الأحد، 28 أغسطس 2022

ثالثا 3. ابن حزم الاحكام

 

ثالثا 3. ابن حزم الاحكام
فإن قيل : فعلى أي وجه ترك هو ومن قبلـه كثيراً من الأحاديث ؟
قيل لـه وباللـه التوفيق: وقد بينَّا هذا فيما خلا، ولكن نأتي بفصول تقتضي تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره، وذلك أن مالكاً وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس، وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكرته امرأة بقول اللـه تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }
فترك قولـه وقال: كل أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ، وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره عليّ بقول اللـه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
مع قولـه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فرجع عن الأمر برجمها.
وهمّ أن يسطو بعيينة بن حصن، إذ قال لـه: يا عمر ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول اللـه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
وقال لـه: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر.
وقال يوم مات رسول اللـه : واللـه ما مات رسول اللـه ﷺ ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاماً هذا معناه، حتى قرئت عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض.
وقال: كأني واللـه لم أكن قرأتها قط .
فإذا أمكن هذا في القرآن، فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه البتة، وقد لا ينساه بل يذكره، ولكن يتأول فيه تأويلاً فيظن فيه خصوماً أو نسخاً أو معنى ما، وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع، لأنه رأي من رأى ذلك، ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه.
وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله ﷺ بالمدينة مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنك من القوت شديد قد جاء ذلك منصوصاً وأن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم، فكانوا من متحرف في الأسواق، ومن قائم على نخلة، ويحضر رسول الله ﷺ في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله، هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال : إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله ﷺ على ملء بطني، وقد أقرّ بذلك عمر فقال: فاتني مثل هذا من حديث رسول الله ﷺ ، ألهاني الصفق في الأسواق، ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله ﷺ يسأل عن المسألة، ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه.
فلما مات النبي ﷺ وولي أبو بكر رضي الله عنه، فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد، إلى مسيلمة وإلى أهل الردة، وإلى الشام والعراق، وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه.
فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي ﷺ أمر، سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم، ليس عليه غير ذلك، فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار، وزاد تفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي ﷺ أثر، حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي موجود عند صاحب آخر، في بلد آخر.
وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني، كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي ﷺ في بعض الأوقات وحضور غيره، ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه.
وهذا معلوم ببديهة العقل.
وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره.
وجهله عمر وابن مسعود فقالا: لا يتيمم الجنب، ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند عليّ وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم، وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة، وهم مدنيون.
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وجهله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى، وعند أبي سعيد وجهله عمر.
وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف، عند ابن عباس وأم سليم، وجهله عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند عليّ وغيره، وجهله ابن عباس. وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر، وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب، عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر، فأجلاهم.
وكان علم الكلالة عند بعضهم، ولم يعلمه عمر، وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة.
وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر. وكان حكم أخذ الجزية من المجوس، وألا يقدم على بلد فيه الطاعون، عند عبد الرحمن بن عوف، وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان، وجهله عمر.
ومثل هذا كثير جداً، فمضى الصحابة على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاويهم، لا تقليداً لهم، ولكن لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس.
ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار: كأبي حنيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم، و{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي ﷺ أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجراً واحداً، وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الأختين، حرمتهما آية، وأحلَّتهما آية، وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال ولا أعلم شركاً أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى، وكما جعل ابن عباس عدة الحامل آخر الأجلين من وضع الحمل، أو تمام أربعة أشهر وعشر، وكما تأول بعض الصحابة في الحمُر الأهلية أنها إنما حرمت لأنها لم تخمس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها حمولة الناس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها كانت تأكل العذرة، وقال بعضهم: بل حرمت لعينها، وكما تأول قدامة في شرب الخمر، قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
فعلى هذه الوجوه ترك مالك ومن كان قبله ما تركوا من الأحاديث والآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، فهي وجوه عشرة كما ذكرنا:
أحدها: ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه، كما قال عمر في خبر الاستئذان: خفي عليَّ هذا من رسول الله ﷺ ألهاني الصفق بالأسواق.
وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان.
وثانيها: أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ، وأنه وهَمَ كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس، وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله، وهذا ظن لا معنى له، إن أطلق بطلت الأخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كانت تحكماً بالباطل.
وثالثها: أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات.
ورابعها: أن يغلب نصّاً على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له، إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة.
وخامسها: أن يغلِّب نصّاً على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم، وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلاً في ترجيح الأخبار.
وسادسها: أن يغلب نصّاً لم يصح على نص صحيح، وهو لا يعلم بفساد الذي غلب.
وسابعها: أن يخصص عموماً بظنه.
وثامنها: أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به، ويترك الذي يثبت تخصيصه.
وتاسعها: أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان.
وعاشرها: أن يترك نصّاً صحيحاً لقول صاحب بلغه، فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده.
فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز وجل، أنه سيكون، ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنَّه آمين.
ثم كثرت الرحل إلى الآفاق، وتداخل الناس والتقوا، وانتدب أقوام لجمع حديث النبي ﷺ وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله ﷺ وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه، وقيام الحجة به عليه، فلم يبق إلا العناد والجهل، والتقليل والإثم.
وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم، وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة، وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر، إلى عقبة بن عامر في حديث واحد.
وكتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليَّ ما سمعته من رسول الله ﷺ ، ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام. فقد بيَّنا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك، ورفعنا الإشكال جملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال أبو محمد : وقد موه بعضهم بأن قال: إن ابن مسعود كان يسأل عن الشيء فيتركه حتى يأتي المدينة. قال علي : وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي: مسألة نكاح الأم التي لم يدخل بابنتها فخالفه عمر، وقد صح عن زيد بن ثابت وهو مدني مثل قول ابن مسعود.
والثانية: بيعه نفاية بيت المال، ثم رجع عن ذلك. قال علي : وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبّراً عن نفسه: ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت، ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز وجل تبلغني إليه الإبل لأتيته.
فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه صفته ؟ ولقد صدق رضي الله عنه، وهو الذي أمر رسول الله ﷺ أن يتمسك بعهده، وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه، وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة، فردَّه عن ذلك وهو كوفي وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة وهو كوفي لم يكن عند أهل المدينة. قال علي : وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد اللـه بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن المثنى، ثنا سهل بن يوسف، قال حميد: أنبأ عن الحسن قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا، فقال من ههنا من أهل المدينة ؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون، فرض رسول اللـه ﷺ هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من قمح على كل حرَ أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير.
فلما قدم عليَّ رأى رخص الشعير، قال: قد أوسع اللـه عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. قال علي : وهذا الحديث قبل كل شيء لا يصح، لوجوه ظاهرة:
أولـها: أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس: لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار، أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ثم أقام عليّ بالبصرة باقي جمادى الآخرة، وخرج راجعاً إلى الكوفة في صدر رجب، وترك ابن عباس بالبصرة أميراً عليها، ولم يرجع عليّ بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد لـه علم بالأخبار.
وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر، ثم قدم عليّ بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه.
ووجه ثان: أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئاً، ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة، وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث.
وأيضاً وجه ثالث: فإنه حديث مفتعل لا يصح، لأن البصرة فتحها وبناها سنة أربع عشرة من الـهجرة عتبة بن غزوان المازني بدري مدني، ووليها بعده المغيرة بن شعبة، وأبو موسى، وعبد اللـه بن عامر، وكلـهم مدنيون، ونزلـها من الصحابة المدنيين أزيد من ثلاثمائة رجل، منهم عمران بن الحصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، والحكم بن عمرو، وغيرهم، وفتحت أيام عمر بن الخطاب، وتداولـها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الـهجرة، فلم يكن في هؤلاء كلـهم من يخبرهم بزكاة الفطر، بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاماً، مدة خلافة عمر بن الخطاب، وعثمان رضوان اللـه عليهم، حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل.
أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة، أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان، ولا دخلوا المدينة، فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل ؟ إن هذا لـهو الضلال المبين، والكذب المفترى، ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان اللـه عليهم، أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم ؟ وما حدث الحسن، واللـه أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب لـه، لا يجوز غير ذلك.
ثم نقول لـهم: لو صح وهو لا يصح لكان حجة على المالكيين، لأنه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر، لأنهم يرون أنه لا يجزي فيها من البُرِّ إلا صاع فعاد حجة عليهم، ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ باللـه من الخذلان، وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور، لكن كما حدثنا عبد اللـه بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب السختياني، عن أبي رجاء هو العطاردي قال: سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول: صدقة الفطر صاع من طعام.
وقد موه بعضهم بأن قال: إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول اللـه ﷺ . قال علي : وهذا قول رجل جاهل أو مدلس، لا بد لـه ضرورة من أحد الوجهين، فإن كان جاهلاً وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين اللـه عز وجل، وإن كان هذا مستحيلاً للتلبيس في دين اللـه تعالى، فهذا أخبث وأنتن. قال علي : وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين :
أحدهما: أننا قد بيَّنا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول اللـه ﷺ
والثاني: أن الصحابة رضي اللـه عنهم كانوا كلـهم مدنيين طول مدة رسول اللـه ومدة أبي بكر، وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان اللـه عليه فما بعد ذلك، لأن الشام ومصر كانت بأيدي الروم، والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس، ولم يفتتح شيء من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر، هذا أمر لا يجهلـه من لـه أقل نصيب من العلم، وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول اللـه ﷺ ، ولم ينفرد قط برسول اللـه ﷺ من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته ﷺ العراق أو الشام أو مصر، فبطل كذب من موَّه بما ذكرنا، وللـه الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي اللـه عنهم، ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من النبي ﷺ من سائر الصحابة الذين بالأمصار، ولا هم أولى بالعلم منهم، بل كلـهم واجب الحق، موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين. قال أبو محمد : وهذا الذي جرى عليه الناس، كما حدثنا عبد اللـه بن ربيع، ثنا عبد اللـه بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا يزيد بن أبي إبراهيم، ثنا رزيق وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق، فكتب إليه، كتبت إليّ في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وأن اللـه تعالى يقول: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } : فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه. قال علي : فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز، وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه.
===========
قال علي : واستغاث بعضهم إلى ذم الإكثار من الرواية، ونسبوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، وذكروا الخبر عنه أنه لم يلتفت لرواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثاً، وأنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت، وتوعد أبا موسى بضرب الظهر والبطن إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان. وإن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة. حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة، وأن عائشة أم المؤمنين لم تلتفت إلى قول أبي هريرة في المشي في خف واحد وقالت: لأحنثن أبا هريرة، ومشت في نعل واحدة.
وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب، من عند أبيه كتاب حكم النبي ﷺ في الزكاة فقال له: أغنها عنا، فرجع إلى أبيه فقال: ضع الصحيفة حيث وجدتها، وأن عماراً قال لعمر في حديث التيمم: أما والله يا أمير المؤمنين لئن شئت لما جعل الله لك عليّ من الحق ألا أحدث بذلك أبداً فعلت.
فقال له عمر: لا، ولكن نوليك من ذلك ما توليت، وأن ابن عباس لم يلتفت لرواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار، ولا رواية الحكم بن عمرو الغفاري في الوضوء من فضل المرأة، ولا رواية علي في النهي عن المتعة، ولا رواية أبي سعيد الخدري في النهي عن الدرهم بالدرهمين يداً بيد، وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال: إن لأبي هريرة زرعاً، وإن معاوية لم يلتفت لرواية عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء في النهي عن الفضة بالفضة بتفاضل يداً بيد.
فهؤلاء، أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وعمار وابن عباس وابن عمر ومعاوية ذكروا نحو هذا أيضاً عن نفر من التابعين.
قال علي : وقولهم هذا دحض بالبرهان الظاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وهو أنه يقال لمن ذم الإكثار من الرواية:
أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله ﷺ ، أخير هي أم شر؟ ولا سبيل إلى وجه ثالث .
فإن قال: هي خير، فالإكثار من الخير خير، وإن قال: هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قد أخذوا منه بنصيب، فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعلمون به، أما نحن فلسنا نقر بذلك، بل نقول: إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله.
وأيضاً فنقول لهم: عرفونا حد الإكثار من الرواية المذمومة عندكم، لنعرف ما تكرهون، وحد غير الإكثار المستحب عندكم، فإن حدوا في ذلك حداً كانوا قد قالوا بالباطل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقالوا بلا برهان وبغير علم، وإن لم يجدوا في ذلك حداً كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة، إذ لا يدرون ما ينكرون ولا يحسنون. وهذا هو الضلال ونعوذ بالله منه.
وأيضاً فيقال لهم: ما الذي جعل أن يكون ما رواه مالك من الحديث خيراً، ويكون ما رواه شراً دون أن تكون القصة معكوسة، ونحن نعوذ بالله من كل ذلك، بل الخير كله التفقه في الآثار والقرآن، وضبط ما روي عن النبي ﷺ .
وقد حضّ النبي ﷺ على أن يبلغ عنه، وهذا التفقه والنذرة التي أمر الله تعالى بها، وليت شعري، إذا كان الإكثار من الحديث شراً فأين الخير ؟ أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق ؟ أم في التحكم في دين الله عز وجل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها، وزجر النبي ﷺ عنها.
وفخر بعضهم بأن مالكاً كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده.
قال علي : هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم، ويريد أن يبني فيهدم، ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده، وترك ما لم يصح فقد أحسن.
وكذا كل من حدث أيضاً بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه، ولا أروع كسفيان وشعبة والأوزاعي وأيوب وغيرهم، وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، لأن هذه صفة أفسق الفاسقين، أو يكون حدث بسقيم وصحيح، وكتم صحيحاً وسقيماً، فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علماً صحيحاً عنده، فبطل ما أرادوا يمدحوه به، وعاد ذمّاً عظيماً لو صح عليه ذلك، وأعوذ بالله من ذلك.
وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا، وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك، ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة.
ولسنا نقول هذا بظننا بل يقيناً، فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لقينا مالكاً قبل أن يصنف، ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة، ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه، طائفة بعد طائفة، وأمة بعد أمة، وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه، وعاش بعد موت مالك ثلاثاً وستين سنة، وموطؤه أكمل الموطآت، لأنه فيه خمسمائة حديث وتسعين حديثاً بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثاً، وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر، وكذلك سماع ابن القاسم، ومعن بن عيسى، وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث، وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل، والحمد لله رب العالمين.
قال علي : ولئن كان جميع حديث النبي ﷺ مذموماً فإن مالكاً لمن أول من فعل ذلك، فإن أول من ألف في جمع الحديث فحماد بن سلمة، ومعمر، ثم مالك، ثم تلاهم الناس، وأما نحن فإننا نحمد ذلك من فعلهم.
ونقول: إن لهم ولمن فعل فعلهم في ذلك أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السنن، وكثيراً ما بينوا من الحق، وما رفعوا من الإشكال في الدين، وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف، فمن أعظم أجراً منهم، جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان آمين.
وأما رد عمر رضي اللـه عنه لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته فاطمة وهي من المبايعات المهاجرات للصواحب، فهو تنازع من أولي الأمر ليس قول أولى من قولـها، ولا قولـها أولى من قولـه، إلا بنص والنص موافق لقول فاطمة، وعمر مجتهد مخطىء في رد ذلك، مأجور مرة ولا تعلق للمالكيين بهذا الخبر، لأنهم خالفوا رواية فاطمة وخالفوا قول عمر، فلم يتعلقوا بأحدهما.
وأما ما ذكروا من نهي عمر رضي اللـه عنه في الإكثار من الحديث عن النبي ﷺ ، فحدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون اللـه، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشن، ثنا بندار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه إلى صِرَار، فانتهى إلى مكان فتوضأ فيه.
فقال: أتدرون لما شيعتكم ؟ قلنا: لحق الصحبة.
قال: إنكم ستأتون قوم تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدروهم بالحديث عن رسول اللـه ﷺ وأنا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بشيء بعد، ولقد سمعت كما سمع الصحابي. فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة، وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه، بل لا شك في ذلك، لأن قرظة رضي اللـه عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة.
هذا مذكور في الخبر الثابت المسند، وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب.
فذكر المغيرة عنده ذلك خبراً مسنداً في النوح، ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك، والشعبي أقرب إلى الصبا، فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا الخبر، بل قد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعليّ رضوان اللـه عليه بالكوفة فصح يقيناً أن الشعبي لم يلق قط قرظة ولا عقل عنه كلمة، وحدثنا أيضاً أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عبيد، ثنا أبو بكر هو ابن عياش عن أبي حصين، يرفعه إلى عمر أنه حين وجه الناس إلى العراق، قال جردوا القرآن. وأقلوا الراوية عن رسول اللـه ﷺ وأنا شريككم.
قال أبو محمد : وأبو حصين لم يولد إلا بعد موت عمر بدهر، وأعلى من عنده ابن عباس والشعبي.
قال علي : وروي عنه أيضاً أنه رضي اللـه عنه: أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي ﷺ ، كما روينا بالسند المذكور إلى بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: قال عمر لابن مسعود، ولأبي الدرداء، وأبي ذر: ما هذا الحديث على رسول اللـه ؟ قال: وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات.
قال علي : هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح.
ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله ﷺ إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي ﷺ فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً، ولئن كان حسبهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما، وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله ﷺ لو صح؛ فهو بيّن في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة، وإنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم وعما أشبه.
وأما بالسنن عن النبي ﷺ فإن النهي عن ذلك هو مجرد، وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه.
ودليل ما قلنا: أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي ﷺ .
فإن كان الحديث عنه ﷺ مكروهاً، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شيء وفعله، لأنه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبي ﷺ فصح أنه كثير الرواية، والحديث عن النبي ﷺ وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي ﷺ من عمر بن الخطاب، إلا بضعة عشر منهم فقط.
فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي ﷺ فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه، وهكذا القول فيما روي من ذلك عن معاوية رضي الله عنه، ولا فرق.
وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصّاً دون تأويل، كما أنبأ عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية القرشي، ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب قال: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل.
قال علي : وقد صح بهذا أن عمر أمر بتعليم السنن، وأخبر أنها تبين القرآن فصح ما قلناه يقيناً بلا مرية، وارتفع اللبس، والحمد لله رب العالمين.
وأعجب من هذا كله: أن المالكيين المحتجين بأن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود، وأبا موسى وأبا الدرداء بالمدينة، على الإكثار من الحديث ينبغي لهم أن يحاسبوا أنفسهم فيقولوا: إذا أنكر عمر على ابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء، الإكثار من الحديث، وسجنهم على ذلك، وهم أكابر الصحابة وعدول الأمة، وليس لابن مسعود إلا ثمانمائة حديث ونيف، وليس لأبي الدرداء إلا مائة حديث ونيف، لعله لا يصح عنهما إلا أقل من نصف هذين العددين ماذا كان يصنع بمالك لو رأى موطأه، قد جمع فيه ثمانمائة حديث ونيفاً وثلاثين حديثاً من مسند ومرسل ؟ أين كنتم ترونه يبلغ به وهو ينكر على الصحابة بزعمكم الكاذب دون هذا العدد ؟ فلو كان لهؤلاء القوم دين أو عقل أما كان يحجزهم عن الإقدام على الإنكار على الصحابة رضوان الله عليهم أمراً يجيزون لصاحبهم أكثر منه ؟ إن هذا لعجب .
وأما الحنفيون : فقد طردوا أصلهم ههنا، لأن صاحبهم أقل الحديث ولم يطلبه بكثرة خطئه وقلة حديثه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والرواية في حبس ابن مسعود في ذلك عنه ضعيفة، وإنما صح أنه تشدد في الحديث كما ذكرنا، وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه، وإنما فعل ذلك اجتهاداً منه، وقد أنكره عليه أبي، فرجع عمر عن ذلك، وذلك مذكور في حديث الاستئذان، وحتى لو صح ذلك عن عمر ومعاوية فقد خالفهما في ذلك أبي وعبادة، وبلغ ذلك بأحدهما إلى أن حلف ألا يساكنه في بلد واحد، فمن جعل قول معاوية أولى من قول عبادة وأبي الدرداء ؟.
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه لم يقنع بقول المغيرة وروايته فمنقطعة لا تصح، ولو صححت لما كان لهم فيها حاجة.
لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راوٍ آخر فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين، ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك نص فيوقف عنده.
وأما الرواية عن عائشة أم المؤمنين، فإنما موَّهوا بإيرادها ولا حجة لهم فيها، لأنها لم تقل قط أنها لم تصدق أبا هريرة، ولا أنها تستجيز رد حكم رسول الله ﷺ ، وإنما ذكر لها أن أبا هريرة ينهى عن المشي في نعل واحد فقالت: لأحنثن أبا هريرة وأحسنت وبرت.
فلو لم يكن في هذا إلا قول أبي هريرة لما لزم الأخذ به.
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أورده.
والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي ﷺ رواية في صفة الزكاة، استغنى بها عما عند علي بل نقطع بهذا عليه قطعاً، ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بخلاف النبي ﷺ ، وقد أعاذه الله من ذلك فإن صاروا إلى توجيهنا، بطل تعلقهم بهذا الخبر.
وإن وجهوه على هذا الوجه الآخر، لحقوا بالروافض ونسبوا إلى عثمان الكفر أو الفسق، وقد برأه الله من ذلك وأن من نسب إليه لأولى به من عثمان بلا شك.
وأما قول عمار لعمر: فيعيذ الله عماراً من أن يستجيز جحد سنة عنده عن النبي ﷺ موافقة لرأي عمر.
هذه صفة توجب الكفر لمن استحلها ويوجب الفسق لمن فعلها غير مستحل لها، لا يختلف في ذلك اثنان من أهل الإسلام، مع مجيء النص بذلك فيمن يكتم حكم الله تعالى أو يخالفه.
وإنما قال ذلك عمار مبكتاً لعمر إذ خالفه، بمعنى أترى لي أن أكتم هذا الخبر، نعم إن شئت كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أو غير هذا، وهو في الخبر ذكر أن عمر أجنب فلم يصل، فهذا الذي أراد عمار كتمانه، وأنه لا يحدث به أبداً لواجب حق عمر عليه وهذا مباح إذ ليس ذكر اسم عمر في ذلك من السنن، ولا له فائدة، لكن عمر رضي الله عنه لم يفسح له في ذلك بل ولاه من التصريح باسمه في ذلك ما تولى.
وأما ابن عباس فإنه روى في فضل المرأة من طريق ميمونة خبراً بنى عليه وروى في المتعة إباحة شهدها فثبت عليها ولم يحقق النظر، وقد أنكر ذلك عليه علي بن أبي طالب وأغلظ عليه القول وروي في الدرهم بالدرهمين خبراً عن أسامة عن النبي ﷺ فثبت عليه وأنكر عليه ذلك أبو سعيد وأغلظ له في القول جداً، ولم يعارض خبر الحكم في فضل المرأة بأكثر من أن قال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحاً، فليس في هذا رد للحديث ولا لحكمه، بل صدق في ذلك، وقد خالفه في الوضوء مما مست النار، وفي غسل اليد ثلاثاً قبل إدخالها في الإناء أبو هريرة وأغلظ له في القول فليت شعري من جعل قول ابن عباس أولى من قول علي وأبي هريرة والحكم بن عمرو وأبي سعيد ؟.
وأما قول ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعاً، فصدق وليس في هذا رد لرواية أبي هريرة أصلاً، فإذا لم يبق من جميع ما اعترضوا به إلا اختلاف الصحابة في بعض ذلك مما صح وثبت، فالواجب الرد المفترض الذي لا يحل سواه هو الرد في ذلك إلى الله تعالى وإلى النبي ﷺ إذ كان صاحب في ذاته فغير مبعد عنه الوهم لا سيما إذا اختلفوا فمضمون أن أحد القولين خطأ، فوجدنا الله تعالى قد أمر بالتفقه في الدين، وإنذار الناس به، وأمر بطاعة الرسول ﷺ ، ولا سبيل إلى طاعته عليه السلام إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بنقل أحكام الله تعالى وأحكام رسوله ﷺ ، ووجدناه قد حض على تبليغ الحديث عنه وقال في حجة الوداع لجميع من حضر: «أَلا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث.
ثم العجب فيه إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه من الصحابة فوالله العظيم ما أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها، ولا شك أنهم لا يدرون لماذا أوردوها، لأنهم إن كانوا أوردوها طعناً في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم، بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد، وأيضاً فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد، وهذا عجب جداً، أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد، وأخذ ما وافقه من ذلك، فهذا هوس عتيق، أول ذلك أنهم يردون بعض ما لم يرده من احتجوا به من الصحابة، ويأخذون ببعض ما رده من احتجوا به منهم، وأيضاً فإن كان الأمر كذلك فقد اختلط الدين وبطل، لأن لخصومهم أن يردوا بهذا الباب نفسه ما أخذوا به، ويأخذوا ما ردوه هم منه ونعوذ بالله منه.
قال علي : ولا أضل ولا أجهل ولا أبعد من الله عز وجل، ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي ﷺ .
ويأمر بألا يكثر من ذلك، أو يرد ما لم يوافقه مما صح عن النبي ﷺ بنظره الملعون، ورأيه الفاسد، وهواه الخبيث، ودعواه الكاذبة، ثم يغني دهره في الإكثار من تبليغ آراء مالك وابن القاسم وسحنون وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، والتلقي بالقبول لجميعها على غلبة الفساد عليها، ألا إن ذلك هو الضلال البعيد.
والفتيا بالآراء المتناقضة وبالله تعالى نعتصم.
قال علي : وأما من ظن أن أحداً بعد موت رسول الله ﷺ ينسخ حديث النبي ﷺ ، ويحدث شريعة لم تكن في حياته ﷺ فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الأوثان، لتكذيبه قول الله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فمن ادعى أن شيئاً مما كان في عصره ﷺ على حكم ما، ثم بدل بعد موته فقد ابتغى غير الإسلام ديناً، لأن تلك العبادات والأحكام والمحرمات والمباحات والواجبات التي كانت على عهده ﷺ هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا، وليس الإسلام شيئاً غيرها فمن ترك شيئاً منها فقد ترك الإسلام، ومن أحدث شيئاً غيرها فقد أحدث غير الإسلام، ولا مرية في شيء أخبرنا الله تعالى به أنه قد أكمله، وكل حديث أو آية كانا بعد نزول هذه الآية فإنما هي تفسير لما نزل قبلها، وبيان لجملتها، وتأكيد لأمر متقدم. وبالله تعالى التوفيق.
ومن ادعى في شيء من القرآن أو الحديث الصحيح أنه منسوخ ولم يأت على ذلك ببرهان، ولا أتى بالناسخ الذي ادعى من نص آخر فهو كاذب مفتر على الله عز وجل داع إلى رفض شريعة قد تيقنت، فهو داعية من دعاة إبليس، وصاد عن سبيل الله عز وجل، نعوذ بالله، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فمن ادعى أن الناسخ لم يبلغ، وأنه قد سقط فقد كذب ربه، وادعى أن هنالك ذكراً لم يحفظه الله بعد إذ أنزله.
فإن قال قائل : الحديث قد يدخله السهو الغلط، قيل له: إن كنت ممن يقول بخبر الواحد، فاترك كل ما أخذت به منه، فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو الغلط، وإن كنت مقلداً، فاترك كل من قلدت فإن السهو والغلط قد يدخلان عليه بالضمان.
وقد يدخلان أيضاً في الرواة عنهم الذين عنهم أخذت دينك، وإلا فالرواة عن النبي ﷺ أوثق من الرواة عن مالك وأبي حنيفة، نعم ومن مالك وأبي حنيفة أنفسهما. وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد جملة، فقد أثبتنا البرهان على وجوب قبوله، وما ثبت بيقين فلا يبطل بخوف سهو لم يتيقن، والحق لا تسقطه الظنون قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } ولزمه أن يسقط القبول لشهادة الشاهدين في الدماء والفروج والأموال، إذ يدخل عليهما السهو والغلط وتعمد الكذب، وبالله تعالى التوفيق
===========
قال علي : الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث.
فجائز أن يقول: حدثنا وحدثني، وأخبرنا وأخبرني، وقال لي وقال لنا، وسمعت وسمعنا، وعن فلان وكل ذلك سواء، وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثاً أو أحاديث فيقول المروي عليه بها، ويقول: نعم هذه روايتي، وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه، أو يناول المروي عنه الراوي كتاباً فيه حديث أو أحاديث، أو ديواناً بأسره عظم أو صغر فيقول له: هذا ديوان كذا، كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه، ويستثني شيئاً إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شيء فلا يستثني شيئاً، أن يقول له: عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف، ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه، فأي هذه الوجوه كان، فجائز أن يقول فيه القائل: حدثني وأخبرني، وهو محق في ذلك، وهو كله خبر صحيح، ونقل صادق ورواية تامة، لا داخلة فيها، كالقراءة والسماع ولا فرق.
فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل: سمعت فلاناً يخبر عن فلان، أو يحدث عن فلان، ولا يقل حينئذ: نا، ولا ني، ولا أنا، ولا إني، فيكذب، ولكن إن قال سمعت فلاناً، فهي رواية صحيحة تامة، فليحدث بها وليروها الناس.
وسواء أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن، حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه، كل ذلك لا معنى له ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل، ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وإنما هو حق أو كذب، فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعداً واجب نقله، والكذب حرام نقله.
وأما من كتب إلى آخر كتاباً يوقن المكتوب إليه أنه من عنده، فيقول له في كتابه: ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل، فليقل المكتوب إليه أخبرني في كتابه إليّ. ونحن نقول: أنبأنا رسول الله ﷺ وقال لنا رسول الله ﷺ ، وأخبرنا الله تعالى، وقال لنا الله تعالى، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
وإنما ذلك لأنه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الإنس والجن إلى يوم القيامة، وأمر نبيه بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الإنس والجن أيضاً، فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله ﷺ يتوجهان إليه يوم القيامة، وليس ذلك لمن دونهما أصلاً، وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله ، من شافه أو من كتب إليه، أو من سمع منه لفظه، إذ لم يأمر الله تعالى أحداً من ولد آدم ﷺ دون رسول الله ﷺ بأن ينذر جميع أهل الأرض، وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به، لا ما خالف ما أمره الله عز وجل، ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود.
قال علي : وأما الإجازة التي يستعملها الناس، فباطل، ولا يجوز لأحد أن يجيز الكذب، ومن قال لآخر: اروِّ عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديواناً ديواناً، وإسناداً إسناداً، فقد أباح له الكذب، لأنه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك، لأنه لم يخبره بشيء فهذه أربعة أوجه جائزة وهي: مخاطبة المحدث للآخذ عنه، أو سماع المحدث من الآخذ عنه، وقراره له بصحته، أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه، أو مناولته إياه كتاباً فيه علم.
وقوله: هذا أخبرني به فلان عن فلان، وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله ﷺ وعن جميع الصحابة.
فأما الأخبار : فإخبار النبي ﷺ بالسنن، وإخبار الصحابة بعضهم بعضاً، فأبو بكر أخبره المغيرة، ومحمد بن مسلمة، وكذلك كل من بعده منهم، وأما قراءة الآخذ على المحدث : فقد قال بعض الناس للنبي ﷺ فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي ﷺوكذلك سأل الناس أصحابه عن الأحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل.
وأما الكتاب: فكتب النبي ﷺ بالسنن إلى ملوك اليمن، وإلى من غاب عنه من ملوك الأرض الذين دعاهم إلى الإيمان، وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم.
وأما المناولة: فقد كتب رسول الله ﷺ كتاباً لعمرو بن حزم، ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء، يعلمهم فيها السنن، وأمرهم بالعمل بما فيها، وكذلك لعبد الله بن جحش، وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه، وكذلك فعل أبو بكر بأنس، وبعث عليّ كتاباً مع ابنه إلى عثمان، وقال: هذه صدقة رسول الله ﷺ فمر عمالك يعملون بها.
وأما الإجازة: فما جاءت قط عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد منهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته، وبالله تعالى التوفيق.
===============
فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان
قال علي : وهذا لا معنى له، لأن فلاناً الذي أرسله لو لم يروه أصلاً أو لم يسمعه البتة، ما كان ذلك مسقطاً لقبول ذلك الحديث، فكيف إذا رواه مرسلاً وليس في إرسال المرسل ما أسنده غيره، ولا في جهل الجاهل ما علمه غيره، حجة مانعة من قبول ما أسنده العدول، لا سيما إن كان المعترض بها مالكيّاً أو حنفيّاً، فإنهم يرون المرسل مقبولاً كالمسند، فكيف يوهنون الصحيح بما يرونه موافقاً له وشاذّاً ومؤيداً، إن هذا لعجيب وإن هذا لإفراط في الجهل والسقوط، ولا معنى لقولهم: إنما يراعى هذا إذا كان المرسل أو الموقف أَعدل من المسند، فإنما يجب قبول الخبر إذا رواه العدل عن العدل، ولا معنى لتفاضل العدالة على ما قد ذكرنا في هذا الباب، إذ لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه، وإنما الواجب مراعاة العدالة فقط، وبالله تعالى نتأيد ونعتصم.
==============
القادم إن شاء الله
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.وج4.مشكاة المصابيح - التبريزي{ من 3864 الي6285}

  3. مشكاة المصابيح - التبريزي 3864 - [ 4 ] ( صحيح ) وعن سلمة بن الأكوع قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضل...