بعضهم : السنة كذا، وإنما يعني أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده، فمن ذلك ما حدثناه حمام، ثنا الأصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا أحمد بن محمد، ثنا عبد الله، أنبأ يونس، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله، قال: كان ابن عمر يقول: أليس حسبكم سنة نبيكم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، ثم حلّ من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً. قال أبو محمد: ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها أن النبي ﷺ إذ صد عن البيت لم يطف به، ولا بالصفا والمروة، بل أحل حيث كان بالحديبية ولا مزيد، وهذا الذي ذكره ابن عمر لم يقع قط لرسوله .
حدثنا حمام بن أحمد قال: ثنا عياش بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن قال : ثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، ثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطر هو ــــ الوراق، عن رجاء بن حيوة، عن قبصه بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص.
قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرَّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان، ثنا عبد المجيد بن جعفر، ثنا وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصل ركعتين، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة. قال أبو محمد : وقد صحّ عن ابن عباس أنه قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر، وقال: إنها سنة، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن سعد، عن طلحة، قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب قال: لتعلموا أنها سنة سعد هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف، وروي عن أنس: أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج قال: إنها سنة.
وخصومنا في هذا الموضع لا يقولون بشيء من هذا، فقد نقضوا أصلـهم ومن أضل ممن لا يجعل قول هؤلاء: هي السنة سنة، ويجعل قول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة: هي السنة سنة. قال أبو محمد : فلما وجدنا ذلك منصوصاً عنهم، لم يحل لنا أن ننسب إلى النبي ﷺ شيئاً لا نعملـه، فنكون قد دخلنا في نهي اللـه عز وجل إذ يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
فمن أقدم على هذا فهو قليل الورع حاكم بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، وهذا مذهب أهل الصدر الأول، كما حدثنا عبد اللـه بن ربيع التميمي، عن عبد الملك بن عمر الخولاني، عن محمد بن بكر المصري، عن سليمان بن الأشعث، ثنا عبد اللـه بن معاذ، أخبرني أبي، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي اللـه عنها قالت: استحيضت امرأة على عهد رسول اللـه فأُمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لـهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لـهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً، فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي ﷺ ؟ قال: لا أحدثك عن النبي ﷺ شيء. قال علي : فهذا عبد الرحمن يحكي أنها أمرت في عهد النبي ﷺ ولم يستجز أن يقول: ومن يأمر بهذا إلا النبي ﷺ ، لا سيما في حياته ﷺ وإنما أقدم على القطع في هذا، من قل فهمه، ورق ورعه، واشتغل بالقياسات الفاسدة، عن مراعاة حديث النبي ﷺ وألفاظ القرآن.
وقد قال بعضهم: إذا جاء عن صاحب فتيا من قولـه ، إلا أن فيها شرَّع شريعة أو حدّاً محدوداً، أو وعيداً، فإن هذا مما لا يقال بقياس، ولا يقال إلا بتوقيف فاستدل بذلك على أنه من رسول اللـه ﷺ . قال علي : وقائل هذا القول الساقط يقر أنهم رتبوا في الخمر ثمانين برأيهم، وقد أعاذهم اللـه تعالى من ذلك، ونحن نجد أنهم رضي اللـه عنهم قالوا بكل ما ذكرنا بآرائهم، ورسول اللـه ﷺ حيّ وبعد موته، فقد قال طائفة من الصحابة: حبط عمل عامر بن الأكوع، إذ ضرب نفسه بسيفه في الحرب، فأكذب النبي ﷺ ذلك، وعمر قد قال: دعني أضرب عنق حاطب فقد نافق، فأبطل رسول اللـه ﷺ قولـه ذلك، وفي قول عمر الذي ذكرنا إيجاب شرع في ضرب عنق امرىء مسلم، وإخبار بغيب في أنه منافق، ومثل هذا كثير مما سنذكره في باب إبطال التقليد إن شاء اللـه تعالى.
وكل هذا فقد يقولـه المرء مجتهداً متأولاً ومستعظماً لما يرى فمخطىء ومصيب.
وإن العجب ليكثر ممن ينسب إلى النبي كل ما ذكرنا بظنه الفاسد، وينكر أن يكون عليه السلام جلد ماعزاً، وقد صحّ عنه ﷺ الحكم بالجلد على المحصن مع الرجم، ونزل القرآن بجلد الزناة كلهم، وقد ذكر أبو هريرة حديث النفقة على الزوجة والولد والعبد، فقال في آخره: تقول امرأتك أنفق عليّ أو طلقني، فقيل له: أهذا عن رسول الله ﷺ ؟ فقال: لا ولكن هذا من كيس أبي هريرة.
والعجب من القائل: إن مثل هذا لا يقال بالقياس، نعني في مثل قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم: أبلغني زيداً أنه إن لم يتب فقد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ ، وهو يقول بالقياس ما هو أشنع من هذا، فبعضهم يفرق بين الفأرة والعصفورة الواقعين في البئر يموتان فيها، وبين الدجاجة والسنور يموتان في البئر فيوجب من أحدهما عشرين دلواً ومن الآخر أربعين دلواً، ويجيز بيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة يختاره المشتري بغير عينه، ولا يجيز بيع ثوب من أربعة أثواب فصاعداً يختاره المشتري، ويرى القطع في الساج والقنا ولا يراه في سائر الخشب وبعضهم يفرق بين سلم بغل في بغلين، وبين سلم بغلين في بغلين، فيحل أحد الوجهين ويحرم الآخر، وتحكمهم في الدين لو جمع لقامت منه أسفار ونحن لا ننسب إلى النبي إلا ما صح عنه بالنقل، أو صح أن ربه تعالى أمره به ولم ينسخه عنه، فقد قال ﷺ : «إِنَّ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . قال علي : وليس في تعمد الكذب أكثر من أن تسمع كلاماً لم يخبرك أحد تثق به أن رسول الله ﷺ قاله، ولا سمعته يقوله، ولا علمت أن الله تعالى أمره به فتنسبه أنت برأيك، وطنك إلى أن رسول الله ﷺ قاله، نعوذ بالله العظيم من ذلك.///////
قال علي : وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديث في بعضها إبطال شرائع الإسلام، وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله ﷺ وإباحة الكذب عليه ﷺ ، وهو ما حدثنا المهلب بن أبي صفرة، حدثنا ابن مناس، ثنا محمد بن مسرور القيرواني، ثنا يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني شمر بن نمير، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال: «سَيَأْتِي نَاسٌ يُحَدِّثُونَ عَنِّي حَدِيثاً، فَمَنْ حَدَّثَكُمْ حَدِيثاً يُضَارِعُ القُرْآنَ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثٍ لا يُضَارِعُ القُرْآنَ فَلَمْ أَقُلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ حَسْوَةٌ مِنَ النَّارِ» . قال أبو محمد : الحسين بن عبد الله ساقط منهم بالزندقة، وبه إلى ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن الأصبغ بن محمد أبي منصور أنه بلغه أن رسول الله ﷺ قال: «الحَدِيثُ عَنِّي عَلَى ثَلاثٍ، فَأَيُّما حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَعْرِفُونَهُ بِكِتَابِ الله تعالى فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّما حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي لا تَجِدُونَ في القُرْآنِ ما تُنْكِرُونَهُ بِهِ وَلا تَعْرِفُونَ مَوْضِعَهُ فِيهِ فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُكُمْ وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُكُمْ وَتَجِدُونَ فِي القُرْآنِ خِلافَهُ فَرُدُّوهُ» . قال أبو محمد : هذا حديث مرسل/ والأصبغ مجهول.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا ابن يعقوب، ثنا ابن محلون، ثنا المغامي ثنا عبد الملك بن حبيب عن مطرف بن عبد الله، عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله ﷺ قال في مرضه : «لا يُمْسِكُ النَّاسُ عَلَيَّ شَيْئاً لا أُحِلُّ إِلا مَا أَحَلَّ الله في كِتَابِهِ وَلا أُحَرِّمُ إِلاَّ ما حَرَّمَ الله في كِتَابِهِ»
وهذا مرسل إلا أن معناه صحيح، لأنه ﷺ إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئاً من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه، وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله ﷺ فهو عن الله تعالى .
وأخبرني المهلب بالسند الأول إلى ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، عن عمرو ابن أبي عمرو، عمن لا يتهم، عن الحسن أن رسول الله ﷺقال: «وَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَنِّي بَعْدِي مَا لَمْ أَقُلْ، مَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا يُوَافِقُ القُرْآنَ فَصَدِّقُوا بِهِ، وَمَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا لا يُوَافِقُ القُرْآنَ فَلا تُصَدِّقُوا بِهِ» وما لرسول الله ﷺ حتى يقول ما لا يوافق القرآن، وبالقرآن هداه الله. قال أبو محمد : وهذا مرسل وفيه: عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف، وفيه أيضاً مجهول، حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا عبد الوهاب هو الثقفي سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن ابن عمير حدثه أن رسول الله ﷺ جلس في مرضه الذي مات فيه إلى جنب الحجر، فحذر الفتن، وقال ﷺ : «إِنِّي وَالله لا يُمْسِكُ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ، إِنِّي لا أُحِلُّ إِلاَّ مَا أَحَلَّ الله في كِتَابِهِ، وَلا أُحَرِّمُ إِلاَّ ما حَرَّمَ الله في كِتَابِهِ» . قال علي : وهذا مرسل لا يصح، وفيما أخذناه عن بعض أصحابنا عن القاضي عبد الله بن محمد بن يوسف، عن ابن الدخيل، عن محمد بن عمرو العقيلي، حدثنا محمد بن أيوب، ثنا أبو عون محمد بن عون الزيادي، ثنا أشعث بن بزار، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُوَافِقُ الحَقَّ فَخُذُوا بِهِ حَدَّثْتُ بِهِ أَوْ لَمْ أُحَدِّثْ» . قال علي : وأشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه، وحدثنا المهلب بن أبي صفرة، ثنا ابن مناس، ثنا محمد بن مسرور، ثنا يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «ما بَلَغَكُمْ عَنِّي مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا قُلْتُهُ» . قال علي : الحارث ضعيف، والعرزمي ضعيف، وعبد الله بن سعيد كذاب مشهور، وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله ﷺ ، لأنه حكي عنه أنه قال : «لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا قُلْتُهُ»
فكيف يقول ما لم يقله هل يستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق؟ إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة، بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل، يجوز عليهم مثل هذه البلايا لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير. قال علي: فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع، والأخرى أباحت الكذب على رسول الله ﷺ ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين وهاتين المسألتين.
ونقول للأولى : أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقال تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } .
ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الرّبا، والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس، والعمرى، والصدقات، وسائر أنواع الفقه ؟
وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها، لم ندرِ كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي ﷺ.
وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم «بكتاب المراتب» فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ولو أن امرأ قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك.
وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق. ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط، ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقاً بإجماع الأمة، فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل.
وأما من تعلق بحديث التقسيم فقال: ما كان في القرآن أخذناه، وما لم يكن في القرآن لا ما يوافقه ولا ما يخالفه أخذناه، وما كان خلافاً للقرآن تركناه، فيقال لهم: ليس في الحديث الذي صحّ شيء يخالف القرآن، فإن عد الزيادة خلافاً لزمه أن يقطع في فلس من الذهب، لأن القرآن جاء بعموم القطع. ولزمه أن يحل العذرة، لأن في نص القرآن: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
والعذرة ليست شيئاً مما ذكر، فإن قال: هي رجس، قيل له: كل محرم فهو رجس، لا سيما إن كان مخاطبنا ممن يستحل أبوال الإبل وبعرها، فأي فرق بين أنواع المعذرات لولا التحكم، ولزمه أيضاً، أن يحل الجمع بين العمة وبنت أخيها، لأن القرآن نص على المحرمات، ثم قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فإن عدّ الزيادة خلافاً، لزمه كما ذكرناه.
وأما الطائفة الأخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصّاً عن النبي ﷺ وإباحة أن ينسب ذلك إليه، فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون، وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذَبَ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبينَ» .
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري قال: ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع عن شعبة وسفيان، عن حبيب، عن ميمون بن أبي شبيب، عن المغيرة بن شعبة/ عن النبي ﷺ وقال ﷺ: «لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجُ النَّارَ» وروينا هذا المعنى مسنداً صحيحاً من طريق علي، وأبي هريرة، وسمرة وأنس عن رسول الله ﷺ . قال علي : وقال محمد بن عبد الله بن مسرة : الحديث ثلاثة أقسام: فحديث موافق لما في القرآن، فالأخذ به فرض، وحديث زائد على ما في القرآن، فهو مضاف إلى ما في القرآن، والأخذ به فرض، وحديث مخالف لما في القرآن فهو مطرّح. قال علي بن أحمد : لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خبر شريعة، فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث.
فإن احتجوا بأحاديث محرّمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم: قد قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
فكل ما حرمه رسول الله ﷺ مثل الحمار الأهلي وسباع الطير، وذوات الأنياب، وغير ذلك فهو من الخبائث؛ وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها، والمعترض بها يسأل: أيحرم أكل عذرته أم يحلها، فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر، وإن حرمها فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن، فإن قال: هي من الخبائث قيل له: وكل ما حرم ﷺ فهو كالخنزير، وكل ذلك من الخبائث. قال علي : فإن قال: قد صح الإجماع على تحريمها، قيل له: قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي ﷺ من السنن إلى القرآن، مع ما صح على النبي ﷺ من النهي عن ذلك، كما حدثنا عبد الرحمن بن سلمة صاحب لنا قال: ثنا أحمد بن خليل قال: ثنا خالد بن سعيد، ثنا أحمد بن خالد، ثنا أحمد بن عمرو المكي وكان ثقة ثنا محمد بن أبي عمر العدني، ثنا سفيان هو ابن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ : «لا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي ما وَجَدْنا في كِتَابِ الله تَعَالى اتَّبَعْنَاهُ»
فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال، وبالله تعالى التوفيق، مع ما قدمنا من أنه لا يختلف مسلمان في أن ما صح عن النبي ﷺ فهو مضاف إلى ما في القرآن، وأنهم إنما اختلفوا في الطرق التي بها يصح ما جاء عنه ﷺ فقط.
وقد سألت بعض من يذهب هذا المذهب عن قول الله تعالى وقد ذكر النساء المحرمات في القرآن، ثم قال تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
ثم روى أبو هريرة وأبو سعيد أنه ﷺ حرّم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وليس هذا إجماعاً، فعثمان البتي وغيره يرون الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها حلالاً.
فقال لي: ليس هذا الحديث خلافاً للآية لكنه مضاف إليها، فقلت له: فعلى هذا لا سبيل إلى وجود حديث مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل حديث أتى فهو مضاف إلى ما في القرآن ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.////////////
قال علي : وليس كل من أدرك النبي ﷺ ورآه صحابياً، ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة، لأنه قد رأى النبي ﷺ وحادثه وجالسه وسمع منه، وليس كل من أدركه ﷺ ولم يلقه، ثم أسلم بعد موته ﷺ أو في حياته ﷺ إلا أنه لم يره معدوداً في الصحابة، ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره ﷺ صحابياً، ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والأسود ليسا صحابيين، وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما، وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر، وأسلما في أيام النبي ﷺ وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
ومن سمع النبي ﷺ يحدث بشيء والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل فهو مسند صحيح واجب الأخذ به، ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك، وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخير، لا في حين مشاهدة ما أخبر به، وقد كان في المدينة في عصره ﷺ منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضي حاله كهِيت المخنث الذي أمر ﷺ بنفيه، والحكم الطريد وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.
حدثني أحمد بن قاسم قال: حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي، ثنا زكريا بن عدي، ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال : كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، قال فجاءهم رجل وعليه حلة، فقال إن رسول الله ﷺ كساني هذه الحلة، وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال: وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه، فانطلق حتى نزل على تلك المرأة، فأرسلوا إلى النبي ﷺ فقال: «كَذَبَ عَدُوُّ الله» ثم أرسل رجلاً فقال: «إِنْ وَجَدْتَهُ حَيّاً ــــ وَلا أَرَاكَ تَجِدْهُ ــــ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ مَيْتَاً فَاحْرِقْهُ بِالنَّارِ» . قال علي : فهذا من كان في عصره يكذب عليه ﷺ كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله، وأما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول.
أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه، وأسقط عنه الملامة، ففرض علينا أن نرضى عنه، وأن لا نعدد عليه شيئاً، فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل وعندنا، وبقوله ﷺ : «إِنَّ الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم» .
وأما المغيرة بن شعبة، فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر ﷺ ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة.
وأما سمرة بن جندب فأحديّ وشهد المشاهد بعد أُحد وهلم جرا، والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة.
وأما أبو بكرة، فيحتمل أن يكون شبه عليه، وقد قال ذلك المغيرة، فلا يأثم هو ولا المغيرة، وبهذا نقول: وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقيناً فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس، فهما على ما ثبت من عدالتهما.
ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا، وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم.
فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معاً، وأبي بكرة وهو متأول.
وأما سمرة فمتأول أيضاً، والمتأول مأجور وإن كان مخطئاً، وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك، وأما في أحكام الدنيا فلا، ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة.
وكذلك كل من قاتل عليّاً رضوان الله عليه يوم صفين، وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالى فيهم، فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم، إذ رأوا السيف قد خالطهم، وقد جاء ذلك نصاً مروياً.
وإن العجب ليكثر ممن يبيح لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي، والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء، وفي الفروج وفي العبادات فيسفك هذا دماً يحله باجتهاده، ويحرمه سائد من ذكرنا فرجاً ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالاً ويحرمه الآخر، ويوجب أحدهم حدّاً ويسقطه الآخر، ويوجب أحدهم فرضاً وينقضه الآخر، ويحرم أحدهما عملاً ويحله الآخر، ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا، فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا، ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها، وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون، يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم، إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم، ولا برضى الله عز وجل عنهم، لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق، ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم، وهم أئمة الإسلام حقاً والمقطوع على فضلهم، وعلى أكثرهم، بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطىء فمأجور على اجتهاده، إما أجرين وإما أجراً، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم. وبالله تعالى التوفيق./////////
قال علي : وحكم الخبر عن النبي ﷺ أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير، إلا في حال واحدة، وهي أن يكون المرء قد تثَّبت فيه، وعرف معناه يقيناً فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه، أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه، فيقول: حكم رسول الله ﷺ بكذا، وأمر ﷺ بكذا، وأباح ﷺ كذا، ونهى ﷺ عن كذا، وحرم ﷺ كذا، والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي ﷺ وهو كذا.
وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق، وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح كما ذكرنا.
وأما من حدث وأسند القول إلى النبي ﷺ ، وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي ﷺ فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفاً مكان آخر، وإن كان معناهما واحداً، ولا يقدم حرفاً ولا يؤخر آخر، وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق، وبرهان ذلك أن النبي ﷺ علم البراء بن عازب دعاء وفيه : «ونبيّك الذي أرسلت»
فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي ﷺ قال: وبرسولك الذي أرسلت : فقال النبي ﷺ : «لا، وَنَبِيّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» فأمره ﷺ كما تسمع ألا يضع لفظة «رسول» في موضع لفظة «نبي» وذلك حق لا يحيل معنى ، وهو ﷺ رسول ونبي ، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين، أن يقولوا: إنه ﷺ كان يجيز أن توضع في القرآن مكان {عزيز حكيم} {غفور رحيم} أو {سميع عليم}
وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآناً، والله يقول مخبراً عن نبيه ﷺ : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى، أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا، ومع إجماع الأمة على أن إنساناً لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى، أو قال: الشكر للصمد مولى الخلائق، وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافراً بإجماع ومع قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
ففرق تعالى بينهما، وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي، وأمر بقراءة القرآن في الصلاة، فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك.
والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم، ولا بغير ذلك، وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول: إن من عطس في الصلاة فقال: الحمد لله رب العالمين، فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته، فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين، فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن، ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن، ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه، ولا شبه للقرآن في شيء من الكلام بإجماع الأمة.
واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكياً كلام موسى عليه السلام. قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الذي في زبر الأولين إنما هو معنى القرآن لا القرآن، ولو كان القرآن في زبر الأولين لما كان محمد ﷺ مخصوصاً به، ولا كانت فيه آية، وهذا خلاف النصوص والخروج عن الإسلام، لأنه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد ﷺ مخصوصاً به، وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها، ولا نمنع من تلاوته في الصلاة، وإنما نمنع من تلاوته في القرآن، أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به، لا بكلام أعجمي، ولا بغير تلك الألفاظ، وإن وافقتها في العربية، ولا بتقديم تلك الألفاظ بعينها ولا بتأخيرها، وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والإفهام فقط، لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة، وبالله تعالى التوفيق.
وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه، فإن تلك الترجمة غير معجزة، وإذ هي غير معجزة فليست قرآناً.
ومن قال فيما ليس قرآناً إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى، وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلاً، ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة، ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال، لا نشك في ذلك أصلاً.
وأيضاً فقد قال تعالى مخبراً عن نبيه ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق.
ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره، وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبداً حتى يحصل في حد الهذيان، وقد أدى ما عليه بتبليغه. قال أبو محمد : وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند، بأن فلاناً أرسله إذ لو كان سكوت المرء في بعض الأحيان عن تأدية ما سمع مسقطاً للاحتجاج به، إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره، لكان إذا نام أو أكل أو وطىء أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشيء من أمر دينه، أو بتبليغ حديث آخر قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الأحوال التي ذكرنا، وهذا جنون فادح ممن قاله، وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون، وأدى إلى المحال والممتنع، وبالله تعالى التوفيق.
وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئاً له وجه في لغة بعض العرب، فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره، وإن كان شيئاً لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي ﷺ ، فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة، لأنا قد أيقنا أنه ﷺ لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض، وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، فمن نقل عن النبي ﷺ اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين، وفرض عليه أن يصلحه ويَبْشُره من كتابه، ويكتبه معرباً، ولا يحدث به إلا معرباً.
ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحوناً.
ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز وجل.
ثنا يونس بن عبد الله، ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين، ثنا سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن. قال علي : اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله ﷺ كذب، والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة الشك مني أنه قال: «مَن حَدَّثَ عَنِّي بِلَحْنٍ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ» ، ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق./////
قال علي : وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه، فالأخذ بتلك الزيادة فرض، ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض، فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن الذي نقله أهل الدنيا كلهم، أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكماً لم يروه غيره، وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع، وذلك كتركهم قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لحديث انفردت به عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد.
وهو: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً، ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء.
ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها، وليس ذلك مذكوراً في آية التحريم، بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية، فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما.
وليس ذلك إجماعاً، فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها، ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلاً آخر لم يروِ تلك الزيادة، وأن فلاناً انفرد بها. قال علي : وهذا جهل شديد، وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي: «من المسلمين» فقالوا: انفرد بها مالك.
وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة، وقالوا: انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت، وأنكرت ما أتت به، مع أنه قد شورك من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئاً.
ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثاً، فلا يرويه أحد غيره، أو يرويه غيره مرسلاً، أو يرويه ضعفاء، وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروّها غيره من رواة الحديث، وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ، وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ، ففرض قبولهما، ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما، ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه، وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله، ولا فرق. قال علي : فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى، فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة، لأن زيادة المعنى هو العموم، وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والأمر الحادث، ولأن النبي ﷺ إنما بعث شارعاً ومحلالاً ومحرماً، وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب.
فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره، أو رواها غيره، أو روى العدل عموماً فيه حكم زائد، وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم، فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبداً، لأنه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا، وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها، ولا يجوز ترك يقين لظن. فمن ادعى تلك الشريعة التي قد صح أمر الله عز وجل لنا بها قد سقطت عنا، وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة، فهو مفترٍ على الله عز وجل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه، ولا يحل لمسلم يخاف الله عز وجل أن يترك يقيناً لما لعله ليس كما يظن . قال علي : ونمثل من ذلك مثالاً فنقول : روى بعض العدول عن رسول الله ﷺ النهي عن آنية الفضة هكذا مجملاً، وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة، فكانت هذه اللفظة يعني الشرب ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصاناً عظيماً، ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الأكل فيها، والاغتسال فيها، والوضوء فيها، فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى، والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني، فهو الذي لا يجب الأخذ به، لأن الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر.
وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر، فوجب الأخذ بالعام للسائمة وغيرها لأن من أخذ بالحديث العام كان آخذاً بالخاص أيضاً، لأنه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضاً، وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضاً.
فكان آخذاً بكلا الأمرين، وغير عاصٍ لشيء من النصين، وكان من آخذ بالحديث الأخص وحده عاصياً للحديث الآخر، تاركاً له بلا دليل، إلا التحكم والدعوى بغير علم، لأنه إذا زكى السائمة وحدها، فقد ترك زكاة غير السائمة، وخالف ما أوجبه الحديث الآخر، وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه، وذلك لا يحل، لأنه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر، وليس أحدهما نافياً للآخر ولا مبطلاً له.
ومن ذلك أيضاً ما روي أن رسول الله ﷺ عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها، فكان هذا عاماً لكل ما يخرج منها زرعاً أو خضراً أو ثماراً، وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال: من ثمر النخل، فمن أخذ بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفاً لفعل رسول الله ﷺ المنقول في لفظ العموم، وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضاً في غير ثمر النخل، ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض ، وعمّ غيره كل ما وقعت فيه المعاملة، وكان هذا الحديث ناسخاً لحديث النهي عن المزارعة بيقين.
لأنه آخر فعله ﷺ بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات، وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك، فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك. قال علي : ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيداً طلق امرأته، وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول. لم يطلقها البتة، فلا نعلم خلافاً في وجوب الحكم عليه بالطلاق. وإنفاذ شهادة من شهد به، لأن عندهما علماً زائداً شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس، وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق، وإن انفرد بها، وإنها كسائر نقله، وليس جهل من جهل حجة على علم من علم، ولا سكوت عدل مبطلاً لكلام عدل آخر، ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه.
وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الأخبار، وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط، إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه، وذلك أنه قال: قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة، ومن إرسال غير هذا الراوي له، ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه، وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شيء من هذه المعاني. قال علي : فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا يشبه تمويه اليهود، إذ يقولون قد وافقناكم على قبول نبوة موسى ، ووجوب شريعته، وترك العمل في السبت، وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى، وخالفناكم في قبول نبوة محمد ﷺ ، ووجوب شريعته. قال علي : وهذا احتجاج من لا حجة له، وتمويه ضعيف، وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى لأجل موافقتهم لنا عليهم، ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا، كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها، وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد ﷺ ولا فرق، والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله، ولا يزيده ذلك صحة، ولا معنى لمخالفة من خالفه، ولا يضره ذلك شيئاً ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق.
وكذلك الشيء إذا لم يقم على صحته برهان، فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك، وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به، لأن الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله، وما نبالي وافقونا أم خالفونا، كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد، وكما لم نبال بخلاف من خالفنا من المعتزلة وغيرهم في قبول خبر الواحد، وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به.
وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها، وجب اطراح العلل التي راموا بها الأخذ بالزيادة، وبما أرسله عدل وأسنده عدل، وما خولف فيه راويه، وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة وإن انفرد بها العدل وتصحيح ما أسنده العدل وإن أرسله غيره، وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه، وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له، وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه، ففي حكم لم نراع فيه غير الإجماع المتيقن به إذا ثبت، وفيما لولا الإجماع المذكور لم نقل به، مما قد أمرنا باتباع الإجماع المتيقن المقطوع به فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ، وإن كان أصل ذلك الإجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص، وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافاً من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان عندنا فيها إلا الإجماع وحده، وذلك مثل القراض الذي لولا الإجماع على جوازه لاتصال نقل الأعصار به عصراً بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهوراً، وأن النبي ﷺ أقره ولم ينه عنه، وهو يعلمه فاشياً في قريش، وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها لم نجزه، ولو وجدنا واحداً من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله، إذ لا نص في إباحته، ولأنه شرط لم يأت به نص، وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله ﷺ : «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ الله تَعَالى فَهُوَ بَاطِلٌ»
فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الإجماع، فما أجمعوا عليه منها قلنا به.
وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة، لأنه قد بطل الإجماع فيه، والإجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه، وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به، وأما ما قام برهان على صحته من غير الإجماع.
فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه، ولا من خالف، ولا يتكثر بمن وافق فيه كائناً من كان، ولا يستوحش ممن خالف فيه كائناً من كان.
ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول: قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم، وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك، فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعداً، واختلفنا في أقل، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم، وخالفتكم في أقل من ذلك، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.
ولساغ للمالكي أن يقول: قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تمّ غسله، وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلاً أن وقوفه صحيح، وخالفتكم فيمن وقف نهاراً ودفع قبل غروب الشمس، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الأكل بالنسيان تام، وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان، فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
ولساغ للشافعي أن يقول لهما: قد وافقتماني على أن من قرأ؛{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } في صلاته أنها تامة، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها، ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله ﷺ في آخر تشهده، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه ، ووافقتماني في جواز صيام من بيَّته كل ليلة، وخالفتكم في صيام من لم يبيته، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم: قد وافقتمونا على قبول النصوص والإجماع، وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه، ومثل هذا كثير جداً، يقوم منه عشرات ألوف من المسائل، فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة، لأنه كلام موضوع في غير موضعه، سقط شغب من قال: قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة، واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه، فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه، وهي كلها خطط خسف، ونعوذ بالله العظيم منها، اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه، وإن لم يلزمه هو، وبالله تعالى التوفيق.///////
======
فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الأئمة في صدر هذه الأمة والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث
ذهب أصحاب مالك : إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل. قال علي : وهذا من أفسد قول وأشده سقوطاً، فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون، قد سألـهم من سلف من الحنفيين، والشافعيين، وأصحاب الحديث من أصحابنا، منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاماً، عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون ؟
فما عرفوا عمل من يريدون، ولا عجب أعجب من جهل قوم بمعنى قولـهم، وشرح كلامهم.
وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء اللـه تعالى، وباللـه التوفيق.
ويقال لمن قال: لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل، أللعمل أول أم لا أول لـه ؟
فإن قال: لا أول لـه، جاهر بالكذب ولحق بالدهرية، وإن قال: لـه أول.
قيل لـه، وباللـه تعالى التوفيق : يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه، لأنه ابتدىء فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك، والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به، فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الـهذيان، وإلى ألا يصح عمل بخبر أبداً، وكفى سقوطاً بقول «أدَّى» إلى ما لا يعقل، وكثير مما يقتحمون مثل هذا، كقولـهم في معنى قول رسول اللـه ﷺ : «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقا» وكقولـهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع الإمام، هي قبل الأولى، والثالثة قبل الثانية، وهذا كما ترى لا يعقل، وحسبنا اللـه ونعم الوكيل.
وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل، وكان الخبر قد وجد وقتاً من الدهر قبل أن يعمل لـه، فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبداً، وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الأخبار فهو باطل، والباطل لا يصحح الحق، ولا يحقق الباطل، ولا يثبت به شيء.
ويقال لـهم أيضاً: أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به، أحق هو أم باطل ؟
ولا بد من أحد هذين !
فإن قالوا: حق، فسواء عمل به أو لم يعمل به، ولولا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به،؛ ولا يبطلـه أن يترك العمل به، أن أهل الأرض كلـهم أصفقوا على معصية محمد ﷺ ما كان ذلك مسقطاً لوجوب طاعته، وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه ، فما كان ذلك مبطلاً لصحة قولـه ﷺ ، ولو آمن به جميع أهل الأرض وأطاعوه، ما زاد قولـه ﷺ منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس ، ونفسه ضر تارك العمل بالحق، ولم يضر الحق شيئاً، وكذلك لو أصفق أهل الأرض كلهم على نبوة مسيلمة لعنه الله ما حققها ذلك، وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به.
وإن قالوا: الخبر باطل قبل العمل به؛ فالباطل لا يحققه العمل له، ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالاً وخزياً، فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى للعمل، ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به، وقد أصفق أهل الأرض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد فما صححها ذلك. قال علي : وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم، وطرحها على ألسنتهم، وأيّد ذلك الجهل والعصبية المردية، وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم: متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح، أقبل أن يعمل به، أم بعد أن يعمل به ؟
فإن قالوا: قبل أن يعمل به، فهو قولنا .
وإن قالوا: بعد أن يعمل به، لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة، وهذا كفر من قائله .
ولم يبق لهم إلا أن يقولوا: لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الإلهام الذي ادعته الروافض لأنفسها لأنه قول بلا برهان. قال علي : وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون، وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون، فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا، وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، عن يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا زريق وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق قال: فكتب إليَّ : كتبت إليَّ في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وإن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : الآية، فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به.
وبه إلى حجاج بن المنهال، ثنا الربيع بن صبيح قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر، أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف والورق والطعام إلى أجل مسمى ؟ قال: لا أرى بذلك بأساً.
فقلت له: إن الحسن يكرهه، قال: لولا أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأساً، فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به، فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف، وهذا نافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي .
ثم نسألهم فنقول لهم: عمل من تريدون ؟ أعمل أمة محمد ﷺ كلهم، أم عمل عصر دون عصر ؟ أم عمل محمد ﷺ ؟ أم عمل أبي بكر ؟ أم عمل عمر ؟ أم عمل عثمان ؟ ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه ؟ أم عمل جميع فقهاء المدينة ؟ أم عمل بعضهم ؟ ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا.
فإن قالوا: عمل أمة محمد ﷺ كلها بان كذبهم، لأن الخلاف بين الأمة أشهر من ذلك، وهم دأباً إنما يتكلمون على من يخالفهم، فإن كانت الأمة مجمعة على قولهم فمع من يتكلمون إذاً، وإن قالوا عصراً ما دون سائر الأعصار، بان كذبهم أيضاً إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور، ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر مَّا، ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم، ثم اختلف فيها الناس. هذا ما لا يوجد أبداً.
فإن قالوا: عمل رسول الله ﷺ أريناهم أنهم أترك الناس لعمله ﷺ بل لآخر عمله، فإنهم رووا: أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر، والنهي عن صيامه، فقالوا هم: الصوم أفضل، وكان آخر عمله ﷺ : الصلاة بالناس جالساً وهم أصحاء، وراءه، إما جلوس على قولنا، وإما قيام على قول غيرنا.
فقالوا هم: صلاة من صلَّى كذلك باطل، ورووا في الموطأ أنه : كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا هم: طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك.
ورووا أنه كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه صلَّى فقرأ بالطور في المغرب، وبالمرسلات، وكان ذلك في آخر عمره فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان إذا أمَّ الناس فأتم أمَّ القرآن قال آمين قالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه ﷺ سجد في: {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ }
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه : صلّى بالناس جالساً وهم جلوس وراءه فقالوا: صلاة من صلَّى كذلك باطل، وليس عليه العمل، ورووا أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي ﷺ فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس، فقالوا: ليس عليه العمل، ومن صلَّى هكذا بطلت صلاته، ومن البديع أن بعضهم قال: صلاته ﷺ في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل. قال علي : وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين:
أحدهما : أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف التي ادعوا أنها ناسخة كانت في تبوك، وصلاته ﷺ إلى جنب أبي بكر التي ادعوا أنها منسوخة كانت قبل موته ﷺ بخمس ليال فقط، وهي آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته ﷺ بأشهر، أمراً كان قبل موته ﷺ بخمس ليال ؟
أيفوه بهذا من له مسكة عقل، أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل ؟ وصدق رسول الله ﷺ إذا يقول: «إِنَّ الله لا يَنْزِعُ العِلْمِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعاً، وَلكِنْ يَنَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ العُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون» . قال علي : والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل : أنه حتى لو كانت صلاته ﷺ خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر، ما كان فيها نسخ لها، لأنه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة، بل هو حكم آخر، وعلم آخر، وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر، ولهم مثله كثير.
ورووا أنه عليه السلام: جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر، فقال مالك: أرى ذلك كان من مطر.
فقالوا: ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره، ورووا أنه ﷺ أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله.
فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا لا يطهر الثوب، ومن صلى بثوب هذا صفته صلى بنجس، فعلموا نبيهم ما لم يكن في علمه، وجعلوه مصليّاً بثوب نجس، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، ورووا أنه ﷺ صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه، فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا إسقاط للخشوع. قال علي : هذا كلام من قاله منهم ناسباً لسقوط الخشوع إلى رسول الله ﷺ فقد كفر، وارتد وحل دمه وماله، ولحق باليهود والنصارى، ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي ﷺ ولم ينسبه إلى المقتدي به، فقد توقح ما شاء وسخف، وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما.
وأظرف من كل ظريف، أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة، فعصوا الحديث فيما ورد فيه، وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه، ولهم مثله كثير، ورووا أنه ﷺ كان يقرأ في صلاة العيد بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }
فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه ﷺ كان يُقبِّل في رمضان نهاراً فقالوا: نكره ذلك لشاب، وليس عليه العمل، ورووا أنه ﷺ.
صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد.
فقالوا: ليس عليه العمل، وقال شيخ منهم كبير عندهم، صغير في الحقيقة هذا إدخال الجيف في المسجد، فنعقب عاقبة الله على نبيه ، ورووا أنه ، صلى على النجاشي وهو غائب، وأصحابه رضي الله عنهم خلفه صفوف، فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه صلى على قبر، فقالوا: ليس عليه العمل، ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور، فعصوا الله تعالى ورسوله ﷺ في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح، وافتروا في الحديث ما ليس فيه، وراموا بذلك إبطال نهي صحيح قد ثبت لا يحل خلافه، ورووا أنه ﷺ أعطى القاتل السلب، وقضى بذلك، فقالوا: ليس عليه العمل إلا أن يرى الإمام ذلك، ورووا أنه ﷺ أباح النكاح بخاتم حديد، فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا نكاح لا يجوز، ولا بد من ربع دينار، تحكماً من آرائهم الفاسدة، وقياساً على ما تقطع فيه اليد عندهم، فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعة خمر لا تساوي فلساً، على أن إيلام الظهر أشبه باستباحة الفرج من قطع اليد باستباحة الفرج، لأن الفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا يقطعان، واليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه.
ورووا أنه ﷺ أنكح رجلاً امرأة بسورة من القرآن، فقالوا: ليس عليه العمل.
وهذا لا يجوز.
ورووا أنه قضى في الجنين بغرةٍ عبد أو أمة، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون ديناراً، وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة، قياساً على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله ﷺ ، وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى، وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى، وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الأمة بلا دليل، في قياس جنين الأمة على بيضة النعامة خطأ يضحك، في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة، وهم لا يرون الاشتراك في الهدي، وكل ذلك بلا دليل وبالله تعالى التوفيق.
وروي أن رسول الله ﷺ ودى عبد الله بن سهل وهو حضري مدني مائة من الإبل فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يودي بالإبل إلا أهل البادية، وأما أهل الحاضرة فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم، وتعلقوا في ذلك بعمر، وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه، لأن عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة، وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا: ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل.
وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والإبل خاصة.
ورووا أن رسول الله ﷺ جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلاً قتله في دور قوم آخرين، فخالفوا رسول الله ﷺ ، وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضاً.
واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل، فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي ﷺ ، وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب، ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة، لا يقدرون على مثلها أبداً، وتلك الآية لم يكن فيها قسامة، فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضاً وقالوا: إنما القسامة في دعوى المريض أن فلاناً قتله، وقد أبطل النبي ﷺ أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله، فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه؛ وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه، وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه، ورووا أنه ﷺ رجم يهوديين زنيا.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم، وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الإسلام.
وذلك أن قال: إنما رجمهما رسول الله ﷺ تنفيذاً لما في التوراة.
فجعلوه ﷺ منفذاً لأحكام اليهود، وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك، ويعيذ الله تعالى نبيه ﷺ وخيرته من الإنس أن يحكم بغير ما أمره الله به؛ وقد أمره الله تعالى أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ، ورووا أنه ﷺ قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا: لا نغرب العبد لأنه ضرر بسيده، ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه، إن كان له أبوان.
ورووا أنه ﷺ : احتجم وهو محرم.
فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه ﷺ تطيب لإحرامه قبل أن يحرم فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه ﷺ تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه ﷺ قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله.
منها من شرط لأهل دار الحرب النزول في دار الإسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر، ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم، وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه.
ورووا أنه ﷺ قسم خيبر.
فقالوا: ليس عليه العمل، وتركوا ذلك لإيقاف عمر الأرض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك، أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر ؟ وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما، ورووا أنه ﷺ قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا: من أعتق سائبة فلا ولاء له. قال علي : فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله ﷺ من روايتهم في الموطأ خاصة، ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا، وما خالفوا فيه أوامره ﷺ من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك، ولعل ذلك يتجاوز الألوف، فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي ﷺ ، وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله ﷺ ، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده.
فإن قالوا : عمل أبي بكر.
قلنا لهم وبالله التوفيق: لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا، خالفتموه منها في ثمان.
ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة؛ فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } الآية.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أنه أمر أميراً له وجّهه إلى الشام ألا يقطع شجراً مثمراً، فقالوا: ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب. ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيراً إلا لمأكله.
فقالوا: ليس عليه العمل، وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله، وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي وأبي بكر معاً لآرائهم.
ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه.
ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر، ثم أتى النبي فتخلل الصفوف فصفق الناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي ﷺ فأتم الصلاة بالناس.
فقالوا: هذه صلاة لا تجوز، وليس عليه العمل فخالفوا، كما ترى، عمل النبي ﷺ وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والأنصار، وهم أهل العلم من أهل المدينة، برأي من آرائهم الفاسدة.
ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها.
فقالوا: ليس عليه العمل، ونكره رقى أهل الكتاب.
هذا من روايتهم في الموطأ، وأما من رواية غيرهم فكثير.
ومما خالفوه أيضاً: سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم، وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والأنصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا: ليس عليه العمل.
فإن قالوا: عمل عمر، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: رويتم عن عمر رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة.
فقالوا ليس عليه العمل، وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي ﷺ وعمر وجميع الصحابة، وادعوا في ذلك علماً خفي عنهم.
ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب، فسجد وسجد معه المهاجرون والأنصار، ثم رجع إلى خطبته.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أمر أبياً وتميماً أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا قضاء عمر، وعمل أبي بن كعب، وتميم الداري، والمهاجرين والأنصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول، وقالوا: العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة.
ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والأنصار فلم يقرأ فيها شيئاً، فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة، ولا أمر بإعادتها، فقالوا: ليس عليه العمل، وقد بطلت صلاة من صلى هكذا.
ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة، فقالوا: السائمة وغير السائمة سواء. ورووا أنه شرب لبناً فأعجبه.
فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان يقرِّد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل، فلا ندري أجعلوا القردان صيداً منهياً عنه في الإحرام، أم جعلوا على البعران إحراماً أم كيف وقع لهم هذا ؟.
ورووا عنه أنه قضى في الأرنب بعناق قالوا: ليس عليه العمل.
وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم، وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل، ولا عدول أعدل من الصحابة، فقد خالفوا ههنا القرآن، وفعل الصحابة، وتركوا الحق بيقين.
ورووا أنه حكم في اليربوع بجَفْرَة، فقالوا ليس عليه العمل، وهذا كالذي قبله.
وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركاً ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقتل مؤمن بكافر، فمرة يتركون الحديث لقول عمر، ويقولون عمر كان أعلم منا، ومرة يتركون قول عمر: ويقولون الحديث أحق أن يتبع، وفي هذا من التناقض ما فيه.
ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر، فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة.
ورووا عنه أنه جعل القراض مضموناً على عبد الله ابنه.
فقالوا: لا يجوز وليس عليه العمل، فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والأنصار.
ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنوناً أو جذاماً أو برصاً فمسها، فلها صداقها كاملاً، ويرجع به الزوج على وليها، فقالوا: لا يغرم الولي شيئاً إلا أن يكون أباً أو أخاً، فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه، لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار.
ورووا عنه: أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، فقالوا: إن طال نعم وإلا فلا.
ورووا عنه: أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه، فقالوا: ليس عليه العمل ولا رجم فيه، هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له.
ورووا عنه: أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا رجم فيها.
وقد قال بعضهم: إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة، فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه ولا غرو فقد قال ذلك بعضهم في قوله ﷺ إذ همّ بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك.
وتلك التي تستكُّ منها المسامع
ورووا عنه أنه أشخص رجلاً قال لامرأته: حبلك على غاربك من العراق إلى مكة، واستحلفه عن نيته في ذلك.
قالوا: ليس عليه العمل، ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين، ولا ينوي أحد في ذلك، وهي ثلاث أبداً، فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة.
ورووا عنه أنه قال: لا حكرة في سوقنا، فقالوا: لا بأس بالحكرة في السوق.
ورووا عنه أنه قضى بالمدينة بحضرة المهاجرين والأنصار على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه، ومحمد كاره لذلك. فقالوا: ليس عليه العمل.
ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجاً له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره، فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة وقالوا: ليس عليه العمل، وقال ابن نافع صاحب مالك وقد ذكر ذلك الخبر فقال عليه العمل، فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم، وينكره آخرون.
ورووا عنه: أنه أغرم حاطباً في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم، وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم، وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار من أهل المدينة فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها.
فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت، فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم.
فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقضى عليه بعبيد، لكن بالقيمة. ورووا عنه: أنه حكم في منبوذ وجده رجل، أن ولاءه للذي وجده، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا ولاء للملتقط على اللقيط.
ورووا عنه: أنه قضى في هبة الثواب، أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال: ليس عليه العمل، وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فلا رجوع للواهب فيها، وليس له إلا القيمة.
ورووا عنه: أنه كانت الإبل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والأنصار مع موافقة ذلك لأمر رسول الله ﷺ .
فإن قالوا: عثمان رأى غير ذلك، أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان، وأيضاً فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر ؟ لولا التخليط وفساد الرأي.
ورووا عنه: أن رجلاً من بني سعد بن ليث أجرى فرساً فوطأ أصبع رجل من جهينة فنزف الجهني فمات، فقال عمر للسعديين: أتحلفون بالله خمسين يميناً ما مات منها، فتحرجوا وأبوا، فقال للجهنيين: احلفوا أنتم لمات منها فأبوا، فقضى على السعديين بنصف الدية، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن يبدأ المدعون وقالوا: ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية.
ومن العجب العجيب أن مالكاً الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين، وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين، وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها، ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين، وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى، فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها، وثلاثة أرباعه مطرحاً لا يعمل له ؟ فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الأقوال، ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله ﷺ .
ورووا عنه: أنه قضى في الترقوة بجمل.
فقالوا ليس عليه العمل، ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه: أنه قضى في الضلع بجمل، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا عنه: أنه جلد عبداً زنى وغربه.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغرب العبد، فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة، ومعه سنة النبي ﷺ لآرائهم الفاسدة.
ورووا عنه: أنه أمر ثابت بن الضحاك وكان قد التقط بعيراً، بأنه يعرفه ثلاثاً، ثم أمره بإرساله حيث وجده، فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت.
فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة، وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك.
فإن قالوا: عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة، ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الأذان، ولا يبتدأ بالأذان إلا بعد الزوال، فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل.
ورووا عنه: أنه أذن على المنبر لأهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب.
فقالوا: ليس عليه العمل، ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك، وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة.
ورووا عنه: أنه كان يغطي وجهه وهو محرم. فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يغطي المحرم وجهه.
ورووا عنه: أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر: هذا شهر زكاتكم.
فقالوا: ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف.
ورووا عنه: أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك، فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثاً من زوجها إذا طلقها وهو مريض، وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا، فكانوا يوقفون في ذلك.
ورووا عنه: أنه صلى بمنى أربع ركعات، فقالوا: ليس عليه العمل، وقالوا: القصر حق تلك الصلاة، واحتجوا في ذلك بفعل النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفاً، وما تركوا فيه عمر لعثمان، ورووا: أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح.
ورووا أيضاً نعني قراءتها عن عمر فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه: من أصح طريق وأجلها، وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: ولا تأكل أنت، فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره، ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة، هذا نص الموطأ، فأين العمل إن لم يكن عمل النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والأنصار.
ورووا عنه، وعن عمر: النهي عن الحكرة. فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بها. قال علي : وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها، وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة، لا نحاشي منهم أحداً، وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة، وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جداً، منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك.
وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن عثمان الأسدي، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا عبد الله بن عمر النميري، ثنا يونس بن يزيد الأبلي، سمعت الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال الزهري: اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر، حين أمر على المدينة، فأمر عماله بالعمل بها، وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك، فأمر الوليد عماله بالعمل بها، ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك، ثم أمر هشام بن محمد بن هانىء عامله فنسخها إلى كل عامل من عمال المسلمين، وأمرهم بالعمل بما فيها، ولا يتعدونه، وذكر باقي الحديث. قال علي : فهذا عمل فاش كما ترى، وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى، ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاماً من موت النبي ﷺ وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك، وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن عليّ، وعمال ابن الزبير بغير ذلك، وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك، وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي، وعمل عثمان، وعمل أبي بكر الصديق، وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن، وما صح عن النبي ﷺ بالأسانيد الصحيحة، وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده، فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به، وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم: ليس عليه العمل.
فإن قالوا عمل الأكثر، فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان، ومن صلى معهم، ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الأكثر.
وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة، ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك، وهذا كما ترى، وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة، فلم يبلغ ذلك إلا أوراقاً يسيرة، هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط، ألا يحتج بروايته، وما جعل الله أولئك أولى بالقبول منهم من نظرائهم من أهل الكوفة، الذين هم أفضل منهم في ظاهر الأمر كعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وشريح القاضي، وعمرو بن ميمون، ومسروق، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعبيدة السلماني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وعبد الرحمن بن يزيد الليثي، وسعيد بن جبير، ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وجابر بن زيد، ومسلم بن يسار، وأبي قلابة، وبكر بن عبد الله المزني، وزرارة بن أوفى، وحميد بن عبد الرحمن، وأيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز، وأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، وجبير بن نفير، ورجاء بن حيوة، ولا من نظرائهم من أهل مكة، كطاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمر بن دينار، وعبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وعبد الله بن طاووس، ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان اللـه عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح، ولا مثل محارب بن دثار، ولا مثل زرارة بن أوفى، ولا مثل الشعبي، ولا مثل أبي عبيدة بن عبد اللـه، ولا مثل عبد اللـه بن عتبة، أصلاً. ويقال لـهم أيضاً هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف ؟ فإن قالوا: لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات، وإن قالوا: اختلف، قيل لـهم: فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم ؟ وقد أبطل اللـه كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب اللـه، وكلام نبيه ﷺ بقولـه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فمن ردّ إلى غيرهما فقد عصى اللـه ورسولـه، وضل ضلالاً مبيناً لقولـه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } .
وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان اللـه عليهم بهذا الأصل الملعون أعظم الفرية، وأشد التضييع للإسلام، وقلة المبالاة به، وهذا لا يحل لمسلم أصلاً أن يظنه، فكيف أن يعتقده، ويدعو إليه، وذلك لأن عمر رضي اللـه عنه مصَّر البصرة والكوفة ومصر والشام، وأسكنها المسلمين، وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعتبة بن غزوان، وغيرهم وولى عثمان عليهم، ولاته أيضاً كذلك، كمعاوية وعمرو بن العاص، وقد ولّيا لعمر أيضاً مع عمار، وابن مسعود، وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف، وعبد اللـه بن عباس، وولى مصر قيس بن سعد، أفترى عمر وعثمان وعلياً وعمالـهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين اللـه تعالى، والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه ؟ وما يفعل هذا مسلم، بل الذي لا شك فيه أنهم كلـهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق.
ثم سكن علي الكوفة أفتراه رضي اللـه عنه كتم أهلـها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام ؟
واللـه ما يظن هذا مسلم ولا ذمِّي مميز بالسير، فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنَّة إلا وهي في سائر الأمصار كلـها ولا فرق، وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم رضي اللـه عنهم فواللـه ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس، كعمرو بن سعيد، والحجاج بن يوسف، وطارق، وخالد بن عبد الله القسري، وعبد الرحمن بن الضحاك، وعثمان بن حيان المري، وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، فإنه كان كل واحد منهم فاضلاً، وليها أبو بكر أربعة أعوام، عامين قاضياً وعامين أميراً لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فأي مزية لأهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية ؟ لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع، وهو قليل الفتيا جداً، وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث، وأبي الزناد وزيد بن أسلم، وكانا قليلي الفتيا، وأما الزهري فإنما كان بالشام، وما كتب عنه مالك إلا بمكة، وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم، وابنه محمد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، على أن أهل العراق يجاذبونه إياه، لأنه مات وهو قاض ببغداد، وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكاً لم يأخذ عنه.
ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن مالكاً ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله ﷺ بثلاث وثمانين سنة، وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة، وما اشتهر علمه، فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك، وطول المدة التي ذكرنا، وهي نحو مائة عام وعشرين عاماً؟ كان فيها خيار أهل الأرض من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم، فإن قالوا: على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين، وقد ذكرنا آنفاً من ذلك طرفاً صالحاً.
ويقال لهم أيضاً: إن كان الأمر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عائشة، أو ابن عمر، أو سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة بن الزبير، أو ربيعة ؟ ولم خصصتم مالكاً وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا، وهم كانوا أفضل منه وأهيب في الصدور ؟
فإن قالوا: لأن مالكاً ثبت واختلف الناس، بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم، وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم، فقال: بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه، وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها، لا إلى من اتبع غيره فيها.
وإن قالوا: كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير، قيل لـهم: فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح، فليس واللـه فيما حدث بعدهم شيء من الخير، يعني مما يكونوا عليه، ولا علمه ذلك الصدر فإن تكن الأمور بالدلائل، فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر، مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد، متفقين على الأخذ بحديث النبي ﷺ إذا بلغهم وصح طريقه.
وإن لم يكن الأمر بالتقليد ونعوذ باللـه من ذلك فتقليد عمر وعثمان وسائر من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم، اللـهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد اللـه بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن حاتم، ثنا بهز، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد اللـه بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي ﷺ أن يمروا بجنازته فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حُجَرِهن يصلين عليه، وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك.
وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد.
فبلغ ذلك عائشة رضي اللـه عنها فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لـهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد.
وما صلّى رسول اللـه ﷺ على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد.
وبالسند المذكور إلى مسلم: ثنا محمد بن حاتم بن ميمون، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلي فأخبرني فقلت: هذا الأمر لا يصلح قال: قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبي ﷺ المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: «ما كَانَ يَداً بِيَدٍ فَلا بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئةً فَهُوَ رِباً» وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك.
وبالسند المذكور إلى مسلم: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد بن عمرو، ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلي فيه ناس، فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب، فذكرت ذلك لـه، فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: قال رسول اللـه ﷺ ... فذكرت من كان لـه ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي، أو كلاماً هذا معناه. قال علي : عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكَيْمة الذي يروي عنه مالك وغيره. قال علي : فإن كان عمل أهل المدينة الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله ﷺ من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا العمل، ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته، ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا؛ من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي ﷺ المرور في المسجد، وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق، أو بالذهب نسيئة، ولا ينكر ذلك أحد منهم.
ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي ﷺ في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة عليهم بذلك، فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي ﷺ ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم، فلم يبق بأيديهم شيء إلا العمل الذي وصفنا، ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد فشا الشكوى بالعمال، وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدثنا حمام بن أحمد قال: ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، حدثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن سوقة، عن منذر الثوري، عن محمد بن علي هو ابن الحنفية قال: جاء عليّاً ناسٌ فشكوا سعاة عثمان، فقال لي علي: اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان، فأخبره أنها صدقة رسول الله ﷺ ، فمر سعاتك يعملون بها، فأتيته بها، فقال أغنها عنّا. فأتيت بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته، فقال: ضعها حيث أخذتها.
فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم، ووجب أن لا حجة إلا فيما صح عن النبي ﷺ ، وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له: قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك، وذكر له رسول الله ﷺ سكت عمر ومضى، فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي ﷺ ، فإن قالوا: مالك أتى متأخراً فتعقب. قيل لهم: فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى، كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم، إلى أن يبلغ الأمر إلينا، ثم إلى من بعدنا. قال علي : والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكاً رحمهما الله اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد، إذ كل مسلم فَفَرْضٌ عليه أن يجتهد في دينه، وجرياً على طريق من سلف في ترك التقليد، فأجرا فيما أصابا فيه أجرين، وأجرا فيما أخطآ فيه أجراً واحداً، وسلما من الوزر في ذلك على كل حال. وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما، ممن كان قبلهما، وممن كان معهما، وممن أتى بعدهما أو يأتي، ولا فرق، فقلدهما من شاء الله عز وجل، ممن أخطأ وابتدع، وخالف أمر الله عز وجل، وسنّة النبي ﷺ وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل، واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل.
وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله، إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولاً الصواب فيها أكثر من الخطأ، فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه، وهم ألوم وأقل عذراً في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه.
وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد، فمن قلد أحداً مما يدعي أنه منهم فليس منهم، ولم يعصم أحد من الخطأ، وإنما يلام من اتبع قولاً لا حجة عنده به، وألوم من هذا من اتبع قولاً وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه، وبالله تعالى التوفيق.
وألوم من هذين وأعظم جرماً من يقيم على قول يقر أنه حرام، وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام، ويتركون أوامر النبي ﷺ ويقرون أنها صحاح وأنها حق، فمن أضل من هؤلاء؟ نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهدى والعصمة، فكل شيء بيده لا إله إلا هو. قال أبو محمد : وقد قال بعضهم: قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي ﷺ ، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به، وهذا كفر من فاعله.
أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم. قال علي : وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنه قال قائل: لعل الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة.
قيل له: ولعل الرواية التي رويت بأن فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي ﷺ أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضاً فإن قوماً منهم تركوا بعض الحديث، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلإن فرق بين من قال: لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله تركه، وبين من قال: لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به، وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة.
وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق، سواء تركه مخطئاً معذوراً أو تركه عاصياً موزوراً، ولا يتكثر بمن عمل به كائناً من كان، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال.
وأيضاً فإن الأحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف، ليست في أكثر الأمر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها، بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك، وأخذ هؤلاء، بما تركه أولئك، فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث.
لأنهم أول مخالف لهم في ذلك، وأول مبطل لذلك الترك.
ولا أسوأ من احتجاج امرىء بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد.
وأيضاً فلو صح ما افتروه من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث، ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كل من يظن به خيراً من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمة المقدسة لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عز وجل.
قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ }
فنحن نقول: لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله ﷺ وكتمه عن الناس كائناً من كان.
ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر.
وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله، وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلهم، إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي: وذلك أني قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس، وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس، المعلول والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد، وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك، بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق، أو كلاماً هذا معناه، وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم، وقد قال ﷺ مخبراً: «إن من كتم علماً عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار» .
فإن قالوا : بل ما كان عنده عن النبي ﷺ خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس، وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا: صدقتم، وهذه صفته عندنا، ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لأنه عدل، وقد أمرنا بقبول خبر العدل.
ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد، وهو أول الناس ينهى عن تقليده، والعجب من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله ، وأخذوا بالأول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره مما تركوا فيه آخر فعله وأخذوا بالأول المنسوخ.
فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الإمام المعهود، وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة، فدخل الإمام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم.
ويصير الإمام الذي ابتدأ الصلاة مأموماً، وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأبطلوا هذه الصلاة.
وأجازوا أن يخرج الإمام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم، وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع، ولم يروا الصلاة خلف الإمام القاعد، والأصحاء وراءه قعود أو قيام، وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ ، وتعلقوا بحديث رواه الجعفي وهو كذاب عن الشعبي مرسلاً: «لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِساً» وهي رواية كوفية.
وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة، ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة.
وكرهوا التكبير بتكبير الإمام، وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور، وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله ﷺ بحضرة جميع المهاجرين والأنصار، إلا الأقل منهم، وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف وهو الناسخ، وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي، وكان ذلك في أول الإسلام.
وتركوا ما في سورة براءة وهي آخر سورة نزلت على رسول الله ﷺ من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي، وتركوا أيضاً ما فيها من قوله تعالى: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وتعلقوا بحديث تخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، لأنه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحاً جائزاً، لأن نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه، مفسوخ لا يجوز وإن جوزه الكفار لأن الله تعالى قد حرمه، وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم. وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان، وهو الناسخ، وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة، وتركوا النهي عن الكلام مع الإمام في إصلاح الصلاة، وهو الناسخ، وتعلقوا بالمخصوص المنسوخ، وتركوا قراءة «والمرسلات» في المغرب، وهو من آخر فعله وتركوا تطيبه لحلِّه ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت، وهو آخر فعله عليه السلام، وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع.
وتركوا إيجابه ﷺ السَّلَبَ للقاتل وكان في غزوة حنين وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ قبل حنين وتركوا ما في سورة براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الإسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية، وأخذوا بحديث أبي جندل، وهو منسوخ قبل براءة، ومثل هذا كثير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.وج4.مشكاة المصابيح - التبريزي{ من 3864 الي6285}

  3. مشكاة المصابيح - التبريزي 3864 - [ 4 ] ( صحيح ) وعن سلمة بن الأكوع قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضل...